صدر كتاب ميشال فوكو ” تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي ” histoire de la folie à l’age classique سنة 1961. ويعد هذا الكتاب أول عمل نظري متكامل يصدر للمؤلف وهو من أشهر أعماله، بل يمكن اعتباره الانطلاقة الفعلية لمشروع نظري ضخم امتد على ما يقارب ربع قرن كانت مادته الأساسية ” الخبرة الإنسانية ” في لحظات إبداعها لأشكال العسف المتنوعة للحد من اندفاع الجسد والروح، وتخطيهما لحدود ” المعقول ” و” العقلاني” و”المستقيم” و”الرزين” للانتشاء بالذات داخل عوالم اللاعقل التي لا تعترف بأية “حدود إضافية ” غير تلك التي تأتي من أشياء الطبيعة وطبيعة الأشياء ( نحيل هنا على كتبه التي أصدرها لاحقا ومنها على الخصوص: “المراقبة والعقاب”و ” تاريخ الجنس “).
وهو الكتاب الذي صدرت ترجمته العربية عن ” المركز الثقافي العربين 2005.
والكتاب زاخر، كما يجب أن يكون كل تاريخ يهتم ب ” أهواء النفس” البشرية في حالاتها المتنوعة، بمعرفة علمية تخص الجنون والعقل واللاعقل والاختلال النفسي وكل السلوكات ” الغريبة ” و” الشاذة “، وكذا الاندفاع نحو حدود لا تتوقف عن التوغل في المجهول. لذلك فهو يتحدث عن ” الطب العقلي” و” السيكولوجيا ” و” التحليل النفسي ” وكل الأشكال العلاجية التي أعقبت العصر الكلاسيكي معلنة عن ميلاد ” المجنون المريض” الذي سيخلف المجنون ” الدرويش” والوحش” و” الشاذ “، تماما كما سيخلف المارستان والعيادة دور الحجز والمستشفى العام.
ولكنه يتحدث أيضا عن ممارسات السحر والشعوذة والطقوس الاستئناسية، ويتحدث، وهذا هو الأساس، عن العوالم الرمزية وكل الصور المخيالية التي أنتجتها المخيلة الإنسانية من أجل رسم حدود عالم غريب هو عالم الجنون والمجنون المليء بالصور والاستيهامات، والمليء أيضا بأشكال النبذ والإقصاء ( سفينة الحمقى).
فكل شيء يتحدد، ضمن هذه العوالم، من خلال التقابل الذي لا يُرى بين “حقيقة الجنون الموضوعية “، التي ستعرف طريقها عاجلا أو آجلا إلى مستشفى الأمراض العقلية( الخلل البيولوجي العضوي كما حاولت نوزولوجيا العصر الكلاسيكي والعصور التي سبقته تشخيصه) وبين العوالم الثقافية ( بل السياسية والإيديولوجية والأخلاقية أيضا) التي تستثيرها شخصية المجنون.
وهي عوالم تسللت إلى كافة أشكال التعبير الإنساني: الأدب والفن والفلسفة والأحكام الاجتماعية وكذا مجمل التصورات التي يعيش فيها المجنون داخل اللغة وداخل خطاطات السلوك الاجتماعي وعوالم التقديس والتدنيس على حد سواء.
وليس غريبا أن يكون الفصل الأول من هذا الكتاب مخصصا ل” سفينة الحمقى”، وهي سفينة لم تصنعها حقائق التاريخ والممارسات الفعلية، بل صنعتها حاجات المخيال الإنساني الذي فتنه عالم الجنون فصاغ حوله مجموعة كبيرة من الحكايات. فالتخلص من المجانين والإبحار بهم إلى أماكن بعيدة عن المدن الرئيسية، واقع تاريخي لا يُمكن إنكاره، ويشهد على ذلك واقع الإقصاء والنبذ الذي تعرض له المجانين طوال فترة النهضة وتلك التي أعقبتها، إلا أن ما يعطي الواقعةَ قوتها ووظيفتها الجديدة هي أبعادها الإيحائية وإحالاتها على الأحاسيس التي تسللت إلى الثقافة وصاغت داخلها حدود ضمير يشكو من قلق تجاه عالم المجنون.
وكانت السفينة وعوالمها أقرب الأدوات إلى التعبير عن هذا القلق، فهي تتمايل كما يفعل الموج والزبد المنكسر على الشطآن، ونهاياتها ليست سوى بدايات متجددة، فكل مرفأ ليس سوى محطة للسير نحو محطات أخرى ضمن رحلة لا تنتهي.
لقد فقدت السفينة نقطة الإرساء النهائية فتحولت إلى قدر سيزيفي دائم التجدد. فكان أن لعبت رحلة ركوب الماء هذه دورا في صياغة عوالم مخيالية تمنح المجنون وجها آخر ( تريستان ورحلته نحو الملك مارك)، ” لقد سلم المجنون المحتجز داخل مركب لا يستطيع فكاكا منه، أمره للنهر ذي الأذرع الكثيرة، وإلى الماء ذي السبل المتعددة – إنه يسلم نفسه إلى عالم اللايقين الرهيب الموجود خارج كل شيء.
إنه مسجون ضمن السبل الأكثر حرية والأكثر انفتاحا: إنه موثق بشدة إلى الملتقيات اللانهائية. إنه بؤرة المرور بامتياز، أي أسير العبور. والأرض التي سيحط فيها تجهل عنه كل شيء، تماما كما لا تعرف اليابسة التي تطؤها أرجله من أي أرض هو آت. فلا حقيقة له ولا وطن إلا في ذلك الامتداد الخصب بين البراري التي لا يمكنه الانتماء إليها “.
ها هم المجانين وقد تحولوا إلى كائنات تطاردهم لعنة اللاعقل ، يرحلون إلى اللاشيء على ظهر سفينة أصبحت غريبة عن الأرض التي جاءت منها، ولا تعرف أي شيء عن المرافئ التي تسير نحوها. إنها رحلة ” غريبة إن لم تأت بالمال، فإنها قد تعيد للمجنون عقله” كما يقول فوكو.
إنها عوالم عجيبة كما هي لوحات غويا وأعمال بوش، عوالم من صنع مخيال مزقته الأهواء، إنها التعبير الأسمى عن الحقيقة الحقيقية للجنون، لذلك لا أحد يتحكم
وهو الكتاب الذي صدرت ترجمته العربية عن ” المركز الثقافي العربين 2005.
والكتاب زاخر، كما يجب أن يكون كل تاريخ يهتم ب ” أهواء النفس” البشرية في حالاتها المتنوعة، بمعرفة علمية تخص الجنون والعقل واللاعقل والاختلال النفسي وكل السلوكات ” الغريبة ” و” الشاذة “، وكذا الاندفاع نحو حدود لا تتوقف عن التوغل في المجهول. لذلك فهو يتحدث عن ” الطب العقلي” و” السيكولوجيا ” و” التحليل النفسي ” وكل الأشكال العلاجية التي أعقبت العصر الكلاسيكي معلنة عن ميلاد ” المجنون المريض” الذي سيخلف المجنون ” الدرويش” والوحش” و” الشاذ “، تماما كما سيخلف المارستان والعيادة دور الحجز والمستشفى العام.
ولكنه يتحدث أيضا عن ممارسات السحر والشعوذة والطقوس الاستئناسية، ويتحدث، وهذا هو الأساس، عن العوالم الرمزية وكل الصور المخيالية التي أنتجتها المخيلة الإنسانية من أجل رسم حدود عالم غريب هو عالم الجنون والمجنون المليء بالصور والاستيهامات، والمليء أيضا بأشكال النبذ والإقصاء ( سفينة الحمقى).
فكل شيء يتحدد، ضمن هذه العوالم، من خلال التقابل الذي لا يُرى بين “حقيقة الجنون الموضوعية “، التي ستعرف طريقها عاجلا أو آجلا إلى مستشفى الأمراض العقلية( الخلل البيولوجي العضوي كما حاولت نوزولوجيا العصر الكلاسيكي والعصور التي سبقته تشخيصه) وبين العوالم الثقافية ( بل السياسية والإيديولوجية والأخلاقية أيضا) التي تستثيرها شخصية المجنون.
وهي عوالم تسللت إلى كافة أشكال التعبير الإنساني: الأدب والفن والفلسفة والأحكام الاجتماعية وكذا مجمل التصورات التي يعيش فيها المجنون داخل اللغة وداخل خطاطات السلوك الاجتماعي وعوالم التقديس والتدنيس على حد سواء.
وليس غريبا أن يكون الفصل الأول من هذا الكتاب مخصصا ل” سفينة الحمقى”، وهي سفينة لم تصنعها حقائق التاريخ والممارسات الفعلية، بل صنعتها حاجات المخيال الإنساني الذي فتنه عالم الجنون فصاغ حوله مجموعة كبيرة من الحكايات. فالتخلص من المجانين والإبحار بهم إلى أماكن بعيدة عن المدن الرئيسية، واقع تاريخي لا يُمكن إنكاره، ويشهد على ذلك واقع الإقصاء والنبذ الذي تعرض له المجانين طوال فترة النهضة وتلك التي أعقبتها، إلا أن ما يعطي الواقعةَ قوتها ووظيفتها الجديدة هي أبعادها الإيحائية وإحالاتها على الأحاسيس التي تسللت إلى الثقافة وصاغت داخلها حدود ضمير يشكو من قلق تجاه عالم المجنون.
وكانت السفينة وعوالمها أقرب الأدوات إلى التعبير عن هذا القلق، فهي تتمايل كما يفعل الموج والزبد المنكسر على الشطآن، ونهاياتها ليست سوى بدايات متجددة، فكل مرفأ ليس سوى محطة للسير نحو محطات أخرى ضمن رحلة لا تنتهي.
لقد فقدت السفينة نقطة الإرساء النهائية فتحولت إلى قدر سيزيفي دائم التجدد. فكان أن لعبت رحلة ركوب الماء هذه دورا في صياغة عوالم مخيالية تمنح المجنون وجها آخر ( تريستان ورحلته نحو الملك مارك)، ” لقد سلم المجنون المحتجز داخل مركب لا يستطيع فكاكا منه، أمره للنهر ذي الأذرع الكثيرة، وإلى الماء ذي السبل المتعددة – إنه يسلم نفسه إلى عالم اللايقين الرهيب الموجود خارج كل شيء.
إنه مسجون ضمن السبل الأكثر حرية والأكثر انفتاحا: إنه موثق بشدة إلى الملتقيات اللانهائية. إنه بؤرة المرور بامتياز، أي أسير العبور. والأرض التي سيحط فيها تجهل عنه كل شيء، تماما كما لا تعرف اليابسة التي تطؤها أرجله من أي أرض هو آت. فلا حقيقة له ولا وطن إلا في ذلك الامتداد الخصب بين البراري التي لا يمكنه الانتماء إليها “.
ها هم المجانين وقد تحولوا إلى كائنات تطاردهم لعنة اللاعقل ، يرحلون إلى اللاشيء على ظهر سفينة أصبحت غريبة عن الأرض التي جاءت منها، ولا تعرف أي شيء عن المرافئ التي تسير نحوها. إنها رحلة ” غريبة إن لم تأت بالمال، فإنها قد تعيد للمجنون عقله” كما يقول فوكو.
إنها عوالم عجيبة كما هي لوحات غويا وأعمال بوش، عوالم من صنع مخيال مزقته الأهواء، إنها التعبير الأسمى عن الحقيقة الحقيقية للجنون، لذلك لا أحد يتحكم