د. نور الهدى عكاشة - ما بين بين.. قصة قصيرة

غرقتُ في عالم الفناء أَمْ أنّي وجدتُ من جديد! لم أتعرف ماهيتي الآدمية جيداً،تاهتْ مني أصابعي وحدودي. عدة جنيات حولي تتلألأ، وصوتٌ يهمس لي:
- في عالمنا هذا تنتفي الحقيقة والكذب عليك أنْ تفهم هذا جيداً.
وجدتُني مخلوقاً من رمادٍ أسود، وروحاً من أخضر. أسبحُ أطير أهوي، لا أملك ارضاً ولا سقفاً. كيف لي أن أتأقلم بأنَّ لا شيء يعلوني ويخفض رأسي. لا بد أَن أهبط، أنا معتاد على النزول، القاع ملعبي عشت به طوال حياتي راضياً ولم أختبر هذه الحرية المقيتة.
وببضع حركات وكطائرٍ مكبّلٍ باللاقيود بدأتُ أهوي. كان السقوط صعباً ليس كما تخيّلتُه. تتبدل به مادتي وتستحيل. أتألّم من جديد ... كم أنا سعيد!
الجنيات الملونة تحوم حولي تهمس لي بخطورة ما أفعل تمنعني تردعني بخيط من نور. اقتربت إحداهن:
- لماذا تهوى الرحيل؟
- أكره الاستقرار في قلب غيمة.
- أنت في قلب اللامكان لا عليك أن تحب أو تكره استقبل الشمس وودعها في كل يوم وطر حيثما تشاء هذا الأفق ملكك.
- أكره الآفاق والاتساع لم اختبر هذه الفوضى من قبل.
- أَتسمّي هذا فوضى وحياتك بالقاع نظام!
- أتحسبيني أحب القاع! اكرهه حتى النخاع لكنّ لعنة تشدني خلصيني منها أو اتركيني أفعل ما أشاء.
حامت ودارت وتلونت، سطع بياضٌ عمَّ كل شيء. اختفت الجنيات والقاع والآفاق أنا الآن محاصر بالبياض.
ظلٌ من بعيد يقترب ويبتعد تتكشف ملامحه شيئا فشيئاً،
عرفتُني بهيئتي الآدمية السمراء
لا بدّ أنّي قد تغيّرتُ. لا أعلم كم مضى من الوقت وأنا غارقٌ بالغياب.
ألمحه يدنو ويبتعد تلوّن البياض، بالسواد، بالزرقة والخضار ضوءٌ يومض وظلام، شريطُ الزمن يمشي من خلفه وهو يتحول.
ابتعد ورمقني بنظرة لائمة، ثم نظرة حزينة. ابتلع الظلام جزء منه وبقي جزء غامض تتماهى فيه مادته وتموج روحاً رمادية تومض ببياض ناصع.
هو المزيج بين المتناقضات
في كينونته الجديدة يتراوح بين كلب يلهث خلف فتات، وملك يحكم أعمار الناس، يلوّن أحلامهم بالأبيض والأسود، يختم لهم جوازات سفر للجحيم. كان قاضياً بكلّ عدله وظلمه وفساده. صار عاملاً يبني خوفه سوراً حول السعادة، مهندساً يتمسّك بجسورٍ واهية من طمع ومباني فارهة. تحول عالماً يسخّر الحياة ويخسرها على دفعات. طبيباً محبّاً ناقماً يحقن الأمل المسموم في أجساد موتاه. كهل تمنّى لتوّه (ليتني ذاك الطفل).
توقف شريط الزمن و توارى للحظات، ثم انبثق شعاعاً من جديد، رسم في سمائي المظلمة لوحات حمراء. كشف لي عمّا كان يؤرّقني. أجابني كل الإجابات التي أخشى سماعها. جعل هواجسي واقعاً يطوّق رقبتي، لكنّ خضاراً أزهر تحت القيد. أنبت جوري وريحان. فشممت لأوّل مرّة رائحة التراب، كم هي منعشة، كم هي أنا وأنا لصدئ القيد.


تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...