قدم هذا العرض ـ مرتجلا ـ في الندوة العلمية الدولية التي نظمتها جمعية رباط الفتح في نطاق مهرجان الموسيقى الأندلسية المنعقد من 20 سبتمبر إلى 10 أكتوبر 1996 . وعقدت الندوة بعد ظهر السبت 7 جمادى الأولى 1417 ه =21 سبتمبر 1996 بقاعة المحاضرات التابعة لوزارة التربية الوطنية.
في بداية هذا العرض الذي سأتناول فيه " أثر الآلة على الملحون "، أرى ضرورة توضيح مفهوم كل من هذين الفنين: "الآلة " و "الملحون".
أما "الآلة " فهي ذلكم النمط الموسيقي الذي يعرف كذلك باسم " الموسيقى الأندلسية " بحكم ظهوره وازدهاره في رحاب الفردوس المفقود، والذي يعتمد الأداء الآلي المتكئ ـ لضبط إيقاعه ـ على نصوص شعرية متنوعة. وبسبب ذلك اكتسب تسميته ب "الآلة ".
وأما "الملحون " فهو ذلكم الشعر الذي تؤدى قصائده موقعة وملحنة في تركيز على إنشاد النص أو "الكلام "، وفق ميزان موسيقي يحفظ لهذا الإنشاد انضباطا إيقاعيا معينا.
ونظرا لأن الأساس في الملحون هو النص، فقد أطلق عليه " الكلام "، في حين شاع عن" الموسيقى الأندلسية" اسم " الآلة "، وهما مصطلحان ـ كما يبدو واضحا ـ يعكسان الخصوصية التي يتميز بها كل من الفنين .فأحدهما ينطلق من الشعر، والثاني من أداء اللحن الموسيقي.
وقد عرفت الآلة كما عرف الملحون تطورا يمكن تلخيص أهم ملامحه في نقطتين اثنتين:
الأولى: أن "الآلة " تحت تأثير عوامل موسيقية وشعرية محلية ووافدة عرفت في الأندلس تطورا أفضى بها إلى بناء منظم يقوم على "النوبة ". وهو مصطلح يعني مجموع الأجزاء التي يتتابع أداؤها داخل طبع خاص وبموازين متنوعة، مما يدل على وجود تأليف موسيقي متكامل يختلف عما كان معروفا عند العرب في الجزيرة من خلال نظام "الصوت ".
وقد انتقلت هذه "الآلة "إلى المغرب عبر عصور الاتصال، وأتيح لها أن تستقر فيه تراثا موسيقيا، لا سيما بعد انتهاء الوجود العربي الإسلامي في الأندلس، بدءا من سقوط قرطبة سنة 1236 م إلى سقوط غرناطة عام 1492 م، وما تبع ذلك من هجرات إلى أقطار أخرى في طليعتها المغرب، حيث سادت مدرسة توفق بين الأثرين الغرناطي والبلنسي، في حين كان أثر إشبيلية قويا في تونس، وأثر غرناطة ظاهرا في الجزائر.
وعلى الرغم من الضياع الذي مس تراث "الآلة " بسبب اعتماده النقل الشفوي، فإن ما حافظ المغاربة عليه ودونوا منه ينحصر في إحدى عشرة نوبة هي:الأصبهان، والحجاز الكبير، والحجاز المشرقي، والعشاق، والماية، ورمل الماية، والرصد، وغريبة الحسين، ورصد الذيل، وعراق العجم، والاستهلال. كما أن الطبوع أو الموازين التي تؤدى عليها هذه النوبات هي: البسيط، والقايم ونصف، والبطايحي، والقدام، والدرج. ويظن أن نوبة الاستهلال وميزان الدرج من إضافات المغاربة.
الثانية:أن الملحون تطور محليا على مدى مراحل متباعدة، متأثرا بعوامل شتى، في طليعتها " الآلة" وذلكم هو صميم موضوع هذا العرض.
وقد مس هذا التأثر جوانب ثلاثة هي: المضمون، والشكل، والأداء. وحتى يتضح ـ أي التأثر ـ أرى ضرورة الإشارة إلى ما كان عليه كل واحد من تلك الجوانب ثم كيف أصبح.
أولا = المضمون
وتدل النصوص الأولى التي وقفنا عليها، والتي ترجع إلى القرن التاسع الهجري، أن أغراض الملحون كان يطغى عليها الطابع الديني المتمثل في مواعظ وتصليات، على حد قول مولاي الشاد الذي كان يعيش في أول هذا القرن، وهو من تافيلالت:
لاتقولوشي يا حسرا على زمان الخير والشر فكل زمان كاينين
ماحد اكتاب الله فالصدور اعلاه نبكيوا اعلاه
ما قاطعين ياس من رحمة الله وحبيبنا الشافع رسول الله
فاش جا ذنب المخلوقين عند واسع الغفران
وبحكم التأثر بالأشعار التي كانت تصاحب " الآلة" بما فيها من قصيد وتوشيح وزجل ـ وموضوعاتها مستمدة من متطلبات مجالس الغناء بما تقتضي من غزل ونسيب وطبيعة في الغالب ـ أخذ مضمون الملحون يتطور، بدءا بشعر الطبيعة ووصولا إلى الغزل.وأول نص وصلنا يشيد بالطبيعة ويتغنى بها يتمثل في قصيدة لأحد الشعراء الفيلاليين كان يعيش في أوائل القرن العاشر الهجري، هو حماد الحمري الذي يقول في حربة قصيدته، أي لازمتها:
الورد والزهر واغصانو واشجار باسقا واطيار
ايسبحوا لنعم الغني والما افقلب كل اغدير
أما أول نص في الغزل فهو الذي قاله محمد بو عمر,، متمثلا في قصيدة"زهرة،" وكان معاصرا للحمري، وفي حربتها يقول:
زوريني قبل اللانقبار يا هلال الدارا زهرا
وإذا كانت قصيدة الحمري قد قوبلت برضا الشعراء وجمهور عشاق الفن، فإن قصيدة بوعمر, ووجهت باستياء شديد يكفي للدلالة عليه أن نسوق هذين البيتين اللذين يقول فيهما شاعر معاصر يسمى لمراني، معبرا عن رفضه لاتخاذ المرأة موضوعا للملحون ومتهما صاحبه " لعشيق" بالزندقة والفسق:
زنديق بن الزنديق الوغد اللي يردنا فساق
يستاهل الرجيم ابلحجر حتى ا يموت بالتحقيق
ويلا ايموت يتصلب عام وبعد دلتو يحراق
وانشتتو ارمادو وانقول هكذا ابغى لعشيق
وقد احتاج هذا الموقف إلى عقود من السنين، قبل أن ياتي التهامي المدغري في أواسط القرن الثالث عشر الهجري ـ وهو شاعر المرأة بامتياز ـ ويعترف لبو عمر, في مثل هذا القول:
لو كنت في ازمان العاشق انكون لو الخو الشقيق
وانحق للجحود احقايق ونقول يا النايم فــــــق
ثانيا = الشكل
وكان في أول الأمر وحسب النصوص التي وقفنا عليها يقوم على كلام يحاول أن ينتظم، لكن في غير ضبط محكم لوحدة الوزن فيه والقافية، على نحو ما تبين أبيات مولاي الشاد السابقة. وشيئا فشيئا بدأ يقترب من القصيدة العربية في مقوماتها الإيقاعية، وفق ما نجد عند معاصره عبد الله بن احساين، وهو كذلك من تافيلالت، إذ يقول:
نبدا باسم الله انظامي ياللي ابغى لوزان
لوزان خير لي أنايا من قول "كان حتى كان"
ربي الهمني نمدح جد لشراف يا لخوان
بالشعر السليس الفايز هو ايكون لي عــــوان
حتى انقول ما قالوا عشاق النبي افكل ازمان
وانكون افلقريض الملحون أنا المادحو حسان
مداح مادحو بلساني والشوق له من لكنان
والمادحو ابقلب اكنانو يرضاه ما عيا بلسان
وإذا كان هذا النموذج يبرز مدى انتقال الملحون من شكل " كان حتى كان " العفوي إلى شكل "لوزان" المنظم، فإن الاحتكاك بالنصوص الشعرية التي كانت ترافق " الآلة " من توشيح وزجل أتاح للملحون أن يطور أشكاله عبر عنصرين اثنين:
الأول:التقسيم المنظم للقصيدة، ويسير على هذا النحو الذي سأكتفي بالإشارة إلى مصطلحاته، إذ لا يتسع المجال لتوضيح سماته المنعكسة على تلوين الوزن والقافية، وتنويع الأداء كما سياتي بعد.
1 ـ مقدمة= السرابة، وسأعود إليها فيما بعد عند الحديث عن الأداء.
2 ـ الدخول.
3 ـ الحربة = (اللازمة).
4 ـ القسم( قد يقدم له بالعروبي أو الناعورة أو السويرحة أو الكرسي).
5 ـ بعد الأقسام تختم القصيدة بآخر قسم أو بالدريدكة، وتنشد على إيقاع سريع.
الثاني:الأوزان، وتتسم بغنى عروضي لا مجال لحصره ولا يسمح الوقت بتفصيل القول فيه. وأقتصر فيه على ذكر أهم عناصره، وهي:
1 ـ المبيت وهو الشعر الذي يقوم على البيت، ومنه جاءت التسمية. إلا أن البيت فيه لا يسير على نسق واحد كما هو الشأن في القصيدة العربية، بل تنبثق منه أربعة أشكال:
أ ـ المثنى وفيه يتكون البيت من شطرين يطلق على الأول "الفراش" وعلى الثاني "الغطا". ويتم ضبط وزنه وفق "قياسات" لا حد لها، هي أشبه ما تكون ببحور الشعر العربي ، وأبسطها "قياس المشركي" الذي جاءت عليه قصيدة "الحجة" لعبد الله بن احساين الذي هو أول من قال فيه، وكان يعيش في أواخر القرن التاسع الهجري، وحربتها:
يالحضرا قولوا بالسر والجهار الصلا والسلام اعلى النبي المختار
ويعتبر هذا القياس أبسط أنواع المثنى ويطلق عليه لسهولته "لحويط لقصير". وهو أقرب إلى الرجز الذي وصف بأنه "حمار الشعراء".
ب ـ الثلاثي ويتكون من ثلاثة أشطار وبقياسات متعددة.
ج ـ المربوع أو الرباعي ويتكون من أربعة أشطار وبقياسات كثيرة.
د ـ خامس لشطار أو الخماسي، ويتكون من خمسة أشطار وبقياسات عدة.
2 ـ مكسور الجناح، وتتكون القصيدة فيه من أقسام، كل منها يخضع لهذا التقسيم:
أ ـ الدخول: شطر في استهلال القسم بدون عجز.
ب ـ مجموعة أشطار قصيرة تسمى "لمطيلعات" أو "لكراسا".
ج ـ بيت على وزن الحربة وقافيتها.
د ـ الحربة.
ويمكن التمثيل لهذا الشكل بقصيدة "المزيان" لمحمد بن علي.
3 ـ المشتب، وتتكون القصيدة فيه كذلك من أقسام، كل واحد منها يتشكل من بيت يفصل فيه بين أول أشطاره وبقيتها بعدد من الأشطار القصيرة تسمى كذلك "لمطيلعات". ومعروف أن الشتب هو الحشو الذي يملأ به الفرش أو نحوه، ومنه جاءت التسمية.
ويمكن التمثيل لهذا الشكل بقصيدة "التوبة" لمحمد بن سليمان.
4 ـ السوسي، وتتألف القصيدة فيه من أقسام يكون كل منها مكونا من الأجزاء الآتية:
أ ـ بيت من شطرين.
ب ـ مجموعة أشطار حرة في الوزن والقافية لا تخضع لغير تسلسل الإنشاد.
ج ـ بيتان أو ثلاثة أبيات موزونة ومقفاة .
د ـ الحربة على نفس وزن هذه الأبيات وقافيتها.
ويمكن التمثيل لهذا الشكل الذي يكثر في المحاورات بقصيدة " الزمنية والعصرية" لحسن اليعقوبي.
ثالثا = الأداء
وكان أول الأمر مجرد سرد"السرادة" في الزوايا والمساجد، ثم أخذ يعتمد على ضبط الإيقاع باليد أو ما يسمى "التوساد"، وبعد ذلك توسل بآلة " التعريجة" أو " لكوال" . إلا أنه بعد أن تأثر ب"الآلة" أصبح يستعمل أنغام نوباتها وموازينها، واتسع نطاق الآلات فيه. وسار في ذلك على نحو ما يقتضيه التنوع بين الأقسام وأجزائها. وأكتفي في توضيح هذا الأمر بالنقط الآتية:
الأولى:
بدء الإنشاد بإحدى هذه المقدمات:
1 ـ السرابة وهي قطعة قصيرة تؤدى على غير ما تؤدى به القصيدة . وأنواعها:
أ ـ المزلوك = رقيقة حادة.
ب ـ الكباحي= يصاحبها ضرب قوي متواصل بالكف (أغلب السرارب اليوم )
ج ـ الحضاري = مسترسلة وسريعة.
د ـ السماوي = وتعرف كذلك ب ( السرارب الحسناويين )تبدأ ببطء كالموال ثم تعلو وترتفع.
2 ـ الموال = إما معرب وإما ملحون
أ ـ نموذج المعرب :
ومن عجب أني أحن إليهم وأسأل شوقا عنهم وهم معي
وتشتاقهم عيني وهم في سوادها ويطلبهم قلبي وهم بين أضلعي
وهما لخليل الصفدي .
ب ـ نموذج الملحون:
تـانــحـبـك ونهواك وفي امسبتك ايـكـرهـوني
ما راحتي حتى نـلـقـاك واعليك يتحـلو اعيـونـي
3 ـ التمويلة، يقال إن لكل قصيدة تمويلتها، مثلا تمويلة "التوبة" لابن سليمان، وتنشد على ميزان عراق العجم:
أمالي يا مالي أسيدي يا سيدي
للا يا مولاتي للا
أمالي مصبرني
اغرايبي لاموني
وتجدر الإشارة إلى أن قصائد مكسور الجناح والسوسي ـ باستثناء الحراز ـ تستهل بمثل هذه العبارات (قال يانا سيدي) (وهو يا سيدي)، وتسمى: الدخول.
الثانية:
الشبه مع ما هو موجود في "الآلة" على هذا النحو:
1 ـ تقسيم الميزان، وفق هذا الشكل:
أ ـ التصديرة (افتتاح بطئ)
ب ـ القنطرة.
ج ـ الانصراف = إقفال الميزان بسرعة.
2 ـ التراتن (شغل) مثل = أنانا ـ طيري طان ـ يا لالان ـ . والقصد إغناء اللحن وإشباعه .
3 ـ الجواب وهو إعادة لبعض المقاطع اللحنية التي تنشد عليها أبيات الصنعة.
4 ـ البغيات والتواشي وهي معزوفات آلية يقدم بها، ومثلها "المشاليات"، وقد ضاع منها الكثير مثلما ضاعت السرابات .
5 ـ الموال وهو إنشاد منفرد لبيتين أو أكثر على لحن معين قد يعتمد الارتجال.
6 ـ التغطية والكرسي، وهو لحن يتصدر بعض الصنايع، أو هو إنشاد مع جواب بالعزف.
الثالثة:
الأداء حسب النوبات، ويكون على ميزان واحد أو أكثر، ويكفي التمثيل بما يلي:
1 ـ الأداء على ميزان واحد، ( أي لا تحتمل القصيدة إلا ميزانا واحدا في الغالب) مثلا:
أ ـ "قصيدة "خال وشاما" للمدغري فإنها لا تؤدى إلا على عراق العجم، وحربتها:
أللايم لاش تلوم رح سالم دعني كف لملام ما حجت امن اغرامي
بين خــال وشــامــا
ب ـ قصيدة"الكناوي" للمدغري كذلك، وحربتها:
معظم ذاك اليوم فاش صدو ناسي وامشاوا
تركوني نواح فالرسام ضميري كاوي
يحسن عون اللي امشاوا ناسو من بعد اكوا
ويقال أن بعض المنشدين حاول أداءها على رمل الماية، إلا أنه أفسدها.
ج ـ قصيدة "الهاجر" للعلمي، فإنها لا تؤدى إلا على الحجاز المشرقي، وحربتها:
آش اعملت أسلطان مهجتي حتى سلمت افخلطتي واضحيت من ساحتي اجفيل
راقب فيا وجه الله يا هاجر لوكر مسجونك سرحو اتفوز بــحســانو
د ـ قصيدة " التوبة " لابن سليمان، لا تنشد إلا على عراق العجم، وحربتها:
ياراسي لا تشقى التاعب لابد من لفراق
لا تامن فالدنيا ابناسها غــــرارا
ه ـ قصيدة " خناثة" للحبابي، لا تنشد إلا على الصيكة والحجاز، وحربتها:
عشقي فخناثـــا ياترا فالعاهد والقول ثابتـــــا
من تاهت بجمالها حياتي راحت روحي الصايلا عل لبدر بنعوت
2 ـ الأداء على أكثر من ميزان: من أمثلته قصيدة "المزيان" للعلمي، وحربتها:
حن واشفق واعطف برضاك يالمزيان
لا اسماحا ميعاد الله يا لهاجر
فإنهم يبدؤونها على الاستهلال، ثم ينتقلون إلى رمل الماية فالحجاز فالصيكة.
وهذا ما يسمى عندهم ب(التفجاج) أي أن المنشد (ايفجج) أي يستعرض طبوعا مختلفة في القصيدة الواحدة، وهي عملية أطلقوا عليها (لبدال)، وذلك عندهم من براعة الأداء .
أما المنشد الذي لا يستطيع ذلك فإنه يقال عنه إنه يغني (اعلى جنب واحد)، وهذا دليل على قصر باعه.
وبعد، فهذه بعض ملامح التأثير الذي كان لفن "الآلة" على فن "الملحون" حاولت وفق ما يسمح به الوقت ويتسع له المجال إبراز أهم ملامحه. وهو في الحقيقة لا يمكن توضيحه هكذا نظريا وبدون تطبيق يتيح الاستماع إلى القصائد مؤداة. ولعل ذلك أن يتاح في فرصة أخرى إن شاء الله.
عباس الجراري.
malhoun.superforum.fr
في بداية هذا العرض الذي سأتناول فيه " أثر الآلة على الملحون "، أرى ضرورة توضيح مفهوم كل من هذين الفنين: "الآلة " و "الملحون".
أما "الآلة " فهي ذلكم النمط الموسيقي الذي يعرف كذلك باسم " الموسيقى الأندلسية " بحكم ظهوره وازدهاره في رحاب الفردوس المفقود، والذي يعتمد الأداء الآلي المتكئ ـ لضبط إيقاعه ـ على نصوص شعرية متنوعة. وبسبب ذلك اكتسب تسميته ب "الآلة ".
وأما "الملحون " فهو ذلكم الشعر الذي تؤدى قصائده موقعة وملحنة في تركيز على إنشاد النص أو "الكلام "، وفق ميزان موسيقي يحفظ لهذا الإنشاد انضباطا إيقاعيا معينا.
ونظرا لأن الأساس في الملحون هو النص، فقد أطلق عليه " الكلام "، في حين شاع عن" الموسيقى الأندلسية" اسم " الآلة "، وهما مصطلحان ـ كما يبدو واضحا ـ يعكسان الخصوصية التي يتميز بها كل من الفنين .فأحدهما ينطلق من الشعر، والثاني من أداء اللحن الموسيقي.
وقد عرفت الآلة كما عرف الملحون تطورا يمكن تلخيص أهم ملامحه في نقطتين اثنتين:
الأولى: أن "الآلة " تحت تأثير عوامل موسيقية وشعرية محلية ووافدة عرفت في الأندلس تطورا أفضى بها إلى بناء منظم يقوم على "النوبة ". وهو مصطلح يعني مجموع الأجزاء التي يتتابع أداؤها داخل طبع خاص وبموازين متنوعة، مما يدل على وجود تأليف موسيقي متكامل يختلف عما كان معروفا عند العرب في الجزيرة من خلال نظام "الصوت ".
وقد انتقلت هذه "الآلة "إلى المغرب عبر عصور الاتصال، وأتيح لها أن تستقر فيه تراثا موسيقيا، لا سيما بعد انتهاء الوجود العربي الإسلامي في الأندلس، بدءا من سقوط قرطبة سنة 1236 م إلى سقوط غرناطة عام 1492 م، وما تبع ذلك من هجرات إلى أقطار أخرى في طليعتها المغرب، حيث سادت مدرسة توفق بين الأثرين الغرناطي والبلنسي، في حين كان أثر إشبيلية قويا في تونس، وأثر غرناطة ظاهرا في الجزائر.
وعلى الرغم من الضياع الذي مس تراث "الآلة " بسبب اعتماده النقل الشفوي، فإن ما حافظ المغاربة عليه ودونوا منه ينحصر في إحدى عشرة نوبة هي:الأصبهان، والحجاز الكبير، والحجاز المشرقي، والعشاق، والماية، ورمل الماية، والرصد، وغريبة الحسين، ورصد الذيل، وعراق العجم، والاستهلال. كما أن الطبوع أو الموازين التي تؤدى عليها هذه النوبات هي: البسيط، والقايم ونصف، والبطايحي، والقدام، والدرج. ويظن أن نوبة الاستهلال وميزان الدرج من إضافات المغاربة.
الثانية:أن الملحون تطور محليا على مدى مراحل متباعدة، متأثرا بعوامل شتى، في طليعتها " الآلة" وذلكم هو صميم موضوع هذا العرض.
وقد مس هذا التأثر جوانب ثلاثة هي: المضمون، والشكل، والأداء. وحتى يتضح ـ أي التأثر ـ أرى ضرورة الإشارة إلى ما كان عليه كل واحد من تلك الجوانب ثم كيف أصبح.
أولا = المضمون
وتدل النصوص الأولى التي وقفنا عليها، والتي ترجع إلى القرن التاسع الهجري، أن أغراض الملحون كان يطغى عليها الطابع الديني المتمثل في مواعظ وتصليات، على حد قول مولاي الشاد الذي كان يعيش في أول هذا القرن، وهو من تافيلالت:
لاتقولوشي يا حسرا على زمان الخير والشر فكل زمان كاينين
ماحد اكتاب الله فالصدور اعلاه نبكيوا اعلاه
ما قاطعين ياس من رحمة الله وحبيبنا الشافع رسول الله
فاش جا ذنب المخلوقين عند واسع الغفران
وبحكم التأثر بالأشعار التي كانت تصاحب " الآلة" بما فيها من قصيد وتوشيح وزجل ـ وموضوعاتها مستمدة من متطلبات مجالس الغناء بما تقتضي من غزل ونسيب وطبيعة في الغالب ـ أخذ مضمون الملحون يتطور، بدءا بشعر الطبيعة ووصولا إلى الغزل.وأول نص وصلنا يشيد بالطبيعة ويتغنى بها يتمثل في قصيدة لأحد الشعراء الفيلاليين كان يعيش في أوائل القرن العاشر الهجري، هو حماد الحمري الذي يقول في حربة قصيدته، أي لازمتها:
الورد والزهر واغصانو واشجار باسقا واطيار
ايسبحوا لنعم الغني والما افقلب كل اغدير
أما أول نص في الغزل فهو الذي قاله محمد بو عمر,، متمثلا في قصيدة"زهرة،" وكان معاصرا للحمري، وفي حربتها يقول:
زوريني قبل اللانقبار يا هلال الدارا زهرا
وإذا كانت قصيدة الحمري قد قوبلت برضا الشعراء وجمهور عشاق الفن، فإن قصيدة بوعمر, ووجهت باستياء شديد يكفي للدلالة عليه أن نسوق هذين البيتين اللذين يقول فيهما شاعر معاصر يسمى لمراني، معبرا عن رفضه لاتخاذ المرأة موضوعا للملحون ومتهما صاحبه " لعشيق" بالزندقة والفسق:
زنديق بن الزنديق الوغد اللي يردنا فساق
يستاهل الرجيم ابلحجر حتى ا يموت بالتحقيق
ويلا ايموت يتصلب عام وبعد دلتو يحراق
وانشتتو ارمادو وانقول هكذا ابغى لعشيق
وقد احتاج هذا الموقف إلى عقود من السنين، قبل أن ياتي التهامي المدغري في أواسط القرن الثالث عشر الهجري ـ وهو شاعر المرأة بامتياز ـ ويعترف لبو عمر, في مثل هذا القول:
لو كنت في ازمان العاشق انكون لو الخو الشقيق
وانحق للجحود احقايق ونقول يا النايم فــــــق
ثانيا = الشكل
وكان في أول الأمر وحسب النصوص التي وقفنا عليها يقوم على كلام يحاول أن ينتظم، لكن في غير ضبط محكم لوحدة الوزن فيه والقافية، على نحو ما تبين أبيات مولاي الشاد السابقة. وشيئا فشيئا بدأ يقترب من القصيدة العربية في مقوماتها الإيقاعية، وفق ما نجد عند معاصره عبد الله بن احساين، وهو كذلك من تافيلالت، إذ يقول:
نبدا باسم الله انظامي ياللي ابغى لوزان
لوزان خير لي أنايا من قول "كان حتى كان"
ربي الهمني نمدح جد لشراف يا لخوان
بالشعر السليس الفايز هو ايكون لي عــــوان
حتى انقول ما قالوا عشاق النبي افكل ازمان
وانكون افلقريض الملحون أنا المادحو حسان
مداح مادحو بلساني والشوق له من لكنان
والمادحو ابقلب اكنانو يرضاه ما عيا بلسان
وإذا كان هذا النموذج يبرز مدى انتقال الملحون من شكل " كان حتى كان " العفوي إلى شكل "لوزان" المنظم، فإن الاحتكاك بالنصوص الشعرية التي كانت ترافق " الآلة " من توشيح وزجل أتاح للملحون أن يطور أشكاله عبر عنصرين اثنين:
الأول:التقسيم المنظم للقصيدة، ويسير على هذا النحو الذي سأكتفي بالإشارة إلى مصطلحاته، إذ لا يتسع المجال لتوضيح سماته المنعكسة على تلوين الوزن والقافية، وتنويع الأداء كما سياتي بعد.
1 ـ مقدمة= السرابة، وسأعود إليها فيما بعد عند الحديث عن الأداء.
2 ـ الدخول.
3 ـ الحربة = (اللازمة).
4 ـ القسم( قد يقدم له بالعروبي أو الناعورة أو السويرحة أو الكرسي).
5 ـ بعد الأقسام تختم القصيدة بآخر قسم أو بالدريدكة، وتنشد على إيقاع سريع.
الثاني:الأوزان، وتتسم بغنى عروضي لا مجال لحصره ولا يسمح الوقت بتفصيل القول فيه. وأقتصر فيه على ذكر أهم عناصره، وهي:
1 ـ المبيت وهو الشعر الذي يقوم على البيت، ومنه جاءت التسمية. إلا أن البيت فيه لا يسير على نسق واحد كما هو الشأن في القصيدة العربية، بل تنبثق منه أربعة أشكال:
أ ـ المثنى وفيه يتكون البيت من شطرين يطلق على الأول "الفراش" وعلى الثاني "الغطا". ويتم ضبط وزنه وفق "قياسات" لا حد لها، هي أشبه ما تكون ببحور الشعر العربي ، وأبسطها "قياس المشركي" الذي جاءت عليه قصيدة "الحجة" لعبد الله بن احساين الذي هو أول من قال فيه، وكان يعيش في أواخر القرن التاسع الهجري، وحربتها:
يالحضرا قولوا بالسر والجهار الصلا والسلام اعلى النبي المختار
ويعتبر هذا القياس أبسط أنواع المثنى ويطلق عليه لسهولته "لحويط لقصير". وهو أقرب إلى الرجز الذي وصف بأنه "حمار الشعراء".
ب ـ الثلاثي ويتكون من ثلاثة أشطار وبقياسات متعددة.
ج ـ المربوع أو الرباعي ويتكون من أربعة أشطار وبقياسات كثيرة.
د ـ خامس لشطار أو الخماسي، ويتكون من خمسة أشطار وبقياسات عدة.
2 ـ مكسور الجناح، وتتكون القصيدة فيه من أقسام، كل منها يخضع لهذا التقسيم:
أ ـ الدخول: شطر في استهلال القسم بدون عجز.
ب ـ مجموعة أشطار قصيرة تسمى "لمطيلعات" أو "لكراسا".
ج ـ بيت على وزن الحربة وقافيتها.
د ـ الحربة.
ويمكن التمثيل لهذا الشكل بقصيدة "المزيان" لمحمد بن علي.
3 ـ المشتب، وتتكون القصيدة فيه كذلك من أقسام، كل واحد منها يتشكل من بيت يفصل فيه بين أول أشطاره وبقيتها بعدد من الأشطار القصيرة تسمى كذلك "لمطيلعات". ومعروف أن الشتب هو الحشو الذي يملأ به الفرش أو نحوه، ومنه جاءت التسمية.
ويمكن التمثيل لهذا الشكل بقصيدة "التوبة" لمحمد بن سليمان.
4 ـ السوسي، وتتألف القصيدة فيه من أقسام يكون كل منها مكونا من الأجزاء الآتية:
أ ـ بيت من شطرين.
ب ـ مجموعة أشطار حرة في الوزن والقافية لا تخضع لغير تسلسل الإنشاد.
ج ـ بيتان أو ثلاثة أبيات موزونة ومقفاة .
د ـ الحربة على نفس وزن هذه الأبيات وقافيتها.
ويمكن التمثيل لهذا الشكل الذي يكثر في المحاورات بقصيدة " الزمنية والعصرية" لحسن اليعقوبي.
ثالثا = الأداء
وكان أول الأمر مجرد سرد"السرادة" في الزوايا والمساجد، ثم أخذ يعتمد على ضبط الإيقاع باليد أو ما يسمى "التوساد"، وبعد ذلك توسل بآلة " التعريجة" أو " لكوال" . إلا أنه بعد أن تأثر ب"الآلة" أصبح يستعمل أنغام نوباتها وموازينها، واتسع نطاق الآلات فيه. وسار في ذلك على نحو ما يقتضيه التنوع بين الأقسام وأجزائها. وأكتفي في توضيح هذا الأمر بالنقط الآتية:
الأولى:
بدء الإنشاد بإحدى هذه المقدمات:
1 ـ السرابة وهي قطعة قصيرة تؤدى على غير ما تؤدى به القصيدة . وأنواعها:
أ ـ المزلوك = رقيقة حادة.
ب ـ الكباحي= يصاحبها ضرب قوي متواصل بالكف (أغلب السرارب اليوم )
ج ـ الحضاري = مسترسلة وسريعة.
د ـ السماوي = وتعرف كذلك ب ( السرارب الحسناويين )تبدأ ببطء كالموال ثم تعلو وترتفع.
2 ـ الموال = إما معرب وإما ملحون
أ ـ نموذج المعرب :
ومن عجب أني أحن إليهم وأسأل شوقا عنهم وهم معي
وتشتاقهم عيني وهم في سوادها ويطلبهم قلبي وهم بين أضلعي
وهما لخليل الصفدي .
ب ـ نموذج الملحون:
تـانــحـبـك ونهواك وفي امسبتك ايـكـرهـوني
ما راحتي حتى نـلـقـاك واعليك يتحـلو اعيـونـي
3 ـ التمويلة، يقال إن لكل قصيدة تمويلتها، مثلا تمويلة "التوبة" لابن سليمان، وتنشد على ميزان عراق العجم:
أمالي يا مالي أسيدي يا سيدي
للا يا مولاتي للا
أمالي مصبرني
اغرايبي لاموني
وتجدر الإشارة إلى أن قصائد مكسور الجناح والسوسي ـ باستثناء الحراز ـ تستهل بمثل هذه العبارات (قال يانا سيدي) (وهو يا سيدي)، وتسمى: الدخول.
الثانية:
الشبه مع ما هو موجود في "الآلة" على هذا النحو:
1 ـ تقسيم الميزان، وفق هذا الشكل:
أ ـ التصديرة (افتتاح بطئ)
ب ـ القنطرة.
ج ـ الانصراف = إقفال الميزان بسرعة.
2 ـ التراتن (شغل) مثل = أنانا ـ طيري طان ـ يا لالان ـ . والقصد إغناء اللحن وإشباعه .
3 ـ الجواب وهو إعادة لبعض المقاطع اللحنية التي تنشد عليها أبيات الصنعة.
4 ـ البغيات والتواشي وهي معزوفات آلية يقدم بها، ومثلها "المشاليات"، وقد ضاع منها الكثير مثلما ضاعت السرابات .
5 ـ الموال وهو إنشاد منفرد لبيتين أو أكثر على لحن معين قد يعتمد الارتجال.
6 ـ التغطية والكرسي، وهو لحن يتصدر بعض الصنايع، أو هو إنشاد مع جواب بالعزف.
الثالثة:
الأداء حسب النوبات، ويكون على ميزان واحد أو أكثر، ويكفي التمثيل بما يلي:
1 ـ الأداء على ميزان واحد، ( أي لا تحتمل القصيدة إلا ميزانا واحدا في الغالب) مثلا:
أ ـ "قصيدة "خال وشاما" للمدغري فإنها لا تؤدى إلا على عراق العجم، وحربتها:
أللايم لاش تلوم رح سالم دعني كف لملام ما حجت امن اغرامي
بين خــال وشــامــا
ب ـ قصيدة"الكناوي" للمدغري كذلك، وحربتها:
معظم ذاك اليوم فاش صدو ناسي وامشاوا
تركوني نواح فالرسام ضميري كاوي
يحسن عون اللي امشاوا ناسو من بعد اكوا
ويقال أن بعض المنشدين حاول أداءها على رمل الماية، إلا أنه أفسدها.
ج ـ قصيدة "الهاجر" للعلمي، فإنها لا تؤدى إلا على الحجاز المشرقي، وحربتها:
آش اعملت أسلطان مهجتي حتى سلمت افخلطتي واضحيت من ساحتي اجفيل
راقب فيا وجه الله يا هاجر لوكر مسجونك سرحو اتفوز بــحســانو
د ـ قصيدة " التوبة " لابن سليمان، لا تنشد إلا على عراق العجم، وحربتها:
ياراسي لا تشقى التاعب لابد من لفراق
لا تامن فالدنيا ابناسها غــــرارا
ه ـ قصيدة " خناثة" للحبابي، لا تنشد إلا على الصيكة والحجاز، وحربتها:
عشقي فخناثـــا ياترا فالعاهد والقول ثابتـــــا
من تاهت بجمالها حياتي راحت روحي الصايلا عل لبدر بنعوت
2 ـ الأداء على أكثر من ميزان: من أمثلته قصيدة "المزيان" للعلمي، وحربتها:
حن واشفق واعطف برضاك يالمزيان
لا اسماحا ميعاد الله يا لهاجر
فإنهم يبدؤونها على الاستهلال، ثم ينتقلون إلى رمل الماية فالحجاز فالصيكة.
وهذا ما يسمى عندهم ب(التفجاج) أي أن المنشد (ايفجج) أي يستعرض طبوعا مختلفة في القصيدة الواحدة، وهي عملية أطلقوا عليها (لبدال)، وذلك عندهم من براعة الأداء .
أما المنشد الذي لا يستطيع ذلك فإنه يقال عنه إنه يغني (اعلى جنب واحد)، وهذا دليل على قصر باعه.
وبعد، فهذه بعض ملامح التأثير الذي كان لفن "الآلة" على فن "الملحون" حاولت وفق ما يسمح به الوقت ويتسع له المجال إبراز أهم ملامحه. وهو في الحقيقة لا يمكن توضيحه هكذا نظريا وبدون تطبيق يتيح الاستماع إلى القصائد مؤداة. ولعل ذلك أن يتاح في فرصة أخرى إن شاء الله.
عباس الجراري.
أثر الآلة على الملحون - عباس الجيراري -
أثر الآلة على الملحون عباس الجراري قدم هذا العرض ـ مرتجلا ـ في الندوة العلمية الدولية التي نظمتها جمعية رباط الفتح في نطاق مهرجان الموسيقى الأندلسية المنعقد من