عبد النبي فرج - عبَّاد الشَّمس

تستريحُ في البنطلون الجينز وفوقه بلوزةٌ رخيصةٌ، تشتريها من سوقِ الملابس المُسْتعملَة، تظلُّ فترةً طويلةً في السُّوقِ تتأمَّلُ البلوزات، البنطلونات، دون أنْ تمدَّ يدَها، فقط عيناها تتجولان، وعندما تلفت نظرها بلوزةٌ، تقف أمامَها وترى نفسَها فيها، هيَ مرايا نفسِها، تتحرَّكُ بحُريَّة ومرونةٍ، تسيرُ، تجلسُ، تضعُ يدَها على خدِّها، وعندما تستريحُ إلى بلوزة، تُشيرُ إلى البائع دونَ كلمةٍ، يقول السِّعرَ؛ فتُخرج الفلوس، وتُعطيها للبائعِ دونَ فِصالٍ، لو لم تكن الفلوس كافية، تشكرُ البائعَ وتُهرولُ خارجَ السُّوقِ، أحيانًا يتصوَّرُ البائعُ أنَّها تُريدُ البلوزةَ بسِعرٍ أقلّ فينادي عليها: آنسة.. يا آنسة، ينفع معاكي. . .؟ وينزّل من سِعرها، لا تلتفتُ، أو حتى تقف على بائعٍ آخر، كانت تخافُ من الباعة، وتراهم مُجرمين، وأيّ صراعٍ معهم هو انتهاكٌ لها، وإفسادٌ لروحِها، وبسببِ ذلكَ تخلَّت عن بلوزاتٍ كانت تراها على جسمِها رائعةً، بلْ إنَّها أحيانًا كانت تعودُ ودموعُها تسيلُ على خدِّها، ولكنْ "أبدًا، لن أخوض معارك تستنزفني".

الرُّوحُ تزدهرُ عندما تظلُّ حُرَّةً, في بيئةٍ نظيفةٍ، لم تلوَّثْ؛ لذلكَ صنعت حولَ ذاتِها قشرةً صلبةً، ترفضُ أيَّ مخلوقٍ يقتحمُها؛ فظلَّ عالمُها محدودًا، تراوح بين عدَّةِ أصدقاء يعرفونها ويحترمون خصوصيَّتها، لِمَا تتميَّزُ به منْ نبلٍ وبراءةٍ نقيَّةٍ, رغم أنَّها تدخلهم في اختبارٍ صعبٍ عندما تسمعُ شيئًا خاطئًا، أو تفهم، بصورةٍ غير صحيحةٍ، أمرًا ما، فتثورُ ثورةً عارمةً, وتتَّهمُهم بالخيانةِ والغدرِ وتنسحب مُهرولةً للخارجِ, وتنقطِعُ عنْ لقاءاتِهم تمامً، ثم بعد فترةٍ طويلةٍ يتسرَّب الشَّكُ إليها أنَّها مُخطِئة، أو أنَّها لم تفهم جيِّدً، أو تتذكَّر الأيَّام الخوالي واللحظات السعيدة، والضَّحكات الصَّافية البريئة، فيأكلها النَّدم وتقرضُ في أظافرها حَسْرَةً وغمًّا، وساعتها تبكي حظَّها العاثرَ، حاولَ أكثر من شابٍّ أن يتودَّد إليها، ولكنَّ العلاقةَ لم تكنْ تتطوَّرُ؛ بسبب صمتِها وعدم قدرتِها على الاندماج، وتحفُّظِها المبالغِ فيه.

أمَّا السَّيِّدةُ الطَّيبةُ أمُّها فوضعتْ أصابعَها العشرةَ في الشّقِّ من أعمالِها السُّوء؛ فكلَّما كان لدى الجيران فرحٌ, أو أقاربُ، تُلحُّ عليها أن تذهبَ، أو ترقصَ مثل البناتِ، ولكنَّها "أبدا" كانت ترى عيون النَّاس إبرًا تتابعُها، وترصدُ كلَّ حركةٍ تقوم بها، ليسلخوا جلدَها، ويستبيحوها؛ لذلكَ كانت تمشي في الشَّارع شامخةً كعسكريٍّ دكتاتوريٍّ أجوفَ، يستعرضُ حرسَ الشَّرف، فكانت تُثيرُ الضَّحك، أو الرِّثاء.

في يوم كانت تجلسُ في المكتب وحدَها بعد غياب زملاءٍ ونزول آخرينَ مُبكِّرً، مُستجيبةً لسيلٍ من أحلامِ اليقظةِ، حتَّى إنَّها انفعلتْ،ِ فقامتْ تدورُ في المكتبِ، وتوقَّفتْ أمام نتيجة الحائطِ، وقد انتبهتْ إلى أنَّ اليوم عيد ميلادها الثَّامن والعشرين، وضعت يدها على جبهتِها، وتركتْ المصلحَةَ عائدةً إلى البيتِ، دخلتْ غُرفتَها ووقفتْ أمام المِرْآة، تتأمَّلُ وجهَها وجسمَها، وعندما تعبتْ من الوقفةِ، جلستْ على السّريرِ ونامتْ بملابسِها، وعندما تيقَّظتْ استحمتْ؛ فحدثَ لها نوعٌ من الانتعاشِ، وقالتْ: أنا حياتي هكذا جميلة! وأنا مكتفيةٌ بنفسِي ويكفي سلامي الرُّوحيّ الذي لا يُكدِّرُهُ شيءٌ، ولا يجبُ أبدًا أن أغيِّرَه من أجل أحدٍ، مُغامرةٌ غيرُ محسوبةٍ، مَن يُريدُ أن يتوافقَ مع حياتي، أهلاً !

واستراحتْ لقرارِها وظلَّتْ هكذا تعملُ إلى أن عادَ للمصلحةِ موظفٌ جديدٌ، كان حاصِلا على إجازة دون مُرتَّبٍ، وظلَّ في الكويتِ لمدَّةِ 12 عامًا، ولم يتزوجْ بعدُ، وكانت عودُته واستقرارُه في مصر، لأنَّه حقَّقَ استقرارًا ماديًّا يتيحُ له أن يعيشَ حياتَه دونِ عملٍ، ولكنَّه ليسَ بالإنسان الخاملِ كي يعيشَ عاطلًا، كما أنَّه يُريدُ أن يختلطَ بالنَّاسِ، لكي يتزوجَ فتاةً صالحةً، يكمِلُ معها دينَه.

في أوَّلِ يومٍ يدخلُ الإدارةَ استقبلتْه استقبالًا حارًا شفقةً عليه، عندما وجدتْ الموظَّفينَ يقابلونه بفتورٍ، غيرةً وحسدًا؛ لأنَّه كانَ يركب سيَّارةً باهظة الثَّمنِ ويرتدي ملابسَ غاليةً، وفي الوقت نفسِهِ بسيطةٌ، رغمَ أنَّها لم تكن تعرفه قبل ذلكَ، ورغم تحفُّظها، ولكنَّ شخصيته الأريحيَّة البسيطةَ خلقتْ نوعًا من الألفةِ والصَّداقةِ، توطَّدتْ عبْرَ الأيَّامِ، لم يكن يخطئُ، أو يجرحها بكلمةٍ، يفهمُها بصورةٍ مثاليةٍ، لم تعدْ إلى البيت مرَّةً واحدةً وفي داخلِها ريبة أو غضبٌ، حتَّى إنَّها كانتْ تستغرِبُ نفسَها، ولأوَّلِ مرَّةٍ تشعرُ أنَّها سعيدةٌ، وأنَّ حياتَها الغابرَةَ كانتْ محضَ وهمٍ، محضَ خسارةٍ فادحةٍ، تحوَّلتْ حياتُها من كائنٍ منطوٍ بائسٍ، إلى كائنٍ مُنطلِقٍ سعيدٍ لديه حبُّ المغامرةِ، كانتْ تحكي له كلَّ شيءٍ يحدث لها، في غيابه، حتَّى إنَّه كان يوصلها إلى بيتها في المنيل، ثم يذهبُ بعدَ ذلك إلى شقَّته، في مدينة نصر.

ولم تعد تأبهُ بالجيرانِ وبنظراتهم الخبيثة، بلْ كانت تتعمَّدُ أن تظلَّ يدها في يدِه فترة طويلة، أو تقوم بتدليله مُتعمِّدةً حتَّى تكسرَ حدَّةَ نظراتهم وعنفها، ظلاَّ هكذا سنواتٍ، على هذه الحالِ؛ تحكي له ويحكي لها، يأكلان معًا، يذهبانِ إلى السِّينما، ولكنْ ظلَّ هناك شيءٌ مُعلَّقٌ، شيءٌ كانت تحاول أن تفهمَه، هل ستظلُّ العلاقةُ هكذا؟، أليس من الطبيعيِّ أن ننتقلَ إلى مرحلةٍ أخرى أوسع مدى؟ لماذا لا يتكلَّم؟ ما الذي يجعلها تُحجِمُ عن الكلام؟ رغم أنَّها تعلمُ جيِّدًا أنَّه لا يُكلِّم أحدًا، وأنَّها الوحيدة التي يألفُها وتألفُه.

هناك شيءٌ! ،هكذا قالت، مستحيلٌ أن تظلَّ العلاقة هكذا. لقد أصبحتْ تُحبُّه بالفِعلِ، وترى حبَّه في عينيْه، في خوفِه عليها، في دِفءِ كلماتِهِ، في حنانِهِ الزَّائدِ، كانتْ تشعرُ أنَّه روحٌ طيِّبةٌ وأن ماءَه عذبةٌ لم تلوَّثْ، هل أقوم أنا بهذه المُهمَّة؟ لا، مستحيل، روحي غير قادرةٍ على فعلِ هذا، وما الذي سأخسره ، مجرَّد مطَّب، وبعد ذلك تسيرُ الحياةُ بشكل طبيعيٍّ، وماذا لو حدث شيءٌ، ولو 1% عطل، أن أفقدَ صديقًا أو حبيبًا، حتَّى لو من طرفٍ واحدٍ، هل من الطَّبيعي أن أُضيِّعَ كل ذلكَ من أجلِ مجهول، أنا هكذا حياتي مُزدهرةٌ، متألِّقةٌ، لا أعتقدُ أنَّ وضْعًا آخر سيُضيفُ شيئًا، لم تنمْ في تلك الليلة وفضَّلتْ عدمَ الذِّهاب إلى العمل.

اتَّصل بها، ومر عليها آخر النَّهار، وذهبا إلى حديقة الأسماك، ثم دخلا مطعمًا وتناولا الطَّعام، وعادتْ قربَ العاشرةِ، إلى العمل ، لا شيءَ تغيَّر، حتَّى إنَّ زملاءَها أخذا يضايقونها بوقاحة, حتَّى إنَّها قررَّتْ أن تغامرَ حتَّى لو خسرتْ كلَّ شيءٍ، لم تعدْ تحتملُ هذه الحياة، اتَّصلتْ به بالتليفون وقالت له إنَّها ستزورُهُ اليومَ قُرْبَ المَسَاء، ارتدتْ جيبةً نبيتي وبلوزةً بيضاءَ، وذهبت للكوافير، كانت لا تزالُ نضرةً وجميلةً جمالا من نوعٍ خاصٍّ، أخذتْ تُرتِّبُ الكلامَ الذي ستقوله، تحذفُ كلمةً، ثم تُضيفُ جملةً، وعندما وصلتْ كانت قد رتَّبتْ ما تقوله في دقَّةٍ لا تُحْتمَلُ، دقَّتْ الجرسَ، فخرجَ، ورحَّب بها، وأخذا يستكملانِ حديثهما كالعادة، وهيَ تتحيَّنُ الفرصةَ للدِّخولِ في الموضوعِ مُباشرةً، ولكنْ لم تجدْ الفُرصةَ، حتَّى قام فجأةً، وقد ضربَ بيده على جبهتِهِ : تشربي إيه؟، قالت: لازم؟، طبعًا، قهوة.

خرج، وهيَ أخذتْ تتجوَّل بعينيها في الشَّقة المطليَّة بالألوانِ الزَّرقاء والبيضاءِ، ممَّا يُضفي عليها سحرًا وجمالاً، تأمَّلتْ صورةً له مُعلَّقة على الحائط، وبعضَ اللوحاتِ الفنيَّة، منها لوحةٌ مُعلَّقةٌ في مواجهتها تمامًا؛ لوحة فان جوخ: عبَّاد الشَّمس، أخذتْ تتأمَّلُ في اللوحةِ فترةً طويلةً، حتَّى تسلَّلَ إليها نوعٌ من الحزنِ، نوعٌ من الأسى، لم تعرفْ كيف تسلَّلَ إليها، تنظرُ إلى انحناءِ عبَّاد الشَّمس، ترى فيه كيانًا حيًّا مُبهجًا ومشرقًا، ولكن داخله يُوجَد انكسارٌ, ذبولٌ، مَوَاتٌ، وكلُّ هذا الإشراقِ وَهْمٌ، خافتْ من اللوحةِ، خافت من غيابه، وأنَّها لو ظلَّتْ هكذا تنظرُ إلى اللوحة ستجفُّ، ولو حرَّكتْ يديها على اللوحة لاختفتا!

تعرَّقتْ وهي ترى نفسَها في دوَّامة حقيقيَّةٍ، وأنَّها تخبو، تخورُ، وأنَّ الفرح الذي بداخلها قد تبخَّرَ، وجسدُها قد ثقُلَ حتَّى أصبحتْ كالجثَّةِ، وفقدتْ أيَّة رغبةٍ لها في الكلام, انتزعَتْ نفسَها وجرجرتْ رِجْلَها، وخرجتْ من الشَّقةِ, نزلتْ إلى الشَّارع، أشارتْ لتاكسي فتوقَّفَ، ركبتْ، وانطلقَ مُبتعدًا عن الشَّقةِ؛ فشعرتْ بالارتياحِ، وصوتٌ يتردَّدُ داخلها: مفيش أيّ سبب يخليني أغيّر حياتي!


عبد النبي فرج

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...