اشتهرت في تاريخ الحضارت البشريّة كتب وملاحم ارتبطت بالحبّ الجنسي ووصفت أنواعه وأوضاعه المختلفة وحفلت بالتّعابير الغراميّة المحيطة به وكثيرا ما اتّسمت هذه المؤلّفات بطابع قدسيّ لخطورة موضوع الجنس وتواصل الحياة البشريّة وغيرها من خلاله. وأشهر هذه الأعمال "فنّ الهوى" للشّاعر اللاّتيني "أوفيديوس" و"كاماسوترا" للرّاهب البراهماني "ماليناغا" أو"مريلانا فاتسيايانا" الّذي يكرّس هذه الترعة القدسية في التّعامل مع الموضوع الجنسي ويعرض "طريقة انسجامية في المجتمع وفي الحياة وفي الكون، منبثقة من الجسد تنتهي فيما وراء الطّبيعة" (1)، بينما يرى كثيرون أنّ مؤلّف "أوفيديوس" ليس إلا كتابة لاأخلاقية مرحة يمكن ربطها بمؤلفات "الماركيز دي ساد" المجونيّة المرعبة أو بأعمال "مورياك" الّتي تصّاعد منها رائحة الخطيئة. ويجب أن نضيف إلى هذين العملين، الملحمة الفارسيّة التركيّة "أنانقارانقا" وكتاب "الرّوض العاطر في نزهة الخاطر" للشيخ "النّفزاوي" الّذي عرف من خلال ترجماته إلى اللّغات الأوروبية شهرة عالمية مذهلة لم يحظ بها غيره من المؤلّفات الإيروتيكية العربيّة على كثرتها رغم أنّها في كثير من الأحيان لا تقلّ عنه طرافة واكتمالا وإحاطة بالموضوع.
وقد تعامل العرب مع هذه المسألة في مؤلّفات كثيرة خصّصت لها من خلال تلك الزّاوية المقدّسة إذ كان الرّسول دوما في تلك الكتابات النّموذج الجنسيّ الأمثل والأكمل يُتباهى بقدراته الجنسيّة ويُتمثّل بأعماله وأقواله في ذلك المجال، لذلك امتلأت بالأحاديث النّبوية المفسرة أو الموضّحة أو المنظّمة لقواعد العمليّة الجنسيّة وبالأخبار المقتطفة من السّيرة الّتي تتّخذ قدوة لبلوغ "اللّذة الحلال" الّتي هي سبب لعمارة الدّنيا بكثرة النّسل. ومن الأحاديث المتعلّقة بهذا الأمر: "تناكحوا، تناسلوا فإنّي أباهي بكم الأمم يوم القيامة" (2) ولهذا السّبب كان معظم من وضع تلك المؤلّفات من رجال الدّين والفقهاء والقضاة رأوا في ذلك واجبا منوطا بعهدتهم ينفعون به الآخرين وينتفعون من ثواب القيام به.
كما زاد تلاحق الحضارات الّذي عاشه العرب وتمازج الأجناس والشّعوب حياتهم الجنسيّة ثراء وتنوّعا وساعدهم الازدهار الحضاري والاجتماعي الّذي عرفوه على التّفنّن في العلاقات الجنسيّة وإعطائها أبعادا وممارسات إيروتيكية ما كانت لتسير فيها لولا ذلك التّمازج فحفلت بها تلك المؤلّفات ووصفتها وسطرت إضافاتها وتنويعاتها لتصبح بذلك وثيقة حضاريّة وتاريخيّة هامّة سجّلت بكلّ موضوعيّة وأمانة ملامح الظّاهرة الجنسيّة من خلال وجهيها المعروف والمسكوت عنه فازدادت بذلك أهمّيتها.
وللعرب مؤلّفات إيروتيكية كثيرة جدا منها: - كتاب الباه للنّحلي – والعرس والعرائس لأبي عثمان الجاحظ (ت 255هـــــ/868م) – وكتاب القيان لابن حاجب النّعمان – وكتاب جامع اللّذة لابن السمسماني – وكتاب المناكحة والمفاتحة في أصناف الجماع وﺁلاته لعز الدّين المسيحي – ونزهة الألباب في معاشرة الأحباب للسّموأل بن يحيى المغربي (ت 570هــــ/1175م) – ونزهة الألباب فيما لا يوجد في كتاب لأحمد بن يوسف التّيفاشي (ت 651 هــــ/1253م) – والباهيّة والتّراكيب السّلطانية لنصير الدّين الطّوسي (ت 672هــــ/1273م) – وتحفة العروس ومتعة النّفوس لمحمّد بن أحمد التّيجاني (ت 950هــــ/1534م) – والايضاح في أسرار النّكاح لعبد ارّحمان الشيرازي (ت 774هــــ/1372م) ومؤلفات جلال الدّين السّيوطي (ت 911هــــ/1505م) الكثيرة في هذا المجال والّتي من بينها: - الوشاح في فوائد النّكاح – شقائق الأترنج في رقائق الغنج – مباسم الملامح ومناسم الصّباح في مواسم النّكاح -.
وما تجدر الإشارة إليه هو أنّ أصحاب أهمّ هذه المؤلّفات الّتي عرفت في التّراث العربي بكتب النّكاح أو ﺁداب النّكاح تونسيّون فالتّيفاشي "ولد في قرية تيفاش عام 580هــــ/1184م) وكانت من قرى قفصة التّونسية". (3) والتّيجاني "أديب وكاتب ولد في تونس وعمل ديوان الإنشاء ثمّ تولّى مركزا مرموقا في ديوان الرّسائل برعاية الأمير زكرياء بن أحمد الحفصي" (4) والشّيخ النّفزاوي "ولد في نفزاوة وهي بلدة تقع في الجنوب التّونسي وتوفّي حوالي عام 725هــــ/1324م" (5) وبالإضافة إلى هؤلاء المشاهير نجد عددا كبيرا من الفقهاء والقضاة الّذين اهتمّوا بالكتابة في ذلك الغرض ووضعوا فيه المصنّفات دليلا على نشاط الحركة التأليفيّة في الموضوع الجنسيّ في المغرب عموما ومنهم:
- أبو العبّاس أحمد بابا التّمبكتي مؤلف: فوائد النّكاح على مختصر الوشاح للسّيوطي.
- أبو عبد الله محمّد بن الحسين بن ضون مؤلف: الممتع المحتاج في أدب الأزواج.
- أبو محمّد عبد الله بم محمّد بن مسعود التّمكروتي صاحب: الرّوض اليانع في فوائد النّكاح وﺁداب المجامع.
- أحمد بن عرضون: واضع ﺁداب النّكاح ومعاشرة الأزواج.
- ابن يأمون التّليدي الأخماسي مؤلف: الجواهر المنظومة في شرح المنظومة (6).
وينسب كتاب "رجوع الشّيخ إلى صباه في القوّة على الباه" إلى أحمد بن سلمان المعروف بابن كمال باشا والمتوفّى سنة 940هــــ/1533م، لكنّ دارسين كثيرين يرون خطأ في ذلك ويرجّحون أن يكون الكتاب واحدا من تآليف التّيفاشي منهم المستشرقان "بروكلمان" و"جورج سارتون" في مؤلّفه "مقدمة لتاريخ العلم" وكذلك جمال جمعة الّذي حقّق مؤخّرا كتاب "نزهة الألباب" في طبعة عن دار الرّيّس للنّشر بلندن ويقول في ذلك: "رجوع الشّيخ إلى صباه في القوّة على الباه" كتاب في الثّقافة الجنسيّة نسب خطأ إلى ابن كمال باشا. وقد اطّلعت مؤخّرا على نسخة تجاريّة منه (بلا محقّق أو دار نشر) أمكنني خلال مقارنتها توكيد ظنّي بنسبتها للتّيفاشي لا إلى ذلك الباشا التّركي" (7). فالأصوب أن ينسب الكتاب إلى التّيفاشي الّذي له أكثر من مؤلّف في هذا الموضوع، وأن يكون ابن كمال باشا ترجمه إلى التّركيّة مع بعض التّصرّف وأهداه للسّلطان العثماني سليم خان.
والتّيفاشي ( هو شهاب الدّين أبو العبّاس أحمد بن يوسف التّيفاشي القيسي ولد في قرية تيفاش عام 580هــــ/1184م. نشأ بين تيفاش وقفصة برعاية والده الّذي كان قاضيا فيها. تتلمذ على أبي العبّاس أحمد بن أبي بكر المقدسي ثمّ دخل في صباه تونس العاصمة وتتلمذ على شيوخها ﺁنذاك. وسافر فيما بعد إلى القاهرة وأصبح من تلاميذ الشّيخ "موفّق عبد اللّطيف البغدادي" ثمّ إلى دمشق حيث قرأ على يد تاج الدّين الكندي. وبعد سنوات طويلة في الشرق، عاد إلى تونس ليتولى فيها منصب القضاء الّذي شغله بعد ذلك في مصر قبل أن يسخّر باقي عمره للرّحلات الطويلة والجولات الكثيرة طلبا لمزيد المعرفة والاكتشاف وإثراء لمعارفه الموسوعية والمتنوعة الّتي زخرت بها مؤلفاته الكثيرة الّتي نذكر منها:
- أزهار الأفكار في جواهر الأحجار
- المنقذ من التّهلكة في أضرار السّموم المهلكة
- سجع الهديل في أخبار النّيل..
- الدّيباج الخسرواني في أشعار ابن هاني
وكتاب جنسي في الجماع هو "قادمة الجناح في النّكاح" يضاف إلى "نزهة الألباب" وإلى "رجوع الشّيخ" ليدلّ على اهتمام التّيفاشي الكبير بالموضوع الجنسي وليجعله من أكبر المختصّين في هذا الفنّ وواحدا من أساطين الكتابة الإيروتيكية في التّراث العربي.
ولم يطبع الكتاب سوى طبعات شعبيّة بلا تاريخ ولا تحقيق ولا دار نشر أشهرها طبعة مغربيّة إلاّ أنّها شديدة الرّداءة ومليئة بالأخطاء الّتي تشوّهه وتبعده عن الأصل أمّا مخطوطاته فكثيرة جدّا لا تكاد تخلو مكتبة هامّة منها أحدها بالمكتبة الوطنيّة بتونس.
ومقارنة سريعة بين الطّبعة المغربيّة مثلا وبين نسخة خطيّة بين يديّ، بلا تاريخ كذلك، تبيّن إلى أيّ مدى شوّهت تلك الطّبعة الشّعبية المؤلّف وأساءت إليه، فبالإضافة إلى الأخطاء الّتي لا يمكن إحصاؤها، ثمّة نقص مهول في مادة الكتاب وخاصّة في القسم الأوّل منه يقارب العشرين بابا حوتها النّسخة الخطّية ولم يشملها الكتاب المطبوع ممّا يجعل ضرورة تحقيقه وطبعه طبعة علمية لائقة أمرا ملحا ينقذه من النّقص والتّشويهات.
وينقسم الكتاب إلى قسمين كبيرين يحتوي كلّ قسم على ثلاثين بابا، خصّص المؤلّف القسم الأوّل لما يمكن أن ينعت بالطّب الجنسي وأفاض في الحديث عن أدوية كثيرة وأدهان ومعاجين وأغذية تتعلق بالجماع وفوائده ومضارّه وأدوية تعين على الحمل أو تمنعه. ولا يسمح المقام بالتّوقّف عند الثلاثين بابا هذه، لكن ما يمكن قوله هو أنّ هذا القسم من الكتاب موسوعة طبّية هائلة أحاطت بكلّ ما بلغته المعرفة الطّبية المرتبطة بالجنس ﺁنذاك، وتدلّ على سعة اطلاع التّيفاشي وغزارة معرفته الدّقيقة والموسوعيّة في ﺁن. ولا نستغرب منه هذا الاهتمام الطّبي إذ ألّف فيه في غير هذا العمل كما في: "المنقذ من التّهلكة في دفع مضار السّموم المهلكة" أو "الشّفا في الطّبّ عن المصطفى". أما القسم الثّاني فثلاثون بابا أيضا يمكن القول إنّها موسوعة جنسية عامّة ثريّة بالمعلومات. يقول عنه المؤلف: "يشتمل على عدّة أبواب تتعلّق بأسرار النّساء وما يناسبهنّ من الزينة والخضابات وما يخضّب به البدن وما يسمنه وما يطوّل الشّعر ويسوّده وما الّذي يستجلبن به مودّات الرّجال والحكايات الّتي نقلت عنهنّ في أمر الباه" (9).
لقد أراد المؤلّف أن يكون هذا القسم من كتابه موسوعة جنسية عن المرأة وعن كلّ ما يتعلّق بجسدها وزينتها وشهوتها، وهذا يذكرنا بكتاب "تحفة العروس ومتعة النّفوس" الّذي خصّصه التّيجاني لهذا الغرض ولا شكّ في العلاقة التّأثرية الوطيدة بين العملين.
ونصل هنا إلى مسألة شديدة الأهميّة ومثيرة للتّساؤلات العديدة وهي السّمعة السّيئة الّتي أحاطت بالكتاب أكثر من غيره من الأعمال الّتي وضعت في نفس الغرض رغم أنّه أشهرها قطعا بمعيّة "الرّوض العاطر في نزهة الخاطر" الّذي وإن تعرّض إلى بعض الحملات المعادية والهجمات الّتي شنّها بعض المتحفّظين، فإنّ سمعته تظلّ أنقى من سابقه. وكثيرا ما أشير إلى "رجوع الشّيخ إلى صباه" على أنّه كتاب مجون وتهتّك فاضحين ومرتبطين بالهزل الفاسق والمزح الّذي يصب في الفساد. يقول العلاّمة حسن حسني عبد الوهاب مثلا متحدّثا عن كتاب "تحفة العروس" في كتابه "ورقات": "تحفة العروس مجموع أدبي رتّبه على خمسة وعشرين بابا في معاشرة النّساء وأخلاقهن وخصالهن، وصفة أعضائهنّ من حسن وقبح... وقد وهم بعض مستشرقي الإفرنج إذ ظنّ أنّه من نوع كتاب (رجوع الشّيخ إلى صباه) والحقيقة أنّه ليس من النّوع المشار إليه ولم يوضع لهذا الغرض... ثمّ إنّه [المؤلف] أبان في مقدّمة كتابه الغرض الّذي رمى إليه من وضعه خشية منه أن يظنّ به النّزول إلى صفّ الكتب المصنّفة في المجون والفحش والمستهجن... فيقول في خطبة "تحفة العروس" (وليس كتابنا هذا في الحقيقة كتاب سمر وإنّما هو كتاب علم ونظر) (10)".
ونستغرب هذه المقارنة المنحازة، فإن كان كتاب "تحفة العروس" كتاب علم ونظر – ونحن نرى ذلك – فماذا يكون كتاب "رجوع الشيخ" الّذي خصّص منه ذلك الكمّ الهائل للطّبّ الجنسي والأدوية والمنافع أي أنّ أكثر من نصف الكتاب موسوعة علمية طبّية لابد أنّها استغرقت وتطلّبت جهدا كبيرا واطّلاعا وصبرا وبحثا وعناء جديرة بشيء من النّظر الموضوعيّ إلى غزارتها وفائدتها بينما خلا "تحفة العروس" من كلّ هذه الأمور. أمّا القسم الثّاني المخصّص للنّساء وأوصافهنّ والجماع وقواعده وﺁدابه وهو ما يشترك فيه مع موضوع "تحفة العروس" فلسنا ندري ما المستهجن في هذا والمحمود في ذلك رغم أنّهما تشابها في مواضيع كثيرة وتقاربا في أبواب ومسائل عديدة في بعض الأحيان إذ خصّص "رجوع الشّيخ" بابا "في ذكر من وطئ النّساء في أدبارهنّ" – وهو فعل أجازته بعض المذاهب كما جاء في كتاب "نزهة الألباب" – كذلك أفرد "تحفة العروس" فصلا "في وطء الرّجل في غير الفرج".
وإن كان صاحب "التّحفة" بيّن الغرض المنفعي والتّعليمي والجدّي من وراء تأليفه فكذلك صنع واضع "رجوع الشّيخ" إذ يقول في المقدّمة "لم أقصد بتأليفه كثرة الفساد ولا طلب الإثم ولا إعانة المتمتّع الّذي يرتكب المعاصي ويستحلّ ما حرّم الله تعالى، بل قصدت به إعانة من قصرت شهوته على بلوغ أمنيته في الحلال الّذي هو سبب لعمارة الدّنيا بكثرة النّسل لقوله عليه الصّلاة والسّلام "تناكحوا، تناسلوا فإنّي أباهي بكم الأمم يوم القيامة" (11) فلماذا يبّرئ إذن العلامة حسن حسني عبد الوهّاب ساحة هذا ويكرّس حكما جاهزا التصق بذاك التصاقا فيه كثير من الضّيم والعسف؟
ومنذ بضع سنوات بدأت دار النّشر العربية اللّندنيّة "دار الرّيس للنّشر" في القيام بعمل كبير يتمثّل في نفض الغبار عن أعمال مخطوطة كثيرة تنتمي خاصّة إلى ما سمّته التّراث المقموع. وفي ذلك تقول إنّها "تنظر حاليّا في هذه المخطوطات وستعمل على دراسة إمكانيّة نشرها ضمن خطّها الثّقافي الحرّ الّذي قامت على أساسه وهو نشر الكتب الجدّية والقيّمة والمثيرة للجدل معا" (12). وفي انتظار أن تنسج دور أخرى على منوالها أصدرت في طبعة أنيقة "الرّوض العاطر" و"نزهة الألباب" و"تحفة العروس" بتحقيق دقيق وعميق وجدّي لجمال جمعة وجليل العطية. أما ما نستغربه بعد كلّ هذا فهو أن يكتب أحد محرّري مجلة "النّاقد" الّتي هي لسان الدّار في تقديم كتاب "الرّوض العاطر" مدافعا عنه ضدّ ضجيج أثاره صدوره: "يقدّم صورة كاملة التّفاصيل عن النّموذج الحضاري الإسلامي لموضوع الجنس، في فروعه، الّذي يبدأ من المقاييس الجمالية والذّوقية السّائدة ﺁنذاك مرورا بالتّقنية الجنسية وحتّى الآداب الخاصّة به وصولا إلى الطّبّ الجنسيّ... وإذ هو يتّصف بالطّابع الإرشادي، فإنّه لا يخلو من المتعة الأدبية ولو على حذر بعكس كتاب ﺁخر مشهور هو "رجوع الشّيخ إلى صباه..." الّذي يمتلئ بالإباحيّة والفحش والمجون..."(13).
إنّ ما قاله هذا المحرّر عن كتاب "الرّوض العاطر" صحيح، لكنّه ينطبق أكثر على "رجوع الشّيخ" الّذي لا يغيب فيه الحديث عن الطّبّ الجنسيّ وبطريقة أشمل وأوفى ولا عن التّقنية الجنسية وﺁدابها. ويشكّ في أنّه قرأ كتاب "رجوع الشّيخ" أو اطّلع عليه ما دام يعيد تلك الفكرة المسبقة الرّائجة حول الكتاب ويؤكّدها. أمّا عن "الإباحية" فموقف غريب منه تجاه الكتاب لأنّ عشرات الكتّاب هاجموا "الرّوض العاطر" واعتبروه إباحيّا كذلك ما دام يخوض في مسائل مازلت تثير الحساسيّات وتزعجها مع مرّ القرون. وقد بحثت عمّا يمكن أن يربط ﺑـــ"الإباحية" في الكتاب والّتي هي بالأحرى جسارة علمية لها فوائدها الجمّة، فلم أجد إلاّ مسألة وحيدة خاض فيها "رجوع الشّيخ" وتجنّبها "الرّوض العاطر" وتتعلّق بالسحق أو المساحقة عند النّساء. وقد تعرّض له المؤلّف وفاء للخطّ العامّ الّذي رسمه لنفسه في القسم الثّاني وهو البحث في كلّ المسائل الجنسيّة المتعلّقة بالمرأة حتّى وإن كانت ممارسات موجودة ومسكوتا عنها، كما أنّ سعة معارفه الطّبيّة وولعه بالأدوية هما اللّذان دفعاه لإثبات هذا الموضوع من خلال الأدوية المرتبطة به.
وإن كان هذا المحرر يعتبر هذا الفصل "إباحيّا" فماذا يقول في كتاب "نزهة الألباب" الّذي اختصّ بالبحث في المسائل الجنسيّة الشّاذة والمنتشرة في ﺁن واتّبع في ذلك منهجيّة صارمة الجرأة والصّراحة الموضوعيّتين فاهتمّ بالمومسات واللّواطّيين والزّناة والمؤاجرين والمساحقات والمخنّثين وغيرهم فكان بذلك وثيقة نادرة أرّخت لمختلف الأنشطة الجنسيّة المسكوت عنها في عصور إسلاميّة مختلفة وقد تبنّت دار الريّس ذلك المؤلّف واعتبرته كذلك؟ فيكون عندئذ من الجور الكبير وصف "رجوع الشّيخ" بالإباحيّة وهو الّذي لم يهتمّ عموما بغير الأنشطة الجنسيّة المسموح بها علنا والمرضي عنها وبالأمراض الجنسيّة وعلاجاتها.
إن عدم طبع هذا الكتاب وعدم الاعتناء بدرسه والاهتمام الجدّي به كغيره من الكتب المشابهة أمر يمكن أن نفهمه ونفسّره بالخوف من التّراث الّذي ما فتئ يخيّم على كثير من الذّهنيّات وبالوجل أمام الأسلاف الّذين وسع عصرهم جرأة تفكيرهم وطرافة ﺁرائهم وضاق صدر عصرنا بهم ممّا يفسّر المحاولات الكثيرة لطمس الموروث المكتوب أو لحرقه وتبديده في وهاد التّجاهل والنّسيان. لكنّ ما لا يمكن أن نفهمه أو نفسّره هو أن يعتنى بكتب تراثية إيروتيكية وتخرج إلى النّور في طبعات أنيقة وتحقيقات علمية وتقدّم على أنّها وثائق تاريخية وحضارية وأنّها ليست مثل "رجوع الشّيخ" مع أنّه فاق الكثير منها توسّعا وعمقا واهتمّ بنفس المسائل وعالج نفس المواضيع...
ويبقى التّساؤل قائما إذن حول هذه السّمعة السّيئة الّتي كاد يختصّ بها ولازمته ملازمة لصيقة إلى حدّ أنّ كثيرا من الدّارسين سلّموا بها وزادوا من وطأتها المتجنيّة. وقد يكون سبب لذلك وراء نسبة الكتاب إلى ذلك الباشا التّركي والمشاعر العربية لم تكن دوما طيّبة إزاء العنصر التّركي الّذي كان يبادلها نفس الإحساس العدائي.
ولا بدّ قبل الانتهاء من إثارة تساؤل أخير هو: لماذا عرف كتاب "الرّوض العاطر" تلك الشّهرة الخيالية دون غيره من الكتب الإيروتيكيّة بينما قبع "رجوع الشّيخ" وراء جدران اللّعنة والتّناسي؟
تقول إحدى الشّهادات: "قبل أسابيع قرأت في إحدى الصّحف البريطانية أنّ الطّبعة الأوروبيّة من كتاب "الرّوض العاطر"... قد بلغ حدّا من الرّواج تجاوز الخمسة ملايين نسخة" (14).
وتعود شهرته إلى ترجمة أنقليزيّة قام بها بتصرّف "ريتشارد بيرتون" عام 1862 فلقيت لحسن حظّ الكتاب راواجا هائلا لا يضاهيه إلا نجاح ترجمة "ألف ليلة وليلة" أو ترجمة "فيتزجرالد" ﻟـــ"رباعيّات الخيّام". أما "رجوع الشّيخ" فلم يحالفه ذلك الحظّ ولازمه سوء الطّالع رغم شهرته الممزوجة باللّعنة والاتّهام المتجنّيين. ومقارنة سريعة بين الكتابين تبيّن إلى حدّ بعيد تفوّقه على "الرّوض العاطر" في أيّ المسائل الّتي وقع الخوض فيها:
ليس ثمّة طرافة في "الرّوض" بالقياس إلى "رجوع الشّيخ" إلاّ في أبواب ثلاثة متعلقة "بأسماء أيور الرّجال" وأسماء فروج النّساء وأسماء "أيور الحيوان". أمّا فيما عدا ذلك فكتاب "رجوع الشّيخ" أغزر معلومات وأعمق تحليلا وأكثر إحاطة بالموضوعات سواء تعلّق الأمر بالطّبّ الجنسيّ الّذي لم يخصّص له النّفزاوي إلاّ ثمانية أيواب بينما خصّص له التّيفاشي أكثر من ثلاثين بابا وهو المعروف بولعه بالمسائل الطّبية، أو تعلّق بقسم قواعد النّشاط الجنسيّ وتقنياته وﺁدابه دليلا على تبحّر صاحبه في الموضوع وتمكّنه الشّديد منه، ففي حين اختصر النّفزاوي واقتصر في باب "في كيفيّة الجماع" على ذكر أحد عشر ضربا من ذلك، نجد باب "في ذكر كيفيّة أنواع الجماع" من كتاب "رجوع الشّيخ" تفوق الأنواع فيه السّتين من الأوضاع المختلفة، بل إنّ هذا العدد يمثّل أضعاف ما جاء في "الكاماسوترا" أشهر الكتب الإيروتيكيّة في التّراث البشري في فصل "مختلف أنواع الاضجاع ومختلف أنواع الجماع الجنسي".
وخلاصة القول إذن إنّ كتاب "رجوع الشّيخ إلى صباه في القوّة على الباه" موسوعة في الطّبّ الجنسيّ وكتاب هامّ من كتب الإيروتيكيّة العربية أدبي وعلمي وتعليمي، استعمل الأسلوب الإرشادي كغيره من تلك المؤلفات وقصد النّفع والإفادة، التصقت به أحكام جاهزة وجائرة لم تنل من شهرته على مرّ العصور وأولى أن ينفض عنه غبار التّناسي واللاّمبالاة فيخصّ بطبعه جديّة ومحقّقة تنقذه من التّشويه والأخطاء وتوليه العناية الّتي يستحقها.
جريدة الصّحافة 23 جويلية 1993
الهوامش
(1) فاتسيانا: وجيز علم النّفس الهندي (كاماسوترا) ترجمه عن الفرنسية كاستون فاتول، دار طلاس للدّراسات والترجمة والنّشر ط.1/1984، ص9.
(2) رجوع الشّيخ إلى صباه في القوّة على الباه، المقدمة – نسخة خطية بلا تاريخ –
(3) التّيفاشي: نزهة الألباب فيما لا يوجد في كتاب، تحقيق جمال جمعة، دار الريّس للنّشر ط.1. حزيران/يونيو 1992 ص38.
(4) التّيجاني: تحفة العروس ومتعة النّفوس، تحقيق جليل العطية، دار الريّس للنّشر ط.1. حزيران/يونيو 1992 ص15.
(5) النّفزاوي: الرّوض العاطر في نزهة الخاطر، تحقيق جمال جمعة، دار الريّس للنّشر ط.1. ﺁب/أغسطس 1990 ص16.
(6) إدريس (كرم): من دروس الفقهاء في الجنس، حريدة "أنوال الثّقافي" المغربية 8 مارس 1986 عن مقال من تاريخ الجنس في الإسلام لزياد كريشان مجلة المغرب التّونسية عدد 165 بتاريخ 25 أوت 1989 ص27.
(7) التّيفاشي: نزهة الألباب فيما لا يوجد في كتاب، تحقيق جمال جمعة، دار الريّس للنّشر ط.1. حزيران/يونيو 1992 ص40.
( في سيرة التّيفاشي عدنا إلى تحقيق جمال جمعة لنزهة الألباب.
(9) رجوع الشّيخ إلى صباه في القوّة على الباه طبعة مغربية دون تاريخ ص3.
(10) التّيجاني: تحفة العروس ومتعة النّفوس، تحقيق جليل العطية ص17.
(11) رجوع الشّيخ إلى صباه في القوّة على الباه ص3.
(12) الحكم الشّاطر في مسألة الرّوض العاطر، مجلة النّاقد، العدد 34 ص61.
(13) المختصر، مجلة النّاقد، العدد الواحد والثّلاثون ص75.
(14) الرّوض العاطر في نزهة الخاطر (شهادات ومختارات)، إعداد وتحقيق هاني الخيّر، منشورات مكتبة أسامة، دمشق 1983 ص9.
https://www.facebook.com/248901902189610/posts/250340392045761
وقد تعامل العرب مع هذه المسألة في مؤلّفات كثيرة خصّصت لها من خلال تلك الزّاوية المقدّسة إذ كان الرّسول دوما في تلك الكتابات النّموذج الجنسيّ الأمثل والأكمل يُتباهى بقدراته الجنسيّة ويُتمثّل بأعماله وأقواله في ذلك المجال، لذلك امتلأت بالأحاديث النّبوية المفسرة أو الموضّحة أو المنظّمة لقواعد العمليّة الجنسيّة وبالأخبار المقتطفة من السّيرة الّتي تتّخذ قدوة لبلوغ "اللّذة الحلال" الّتي هي سبب لعمارة الدّنيا بكثرة النّسل. ومن الأحاديث المتعلّقة بهذا الأمر: "تناكحوا، تناسلوا فإنّي أباهي بكم الأمم يوم القيامة" (2) ولهذا السّبب كان معظم من وضع تلك المؤلّفات من رجال الدّين والفقهاء والقضاة رأوا في ذلك واجبا منوطا بعهدتهم ينفعون به الآخرين وينتفعون من ثواب القيام به.
كما زاد تلاحق الحضارات الّذي عاشه العرب وتمازج الأجناس والشّعوب حياتهم الجنسيّة ثراء وتنوّعا وساعدهم الازدهار الحضاري والاجتماعي الّذي عرفوه على التّفنّن في العلاقات الجنسيّة وإعطائها أبعادا وممارسات إيروتيكية ما كانت لتسير فيها لولا ذلك التّمازج فحفلت بها تلك المؤلّفات ووصفتها وسطرت إضافاتها وتنويعاتها لتصبح بذلك وثيقة حضاريّة وتاريخيّة هامّة سجّلت بكلّ موضوعيّة وأمانة ملامح الظّاهرة الجنسيّة من خلال وجهيها المعروف والمسكوت عنه فازدادت بذلك أهمّيتها.
وللعرب مؤلّفات إيروتيكية كثيرة جدا منها: - كتاب الباه للنّحلي – والعرس والعرائس لأبي عثمان الجاحظ (ت 255هـــــ/868م) – وكتاب القيان لابن حاجب النّعمان – وكتاب جامع اللّذة لابن السمسماني – وكتاب المناكحة والمفاتحة في أصناف الجماع وﺁلاته لعز الدّين المسيحي – ونزهة الألباب في معاشرة الأحباب للسّموأل بن يحيى المغربي (ت 570هــــ/1175م) – ونزهة الألباب فيما لا يوجد في كتاب لأحمد بن يوسف التّيفاشي (ت 651 هــــ/1253م) – والباهيّة والتّراكيب السّلطانية لنصير الدّين الطّوسي (ت 672هــــ/1273م) – وتحفة العروس ومتعة النّفوس لمحمّد بن أحمد التّيجاني (ت 950هــــ/1534م) – والايضاح في أسرار النّكاح لعبد ارّحمان الشيرازي (ت 774هــــ/1372م) ومؤلفات جلال الدّين السّيوطي (ت 911هــــ/1505م) الكثيرة في هذا المجال والّتي من بينها: - الوشاح في فوائد النّكاح – شقائق الأترنج في رقائق الغنج – مباسم الملامح ومناسم الصّباح في مواسم النّكاح -.
وما تجدر الإشارة إليه هو أنّ أصحاب أهمّ هذه المؤلّفات الّتي عرفت في التّراث العربي بكتب النّكاح أو ﺁداب النّكاح تونسيّون فالتّيفاشي "ولد في قرية تيفاش عام 580هــــ/1184م) وكانت من قرى قفصة التّونسية". (3) والتّيجاني "أديب وكاتب ولد في تونس وعمل ديوان الإنشاء ثمّ تولّى مركزا مرموقا في ديوان الرّسائل برعاية الأمير زكرياء بن أحمد الحفصي" (4) والشّيخ النّفزاوي "ولد في نفزاوة وهي بلدة تقع في الجنوب التّونسي وتوفّي حوالي عام 725هــــ/1324م" (5) وبالإضافة إلى هؤلاء المشاهير نجد عددا كبيرا من الفقهاء والقضاة الّذين اهتمّوا بالكتابة في ذلك الغرض ووضعوا فيه المصنّفات دليلا على نشاط الحركة التأليفيّة في الموضوع الجنسيّ في المغرب عموما ومنهم:
- أبو العبّاس أحمد بابا التّمبكتي مؤلف: فوائد النّكاح على مختصر الوشاح للسّيوطي.
- أبو عبد الله محمّد بن الحسين بن ضون مؤلف: الممتع المحتاج في أدب الأزواج.
- أبو محمّد عبد الله بم محمّد بن مسعود التّمكروتي صاحب: الرّوض اليانع في فوائد النّكاح وﺁداب المجامع.
- أحمد بن عرضون: واضع ﺁداب النّكاح ومعاشرة الأزواج.
- ابن يأمون التّليدي الأخماسي مؤلف: الجواهر المنظومة في شرح المنظومة (6).
وينسب كتاب "رجوع الشّيخ إلى صباه في القوّة على الباه" إلى أحمد بن سلمان المعروف بابن كمال باشا والمتوفّى سنة 940هــــ/1533م، لكنّ دارسين كثيرين يرون خطأ في ذلك ويرجّحون أن يكون الكتاب واحدا من تآليف التّيفاشي منهم المستشرقان "بروكلمان" و"جورج سارتون" في مؤلّفه "مقدمة لتاريخ العلم" وكذلك جمال جمعة الّذي حقّق مؤخّرا كتاب "نزهة الألباب" في طبعة عن دار الرّيّس للنّشر بلندن ويقول في ذلك: "رجوع الشّيخ إلى صباه في القوّة على الباه" كتاب في الثّقافة الجنسيّة نسب خطأ إلى ابن كمال باشا. وقد اطّلعت مؤخّرا على نسخة تجاريّة منه (بلا محقّق أو دار نشر) أمكنني خلال مقارنتها توكيد ظنّي بنسبتها للتّيفاشي لا إلى ذلك الباشا التّركي" (7). فالأصوب أن ينسب الكتاب إلى التّيفاشي الّذي له أكثر من مؤلّف في هذا الموضوع، وأن يكون ابن كمال باشا ترجمه إلى التّركيّة مع بعض التّصرّف وأهداه للسّلطان العثماني سليم خان.
والتّيفاشي (
- أزهار الأفكار في جواهر الأحجار
- المنقذ من التّهلكة في أضرار السّموم المهلكة
- سجع الهديل في أخبار النّيل..
- الدّيباج الخسرواني في أشعار ابن هاني
وكتاب جنسي في الجماع هو "قادمة الجناح في النّكاح" يضاف إلى "نزهة الألباب" وإلى "رجوع الشّيخ" ليدلّ على اهتمام التّيفاشي الكبير بالموضوع الجنسي وليجعله من أكبر المختصّين في هذا الفنّ وواحدا من أساطين الكتابة الإيروتيكية في التّراث العربي.
ولم يطبع الكتاب سوى طبعات شعبيّة بلا تاريخ ولا تحقيق ولا دار نشر أشهرها طبعة مغربيّة إلاّ أنّها شديدة الرّداءة ومليئة بالأخطاء الّتي تشوّهه وتبعده عن الأصل أمّا مخطوطاته فكثيرة جدّا لا تكاد تخلو مكتبة هامّة منها أحدها بالمكتبة الوطنيّة بتونس.
ومقارنة سريعة بين الطّبعة المغربيّة مثلا وبين نسخة خطيّة بين يديّ، بلا تاريخ كذلك، تبيّن إلى أيّ مدى شوّهت تلك الطّبعة الشّعبية المؤلّف وأساءت إليه، فبالإضافة إلى الأخطاء الّتي لا يمكن إحصاؤها، ثمّة نقص مهول في مادة الكتاب وخاصّة في القسم الأوّل منه يقارب العشرين بابا حوتها النّسخة الخطّية ولم يشملها الكتاب المطبوع ممّا يجعل ضرورة تحقيقه وطبعه طبعة علمية لائقة أمرا ملحا ينقذه من النّقص والتّشويهات.
وينقسم الكتاب إلى قسمين كبيرين يحتوي كلّ قسم على ثلاثين بابا، خصّص المؤلّف القسم الأوّل لما يمكن أن ينعت بالطّب الجنسي وأفاض في الحديث عن أدوية كثيرة وأدهان ومعاجين وأغذية تتعلق بالجماع وفوائده ومضارّه وأدوية تعين على الحمل أو تمنعه. ولا يسمح المقام بالتّوقّف عند الثلاثين بابا هذه، لكن ما يمكن قوله هو أنّ هذا القسم من الكتاب موسوعة طبّية هائلة أحاطت بكلّ ما بلغته المعرفة الطّبية المرتبطة بالجنس ﺁنذاك، وتدلّ على سعة اطلاع التّيفاشي وغزارة معرفته الدّقيقة والموسوعيّة في ﺁن. ولا نستغرب منه هذا الاهتمام الطّبي إذ ألّف فيه في غير هذا العمل كما في: "المنقذ من التّهلكة في دفع مضار السّموم المهلكة" أو "الشّفا في الطّبّ عن المصطفى". أما القسم الثّاني فثلاثون بابا أيضا يمكن القول إنّها موسوعة جنسية عامّة ثريّة بالمعلومات. يقول عنه المؤلف: "يشتمل على عدّة أبواب تتعلّق بأسرار النّساء وما يناسبهنّ من الزينة والخضابات وما يخضّب به البدن وما يسمنه وما يطوّل الشّعر ويسوّده وما الّذي يستجلبن به مودّات الرّجال والحكايات الّتي نقلت عنهنّ في أمر الباه" (9).
لقد أراد المؤلّف أن يكون هذا القسم من كتابه موسوعة جنسية عن المرأة وعن كلّ ما يتعلّق بجسدها وزينتها وشهوتها، وهذا يذكرنا بكتاب "تحفة العروس ومتعة النّفوس" الّذي خصّصه التّيجاني لهذا الغرض ولا شكّ في العلاقة التّأثرية الوطيدة بين العملين.
ونصل هنا إلى مسألة شديدة الأهميّة ومثيرة للتّساؤلات العديدة وهي السّمعة السّيئة الّتي أحاطت بالكتاب أكثر من غيره من الأعمال الّتي وضعت في نفس الغرض رغم أنّه أشهرها قطعا بمعيّة "الرّوض العاطر في نزهة الخاطر" الّذي وإن تعرّض إلى بعض الحملات المعادية والهجمات الّتي شنّها بعض المتحفّظين، فإنّ سمعته تظلّ أنقى من سابقه. وكثيرا ما أشير إلى "رجوع الشّيخ إلى صباه" على أنّه كتاب مجون وتهتّك فاضحين ومرتبطين بالهزل الفاسق والمزح الّذي يصب في الفساد. يقول العلاّمة حسن حسني عبد الوهاب مثلا متحدّثا عن كتاب "تحفة العروس" في كتابه "ورقات": "تحفة العروس مجموع أدبي رتّبه على خمسة وعشرين بابا في معاشرة النّساء وأخلاقهن وخصالهن، وصفة أعضائهنّ من حسن وقبح... وقد وهم بعض مستشرقي الإفرنج إذ ظنّ أنّه من نوع كتاب (رجوع الشّيخ إلى صباه) والحقيقة أنّه ليس من النّوع المشار إليه ولم يوضع لهذا الغرض... ثمّ إنّه [المؤلف] أبان في مقدّمة كتابه الغرض الّذي رمى إليه من وضعه خشية منه أن يظنّ به النّزول إلى صفّ الكتب المصنّفة في المجون والفحش والمستهجن... فيقول في خطبة "تحفة العروس" (وليس كتابنا هذا في الحقيقة كتاب سمر وإنّما هو كتاب علم ونظر) (10)".
ونستغرب هذه المقارنة المنحازة، فإن كان كتاب "تحفة العروس" كتاب علم ونظر – ونحن نرى ذلك – فماذا يكون كتاب "رجوع الشيخ" الّذي خصّص منه ذلك الكمّ الهائل للطّبّ الجنسي والأدوية والمنافع أي أنّ أكثر من نصف الكتاب موسوعة علمية طبّية لابد أنّها استغرقت وتطلّبت جهدا كبيرا واطّلاعا وصبرا وبحثا وعناء جديرة بشيء من النّظر الموضوعيّ إلى غزارتها وفائدتها بينما خلا "تحفة العروس" من كلّ هذه الأمور. أمّا القسم الثّاني المخصّص للنّساء وأوصافهنّ والجماع وقواعده وﺁدابه وهو ما يشترك فيه مع موضوع "تحفة العروس" فلسنا ندري ما المستهجن في هذا والمحمود في ذلك رغم أنّهما تشابها في مواضيع كثيرة وتقاربا في أبواب ومسائل عديدة في بعض الأحيان إذ خصّص "رجوع الشّيخ" بابا "في ذكر من وطئ النّساء في أدبارهنّ" – وهو فعل أجازته بعض المذاهب كما جاء في كتاب "نزهة الألباب" – كذلك أفرد "تحفة العروس" فصلا "في وطء الرّجل في غير الفرج".
وإن كان صاحب "التّحفة" بيّن الغرض المنفعي والتّعليمي والجدّي من وراء تأليفه فكذلك صنع واضع "رجوع الشّيخ" إذ يقول في المقدّمة "لم أقصد بتأليفه كثرة الفساد ولا طلب الإثم ولا إعانة المتمتّع الّذي يرتكب المعاصي ويستحلّ ما حرّم الله تعالى، بل قصدت به إعانة من قصرت شهوته على بلوغ أمنيته في الحلال الّذي هو سبب لعمارة الدّنيا بكثرة النّسل لقوله عليه الصّلاة والسّلام "تناكحوا، تناسلوا فإنّي أباهي بكم الأمم يوم القيامة" (11) فلماذا يبّرئ إذن العلامة حسن حسني عبد الوهّاب ساحة هذا ويكرّس حكما جاهزا التصق بذاك التصاقا فيه كثير من الضّيم والعسف؟
ومنذ بضع سنوات بدأت دار النّشر العربية اللّندنيّة "دار الرّيس للنّشر" في القيام بعمل كبير يتمثّل في نفض الغبار عن أعمال مخطوطة كثيرة تنتمي خاصّة إلى ما سمّته التّراث المقموع. وفي ذلك تقول إنّها "تنظر حاليّا في هذه المخطوطات وستعمل على دراسة إمكانيّة نشرها ضمن خطّها الثّقافي الحرّ الّذي قامت على أساسه وهو نشر الكتب الجدّية والقيّمة والمثيرة للجدل معا" (12). وفي انتظار أن تنسج دور أخرى على منوالها أصدرت في طبعة أنيقة "الرّوض العاطر" و"نزهة الألباب" و"تحفة العروس" بتحقيق دقيق وعميق وجدّي لجمال جمعة وجليل العطية. أما ما نستغربه بعد كلّ هذا فهو أن يكتب أحد محرّري مجلة "النّاقد" الّتي هي لسان الدّار في تقديم كتاب "الرّوض العاطر" مدافعا عنه ضدّ ضجيج أثاره صدوره: "يقدّم صورة كاملة التّفاصيل عن النّموذج الحضاري الإسلامي لموضوع الجنس، في فروعه، الّذي يبدأ من المقاييس الجمالية والذّوقية السّائدة ﺁنذاك مرورا بالتّقنية الجنسية وحتّى الآداب الخاصّة به وصولا إلى الطّبّ الجنسيّ... وإذ هو يتّصف بالطّابع الإرشادي، فإنّه لا يخلو من المتعة الأدبية ولو على حذر بعكس كتاب ﺁخر مشهور هو "رجوع الشّيخ إلى صباه..." الّذي يمتلئ بالإباحيّة والفحش والمجون..."(13).
إنّ ما قاله هذا المحرّر عن كتاب "الرّوض العاطر" صحيح، لكنّه ينطبق أكثر على "رجوع الشّيخ" الّذي لا يغيب فيه الحديث عن الطّبّ الجنسيّ وبطريقة أشمل وأوفى ولا عن التّقنية الجنسية وﺁدابها. ويشكّ في أنّه قرأ كتاب "رجوع الشّيخ" أو اطّلع عليه ما دام يعيد تلك الفكرة المسبقة الرّائجة حول الكتاب ويؤكّدها. أمّا عن "الإباحية" فموقف غريب منه تجاه الكتاب لأنّ عشرات الكتّاب هاجموا "الرّوض العاطر" واعتبروه إباحيّا كذلك ما دام يخوض في مسائل مازلت تثير الحساسيّات وتزعجها مع مرّ القرون. وقد بحثت عمّا يمكن أن يربط ﺑـــ"الإباحية" في الكتاب والّتي هي بالأحرى جسارة علمية لها فوائدها الجمّة، فلم أجد إلاّ مسألة وحيدة خاض فيها "رجوع الشّيخ" وتجنّبها "الرّوض العاطر" وتتعلّق بالسحق أو المساحقة عند النّساء. وقد تعرّض له المؤلّف وفاء للخطّ العامّ الّذي رسمه لنفسه في القسم الثّاني وهو البحث في كلّ المسائل الجنسيّة المتعلّقة بالمرأة حتّى وإن كانت ممارسات موجودة ومسكوتا عنها، كما أنّ سعة معارفه الطّبيّة وولعه بالأدوية هما اللّذان دفعاه لإثبات هذا الموضوع من خلال الأدوية المرتبطة به.
وإن كان هذا المحرر يعتبر هذا الفصل "إباحيّا" فماذا يقول في كتاب "نزهة الألباب" الّذي اختصّ بالبحث في المسائل الجنسيّة الشّاذة والمنتشرة في ﺁن واتّبع في ذلك منهجيّة صارمة الجرأة والصّراحة الموضوعيّتين فاهتمّ بالمومسات واللّواطّيين والزّناة والمؤاجرين والمساحقات والمخنّثين وغيرهم فكان بذلك وثيقة نادرة أرّخت لمختلف الأنشطة الجنسيّة المسكوت عنها في عصور إسلاميّة مختلفة وقد تبنّت دار الريّس ذلك المؤلّف واعتبرته كذلك؟ فيكون عندئذ من الجور الكبير وصف "رجوع الشّيخ" بالإباحيّة وهو الّذي لم يهتمّ عموما بغير الأنشطة الجنسيّة المسموح بها علنا والمرضي عنها وبالأمراض الجنسيّة وعلاجاتها.
إن عدم طبع هذا الكتاب وعدم الاعتناء بدرسه والاهتمام الجدّي به كغيره من الكتب المشابهة أمر يمكن أن نفهمه ونفسّره بالخوف من التّراث الّذي ما فتئ يخيّم على كثير من الذّهنيّات وبالوجل أمام الأسلاف الّذين وسع عصرهم جرأة تفكيرهم وطرافة ﺁرائهم وضاق صدر عصرنا بهم ممّا يفسّر المحاولات الكثيرة لطمس الموروث المكتوب أو لحرقه وتبديده في وهاد التّجاهل والنّسيان. لكنّ ما لا يمكن أن نفهمه أو نفسّره هو أن يعتنى بكتب تراثية إيروتيكية وتخرج إلى النّور في طبعات أنيقة وتحقيقات علمية وتقدّم على أنّها وثائق تاريخية وحضارية وأنّها ليست مثل "رجوع الشّيخ" مع أنّه فاق الكثير منها توسّعا وعمقا واهتمّ بنفس المسائل وعالج نفس المواضيع...
ويبقى التّساؤل قائما إذن حول هذه السّمعة السّيئة الّتي كاد يختصّ بها ولازمته ملازمة لصيقة إلى حدّ أنّ كثيرا من الدّارسين سلّموا بها وزادوا من وطأتها المتجنيّة. وقد يكون سبب لذلك وراء نسبة الكتاب إلى ذلك الباشا التّركي والمشاعر العربية لم تكن دوما طيّبة إزاء العنصر التّركي الّذي كان يبادلها نفس الإحساس العدائي.
ولا بدّ قبل الانتهاء من إثارة تساؤل أخير هو: لماذا عرف كتاب "الرّوض العاطر" تلك الشّهرة الخيالية دون غيره من الكتب الإيروتيكيّة بينما قبع "رجوع الشّيخ" وراء جدران اللّعنة والتّناسي؟
تقول إحدى الشّهادات: "قبل أسابيع قرأت في إحدى الصّحف البريطانية أنّ الطّبعة الأوروبيّة من كتاب "الرّوض العاطر"... قد بلغ حدّا من الرّواج تجاوز الخمسة ملايين نسخة" (14).
وتعود شهرته إلى ترجمة أنقليزيّة قام بها بتصرّف "ريتشارد بيرتون" عام 1862 فلقيت لحسن حظّ الكتاب راواجا هائلا لا يضاهيه إلا نجاح ترجمة "ألف ليلة وليلة" أو ترجمة "فيتزجرالد" ﻟـــ"رباعيّات الخيّام". أما "رجوع الشّيخ" فلم يحالفه ذلك الحظّ ولازمه سوء الطّالع رغم شهرته الممزوجة باللّعنة والاتّهام المتجنّيين. ومقارنة سريعة بين الكتابين تبيّن إلى حدّ بعيد تفوّقه على "الرّوض العاطر" في أيّ المسائل الّتي وقع الخوض فيها:
ليس ثمّة طرافة في "الرّوض" بالقياس إلى "رجوع الشّيخ" إلاّ في أبواب ثلاثة متعلقة "بأسماء أيور الرّجال" وأسماء فروج النّساء وأسماء "أيور الحيوان". أمّا فيما عدا ذلك فكتاب "رجوع الشّيخ" أغزر معلومات وأعمق تحليلا وأكثر إحاطة بالموضوعات سواء تعلّق الأمر بالطّبّ الجنسيّ الّذي لم يخصّص له النّفزاوي إلاّ ثمانية أيواب بينما خصّص له التّيفاشي أكثر من ثلاثين بابا وهو المعروف بولعه بالمسائل الطّبية، أو تعلّق بقسم قواعد النّشاط الجنسيّ وتقنياته وﺁدابه دليلا على تبحّر صاحبه في الموضوع وتمكّنه الشّديد منه، ففي حين اختصر النّفزاوي واقتصر في باب "في كيفيّة الجماع" على ذكر أحد عشر ضربا من ذلك، نجد باب "في ذكر كيفيّة أنواع الجماع" من كتاب "رجوع الشّيخ" تفوق الأنواع فيه السّتين من الأوضاع المختلفة، بل إنّ هذا العدد يمثّل أضعاف ما جاء في "الكاماسوترا" أشهر الكتب الإيروتيكيّة في التّراث البشري في فصل "مختلف أنواع الاضجاع ومختلف أنواع الجماع الجنسي".
وخلاصة القول إذن إنّ كتاب "رجوع الشّيخ إلى صباه في القوّة على الباه" موسوعة في الطّبّ الجنسيّ وكتاب هامّ من كتب الإيروتيكيّة العربية أدبي وعلمي وتعليمي، استعمل الأسلوب الإرشادي كغيره من تلك المؤلفات وقصد النّفع والإفادة، التصقت به أحكام جاهزة وجائرة لم تنل من شهرته على مرّ العصور وأولى أن ينفض عنه غبار التّناسي واللاّمبالاة فيخصّ بطبعه جديّة ومحقّقة تنقذه من التّشويه والأخطاء وتوليه العناية الّتي يستحقها.
جريدة الصّحافة 23 جويلية 1993
الهوامش
(1) فاتسيانا: وجيز علم النّفس الهندي (كاماسوترا) ترجمه عن الفرنسية كاستون فاتول، دار طلاس للدّراسات والترجمة والنّشر ط.1/1984، ص9.
(2) رجوع الشّيخ إلى صباه في القوّة على الباه، المقدمة – نسخة خطية بلا تاريخ –
(3) التّيفاشي: نزهة الألباب فيما لا يوجد في كتاب، تحقيق جمال جمعة، دار الريّس للنّشر ط.1. حزيران/يونيو 1992 ص38.
(4) التّيجاني: تحفة العروس ومتعة النّفوس، تحقيق جليل العطية، دار الريّس للنّشر ط.1. حزيران/يونيو 1992 ص15.
(5) النّفزاوي: الرّوض العاطر في نزهة الخاطر، تحقيق جمال جمعة، دار الريّس للنّشر ط.1. ﺁب/أغسطس 1990 ص16.
(6) إدريس (كرم): من دروس الفقهاء في الجنس، حريدة "أنوال الثّقافي" المغربية 8 مارس 1986 عن مقال من تاريخ الجنس في الإسلام لزياد كريشان مجلة المغرب التّونسية عدد 165 بتاريخ 25 أوت 1989 ص27.
(7) التّيفاشي: نزهة الألباب فيما لا يوجد في كتاب، تحقيق جمال جمعة، دار الريّس للنّشر ط.1. حزيران/يونيو 1992 ص40.
(
(9) رجوع الشّيخ إلى صباه في القوّة على الباه طبعة مغربية دون تاريخ ص3.
(10) التّيجاني: تحفة العروس ومتعة النّفوس، تحقيق جليل العطية ص17.
(11) رجوع الشّيخ إلى صباه في القوّة على الباه ص3.
(12) الحكم الشّاطر في مسألة الرّوض العاطر، مجلة النّاقد، العدد 34 ص61.
(13) المختصر، مجلة النّاقد، العدد الواحد والثّلاثون ص75.
(14) الرّوض العاطر في نزهة الخاطر (شهادات ومختارات)، إعداد وتحقيق هاني الخيّر، منشورات مكتبة أسامة، دمشق 1983 ص9.
https://www.facebook.com/248901902189610/posts/250340392045761