كان يفترض بالسنوات التي انقضت على إطلالة القصة القصيرة جداً كمذهب جديد ومختلف على الساحة الأدبية العربية أن تكون كافية للتعريف بها وترسيخ مكانتها أو إشاحة النظر عنها. ولكن مقابل الدراسات المعدودة التي صدرت عن القصة القصيرة جداً والتي توجهت بالدرجة الأولى إلى المختصين، يبدو أن قصر القصة القصيرة جداً انعكس على الكتابات التي تناولتها، فاقتصرت في معظمها على الدفاع عنها أو نقدها انطلاقاً من أحكام مقولبة سلفاً.
الناقد وليد أبو بكر يتناول هنا ماهية القصة القصيرة جداً من خلال تناوله بالنقاش والتحليل العناصر التي تميزها عن القصة، تأكيداً على حقها في أن تحظى بالاعتراف باستقلالها الكامل ضمن الألوان الأدبية الأخرى، والقصصية منها بشكل خاص.
كتب الروائي آرنست همنغواي قصة من ست كلمات، اعتبرها أفضل أعماله على الإطلاق. تقول القصة: «للبيع: حذاء طفل، لم يرتدِه أحد».
إن النماذج الناجحة لهذا النوع من السرد القصصي، على قلّتها، والمحاولات النقدية الجادة التي أرادت أن تصل إلى تقنين له، على ندرتِها، تستطيع أن تتسامى فوق غياب الجدية عن كثير مما يكتب من قصص ومن نقد، وخصوصاً، وفي الحالتين معاً، ما تمتلئ به المساحات الإلكترونية التي تتحرّك من دون ضوابط.
كل ذلك يذكِّر بأن النماذج الناجحة في أي فن كتابي جديد، دائماً ما تكون قليلة، لأن الذين يدَّعون القدرة على الكتابة، والذين يستسهلون التطاول على ما هو جديد، لأنه تخلّص من بعض القواعد القديمة، قبل أن يرسو على قواعده، من فنون توصف بأنها سهلة ممتنعة، يشكِّلون النسبة الغالبة بين من يكتبون. وهي نسبة تسيء إلى النوع الأدبي، وتنجح فقط في أن تجنِّد ضدَّه محاربين قدامى، لا يستطيعون استيعاب ما يخرج على سننِهم التي تتصف بالثبات، ليناصبوه العداء، ويصفوه بما لا يليق بالفن.
نحو تحديدها أولاً
القصة القصيرة جداً، كفن كتابي جديد، تتعرَّض لما تعرَّضت له الانطلاقتان الأدبيتان السابقتان، لأن كل نص جديد، كما يقول يوجين أونيسكو، هو عدائي. «العدائية تمتزج بالأصالة، وهي تقلق ما اعتاد عليه الناس من أفكار». كما أن غلبة الادعاء جعل كثيرين ممن مارسوا الفنون السردية الأخرى بنجاح، ينظرون إلى هذه القصة نظرة استخفاف، أو على الأقل نظرة تراها جزءاً قاصراً من كتابة القصة التي تعوَّدوا عليها، وهي بذلك نظرة لا تعترف بوجود مستقل لها، كفن كتابي، بينما يراها آخرون مجرد طرفة يتسلى بها عديمو الموهبة.
ما يقف إلى جانب مستقبل القصة القصيرة جداً، كما يرى من يؤمن باستقلاليتها، أمران: الأول هو توالي النماذج الجيدة، والنقد الذي يدرسها بجدية، والثاني هو أن كتَّاباً كباراً مارسوا كتابتها منذ زمن، واعتبروا من روَّادها، أغروا كتَّاباً آخرين بكتابة ما يلفت النظر منها، إلى الحد الذي رأى بعض من يتابعونها، مثل الدكتور حسين المناصرة، أنها «الكتابة العليا إلى حد ما في المجال السردي، … وأن كتابتها قد تبدو أصعب من الرواية التي تتسع لعالم شاسع من اللغات والأصوات والأحداث، وأصعب من القصة القصيرة التي قد تقبل التطويل والاستطراد والحوارات. أما القصة القصيرة جداً فهي خلاصة لتجربة سردية لا بد وأن يسبقها باع طويل في كتابة كل من الرواية والقصة القصيرة أو إحداهما على الأقل، بحيث تغدو هذه الكتابة ذات آلية جمالية، مركزها المغامرة والتجريب وفق رؤى إبداعية متمكنة وأصيلة في فن السرد، لا رؤى مبتدئة ومستسهلة لهذه الكتابة الإبداعية أو غيرها»، كما أصبح هناك من يعتقد، في بلاد وصلت تجربة هذه الكتابة فيها مستوى عالياً من النضج، أنه «عندما يعتاد المرء على هذا الشكل، سيجد أنه من الصعب جداً أن يتخلى عنه».
أما عربياً، فإن القصص الناجحة في هذه الانطلاقة الأدبية الأخرى، يمكنها أن تؤكد وجود هذا النوع من الكتابة، الذي يعترف به كتَّاب قصة بارزون، ويمارسونه بنجاح كبير، من أمثال محمود شقير وزكريا تامر، وأعداد كبيرة من الكتَّاب العرب الذين ما زالت شهرتهم داخل بلادهم (كما في المغرب والمملكة العربية السعودية وسوريا على سبيل المثال)، إضافة إلى أعداد هائلة من كتّاب اللغات الأخرى، وخصوصاً في أمريكا اللاتينية.
ومع أن القصة (القصيرة)، الحديثة في الفن نسبياً، والتي أخذت معظم قواعدها من النماذج الغربية، هي أقرب فنون الكتابة إلى القصة القصيرة جداً، ومع أن هناك من يرى أنها قصة قصيرة، لكنها تبالغ في قصرها، دون أن تفقد مقومات القصة العادية، إلا أن بعض الباحثين، ومن باب ما يطلقون عليه محاولة التأصيل، ذهبوا إلى التراث بكل قوة، ووجدوا لهذه القصة جذوراً عميقة، كما هي حالتهم في كل فن كتابي.
ربما كان ذلك مدخلهم إلى الحديث عن نشأة القصة القصيرة جداً وعن ريادتها، مع أن الموضوع كله لا يُعد قضية مركزية، بسبب تعدد الآراء فيه، وإن كان يمكن الحديث عن زخمه بدءاً من سبعينيات القرن العشرين، ومحاولات تقنينه بعد ذلك بعقدين.
هذا التواضع العام على التسمية يوحي بأننا نتوقف أمام فن عربي أصيل، خصوصاً وأن الاتفاق على التسمية في اللغات الأجنبية لا يزال بعيد المنال، حتى وإن وجد رأي عام يشير إلى أنه ينضوي تحت ما يسمى «أدب الصدمة». مع أن بعض الكتب التي قدَّمت تنظيراً للقصة القصيرة جداً، نشرت قبل منتصف القرن الماضي، مثل كتاب «Writing Short Stories» الذي صدر في الولايات المتحدة الأمريكية في العام 1945م، واشترك في تأليفه تسعة من النقاد، ونشرت له ترجمة في بغداد في العام 1987م، قام بها قاسم سعد الدين، ضمن سلسلة «الموسوعة الصغيرة»، وتحت عنوان «فن كتابة الأقصوصة».
ومع وجود نوع من التواطؤ النقدي الذي يرى أن كل فن إبداعي يكاد يستعصي على التعريف، إلا أن محاولات كثيرة، حاولت تعريف القصة القصيرة جداً، من باب العبث في كثير من الأوقات، والتقاليد البحثية الجامدة في أوقات أخرى، لتكون النتائج الجادة أقرب إلى الوصف منها إلى التعريف المنطقي الجامع المانع، لأن حرية الإبداع، في المقام الأول، لا تخضع لأية قواعد ثابتة.
هناك مثلاً من وصف القصة القصيرة جداً بأنها «ببساطة، قصة تصل إلى هدفها دون إهدار للكلمات» كما يقول إريك برغر، فعرَّفها بأنها قصة؛ وهناك من اعتبرها، مثل الدكتور المناصرة، قصة قصيرة مختصرة تصل إلى نهاية مدهشة في الغالب، أو ذكر بكثير من الغموض أنها «بنية سردية بالضرورة أولاً… غير قابلة للتأطير الجمالي السردي (العناصر الفنية للسرد)… يتشكل وجودها من خلال نصوصها»، وكل ذلك يخرج عن طبيعة التعريف، لأنه يشتق ذاته مما هو معرَّف أصلاً (القصة هي قصة) أو من النفي (غير قابلة) أو من الغموض، وهي كلها صفات تتعارض مع التعريف. ولذلك فإن هذه المقالة تعمد إلى التوصل إلى الصورة العامة للقصة من خلال التناقض مع التعريف المنطقي غير المجدي، بالتركيز أساساً على نفي السمات التي لا تُعد أمراً يخص هذا النوع من السرد، وتثبيت السمات التي لا بد وأن تلحق به، أو أن ينفرد بها.
صفاتها وعناصرها
بين الفنون السردية، ومن ناحية الشكل الفني تحديداً، تشترك القصة (القصيرة) مع القصة القصيرة جداً في صفة القصر، إضافة إلى ما يسمى «الحكائية» أو القصصية، التي تضم جميع فنون الحكي بالضرورة، وقد تستفيد منها فنون الكتابة الأخرى أيضاً. هذا التقارب يعني أن النوعين الأدبيين ينطلقان من قاعدة واحدة، أو أن القصة القصيرة جداً ولدت من رحم سابقتها، وعلى أيدي من نجحوا في موضوع القص تحديداً، منذ البدايات، وأن الاستقلال المفترض للنوع الجديد عن النوع السابق يستلزم محاولة للتوجه إلى طريق مختلف يشقه هذا النوع، الذي يضع منذ البداية حدوداً للطول، لم تكن موجودة في السابق، وهي حدود حاول بعض المنظرين من ناحية شكلية، كما هي عادتهم، أن يحسبوها بعدد الكلمات، الأمر الذي يتعارض مع الفن، الذي يتطلَّع إلى شروطها الأخرى.
ينطلق النقد التقليدي في القصة (القصيرة) من النظر إلى عملية السرد، في مراحلها الأساسية الثلاث: البداية، والذروة (أو القمة)، والنهاية، وهو أمر متصل بصيرورة الأحداث في القصة، أو تطورها، أو ما يسمى بحركة الحبكة فيها إلى الأمام، حين تصل إلى المتلقي، فيعيد ترتيبها زمنياً في الذهن، من دون أن يعني ذلك إلزام الكتابة نفسها بهذا الترتيب.
ولأن الافتراض الأول سيرى أن القصة القصيرة جداً خرجت من رحم القصة القصيرة إلى حد كبير، فهي من ناحية الشكل تشبه «القصة القصيرة بالضبط، لكن المكان والبناء والنتيجة لها مساحة واسعة في القصة القصيرة، هي مساحة ضيقة في القصة القصيرة جداً». ومع استفادتها من أنواع الكتابة الأخرى، فسوف يفترض في القصة القصيرة جداً أن تمتلك مراحل القصة القصيرة، ضمنياً على الأقل. لكننا لو تأملنا النماذج الناجحة من هذا اللون تشير إلى أن المقدِّمات غالباً ما تكون محذوفة، لأدركنا من السياق، وأنه لا ضرورة أن تحتوي هذه القصة على أساسيات كتابة القصة القصيرة، مثل الاستهلال والعقدة والحل، لأن اللحظة التي تبدأ بها القصة القصيرة جداً هي لحظة الفعل، وهي بالتالي لحظة الذروة، التي تساعد على الإمساك بما يسمى اللحظة القصصية، حسبما يقول حسين علي محمد، وعلى المحافظة عليها حتى النهاية، لأن القصة القصيرة بتعبير آخر «قصة الذروة الدرامية القاطنة في ذهن تخميني متمكّن من صياغة نسيج لغوي درامي ناضج المعاني والصور والدلالات» كما يرى جمال المظفر؛ وهو ما يوحي بصفة أساسية تلتصق بهذا النوع الأدبي، تبدأ معه منذ لحظته الأولى، هي صفة «التوتّر».
يأتي هذا التوتر من الميل إلى ما يمكن أن يطلق عليه حكم «إجاعة اللفظ وإشباع المعنى»، كما يشار إلى حدّي المعادلة في السرد الحكائي: حد اللغة، وحد التاريخ.
إن أول صفة يفترض ألا تخلو منها القصة القصيرة جداً هي إذن صفة الحكائية، على اعتبار أن أية كتابة سردية لا بد وأن تنطلق «من الفكرة ومعالجتها من خلال أحداث مركّزة، تؤديها عوامل وشخوص معيَّنة وغير معيَّنة، في فضاءات محددة أو مطلقة… عبر منظور سردي معيّن، ضمن قالب زمني متسلسل أو متقاطع أو هابط سرعةً وبطئاً، مع انتقاء سجلات لغوية وأسلوبية معينة، للتعبير عن رؤية فلسفية ومرجعية معيَّنة».
وبالتالي، لا بد وأن تروي هذه القصة حكاية ما. ولأنها قصيرة جداً فإنها تبدأ من داخل الحدث، ويعمد كاتبها إلى «رسم صور شخصياته وهي تفعل، لا أن يخبرنا عن أفعالها». يقول محمود شقير في قصة «وجع»:
«كَتبتْ قصيدةً عن المدينة. قرأتْها للمرَّة السادسة، وانتعش قلبها قليلاً وهي ترى كيف امتزج وجع المدينة بوجعِها الخاص.
مزَّقت القصيدة وهي تعيدُ النظر فيها للمرّة السابعة، لأن وجعَ المدينة أكبرُ من قصيدتها، أكبرُ مما تحتمله الحواس».
الحكائية موجودة في هذه القصة بوضوح، لأنها تروي خبراً عن شخص ما، يبدأ ثم يتحرَّك إلى أن ينتهي. وهي بالتالي لا تعاني من غياب الحكاية الذي يكون مكشوفاً، لأن هذا النوع الأدبي لا يحتمل المواربة، بسبب قصره الشديد، ويقال إنه في مثل هذه القصة «لا يجد الكاتب مكاناً يختفي وراءه».
وقد يكون غياب الحكائية عن كثير من النصوص التي تقدم نفسها كقصص قصيرة جداً هو السبب في فشلها، وفي كثرة ما يُعده النقاد نوعاً من العبث، في المحاولات الكتابية الكثيرة التي غالباً ما تُتّخذ حجة من قبل الذين يهاجمون هذا النوع من الكتابة، ممن لا يؤمنون بأحقيته في الوجود، كنوع أدبي مستقل.
حدثها وبطلها
ولأنها قصة، فإن عليها أن تستند إلى حدث، ولأنها قصيرة جداً، فهي غالباً ما تقوم على حدث مركزي واحد، كما أنها يجب أن تستند إلى شخصيات، وغالباً ما لا يكون فيها أكثر من شخصية مركزية واحدة أيضاً.
من ناحية العنصر الأول، فإن حدث القصة القصيرة جداً لا بدَّ أن يكون مكتملاً. هو عادة ما يشير ولا يصرّح، ويترك للقارئ أن يستكمل ما هو ناقص. وهو حدث متنام كثيف، ينطلق من فكرة عميقة، ويحمل أبرز السمات الدرامية، التي تمنحه الحركة والتوتر والفعل، وتجعله ينمو بسرعة كبيرة، وفي اتجاه واحد غير متشعّب، ضمن حبكة مركزية نحو النهاية.
يقول زكريا تامر في قصة «مختصر ما حدث»:
حكم على خليل حاوي بالإعدام، فحدَّق إلى السماء متعجباً من لونها الأزرق الذي لم يتحول لونا أسود، وشنق ثلاث مرات، فكان الحبل في كلّ مرة يتمزّق على الرغم من أن جسمه هزيل وعنقه نحيل، ووقف مشدود القامة مغموراً بضياء الشمس بينما كان سبعة رجال يسددون فوهات بنادقهم نحوه، ويطلقون النار عليه، فلا تمسسه أية رصاصة كأنهم كانوا عميانا أو كأنه كان يبعد عنهم أميالا، وقذف إلى نار قادرة على إحراق مدينة بكاملها، وانتظرت عيونهم الشامتة رؤية رماده، ولكنه خرج من النار سليما يسعل سعال من دخّن سيجارة من نوع رديء، ولم يجد مهرباً من الانتحار حتى يثبت أنه الناجح وهم المخفقون.
ويغلب أن تركز القصص القصيرة جداً التي تستقي مادتها من المجتمع، على نقد العيوب في هذا المجتمع أو كشفها بطريقة حادّة، لأن الحكاية لا تكتفي بذاتها في هذا الفن، ولكنها لا بد وأن تقول شيئاً له قيمته.
ولأن المرأة هي العنصر الأضعف في المجتمع، ولأن هناك ملاحظة يدركها الرصد، هي أن نسبة كبيرة من كتاب هذا النوع الأدبيّ هن من النساء، وهو ما يحتاج إلى دراسة تحلله، فإن كثيراً مما يكتب، من قبل النساء والرجال، يكون عن واقع المرأة، والظلم الذي تتعرَّض له، مادياً كان أو معنوياً.
وحين يكون الحدث مكتملاً، فإنه يحافظ على الوحدة التي تعني تركيز الإضاءة عليه وحده، من خلال حبكة واحدة تبدو واضحة للعيان، لأن تنوع الأحداث يخلق تعدداً في الحكايات، ويؤدي بها إلى الترهّل. هذا يعني أن من الضروري في القصة القصيرة جداً «أن تتصل تفاصيل الخبر وأجزاؤه، وتتماسك تماسكاً عضوياً متيناً من أجل توفير الوحدة الفنية» لها. تقول أماني الجنيدي في قصة «لقاء»:
«تقطع الجبال من أجل أن تراه. تريد أن تقول له أمراً مهماً. تلبس فستاناً رائعاً وتتعطّر. تتكحّل وتخطّط شفتيها بالأحمر. يستقبلُها بحفاوة. يطلب لها فنجان قهوة. يرنّ هاتفه. يردّ، وينساها جالسة، مهملة.
تشربُ القهوةَ وتعود. تقسمُ ألا تعود. ألا تخبرَه بشيء. تصلُ غرفتها. تلقي بنفسها في فراشها. تنسى قسَمها، وتتساءل: ما الأمر المهم الذي أريدُ أن أقوله في المرة القادمة؟».
وبسبب صفة القصر الشديد التي تلحق بهذا النوع من الكتابة، فإن ما هو مطلوب منها هو الإيحاء بأن أحداثاً تستحقّ أن تروى جرت، بين بداية القصة ونهايتها، وأن المتلقي سوف يشعر بمرور هذه الأحداث، دون حاجة إلى سرد تفاصيلها. لأنها تنزلق إلى نهايتها بسرعة، وبشكل يثير دهشة المتلقي، رغم أنها لا تخرج بعد تأملها واستيعابها عن منطق الحدث كله. وهذا الحدث يرتبط بشخصية، لأنه «لا يوجد فن قصصي قصير جداً من دون شخصية أو بطلة. لكن لا مجال للتفريق بين الشخصية وبين الحدث، لأن الحدث هو الشخصية وهي تعمل، أو الفاعل وهو يفعل».
وبالطبع ليس من الملزم أن تكون هذه الشخصيات في القصص القصيرة جداً قاصرة على الشخصيات الإنسانية، إذ إن القصة القصيرة جداً تستطيع أن تتقبل تنوعاً كبيراً في الشخصيات، تبدأ من الجماد لتنتقل إلى الأحياء ثمّ إلى الناس، دون أن تستثنى من ذلك حتى الأفكار، وهي جميعاً شخصيات تخضع للأنسنة، وهو ما يعني «بناء القصة القصيرة جداً على أنسنة الأشياء والجماد والحيوان… فتتحول الحيوانات التي تتضمنها القصص القصيرة جداً إلى أقنعة بشرية رمزية تحمل دلالات إنسانية معبرة».
ولا يتوقف موضوع القصص عند الأنسنة، لكنه يتجاوز ذلك إلى ما هو خارج عن نطاق المنطقيّ والمعقول في التعامل مع الأحداث، إلى حدود تصل به إلى الصيغة السريالية، حيث تفقد الأشياء واقعيتها، من صميم هذه الواقعية ذاتها، وتتحوّل إلى رموز فكرية مأزومة. يقول عبد الفتاح شحادة في قصة «لحظة الموت»:
بالأمسِ، خطرَ لي أن الشارعَ أطول مما يجب.
بمقصّ حاولتُ تقصيره، فبدا أقصرَ مما يجب،
وصلتُه مرةً أخرى،
فعادَ الشارعُ أطول مما كان عليه في السابق!
وكان بإمكان الكاتب أن يتوقَّف عند هذه النهاية لتكون لديه قصة قصيرة جداً مكتملة الشروط، بطلها هو الشارع نفسه، لكنه آثر أن يستمر في نصه الغرائبي حتى نهاية أخرى، هي جزء من أسلوب يعتمده كتاب هذا النوع الأدبي كثيراً، هو المتوالية القصصية، التي تقدم فيها مجموعة من القصص القصيرة جداً، التي يربطها خيط درامي واحد، أو شخصية واحدة. ومع أن تتمة هذه القصة تقع في هذا السياق، إلا أن الكاتب لم يختره، وجعل ما كتبه قصة واحدة، ما يتسبب في شيء من الارتباك في النص:
أغمضتُ عينيَّ كي أكفَ عن استشعارِ الطولِ والقصر المقيت.
اصطدمتْ قدمي بشيء ثقيل.
دهستني سيارة، كسرت يدي، وتهشمتْ جمجمتي.
أدخلوني غرفةِ العمليات. رقدتُ شهراً في غرفةِ العنايةِ الفائقة.
متُّ!
ولم أفتح عينيَّ أبداً… كي أهرب من الإحساس بطول الطريق وطول العمر وطول الانتظار،
وعبثاً أشعر بطولِ لحظةِ الموت الآن!
مكانة النهاية المدهشة
عندما تتوافر الشخصية، والحكاية التي تروى عنها، فإن أهم ما تركز عليه القصة القصيرة جداً هو الوصول إلى نهاية مدهشة تلخص فكرة هذه القصة، أو تقدِّمها بضربة واحدة مفاجئة، إلى الحد الذي اعتبرت فيه النهاية مقياس نجاح للقصة، وكادت توحي بكثير الأسماء التي حملها هذا النوع من القصص، وخصوصاً «القصة الومضة» (Flash Fiction).
ولأن القصة القصيرة جداً تتميز بإيقاع سريع في أحداثها، القليلة نسبياً، فإن الاعتماد على النهاية المفاجئة هو الذي يجمع هذه الأحداث في محصلة ناجعة، تنقل فكرة القصة إلى المتلقي بقوة.
تنتهي القصة الناجحة نهاية غير نمطية، وغير مرتبطة «بسياق الحركة الدلالية للحكاية، ولكنها تنتهي بما يلغي إلى حدّ ما تلك الملامح، من دون أدنى إخبار أو إشارة، ولا حتى سياق دلالي… (ما يهشّم وحدة الصورة) بما هو غير محسوب أصلاً»، فهي بالتالي مغايرة وصادمة ومربكة لأفق انتظار القارئ، لأنها تكون غير متوقعة قبل أن تحدث، بل يكون الافتراض أن يكون المتوقع عكس ما يحدث تماماً، ما يجعل المتلقي بعيد النظر فيما قرأ، فيزداد تأثراً به، بسبب ما يثيره لديه من الدهشة. يقول أمين دراوشة في قصة «محامون»:
لم يكن يدور في خلد العجوز أم إبراهيم، أن يقوم واحد من ألمع المحامين، بفعل ذلك.
كانت نيتها تتجه إلى بيع قطعة أرض صغيرة وحسب، لتعتاش من ثمنها، وتضمن لنفسها جنازة لائقة.
المحامي الذي تثق به منذ حياة المرحوم،
طلب منها أن توقِّع على ورقة تحفظ لها حقَّها في الحياة،
وتضمن لها موتاً مريحاً.
المحامي الفذّ باعَ لنفسه كلّ ما تملك،
مقابل مبلغ صغير جداً..
هي دفعتْه له!
وتعدّ «جماليات صدمة القارئ من أهم محفزات الانفعال والإقبال على قراءة القصة القصيرة جداً… بدءاً من العنوان الذي ينبغي أن يكون إشكالياً وصادماً… وأن تكون النهاية إشكالية مفتوحة» وفق ما يراه المناصرة.
تقول ليلى العثمان في قصة «ظلم»:
فتح كرَّاستها… قرأ بوحَها… عاصفةَ توسّلها للحبيب أن يتزوّجها.
في ستر الليل، كانت سكِّينة تغوص في صدرِها.
أمام المحقق اعترف: غسلت عاري!
قدَّم له المحقق تقرير الطبيب:
القتيلة عذراء!
إن الجملة الأخيرة في هذا النوع من القص لها أهميتها في نقل حكاية استثنائية ومؤثرة، وبسببها «يكون أفق القارئ متهيئاً لهذا النوع من المخالفة»، حتى لا تقدِّم القصة نصاً سردياً مكثفاً لحالة غير استثنائية، قد يمرّ بها أي فرد، ولا يكون فيها ما يميزها كي تتحول إلى فن كتابي.
وحتى تحمل القصة القصيرة جداً نهايتها بكل هذه الشحنة الانفعالية الصادمة، التي تحتاج إليها، فإنها تلجأ إلى وسائل، يمكن أن تسمى بلاغية، منها ما يتعلق بالحدث نفسه، ومنها ما يتعلق باللغة التي تروى بها الحكاية.
من ناحية الحدث، قد تكون المفارقة أبرز صفة تعمل على إنجاح القصة القصيرة جداً، لأنها الأقدر على رفع إحساس المتلقي بها، فهي «تأخذ بتلابيب القارئ، وتهزه، فتوصله إلى ما يروم الكاتب، على غير ما يتوقع القارئ».
وتعتمد المفارقة على تفريغ الذروة وخرق المتوقع… خصوصاً عندما لا تعتمد على الإقحام القسري. وهي حالة ملازمة للواقعيّ والمألوف، تقوم على تناقضات سردية تنمّ عن مستويات لتعددية القراءات أو اللغات أو الأصوات أو الإيحاءات؛ فما يفهم بطريقة ما، يمكن النظر إليه من زاوية أخرى، لتظهر المفارقة بين دلالتين أو أكثر. يقول د. فاروق مواسي في قصة «المرآة»:
نظرتُُ إلى وجهي في المرآة، فرأيت شخصاً استغربت صورته.
سألته بإشارة: من أنت؟
فأشار لي وسألني: من أنت؟
وكلّما فعلت شيئاً أمامه كرَّر ذلك، وكأنه يسخر مني.
ولكنه عندما ابتسمت،
ظلّ واجماً!
ويتمّ التوصل إلى هذه السمة المهمة في القصة القصيرة جداً، وإلى غيرها من السمات التي تميزها، عن طريق الأسطرة والترميز والتناص وغيرها من العمليات الكتابية التي تناسب هذا النوع من الكتابة، كما تناسب غيرها. بينما تُعد السخرية من أهم مقومات هذه القصة، وكثيراً ما يستجاب إلى لقطتها الأخيرة بالضحك، بالرغم من أن ما هو ناجح منها لا يتخذ شكل النكتة.
التكثيف اللغوي
تقول قصة قصيرة جداً للكاتب الأمريكي غرامي جبسون في كلمات قليلة جداً: ثلاثة ذهبوا إلى العراق. واحد منهم عاد!
سوف يكتشف القارئ أن من لم يعودوا، (وقدرتهم القصة بالثلثين)، ربما عادوا في أكياس، أو لأن أحداً لم يعثر على جثثهم بعد تناثرها. ومن الممكن أن تستكمل القصة في الذهن بصفحات كثيرة وهو ما يميِّز القصة القصيرة جداً الناجحة.
وتحتل عملية التكثيف اللغوي مساحة واسعة من الدراسات التي تهتم بالقصة القصيرة جداً، لأن الأساس الذي تقوم عليه هذه القصة هو الاختزال. وإذا كان الاختزال يطال الأحداث والشخصيات، والأزمنة والأمكنة، ويضعها في حدودها الدنيا، فإن الأمر لا بدّ وأن ينسحب على الأداة التي تنقل هذه الأحداث، وهي اللغة، بشكل لا لبس فيه.
والتركيز على اللغة يكاد يوحي بأن القصة القصيرة جداً لعبة لغوية، وهو ما يقع فيه كثير من كُتَّابها، مع أنها على العكس من ذلك تتخذ من تطوير اللغة سبيلاً إلى رواية الحكاية وطرح الفكرة التي تنمو من خلالها. ولأن الحكاية حتى تصبح قصة، لا بدّ وأن تكون موحية، فإن صفة الإيحاء تلحق بلغة القصة القصيرة جداً، بدلاً من المباشرة. تقول صفاء عمير في قصة «احتماء»:
قالت له: لم أعد أطيقك. أرجو أن تكفّ عن ملاحقتي، حتى في الأماكن التي أحتمي منك فيها.
قال لها: وأنت.. أرجوك أن تكفِّي عن الاحتماء في أماكن تعلمين تماماً أنني سأجدك فيها.
مثل هذا النوع من الإيحاء يدخل في سياق ما يسمى شعرية اللغة، التي تتخلّق من تركيب الصور فيها.
فاللغة في القصة القصيرة جداً استعارية في المقام الأول: هي لغة إيجاز وترميز وإيحاء، وحذف إبداعي، وإيقاعات متعددة في عبارات محدودة، إلى أن تصبح اللغة في مجملها استعارة أو مجازاً. وهي تعتمد على المحذوف والتشذيب والتركيب والمقتصد، والبنية الدقيقة والمعمقة»، كما يقول خوسيه خيمينيث لوتانو. وهي تستند إلى الانزياح: وهو بالمعنى اللغوي خلخلة التركيب والمعنى، وتدمير الآلة المنطقية، والخروج عن معايير التفضية البصرية المألوفة، مع تخريب الانسجام الإيقاعي.
الناقد وليد أبو بكر يتناول هنا ماهية القصة القصيرة جداً من خلال تناوله بالنقاش والتحليل العناصر التي تميزها عن القصة، تأكيداً على حقها في أن تحظى بالاعتراف باستقلالها الكامل ضمن الألوان الأدبية الأخرى، والقصصية منها بشكل خاص.
كتب الروائي آرنست همنغواي قصة من ست كلمات، اعتبرها أفضل أعماله على الإطلاق. تقول القصة: «للبيع: حذاء طفل، لم يرتدِه أحد».
إن النماذج الناجحة لهذا النوع من السرد القصصي، على قلّتها، والمحاولات النقدية الجادة التي أرادت أن تصل إلى تقنين له، على ندرتِها، تستطيع أن تتسامى فوق غياب الجدية عن كثير مما يكتب من قصص ومن نقد، وخصوصاً، وفي الحالتين معاً، ما تمتلئ به المساحات الإلكترونية التي تتحرّك من دون ضوابط.
كل ذلك يذكِّر بأن النماذج الناجحة في أي فن كتابي جديد، دائماً ما تكون قليلة، لأن الذين يدَّعون القدرة على الكتابة، والذين يستسهلون التطاول على ما هو جديد، لأنه تخلّص من بعض القواعد القديمة، قبل أن يرسو على قواعده، من فنون توصف بأنها سهلة ممتنعة، يشكِّلون النسبة الغالبة بين من يكتبون. وهي نسبة تسيء إلى النوع الأدبي، وتنجح فقط في أن تجنِّد ضدَّه محاربين قدامى، لا يستطيعون استيعاب ما يخرج على سننِهم التي تتصف بالثبات، ليناصبوه العداء، ويصفوه بما لا يليق بالفن.
نحو تحديدها أولاً
القصة القصيرة جداً، كفن كتابي جديد، تتعرَّض لما تعرَّضت له الانطلاقتان الأدبيتان السابقتان، لأن كل نص جديد، كما يقول يوجين أونيسكو، هو عدائي. «العدائية تمتزج بالأصالة، وهي تقلق ما اعتاد عليه الناس من أفكار». كما أن غلبة الادعاء جعل كثيرين ممن مارسوا الفنون السردية الأخرى بنجاح، ينظرون إلى هذه القصة نظرة استخفاف، أو على الأقل نظرة تراها جزءاً قاصراً من كتابة القصة التي تعوَّدوا عليها، وهي بذلك نظرة لا تعترف بوجود مستقل لها، كفن كتابي، بينما يراها آخرون مجرد طرفة يتسلى بها عديمو الموهبة.
ما يقف إلى جانب مستقبل القصة القصيرة جداً، كما يرى من يؤمن باستقلاليتها، أمران: الأول هو توالي النماذج الجيدة، والنقد الذي يدرسها بجدية، والثاني هو أن كتَّاباً كباراً مارسوا كتابتها منذ زمن، واعتبروا من روَّادها، أغروا كتَّاباً آخرين بكتابة ما يلفت النظر منها، إلى الحد الذي رأى بعض من يتابعونها، مثل الدكتور حسين المناصرة، أنها «الكتابة العليا إلى حد ما في المجال السردي، … وأن كتابتها قد تبدو أصعب من الرواية التي تتسع لعالم شاسع من اللغات والأصوات والأحداث، وأصعب من القصة القصيرة التي قد تقبل التطويل والاستطراد والحوارات. أما القصة القصيرة جداً فهي خلاصة لتجربة سردية لا بد وأن يسبقها باع طويل في كتابة كل من الرواية والقصة القصيرة أو إحداهما على الأقل، بحيث تغدو هذه الكتابة ذات آلية جمالية، مركزها المغامرة والتجريب وفق رؤى إبداعية متمكنة وأصيلة في فن السرد، لا رؤى مبتدئة ومستسهلة لهذه الكتابة الإبداعية أو غيرها»، كما أصبح هناك من يعتقد، في بلاد وصلت تجربة هذه الكتابة فيها مستوى عالياً من النضج، أنه «عندما يعتاد المرء على هذا الشكل، سيجد أنه من الصعب جداً أن يتخلى عنه».
أما عربياً، فإن القصص الناجحة في هذه الانطلاقة الأدبية الأخرى، يمكنها أن تؤكد وجود هذا النوع من الكتابة، الذي يعترف به كتَّاب قصة بارزون، ويمارسونه بنجاح كبير، من أمثال محمود شقير وزكريا تامر، وأعداد كبيرة من الكتَّاب العرب الذين ما زالت شهرتهم داخل بلادهم (كما في المغرب والمملكة العربية السعودية وسوريا على سبيل المثال)، إضافة إلى أعداد هائلة من كتّاب اللغات الأخرى، وخصوصاً في أمريكا اللاتينية.
ومع أن القصة (القصيرة)، الحديثة في الفن نسبياً، والتي أخذت معظم قواعدها من النماذج الغربية، هي أقرب فنون الكتابة إلى القصة القصيرة جداً، ومع أن هناك من يرى أنها قصة قصيرة، لكنها تبالغ في قصرها، دون أن تفقد مقومات القصة العادية، إلا أن بعض الباحثين، ومن باب ما يطلقون عليه محاولة التأصيل، ذهبوا إلى التراث بكل قوة، ووجدوا لهذه القصة جذوراً عميقة، كما هي حالتهم في كل فن كتابي.
ربما كان ذلك مدخلهم إلى الحديث عن نشأة القصة القصيرة جداً وعن ريادتها، مع أن الموضوع كله لا يُعد قضية مركزية، بسبب تعدد الآراء فيه، وإن كان يمكن الحديث عن زخمه بدءاً من سبعينيات القرن العشرين، ومحاولات تقنينه بعد ذلك بعقدين.
هذا التواضع العام على التسمية يوحي بأننا نتوقف أمام فن عربي أصيل، خصوصاً وأن الاتفاق على التسمية في اللغات الأجنبية لا يزال بعيد المنال، حتى وإن وجد رأي عام يشير إلى أنه ينضوي تحت ما يسمى «أدب الصدمة». مع أن بعض الكتب التي قدَّمت تنظيراً للقصة القصيرة جداً، نشرت قبل منتصف القرن الماضي، مثل كتاب «Writing Short Stories» الذي صدر في الولايات المتحدة الأمريكية في العام 1945م، واشترك في تأليفه تسعة من النقاد، ونشرت له ترجمة في بغداد في العام 1987م، قام بها قاسم سعد الدين، ضمن سلسلة «الموسوعة الصغيرة»، وتحت عنوان «فن كتابة الأقصوصة».
ومع وجود نوع من التواطؤ النقدي الذي يرى أن كل فن إبداعي يكاد يستعصي على التعريف، إلا أن محاولات كثيرة، حاولت تعريف القصة القصيرة جداً، من باب العبث في كثير من الأوقات، والتقاليد البحثية الجامدة في أوقات أخرى، لتكون النتائج الجادة أقرب إلى الوصف منها إلى التعريف المنطقي الجامع المانع، لأن حرية الإبداع، في المقام الأول، لا تخضع لأية قواعد ثابتة.
هناك مثلاً من وصف القصة القصيرة جداً بأنها «ببساطة، قصة تصل إلى هدفها دون إهدار للكلمات» كما يقول إريك برغر، فعرَّفها بأنها قصة؛ وهناك من اعتبرها، مثل الدكتور المناصرة، قصة قصيرة مختصرة تصل إلى نهاية مدهشة في الغالب، أو ذكر بكثير من الغموض أنها «بنية سردية بالضرورة أولاً… غير قابلة للتأطير الجمالي السردي (العناصر الفنية للسرد)… يتشكل وجودها من خلال نصوصها»، وكل ذلك يخرج عن طبيعة التعريف، لأنه يشتق ذاته مما هو معرَّف أصلاً (القصة هي قصة) أو من النفي (غير قابلة) أو من الغموض، وهي كلها صفات تتعارض مع التعريف. ولذلك فإن هذه المقالة تعمد إلى التوصل إلى الصورة العامة للقصة من خلال التناقض مع التعريف المنطقي غير المجدي، بالتركيز أساساً على نفي السمات التي لا تُعد أمراً يخص هذا النوع من السرد، وتثبيت السمات التي لا بد وأن تلحق به، أو أن ينفرد بها.
صفاتها وعناصرها
بين الفنون السردية، ومن ناحية الشكل الفني تحديداً، تشترك القصة (القصيرة) مع القصة القصيرة جداً في صفة القصر، إضافة إلى ما يسمى «الحكائية» أو القصصية، التي تضم جميع فنون الحكي بالضرورة، وقد تستفيد منها فنون الكتابة الأخرى أيضاً. هذا التقارب يعني أن النوعين الأدبيين ينطلقان من قاعدة واحدة، أو أن القصة القصيرة جداً ولدت من رحم سابقتها، وعلى أيدي من نجحوا في موضوع القص تحديداً، منذ البدايات، وأن الاستقلال المفترض للنوع الجديد عن النوع السابق يستلزم محاولة للتوجه إلى طريق مختلف يشقه هذا النوع، الذي يضع منذ البداية حدوداً للطول، لم تكن موجودة في السابق، وهي حدود حاول بعض المنظرين من ناحية شكلية، كما هي عادتهم، أن يحسبوها بعدد الكلمات، الأمر الذي يتعارض مع الفن، الذي يتطلَّع إلى شروطها الأخرى.
ينطلق النقد التقليدي في القصة (القصيرة) من النظر إلى عملية السرد، في مراحلها الأساسية الثلاث: البداية، والذروة (أو القمة)، والنهاية، وهو أمر متصل بصيرورة الأحداث في القصة، أو تطورها، أو ما يسمى بحركة الحبكة فيها إلى الأمام، حين تصل إلى المتلقي، فيعيد ترتيبها زمنياً في الذهن، من دون أن يعني ذلك إلزام الكتابة نفسها بهذا الترتيب.
ولأن الافتراض الأول سيرى أن القصة القصيرة جداً خرجت من رحم القصة القصيرة إلى حد كبير، فهي من ناحية الشكل تشبه «القصة القصيرة بالضبط، لكن المكان والبناء والنتيجة لها مساحة واسعة في القصة القصيرة، هي مساحة ضيقة في القصة القصيرة جداً». ومع استفادتها من أنواع الكتابة الأخرى، فسوف يفترض في القصة القصيرة جداً أن تمتلك مراحل القصة القصيرة، ضمنياً على الأقل. لكننا لو تأملنا النماذج الناجحة من هذا اللون تشير إلى أن المقدِّمات غالباً ما تكون محذوفة، لأدركنا من السياق، وأنه لا ضرورة أن تحتوي هذه القصة على أساسيات كتابة القصة القصيرة، مثل الاستهلال والعقدة والحل، لأن اللحظة التي تبدأ بها القصة القصيرة جداً هي لحظة الفعل، وهي بالتالي لحظة الذروة، التي تساعد على الإمساك بما يسمى اللحظة القصصية، حسبما يقول حسين علي محمد، وعلى المحافظة عليها حتى النهاية، لأن القصة القصيرة بتعبير آخر «قصة الذروة الدرامية القاطنة في ذهن تخميني متمكّن من صياغة نسيج لغوي درامي ناضج المعاني والصور والدلالات» كما يرى جمال المظفر؛ وهو ما يوحي بصفة أساسية تلتصق بهذا النوع الأدبي، تبدأ معه منذ لحظته الأولى، هي صفة «التوتّر».
يأتي هذا التوتر من الميل إلى ما يمكن أن يطلق عليه حكم «إجاعة اللفظ وإشباع المعنى»، كما يشار إلى حدّي المعادلة في السرد الحكائي: حد اللغة، وحد التاريخ.
إن أول صفة يفترض ألا تخلو منها القصة القصيرة جداً هي إذن صفة الحكائية، على اعتبار أن أية كتابة سردية لا بد وأن تنطلق «من الفكرة ومعالجتها من خلال أحداث مركّزة، تؤديها عوامل وشخوص معيَّنة وغير معيَّنة، في فضاءات محددة أو مطلقة… عبر منظور سردي معيّن، ضمن قالب زمني متسلسل أو متقاطع أو هابط سرعةً وبطئاً، مع انتقاء سجلات لغوية وأسلوبية معينة، للتعبير عن رؤية فلسفية ومرجعية معيَّنة».
وبالتالي، لا بد وأن تروي هذه القصة حكاية ما. ولأنها قصيرة جداً فإنها تبدأ من داخل الحدث، ويعمد كاتبها إلى «رسم صور شخصياته وهي تفعل، لا أن يخبرنا عن أفعالها». يقول محمود شقير في قصة «وجع»:
«كَتبتْ قصيدةً عن المدينة. قرأتْها للمرَّة السادسة، وانتعش قلبها قليلاً وهي ترى كيف امتزج وجع المدينة بوجعِها الخاص.
مزَّقت القصيدة وهي تعيدُ النظر فيها للمرّة السابعة، لأن وجعَ المدينة أكبرُ من قصيدتها، أكبرُ مما تحتمله الحواس».
الحكائية موجودة في هذه القصة بوضوح، لأنها تروي خبراً عن شخص ما، يبدأ ثم يتحرَّك إلى أن ينتهي. وهي بالتالي لا تعاني من غياب الحكاية الذي يكون مكشوفاً، لأن هذا النوع الأدبي لا يحتمل المواربة، بسبب قصره الشديد، ويقال إنه في مثل هذه القصة «لا يجد الكاتب مكاناً يختفي وراءه».
وقد يكون غياب الحكائية عن كثير من النصوص التي تقدم نفسها كقصص قصيرة جداً هو السبب في فشلها، وفي كثرة ما يُعده النقاد نوعاً من العبث، في المحاولات الكتابية الكثيرة التي غالباً ما تُتّخذ حجة من قبل الذين يهاجمون هذا النوع من الكتابة، ممن لا يؤمنون بأحقيته في الوجود، كنوع أدبي مستقل.
حدثها وبطلها
ولأنها قصة، فإن عليها أن تستند إلى حدث، ولأنها قصيرة جداً، فهي غالباً ما تقوم على حدث مركزي واحد، كما أنها يجب أن تستند إلى شخصيات، وغالباً ما لا يكون فيها أكثر من شخصية مركزية واحدة أيضاً.
من ناحية العنصر الأول، فإن حدث القصة القصيرة جداً لا بدَّ أن يكون مكتملاً. هو عادة ما يشير ولا يصرّح، ويترك للقارئ أن يستكمل ما هو ناقص. وهو حدث متنام كثيف، ينطلق من فكرة عميقة، ويحمل أبرز السمات الدرامية، التي تمنحه الحركة والتوتر والفعل، وتجعله ينمو بسرعة كبيرة، وفي اتجاه واحد غير متشعّب، ضمن حبكة مركزية نحو النهاية.
يقول زكريا تامر في قصة «مختصر ما حدث»:
حكم على خليل حاوي بالإعدام، فحدَّق إلى السماء متعجباً من لونها الأزرق الذي لم يتحول لونا أسود، وشنق ثلاث مرات، فكان الحبل في كلّ مرة يتمزّق على الرغم من أن جسمه هزيل وعنقه نحيل، ووقف مشدود القامة مغموراً بضياء الشمس بينما كان سبعة رجال يسددون فوهات بنادقهم نحوه، ويطلقون النار عليه، فلا تمسسه أية رصاصة كأنهم كانوا عميانا أو كأنه كان يبعد عنهم أميالا، وقذف إلى نار قادرة على إحراق مدينة بكاملها، وانتظرت عيونهم الشامتة رؤية رماده، ولكنه خرج من النار سليما يسعل سعال من دخّن سيجارة من نوع رديء، ولم يجد مهرباً من الانتحار حتى يثبت أنه الناجح وهم المخفقون.
ويغلب أن تركز القصص القصيرة جداً التي تستقي مادتها من المجتمع، على نقد العيوب في هذا المجتمع أو كشفها بطريقة حادّة، لأن الحكاية لا تكتفي بذاتها في هذا الفن، ولكنها لا بد وأن تقول شيئاً له قيمته.
ولأن المرأة هي العنصر الأضعف في المجتمع، ولأن هناك ملاحظة يدركها الرصد، هي أن نسبة كبيرة من كتاب هذا النوع الأدبيّ هن من النساء، وهو ما يحتاج إلى دراسة تحلله، فإن كثيراً مما يكتب، من قبل النساء والرجال، يكون عن واقع المرأة، والظلم الذي تتعرَّض له، مادياً كان أو معنوياً.
وحين يكون الحدث مكتملاً، فإنه يحافظ على الوحدة التي تعني تركيز الإضاءة عليه وحده، من خلال حبكة واحدة تبدو واضحة للعيان، لأن تنوع الأحداث يخلق تعدداً في الحكايات، ويؤدي بها إلى الترهّل. هذا يعني أن من الضروري في القصة القصيرة جداً «أن تتصل تفاصيل الخبر وأجزاؤه، وتتماسك تماسكاً عضوياً متيناً من أجل توفير الوحدة الفنية» لها. تقول أماني الجنيدي في قصة «لقاء»:
«تقطع الجبال من أجل أن تراه. تريد أن تقول له أمراً مهماً. تلبس فستاناً رائعاً وتتعطّر. تتكحّل وتخطّط شفتيها بالأحمر. يستقبلُها بحفاوة. يطلب لها فنجان قهوة. يرنّ هاتفه. يردّ، وينساها جالسة، مهملة.
تشربُ القهوةَ وتعود. تقسمُ ألا تعود. ألا تخبرَه بشيء. تصلُ غرفتها. تلقي بنفسها في فراشها. تنسى قسَمها، وتتساءل: ما الأمر المهم الذي أريدُ أن أقوله في المرة القادمة؟».
وبسبب صفة القصر الشديد التي تلحق بهذا النوع من الكتابة، فإن ما هو مطلوب منها هو الإيحاء بأن أحداثاً تستحقّ أن تروى جرت، بين بداية القصة ونهايتها، وأن المتلقي سوف يشعر بمرور هذه الأحداث، دون حاجة إلى سرد تفاصيلها. لأنها تنزلق إلى نهايتها بسرعة، وبشكل يثير دهشة المتلقي، رغم أنها لا تخرج بعد تأملها واستيعابها عن منطق الحدث كله. وهذا الحدث يرتبط بشخصية، لأنه «لا يوجد فن قصصي قصير جداً من دون شخصية أو بطلة. لكن لا مجال للتفريق بين الشخصية وبين الحدث، لأن الحدث هو الشخصية وهي تعمل، أو الفاعل وهو يفعل».
وبالطبع ليس من الملزم أن تكون هذه الشخصيات في القصص القصيرة جداً قاصرة على الشخصيات الإنسانية، إذ إن القصة القصيرة جداً تستطيع أن تتقبل تنوعاً كبيراً في الشخصيات، تبدأ من الجماد لتنتقل إلى الأحياء ثمّ إلى الناس، دون أن تستثنى من ذلك حتى الأفكار، وهي جميعاً شخصيات تخضع للأنسنة، وهو ما يعني «بناء القصة القصيرة جداً على أنسنة الأشياء والجماد والحيوان… فتتحول الحيوانات التي تتضمنها القصص القصيرة جداً إلى أقنعة بشرية رمزية تحمل دلالات إنسانية معبرة».
ولا يتوقف موضوع القصص عند الأنسنة، لكنه يتجاوز ذلك إلى ما هو خارج عن نطاق المنطقيّ والمعقول في التعامل مع الأحداث، إلى حدود تصل به إلى الصيغة السريالية، حيث تفقد الأشياء واقعيتها، من صميم هذه الواقعية ذاتها، وتتحوّل إلى رموز فكرية مأزومة. يقول عبد الفتاح شحادة في قصة «لحظة الموت»:
بالأمسِ، خطرَ لي أن الشارعَ أطول مما يجب.
بمقصّ حاولتُ تقصيره، فبدا أقصرَ مما يجب،
وصلتُه مرةً أخرى،
فعادَ الشارعُ أطول مما كان عليه في السابق!
وكان بإمكان الكاتب أن يتوقَّف عند هذه النهاية لتكون لديه قصة قصيرة جداً مكتملة الشروط، بطلها هو الشارع نفسه، لكنه آثر أن يستمر في نصه الغرائبي حتى نهاية أخرى، هي جزء من أسلوب يعتمده كتاب هذا النوع الأدبي كثيراً، هو المتوالية القصصية، التي تقدم فيها مجموعة من القصص القصيرة جداً، التي يربطها خيط درامي واحد، أو شخصية واحدة. ومع أن تتمة هذه القصة تقع في هذا السياق، إلا أن الكاتب لم يختره، وجعل ما كتبه قصة واحدة، ما يتسبب في شيء من الارتباك في النص:
أغمضتُ عينيَّ كي أكفَ عن استشعارِ الطولِ والقصر المقيت.
اصطدمتْ قدمي بشيء ثقيل.
دهستني سيارة، كسرت يدي، وتهشمتْ جمجمتي.
أدخلوني غرفةِ العمليات. رقدتُ شهراً في غرفةِ العنايةِ الفائقة.
متُّ!
ولم أفتح عينيَّ أبداً… كي أهرب من الإحساس بطول الطريق وطول العمر وطول الانتظار،
وعبثاً أشعر بطولِ لحظةِ الموت الآن!
مكانة النهاية المدهشة
عندما تتوافر الشخصية، والحكاية التي تروى عنها، فإن أهم ما تركز عليه القصة القصيرة جداً هو الوصول إلى نهاية مدهشة تلخص فكرة هذه القصة، أو تقدِّمها بضربة واحدة مفاجئة، إلى الحد الذي اعتبرت فيه النهاية مقياس نجاح للقصة، وكادت توحي بكثير الأسماء التي حملها هذا النوع من القصص، وخصوصاً «القصة الومضة» (Flash Fiction).
ولأن القصة القصيرة جداً تتميز بإيقاع سريع في أحداثها، القليلة نسبياً، فإن الاعتماد على النهاية المفاجئة هو الذي يجمع هذه الأحداث في محصلة ناجعة، تنقل فكرة القصة إلى المتلقي بقوة.
تنتهي القصة الناجحة نهاية غير نمطية، وغير مرتبطة «بسياق الحركة الدلالية للحكاية، ولكنها تنتهي بما يلغي إلى حدّ ما تلك الملامح، من دون أدنى إخبار أو إشارة، ولا حتى سياق دلالي… (ما يهشّم وحدة الصورة) بما هو غير محسوب أصلاً»، فهي بالتالي مغايرة وصادمة ومربكة لأفق انتظار القارئ، لأنها تكون غير متوقعة قبل أن تحدث، بل يكون الافتراض أن يكون المتوقع عكس ما يحدث تماماً، ما يجعل المتلقي بعيد النظر فيما قرأ، فيزداد تأثراً به، بسبب ما يثيره لديه من الدهشة. يقول أمين دراوشة في قصة «محامون»:
لم يكن يدور في خلد العجوز أم إبراهيم، أن يقوم واحد من ألمع المحامين، بفعل ذلك.
كانت نيتها تتجه إلى بيع قطعة أرض صغيرة وحسب، لتعتاش من ثمنها، وتضمن لنفسها جنازة لائقة.
المحامي الذي تثق به منذ حياة المرحوم،
طلب منها أن توقِّع على ورقة تحفظ لها حقَّها في الحياة،
وتضمن لها موتاً مريحاً.
المحامي الفذّ باعَ لنفسه كلّ ما تملك،
مقابل مبلغ صغير جداً..
هي دفعتْه له!
وتعدّ «جماليات صدمة القارئ من أهم محفزات الانفعال والإقبال على قراءة القصة القصيرة جداً… بدءاً من العنوان الذي ينبغي أن يكون إشكالياً وصادماً… وأن تكون النهاية إشكالية مفتوحة» وفق ما يراه المناصرة.
تقول ليلى العثمان في قصة «ظلم»:
فتح كرَّاستها… قرأ بوحَها… عاصفةَ توسّلها للحبيب أن يتزوّجها.
في ستر الليل، كانت سكِّينة تغوص في صدرِها.
أمام المحقق اعترف: غسلت عاري!
قدَّم له المحقق تقرير الطبيب:
القتيلة عذراء!
إن الجملة الأخيرة في هذا النوع من القص لها أهميتها في نقل حكاية استثنائية ومؤثرة، وبسببها «يكون أفق القارئ متهيئاً لهذا النوع من المخالفة»، حتى لا تقدِّم القصة نصاً سردياً مكثفاً لحالة غير استثنائية، قد يمرّ بها أي فرد، ولا يكون فيها ما يميزها كي تتحول إلى فن كتابي.
وحتى تحمل القصة القصيرة جداً نهايتها بكل هذه الشحنة الانفعالية الصادمة، التي تحتاج إليها، فإنها تلجأ إلى وسائل، يمكن أن تسمى بلاغية، منها ما يتعلق بالحدث نفسه، ومنها ما يتعلق باللغة التي تروى بها الحكاية.
من ناحية الحدث، قد تكون المفارقة أبرز صفة تعمل على إنجاح القصة القصيرة جداً، لأنها الأقدر على رفع إحساس المتلقي بها، فهي «تأخذ بتلابيب القارئ، وتهزه، فتوصله إلى ما يروم الكاتب، على غير ما يتوقع القارئ».
وتعتمد المفارقة على تفريغ الذروة وخرق المتوقع… خصوصاً عندما لا تعتمد على الإقحام القسري. وهي حالة ملازمة للواقعيّ والمألوف، تقوم على تناقضات سردية تنمّ عن مستويات لتعددية القراءات أو اللغات أو الأصوات أو الإيحاءات؛ فما يفهم بطريقة ما، يمكن النظر إليه من زاوية أخرى، لتظهر المفارقة بين دلالتين أو أكثر. يقول د. فاروق مواسي في قصة «المرآة»:
نظرتُُ إلى وجهي في المرآة، فرأيت شخصاً استغربت صورته.
سألته بإشارة: من أنت؟
فأشار لي وسألني: من أنت؟
وكلّما فعلت شيئاً أمامه كرَّر ذلك، وكأنه يسخر مني.
ولكنه عندما ابتسمت،
ظلّ واجماً!
ويتمّ التوصل إلى هذه السمة المهمة في القصة القصيرة جداً، وإلى غيرها من السمات التي تميزها، عن طريق الأسطرة والترميز والتناص وغيرها من العمليات الكتابية التي تناسب هذا النوع من الكتابة، كما تناسب غيرها. بينما تُعد السخرية من أهم مقومات هذه القصة، وكثيراً ما يستجاب إلى لقطتها الأخيرة بالضحك، بالرغم من أن ما هو ناجح منها لا يتخذ شكل النكتة.
التكثيف اللغوي
تقول قصة قصيرة جداً للكاتب الأمريكي غرامي جبسون في كلمات قليلة جداً: ثلاثة ذهبوا إلى العراق. واحد منهم عاد!
سوف يكتشف القارئ أن من لم يعودوا، (وقدرتهم القصة بالثلثين)، ربما عادوا في أكياس، أو لأن أحداً لم يعثر على جثثهم بعد تناثرها. ومن الممكن أن تستكمل القصة في الذهن بصفحات كثيرة وهو ما يميِّز القصة القصيرة جداً الناجحة.
وتحتل عملية التكثيف اللغوي مساحة واسعة من الدراسات التي تهتم بالقصة القصيرة جداً، لأن الأساس الذي تقوم عليه هذه القصة هو الاختزال. وإذا كان الاختزال يطال الأحداث والشخصيات، والأزمنة والأمكنة، ويضعها في حدودها الدنيا، فإن الأمر لا بدّ وأن ينسحب على الأداة التي تنقل هذه الأحداث، وهي اللغة، بشكل لا لبس فيه.
والتركيز على اللغة يكاد يوحي بأن القصة القصيرة جداً لعبة لغوية، وهو ما يقع فيه كثير من كُتَّابها، مع أنها على العكس من ذلك تتخذ من تطوير اللغة سبيلاً إلى رواية الحكاية وطرح الفكرة التي تنمو من خلالها. ولأن الحكاية حتى تصبح قصة، لا بدّ وأن تكون موحية، فإن صفة الإيحاء تلحق بلغة القصة القصيرة جداً، بدلاً من المباشرة. تقول صفاء عمير في قصة «احتماء»:
قالت له: لم أعد أطيقك. أرجو أن تكفّ عن ملاحقتي، حتى في الأماكن التي أحتمي منك فيها.
قال لها: وأنت.. أرجوك أن تكفِّي عن الاحتماء في أماكن تعلمين تماماً أنني سأجدك فيها.
مثل هذا النوع من الإيحاء يدخل في سياق ما يسمى شعرية اللغة، التي تتخلّق من تركيب الصور فيها.
فاللغة في القصة القصيرة جداً استعارية في المقام الأول: هي لغة إيجاز وترميز وإيحاء، وحذف إبداعي، وإيقاعات متعددة في عبارات محدودة، إلى أن تصبح اللغة في مجملها استعارة أو مجازاً. وهي تعتمد على المحذوف والتشذيب والتركيب والمقتصد، والبنية الدقيقة والمعمقة»، كما يقول خوسيه خيمينيث لوتانو. وهي تستند إلى الانزياح: وهو بالمعنى اللغوي خلخلة التركيب والمعنى، وتدمير الآلة المنطقية، والخروج عن معايير التفضية البصرية المألوفة، مع تخريب الانسجام الإيقاعي.