لا يشذ المشهد الشعري العراقي اليوم عن باقي النشاطات الثقافية والفنية والاجتماعية، فهو صدى للأفق السياسي المتشرذم واستجابة غير واعية لطروحات ضيقة محصورة بالقيم الجديدة التي أفرزتها سنوات ما بعد 2003. فانهيار المنظومة الأخلاقية واندلاع الحرب الأهلية وبعدهما "داعش" لم يترك ولو مساحة صغيرة لإعادة إنتاج قيم ثقافية رصينة، لذلك بقي المشهد الشعري تحديدا في حالة من الفوضى والتشظي إلى درجة أنه لم يتمخض عن جيل شعري جديد أو أسماء مميزة باستثناء بعض الأسماء القليلة المترددة مثل كاظم خنجر ومازن المعموري وأحمد ضياء وبعض الأسماء التي شكلت جماعة "مليشيا الثقافة".
مرت الآن أكثر من سنة على تأسيس جماعة "مليشيا الثقافة" التي تتكون من مجموعة من الشعراء العراقيين الشبان الذين يقرأون نصوصهم على غير العادة في أماكن تفجير السيارات المفخخة والمستشفيات وحقول الألغام والمقابر والمشارح، أو في الأماكن التي شهدت معارك ضارية أو أحداثًا مأساوية. قبل ذلك أو أثناء تأسيس هذه المجموعة كان الموسيقار كريم وصفي يترك عمله في الفرقة السمفونية بعد تفجير أي سيارة مفخخة في بغداد ويقوم بالعزف على آلة التشيلو في مكان الحادث وسط الرماد والدخان وخطورة أن تنفجر سيارة أخرى في المكان ذاته كما حدث في أماكن كثيرة من بغداد.
محاولة خلق نوع
جديد من التلقي
شرعت "مليشيا الثقافة" عبر مشاريعها التي قدمتها بعد مضي سنة واحدة على تأسيسها ووفق خطابها المعلن وهو السير مع الموت أينما يذهب، تاركة خشبات المسارح والميكروفونات والبهرجة ناسفة كل الأنساق المتعارف عليها في قراءة الشعر، في محاولة خلق نوع جديد من التلقي بعد أن عجزت كل الأساليب عن إيقاف الموت وطرده بعيدا عن المدن.
لم تكتف هذه الجماعة بالرقعة الجغرافية الممتدة على مساحات بغداد وضواحيها، بل ذهبت إلى السجون الرهيبة في "نقرة السلمان" الصحراوي الواقع في محافظة المثنى جنوبا ثم إلى منطقة "نهر جاسم" في مدينة البصرة حيث دارت معارك ضارية أيام الحرب العراقية – الإيرانية راح ضحيتها عشرات الآلاف من الجنود.
نصوص
يقول أحمد ضياء في أحد نصوصه "أحزان آلات المشرحة":
لزجٌ صوتُ الموتِ يغطّي أبصارَنا
منتفخٌ يقشرُ بمنشارِهِ فيوضَ البزّات
يلحمُ شحوبَ صولاتِه النافذةِ من عمقِ الصدر
سمراءٌ سحنةُ الماءِ وهي تدلفُ وريقاتِها عليَّ
لحمُنا ينتزعُ مقلتيهِ من ثقبِ القتلة
يحرثُ المشرطُ صدري فتطفحُ الأعضاء
بهذا تصيرُنا المشارحُ وتغرقُ في أكفِنا الجثث.
في مشرحة الجثث قدم هذا الشاعر الشاب مع بعض زملائه الشعراء قراءة في هذا المكان الذي لم يسبق لأحد أن فكر ولو مرة بالدخول فيه فما بال أن تستمع للشعر أمام الجثث والدم والمشارط والموت العاري؟
وانضم عبد الحسين الحيدري، الشاعر العراقي الكبير الذي ظل صامتًا سنوات طويلة، إلى هذه الجماعة بعد أن شدته الفكرة بدءًا من اسمها وانتهاء بطريقتها في التعبير عن حالة الموت اليومي الذي يضرب بلاد الرافدين في كل مكان.
في نصه "التوابيت" يوزع الحيدري أشكال الموت على توابيت مختلفة، وكأنه يريد أن يضع لكل موت تعريفًا خاصًا:
تابوت لملائكة لا تتنفس رائحة الأرض
لكلاب الصيد وللحدأة
للأجراس الصدئة
لرصاص لا يفصل بين الحي وبين الميت
لليأس اللائذ بالتعليل والعجز المُندس وراء التطبيل
للشباك المفتوح على نفسه
لمراثي الأمراء وبكائيات القتلة
للأحلام إذا تنأى بقميص النوم
وللسقطة تتبعها السقطة
تابوت للسبابة – حين ترى – تدخل كهفًا وتنام
لمرايا لا تبصق في وجهة الجلّاد.
الشاعر الشاب وسام علي يكتب عن المشرحة أيضًا حين يبحث عن مكان لا تتفسخ فيه الجثث سريعًا. إنه لا يفكر بالحياة أو حتى بالنجاة من هذا الموت الذي أصبح مادة للتندر بعد أن فقد كل معنى يمكن أن يشير إليه:
الدود يأكل رائحتنا
حين يصل الآخر لأقصى عفونته
من يموت أولا يربح الخانة الأقرب لباب المشرحة
نتسابق على الباب الأخير كل صباح
المشرط أنظف شظية وجدت
المقص يهرس لساني عاشقين
حين لم يستطع المنشار قص أصابعهما.
الشاعر الشاب هو الآخر علي تاج الدين يجعل فصول السنة العراقية حمراء منقوعة بالدم وهو يتحدث عن مشاهد الحرب في منطقة "نهر جاسم"، التي دارت فيها معارك رهيبة ترسخت صورها في ذاكرة الرجال الذين شاهدوا هذه المشاهد البشعة المرعبة:
هل السماءُ بعيدةٌ هكذا أم أنَّ الأرضَ تطيرُ بنا؟
منذُ صغري وأنا أحلمُ بحميرٍ تنبتُ لها قرونٌ
فتنطحُ بها بطونَها
والآنَ أنا غصنٌ يابسٌ قد تبرعمَ مِنَ
الحديدِ والتفَّ حولَ الملاجئِ التي لمْ تشبهَ
القبورَ أبدًا
لمْ يعدْ في العراقِ من فصولِ السنةِ غيرُ الدماءْ.
أحمد جبور يمتزج عنده الكابوس بالواقع ولا يعود يفرق بين الاثنين حتى أن الاشياء التي تحدث في الواقع مهما كانت صغيرة وتقليدية تتحول إلى عنصر ينذر بالعنف ولها صوت الرصاص الذي تمتلئ به ذاكرة الناس وليس الجندي فقط، فالحرب اليوم أصبحت في كل مكان تقريبا وبإمكانها أن تطاول الجميع سواء كانت تحدث في الواقع أو في المخيلة:
أتلمس سقوط مفتاح من وجوه بعيدة
أتلمس أمشاط الرصاص داخل عيني
أتلمس كراسي من أحذية
أتلمس أصابع كبيرة تعشش على زناد مرايا
يسحب نفسه من ماراثون الحصاد
بينما رأسه عالق بسكيجات الحرب.
هذه الجماعة الشعرية "مليشيا الثقافة" التي تأسست قبل سنة هي جماعة الحرب والدم والجوع، وهي رد على مليشيات القتل التي جاءت بعد التغيير. وأعضاؤها لا ينتمون إلى أي جهة ثقافية أو سياسية، ولا يعنيهم أي شيء إزاء الخراب اليومي الذي يحصل في العراق سوى الإشارة إلى الموت وتتبع خطاه وربما طرده إلى خارج الحدود.
انضم إلى هذه الجماعة كما قلنا الشاعر عبد الحسين الحيدري بعد صمت طويل، وكذلك الناقد المسرحي عواد علي، وقد ينضم إليها في المستقبل شعراء وكتاب آخرون.
صدر لهؤلاء الشعراء الشبان ديوان شعري مشترك في مدينة لاهاي الهولندية تحت عنوان "الشعر في حقول الألغام: مختارات من نصوص مليشيا الثقافة"، عن "دار مخطوطات" التي يشرف عليها الشاعر العراقي ناصر مؤنس. وقدم له الشاعر العراقي عبد الرحمن الماجدي الذي يقيم في أمستردام.
صلاح حسن 20 يناير 2018
www.facebook.com
مرت الآن أكثر من سنة على تأسيس جماعة "مليشيا الثقافة" التي تتكون من مجموعة من الشعراء العراقيين الشبان الذين يقرأون نصوصهم على غير العادة في أماكن تفجير السيارات المفخخة والمستشفيات وحقول الألغام والمقابر والمشارح، أو في الأماكن التي شهدت معارك ضارية أو أحداثًا مأساوية. قبل ذلك أو أثناء تأسيس هذه المجموعة كان الموسيقار كريم وصفي يترك عمله في الفرقة السمفونية بعد تفجير أي سيارة مفخخة في بغداد ويقوم بالعزف على آلة التشيلو في مكان الحادث وسط الرماد والدخان وخطورة أن تنفجر سيارة أخرى في المكان ذاته كما حدث في أماكن كثيرة من بغداد.
محاولة خلق نوع
جديد من التلقي
شرعت "مليشيا الثقافة" عبر مشاريعها التي قدمتها بعد مضي سنة واحدة على تأسيسها ووفق خطابها المعلن وهو السير مع الموت أينما يذهب، تاركة خشبات المسارح والميكروفونات والبهرجة ناسفة كل الأنساق المتعارف عليها في قراءة الشعر، في محاولة خلق نوع جديد من التلقي بعد أن عجزت كل الأساليب عن إيقاف الموت وطرده بعيدا عن المدن.
لم تكتف هذه الجماعة بالرقعة الجغرافية الممتدة على مساحات بغداد وضواحيها، بل ذهبت إلى السجون الرهيبة في "نقرة السلمان" الصحراوي الواقع في محافظة المثنى جنوبا ثم إلى منطقة "نهر جاسم" في مدينة البصرة حيث دارت معارك ضارية أيام الحرب العراقية – الإيرانية راح ضحيتها عشرات الآلاف من الجنود.
نصوص
يقول أحمد ضياء في أحد نصوصه "أحزان آلات المشرحة":
لزجٌ صوتُ الموتِ يغطّي أبصارَنا
منتفخٌ يقشرُ بمنشارِهِ فيوضَ البزّات
يلحمُ شحوبَ صولاتِه النافذةِ من عمقِ الصدر
سمراءٌ سحنةُ الماءِ وهي تدلفُ وريقاتِها عليَّ
لحمُنا ينتزعُ مقلتيهِ من ثقبِ القتلة
يحرثُ المشرطُ صدري فتطفحُ الأعضاء
بهذا تصيرُنا المشارحُ وتغرقُ في أكفِنا الجثث.
في مشرحة الجثث قدم هذا الشاعر الشاب مع بعض زملائه الشعراء قراءة في هذا المكان الذي لم يسبق لأحد أن فكر ولو مرة بالدخول فيه فما بال أن تستمع للشعر أمام الجثث والدم والمشارط والموت العاري؟
وانضم عبد الحسين الحيدري، الشاعر العراقي الكبير الذي ظل صامتًا سنوات طويلة، إلى هذه الجماعة بعد أن شدته الفكرة بدءًا من اسمها وانتهاء بطريقتها في التعبير عن حالة الموت اليومي الذي يضرب بلاد الرافدين في كل مكان.
في نصه "التوابيت" يوزع الحيدري أشكال الموت على توابيت مختلفة، وكأنه يريد أن يضع لكل موت تعريفًا خاصًا:
تابوت لملائكة لا تتنفس رائحة الأرض
لكلاب الصيد وللحدأة
للأجراس الصدئة
لرصاص لا يفصل بين الحي وبين الميت
لليأس اللائذ بالتعليل والعجز المُندس وراء التطبيل
للشباك المفتوح على نفسه
لمراثي الأمراء وبكائيات القتلة
للأحلام إذا تنأى بقميص النوم
وللسقطة تتبعها السقطة
تابوت للسبابة – حين ترى – تدخل كهفًا وتنام
لمرايا لا تبصق في وجهة الجلّاد.
الشاعر الشاب وسام علي يكتب عن المشرحة أيضًا حين يبحث عن مكان لا تتفسخ فيه الجثث سريعًا. إنه لا يفكر بالحياة أو حتى بالنجاة من هذا الموت الذي أصبح مادة للتندر بعد أن فقد كل معنى يمكن أن يشير إليه:
الدود يأكل رائحتنا
حين يصل الآخر لأقصى عفونته
من يموت أولا يربح الخانة الأقرب لباب المشرحة
نتسابق على الباب الأخير كل صباح
المشرط أنظف شظية وجدت
المقص يهرس لساني عاشقين
حين لم يستطع المنشار قص أصابعهما.
الشاعر الشاب هو الآخر علي تاج الدين يجعل فصول السنة العراقية حمراء منقوعة بالدم وهو يتحدث عن مشاهد الحرب في منطقة "نهر جاسم"، التي دارت فيها معارك رهيبة ترسخت صورها في ذاكرة الرجال الذين شاهدوا هذه المشاهد البشعة المرعبة:
هل السماءُ بعيدةٌ هكذا أم أنَّ الأرضَ تطيرُ بنا؟
منذُ صغري وأنا أحلمُ بحميرٍ تنبتُ لها قرونٌ
فتنطحُ بها بطونَها
والآنَ أنا غصنٌ يابسٌ قد تبرعمَ مِنَ
الحديدِ والتفَّ حولَ الملاجئِ التي لمْ تشبهَ
القبورَ أبدًا
لمْ يعدْ في العراقِ من فصولِ السنةِ غيرُ الدماءْ.
أحمد جبور يمتزج عنده الكابوس بالواقع ولا يعود يفرق بين الاثنين حتى أن الاشياء التي تحدث في الواقع مهما كانت صغيرة وتقليدية تتحول إلى عنصر ينذر بالعنف ولها صوت الرصاص الذي تمتلئ به ذاكرة الناس وليس الجندي فقط، فالحرب اليوم أصبحت في كل مكان تقريبا وبإمكانها أن تطاول الجميع سواء كانت تحدث في الواقع أو في المخيلة:
أتلمس سقوط مفتاح من وجوه بعيدة
أتلمس أمشاط الرصاص داخل عيني
أتلمس كراسي من أحذية
أتلمس أصابع كبيرة تعشش على زناد مرايا
يسحب نفسه من ماراثون الحصاد
بينما رأسه عالق بسكيجات الحرب.
هذه الجماعة الشعرية "مليشيا الثقافة" التي تأسست قبل سنة هي جماعة الحرب والدم والجوع، وهي رد على مليشيات القتل التي جاءت بعد التغيير. وأعضاؤها لا ينتمون إلى أي جهة ثقافية أو سياسية، ولا يعنيهم أي شيء إزاء الخراب اليومي الذي يحصل في العراق سوى الإشارة إلى الموت وتتبع خطاه وربما طرده إلى خارج الحدود.
انضم إلى هذه الجماعة كما قلنا الشاعر عبد الحسين الحيدري بعد صمت طويل، وكذلك الناقد المسرحي عواد علي، وقد ينضم إليها في المستقبل شعراء وكتاب آخرون.
صدر لهؤلاء الشعراء الشبان ديوان شعري مشترك في مدينة لاهاي الهولندية تحت عنوان "الشعر في حقول الألغام: مختارات من نصوص مليشيا الثقافة"، عن "دار مخطوطات" التي يشرف عليها الشاعر العراقي ناصر مؤنس. وقدم له الشاعر العراقي عبد الرحمن الماجدي الذي يقيم في أمستردام.
صلاح حسن 20 يناير 2018
Log into Facebook
Log into Facebook to start sharing and connecting with your friends, family, and people you know.