عصمت داوستاشي - النقطة

النقطة هندسيا، إذا أسعفتنى الطفولة.. هى التى اذا جاورتها نقطة أخرى.. ثم نقطة ثالثة.. ثم نقطة رابعة.. وهكذا. يتكون خط مستقيم أو منحنى أو دائرى أو أى من الخطوط التى تشتهيها وتحبها.

والنقطة لو بقيت نقطة واحدة فقط… ومهما هى حاولت فى تفردها هذا. فلن تكون شيئا ما مطلقا.. ولكى تكون شيئا ما.. عليها أن تشارك أى شئ آخر أما أكبر منها أو فى حجمها.. فليس هناك ما هو أصغر منها وقد اكتسبت لذلك هذا الاسم الواضح المثير ” نقطة”.

وقد يقول قائل: أن النقطة فوق الكلام أو تحته شئ هام لولاها لما استقام معنى للكتابة…

ولكن حتى الرد البديهى على مثل هذا القول من أن الكتابة فى البدء لم تكن نقطة… ليس هو فصل الختام.. فالكارثة تكمن أصلا فى الناس النقط.. نعم يوجد من الناس من هم نقط… ومتفردة أيضا.. تائهة فى ذاتها.. رافضة أى انتماء لنقطة أخرى.. أو الاستكانة فوق أو تحت معنى اجتماعى ما. مفضلة استقلالية بلا معنى.. مستندة الى العناد البشرى المهلك.. تصرخ فى اللا انتماء.

– أنا نقطة.. أنا نقطة .. أنا نقطة … فيأتى صدى الصوت واضحا قويا طظ.. طظ .. طظ .. بعدد تكرار صوت الأنا المغرور.

نقطة ذكر:

– لم ألتقى بها .. أننا نادرا ما نلتقى بأى نقطة متفردة.. ونادرا ما تلتقى أى نقطة متفردة بذاتها باى شئ آخر.. عرفتها من حديث زوجها الذى التقى به مرارا وتكرارا فى ركن منعزل فى التار الذى اعتدنا على ارتياده بعد أن تجاوز كل منا الأربعين من عمره .. وصديقى ـ وهو من الأشياء القديمة المحببة لى – كنت أتوقع له فى شبابنا أن يصبح نجما لامعها أو بطلا عظيما.. ولكنه هاهو اليوم قد صدأ.. يجلس مساء كل يوم أمامى.. انسانا محطما منهارا نحتسى سويا أردء أنواع الخمور.

– هو يلعن الزواج وزوجته… وأنا ألعن العزوبية والوحدة التى أعانى منها. كان يحكى لى كل يوم ما يحدث بينه” هو الضعيف المستكين” وبين زوجته” يصورها دائما على أنها جبارة طاغية”..

قدمت له سيجارة… اشعلتها

– أسمع… زوجتك نقطة ذكر… قلتها وكأنى أشعل فتيل قنبلة.

– بهت فترة من الوقت.. انطفأت السيجارة وهى بين شفتيه… نظر لى باستغراب شديد.. قرب ناحيتى زجاجة البراندى.. وطلب تفسيرا لما قلت.. فاشعلت له السيجارة من جديد … وأنا اعلم أن الخمر – بها أو بدونها – لن تغيرشئ فى مصير الأشياء.

– فى البداية ألقيت عليه محاضرة فصيرة عن مفهومى الخاص للنقطة وهى التى بدأت بها موضوعى هذا.. ثم أنهيت حديثى قائلا: لهذا كله فزوجتك نقطة… ذكر.

أفرغت كل ما فى الكوب الى جوفى.. فهبت اعصار واشتعلت حرائق وشعرت بالشيطان فى جوفى قد ثمل… وأخذ يقهقه.

– ملأ صديقى الكوب وقدمه لى قائلا.. وعيناه تتابع قطرات البراندى التى أخذت تزحف فوق سطح المنضدة ببطء: لم أفهم بعد شيئا.. ماذا تعنى بأن زوجتى نقطة…… ذكر.

– قلت بهدوء شديد: زوجك… ألم تتوقف عن استكمال تعليمها الجامعى متعللة بأن مستوى التعليم أقل من مستواها الثقافى. ألم تقبل اصلا الزواج منك مضطرة لأنه الشكل الاجتماعى اللائق والوحيد لممارسة الجنس.. أقصد للمعاشرة الزوجية رغم أنها غير مؤمنة بالزواج… لأنها مثقفة وحرة ومنطلقة الى آخر هذه التخاريف الصبيانية.

وأنت الذى أرغمتها على الانجاب.. وأخذت تعلن للجميع أنها اصبحت أما رغم أنفها وأن الزواج والأمومة وشغل البيت كل هذه الأمور تعوق حركتها التقدمية كمثقفة رأسها برأس أجدع مثقف بالبلد. وأخذت تصرخ فى كل مكان.. بأنها أبدا لن تكون خادمة فى منزل رجل يتسلط عليها لتربى له أولاده وتطعمهم.. أنها أبدا لن تكنس وتغسل وتطبخ.. أنها فوق مستوى كل هذه الأمور…. وتفزعك ليل نهار بصراخها” شوف لك خدامة” ثم تأخذ ملابسك ترتديها وتخرج.

وزوجتك.. ألم تقبل العمل الوظيفى لمزيد من الاستقلال عنك ماديا.. وهى التى طردت كل أصدقائك ثم اخذت لك اصدقاء آخرين بمزاجها وتفرضهم عليك فرضا.

وهى التى ترفض صداقة زميلاتها وتفضل صداقة الذكور.. لأن المرأة فى رأيها حيوان منحط ثرثار.. ولا يمكنها أن تكون مثقفة أبدا.. أبدا.. أبدا.. وكم أغضبك صداقتها للذكور وكان ردها دائما أنها لا تصادق الاناث.. لأنها ذائما كانت تود وتتمنى أن تكون رجلا.. وغير هذا كثير.. ثم دعنى أهمس لك.. أقترب.. من أعلن حبه للآخر أولا… أليست هى.. ثم من أقدم على أول قبلة بينكم… أليست هى.. وقد حكيت أنت لى .. مقدار خجلك وخوفك من أن يراكم أحد.. ثم ألم تخبرنى أنت بأنك لا تستطيع أن تجتمع بها الا اذا رغبت هى فى ذلك.. أما رغبتك أنت الحيوانية الدنيئة.. فلتذهب بها للجحيم.. ثم ألم تخبرنى بأنها تقريبا.. تفعل كل شئ بنفسها.

يا أخى لا تدعنى استرسل فى مثل هذه التوضيحات المخجلة.. ألم تفهم بعد أنك تزوجت نقطة ذكر.. أنك يوميا تبكى حالك أمامى على هذه المنضدة فى هذا الركن من البار الأخير فى شارع البيارات… الذى يبدو أنه بقى خصيصا من أجلى وأجلك.

نقطة أنثى:

– نكس صديقى رأسه… فذكرنى ذلك بعام 1967.. وخرج صوته مبحوحا باكيا قائلا: وانا(ثم سكت طويلا) وبدات أنا حرب الاستنزاف.

– أفرغت ما تبقى فى الكوب.. واعتدلت فى جلستى.. وكتمت صخب الشيطان حتى لا يفضح جديتى.. وقلت لصديقى دون أن أنظر ناحيته:

انت يا سيدى… نقطة مؤنثة.

– رفع راسه وبحلق لى بعينيه الدامعة.. ثم سحب الزجاجة من أمامى وبمنتهى اليأس قال لى: كيف.. أنك تهيننى.. منذ أن بدأنا نتحدث.. تهيننى.. هذا أن لم تكن تهيننى طوال الوقت.. طوال الزمن.

– أشعلت آخر سيجارة فى علبتى وقلت له: أهدا.. ولا تغضب سريعا.. وسأشرح لك كل شئ.. بالنسبة لكونك نقطة أنثى فذلك بسبب كل ما سبق وأن أخبرتك به.. فهل تحتاج الى مزيد من التوضيح.

أعطانى ظهره غاضبا: نعم

– ابتسمت: حسنا يا صديقى.. أنت نقطة أنثى لخضوعك الكامل لكل الضعف الذى فيك.. فمنذ أن قدمت استقالتك من عملك.. استكنت تماما لتواجدك ببيتك.. رفضت كل الأعمال التى قدمت لك.. وكل المحاولات لتشغيلك أو توظيفك.. ويبدوا أنك تحت ستار الكرامة والعزة استرحت لفكرة ان تصبح ست البيت.. وهكذا أصبحت. تخرج زوجتك صباحا للعمل بعد أن تجهز لها وللأولاد الافطار ثم تقوم بتهوية المنزل وتنظيفه واعداد طعام الغذاء وغسل الأطباق وكنس المنزل ومسح الأرضيات وغسل الغسيل ونشره وكويه فاذا حضرت الست الزوجة من العمل والأولاد من المدرسة وجدوا كل شئ جاهزا. ولا أدرى اذا كنت تلبس طرحة فوق راسك أثناء تاديتك لدور ست البيت.. اياك يا صديقى ان تنسى أو تنكر أنى فى زيارتى لك صباحا كنت أجدك دائما مشغولا بالمنزل وغالبا ما تتركنى مهرولا الى المطبخ بحجة الشاى أو القهوة والحقيقة أنك نسيت حلة الطعام فوق النار… كنت أشم رائحة أخطائك.

– التفت صديقى ناحيتى وهو ينتصب واقفا غاضبا وقد برزت عيناه ثلاث سنتيمترات للأمام على غير عادته.. وأنا لم أعد قادرا على التوقف عن الكلام وبدا لى وكأن الشيطان يطل من فمى فأرجعه مرة أخرى تحت لسانى.. واصبحت كالنار التى لن تهدا الا بعد أن تأتى على كل شئ.

– أجلس.. أنا لا أتهمك فى رجولتك.. قد تكون قادرا حتى الآن على معاشرة زوجتك… أو أن تنتصب كرجل من حين لآخر… هى حلاوة الروح على كل حال. ولكنك كنقطة متفردة.. تحولت ببساطة الى نقطة أنثى.. ولا أدرى أن كنت كذلك طوال الوقت.. وبعكس زوجتك التى تحولت هى الأخرى الى نقطة…. ذكر وهكذا لم تعد هناك أى مشكلة فى حياتكم الزوجية طالما التكافؤ بينكم قائم.. ولعل هذا هو أروع ما فى زواجكم.. هذه التحولات رائعة.. تفاهم رائع.. ذكاء رائع.. ثم أن تكون نقطة أنثى.. أو نقطة ذكر فهذا لا يعنى أحدا غيرك.. اجلس من فضلك.. دعنى أكمل لك حد يثى.

– تحرك فوقع الكرسى خلفه وتحرك مفرش المائدة.. لم ينظر ناحيتى وصوته الباهت يخرج منه: لن أجلس.. ولن أجلس معك بعد الآن.. ولن تكمل لى اى حديث.. مطلقا.. مطلقا.. فأنت كاذب.. كاذب.. كاذب والنقطة الأنثى.. هى انت.. وانت تعلم جيدا والجميع كذلك أن زوجتك هجرتك لرعونتك فى كل شئ……. و….

وبدأ يخرج… حين التفت تجاهى وأكمل ببحة صوته.. وانت نقطة سوداء.. نقطة تأخذك للجحيم.

– خرجت خلفه… بدا يختفى فى ظلام شارع البيارات بخطواته المتشنجة المهتزة. همست لنفسى بطرب: كل النقط أصفار.. وأخذت أغنى.

فجأة ملأ المكان صوت آذان الفجر… فأحاطنى من كل جانب.. انقلبت أمعائى وأرجعت كل ما فى جوفى بجوار الحائط.. نقط.. نقط.. نقط.. أخذت تتقافز وتجرى فزعة فى كل اتجاه.

عصمت داوستاشي


* مجلة الإنسان والتطور / عدد يوليو 1984 / عدد‏ ‏يوليو‏ 1984‏ : قصة قصيرة: النقطة
عدد‏ ‏يوليو‏ 1984‏

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...