يتولد عن الحساسية المثقفية والعزوف عن التثقيف الذاتي المتواصل انعزال المثقف أو عزلته سيان. وبذلك يتكرس العمل الفردي في غياب الشروط التي يمكن أن يسود فيها الحوار بين المثقفين. إذ لا تتكون بينهم لغة خاصة أو اهتمامات مشتركة قابلة للتطوير والإغناء.
لكن العمل الفردي، مهما كانت نجاعته أو جديته عند بعض المثقفين الذي يرومون المواكبة والاستمرار، يظل محدودا لأن التغريد خارج السرب يمكن بدوره أن يؤدي إلى العزلة وطغيان الحساسية المثقفية، وإن بشكل مختلف. إن هذه الحساسية تتخذ، هنا، مظهر التعالي والإحساس بالتفرد، بمقارنة أصحابها أنفسهم بالذين يكتفون بإدانة الواقع بدل التفكير فيه، أو في طريقة الانخراط الإيجابي في تناول معضلاته.
تتجمع لدينا بذلك أشكال متعددة من الحساسية تصب مجتمعة في الانعزال والعزلة. ولذلك نجد مختلف فئات المثقفين، باختلاف حساسياتهم وبمدى انخراطهم في الواقع، يتبادلون اتهام بعضهم البعض بالاتهامات نفسها، وإن تعددت مواقعهم من التحولات الجارية. إن مصدر تلك الحساسيات، باعتباره من العوائق الذاتية، يعود في تقديري، إلى جانب أسباب كثيرة، إلى عدم قدرة المثقفين، على خلق ما أسميه ‘المجتمع الثقافي’، أو بلورة تقاليد ثقافية قابلة للتحول مع الزمن، وأن تستمر رغم كل الطوارئ والتغيرات.
عندما نعود إلى العشرينيات من القرن العشرين، وحتى السبعينيات، عندما كان التفكير الجماعي منصبا على طرح أسئلة تتعلق بفهم الواقع، والفعل فيه، رأينا كيف أن ‘المجتمع الثقافي’ بدأ يتشكل من خلال ‘المدارس’ والتيارات الأدبية والفكرية. وكان السجال على أشده بين مختلف هذه ‘المجتمعات’. وكان ذلك يتم من خلال الكتابة والإعلان عن المواقف الفكرية والأدبية بكل جرأة ومسؤولية. وكان من نتائج ذلك تراث هام يتطلب، الآن، القراءة والتحليل. وساهم ذلك النقاش في تطور الإعلام الثقافي، وبروز اصطفافات ثقافية تعبر عن نفسها، من خلال خلق الأدوات الملائمة لذلك. ولقد لعب ذلك أدوارا هامة في خلق رأي عام ثقافي، يشترك في الهموم والقضايا التي تشغل بال المجتمع العربي بصفة عامة. وأدى ذلك إلى خلق ‘جمهور ثقافي’ يتابع عن طريق ‘القراءة’ المواكبة، وحضور الفعاليات والأنشطة، وكل المستجدات.
هل لنا أن نذكر أبوللو، والديوان، وشعر، وغاليري 67، ومواقف، والثقافة الجديدة، والأقلام، والطليعة، وأنفاس، وإنتغرال،،، هل لنا أن نذكر الرابطة القلمية، والعصبة الأندلسية في المهاجر الأمريكية؟ هل لنا تعداد ‘الجمعيات’ الثقافية التي حاولت لملمة المجهودات وتوجيهها للانخراط والفعل الثقافيين؟ صحيح كان الهاجس الإيديولوجي مركزيا في مختلف هذه المجتمعات الثقافية. لكن المبادئ والقيم الثقافية، رغم الحساسيات والخلافات، كانت إلى حد بعيد تمثل قواسم مشتركة للانخراط والفعل.
سالت مياه كثيرة تحت الجسر، واستقطبت الدول المثقفين والأدباء والكتاب، من خلال اتحادات وروابط وأسر، باستثناء بعضها الذي ظل بمنأى عن ‘الدعم’ الذي توفره الدولة، أو التوجيه الذي تمليه. انفرط العقد، وتششت القوم شذر مذر. انقسمت كل هذه ‘الجسوم’ المؤطرة للعمل الثقافي، وانتهت بالتدريج إلى الجمود والاختفاء.
حدثت تحولات كثيرة منذ الثمانينيات إلى الآن. ومنذ التسعينيات بدأ الحديث عن ‘الأجيال’ الثقافية، وكل منها يدعي تمثيله للثقافة، وتميزه، وتمرده عن الأجيال السابقة، بل وعن معاصريه أيضا. فبدأت تتشكل ‘الجماعات’ التي تجتمع على الحساسيات، في أغلب الأحيان، لا الفعل المنتج. قد تسير بعض هذه الجماعات على بعض التقاليد التي أرسيت سابقا مثل: إصدار مجلات، أو طبع مجموعات أدبية مشتركة، ولكنها سرعان ما تختفي لأسباب شخصية بين مكوناتها. وكان من نتائج ذلك ‘التشرذم’ والانقسام الذي ظل مستمرا إلى أن صار الواحد يرى نفسه ‘جماعة’، متميزة عن الآحاد والجماعات الأخرى. وصار ما يحدد العلاقات بين الفئات الثقافية المختلفة هو تبادل الثناء والهجاء، أو الاستدعاءات، أو النشر في المجلات، أي تبادل ‘المصالح’ المادية، أو المعنوية. وصار الحديث الذي يتردد اليوم بقوة، عن ‘الشللية’، مرادفا آخر لـ’الحساسية’ المثقفية.
هذا الواقع الذي يجري في الوطن، يقع في المهجر أيضا. فلم نسمع عن ‘مجتمع ثقافي’ تبلور في المهاجر على غرار ما كان في بدايات القرن العشرين. فكل يحاول أن يسهم لنفسه، ولوحده، في ‘صناعة’ اسمه بمنأى عن أي فعل ثقافي يتطلبه واقع الأجيال الجديدة من أبناء المهاجرين. وما الذهنية التي تحرك ‘المهاجر’، سوى تلك التي تتشكل في الأوطان.
إذا كانت الهواجس الإيديولوجية والفكرية والفنية وراء تشكيل ‘المجتمع الثقافي’ في الحقب السابقة، فإن غياب هذا المجتمع في الوقت الراهن يعود بدوره إلى أسباب إيديولوجية، مع فارق جوهري، هو أن الإيديولوجيا السابقة كانت تدفع إلى الإنتاج والانخراط الإيجابي، بغض النظر عن الآثار المترتبة عنها، لأنها كانت تستجيب، أو تتجاوب مع ‘المجتمع السياسي’ الذي كان بدوره منخرطا في التحول. لكن مع الصيرورة، بدأ المجتمع السياسي يمارس السياسة بدون أي هاجس وطني أو ديموقراطي. وصار ‘المجتمع الحزبي’ هو الأساس، ولذلك غاب الفكر والبرنامج، فتشابهت اللغات والشعارات، وصار الحزب لا يشتغل إلا كوكالة تتحرك في زمن واحد: زمن الانتخابات.
لا فرق إذن بين ‘المجتمع الثقافي’ و’السياسي’، فكل منهما نتاج الآخر، وبقدر ما انعزل المثقف عن ‘السياسي’، استغنى السياسي عن ‘المثقف’. وكل ما يمكن أن توسم به الثقافة، حاليا، من حساسيات وشللية وانعزال ينسحب على السياسة تماما، مع ملاءمة المقال لمقتضى المجتمع. وكما أنه بدون مجتمع سياسي لا يمكن للفعل الثقافي أن يتكون، لا يمكن للفعل السياسي أن يتشكل بدون مجتمع ثقافي.
20 - مايو - 2014
سعيد يقطين
www.alquds.co.uk
لكن العمل الفردي، مهما كانت نجاعته أو جديته عند بعض المثقفين الذي يرومون المواكبة والاستمرار، يظل محدودا لأن التغريد خارج السرب يمكن بدوره أن يؤدي إلى العزلة وطغيان الحساسية المثقفية، وإن بشكل مختلف. إن هذه الحساسية تتخذ، هنا، مظهر التعالي والإحساس بالتفرد، بمقارنة أصحابها أنفسهم بالذين يكتفون بإدانة الواقع بدل التفكير فيه، أو في طريقة الانخراط الإيجابي في تناول معضلاته.
تتجمع لدينا بذلك أشكال متعددة من الحساسية تصب مجتمعة في الانعزال والعزلة. ولذلك نجد مختلف فئات المثقفين، باختلاف حساسياتهم وبمدى انخراطهم في الواقع، يتبادلون اتهام بعضهم البعض بالاتهامات نفسها، وإن تعددت مواقعهم من التحولات الجارية. إن مصدر تلك الحساسيات، باعتباره من العوائق الذاتية، يعود في تقديري، إلى جانب أسباب كثيرة، إلى عدم قدرة المثقفين، على خلق ما أسميه ‘المجتمع الثقافي’، أو بلورة تقاليد ثقافية قابلة للتحول مع الزمن، وأن تستمر رغم كل الطوارئ والتغيرات.
عندما نعود إلى العشرينيات من القرن العشرين، وحتى السبعينيات، عندما كان التفكير الجماعي منصبا على طرح أسئلة تتعلق بفهم الواقع، والفعل فيه، رأينا كيف أن ‘المجتمع الثقافي’ بدأ يتشكل من خلال ‘المدارس’ والتيارات الأدبية والفكرية. وكان السجال على أشده بين مختلف هذه ‘المجتمعات’. وكان ذلك يتم من خلال الكتابة والإعلان عن المواقف الفكرية والأدبية بكل جرأة ومسؤولية. وكان من نتائج ذلك تراث هام يتطلب، الآن، القراءة والتحليل. وساهم ذلك النقاش في تطور الإعلام الثقافي، وبروز اصطفافات ثقافية تعبر عن نفسها، من خلال خلق الأدوات الملائمة لذلك. ولقد لعب ذلك أدوارا هامة في خلق رأي عام ثقافي، يشترك في الهموم والقضايا التي تشغل بال المجتمع العربي بصفة عامة. وأدى ذلك إلى خلق ‘جمهور ثقافي’ يتابع عن طريق ‘القراءة’ المواكبة، وحضور الفعاليات والأنشطة، وكل المستجدات.
هل لنا أن نذكر أبوللو، والديوان، وشعر، وغاليري 67، ومواقف، والثقافة الجديدة، والأقلام، والطليعة، وأنفاس، وإنتغرال،،، هل لنا أن نذكر الرابطة القلمية، والعصبة الأندلسية في المهاجر الأمريكية؟ هل لنا تعداد ‘الجمعيات’ الثقافية التي حاولت لملمة المجهودات وتوجيهها للانخراط والفعل الثقافيين؟ صحيح كان الهاجس الإيديولوجي مركزيا في مختلف هذه المجتمعات الثقافية. لكن المبادئ والقيم الثقافية، رغم الحساسيات والخلافات، كانت إلى حد بعيد تمثل قواسم مشتركة للانخراط والفعل.
سالت مياه كثيرة تحت الجسر، واستقطبت الدول المثقفين والأدباء والكتاب، من خلال اتحادات وروابط وأسر، باستثناء بعضها الذي ظل بمنأى عن ‘الدعم’ الذي توفره الدولة، أو التوجيه الذي تمليه. انفرط العقد، وتششت القوم شذر مذر. انقسمت كل هذه ‘الجسوم’ المؤطرة للعمل الثقافي، وانتهت بالتدريج إلى الجمود والاختفاء.
حدثت تحولات كثيرة منذ الثمانينيات إلى الآن. ومنذ التسعينيات بدأ الحديث عن ‘الأجيال’ الثقافية، وكل منها يدعي تمثيله للثقافة، وتميزه، وتمرده عن الأجيال السابقة، بل وعن معاصريه أيضا. فبدأت تتشكل ‘الجماعات’ التي تجتمع على الحساسيات، في أغلب الأحيان، لا الفعل المنتج. قد تسير بعض هذه الجماعات على بعض التقاليد التي أرسيت سابقا مثل: إصدار مجلات، أو طبع مجموعات أدبية مشتركة، ولكنها سرعان ما تختفي لأسباب شخصية بين مكوناتها. وكان من نتائج ذلك ‘التشرذم’ والانقسام الذي ظل مستمرا إلى أن صار الواحد يرى نفسه ‘جماعة’، متميزة عن الآحاد والجماعات الأخرى. وصار ما يحدد العلاقات بين الفئات الثقافية المختلفة هو تبادل الثناء والهجاء، أو الاستدعاءات، أو النشر في المجلات، أي تبادل ‘المصالح’ المادية، أو المعنوية. وصار الحديث الذي يتردد اليوم بقوة، عن ‘الشللية’، مرادفا آخر لـ’الحساسية’ المثقفية.
هذا الواقع الذي يجري في الوطن، يقع في المهجر أيضا. فلم نسمع عن ‘مجتمع ثقافي’ تبلور في المهاجر على غرار ما كان في بدايات القرن العشرين. فكل يحاول أن يسهم لنفسه، ولوحده، في ‘صناعة’ اسمه بمنأى عن أي فعل ثقافي يتطلبه واقع الأجيال الجديدة من أبناء المهاجرين. وما الذهنية التي تحرك ‘المهاجر’، سوى تلك التي تتشكل في الأوطان.
إذا كانت الهواجس الإيديولوجية والفكرية والفنية وراء تشكيل ‘المجتمع الثقافي’ في الحقب السابقة، فإن غياب هذا المجتمع في الوقت الراهن يعود بدوره إلى أسباب إيديولوجية، مع فارق جوهري، هو أن الإيديولوجيا السابقة كانت تدفع إلى الإنتاج والانخراط الإيجابي، بغض النظر عن الآثار المترتبة عنها، لأنها كانت تستجيب، أو تتجاوب مع ‘المجتمع السياسي’ الذي كان بدوره منخرطا في التحول. لكن مع الصيرورة، بدأ المجتمع السياسي يمارس السياسة بدون أي هاجس وطني أو ديموقراطي. وصار ‘المجتمع الحزبي’ هو الأساس، ولذلك غاب الفكر والبرنامج، فتشابهت اللغات والشعارات، وصار الحزب لا يشتغل إلا كوكالة تتحرك في زمن واحد: زمن الانتخابات.
لا فرق إذن بين ‘المجتمع الثقافي’ و’السياسي’، فكل منهما نتاج الآخر، وبقدر ما انعزل المثقف عن ‘السياسي’، استغنى السياسي عن ‘المثقف’. وكل ما يمكن أن توسم به الثقافة، حاليا، من حساسيات وشللية وانعزال ينسحب على السياسة تماما، مع ملاءمة المقال لمقتضى المجتمع. وكما أنه بدون مجتمع سياسي لا يمكن للفعل الثقافي أن يتكون، لا يمكن للفعل السياسي أن يتشكل بدون مجتمع ثقافي.
20 - مايو - 2014
سعيد يقطين
المثقف والمجتمع الثقافي | القدس العربي
يتولد عن الحساسية المثقفية والعزوف عن التثقيف الذاتي المتواصل انعزال المثقف أو عزلته سيان. وبذلك يتكرس العمل الفردي في غياب الشروط التي يمكن أن يسود فيها الحوار بين المثقفين. إذ لا تتكون بينهم لغة خاصة أو اهتمامات مشتركة قابلة للتطوير والإغناء.