إذا كان الرجل صاحب موهبة عظيمة، وملكة متفردة، وتميز ظاهر في بعض الفنون، فإنك تجد أثقل شيء على قلبه أن ينخرط في وظيفة تكبله، ويجد نفسه مجبرا على الالتزام بقيودها والقيام بأعبائها، فتثقل بآلامها روحه الشفيفة آناء الليل وأطراف النهار.
وأصحاب الملكات في هذه الميدان صنوف، فمنهم من لا يصبر على حَزِّ القيود، فتراه ينفر من الوظيفة أشد النفور، ويتركها غير آسف عليها، ويؤثر اللواذ بفنه، ومنهم من يهبه الله ملكة الجمع بين أعباء الوظيفة والقدرة على الإبداع.
ومن أصحاب الصنف الأول نجد الجاحظ وأحمد حسن الزيات، وأما أصحاب الصنف الثاني فمنهم الرافعي ونجيب محفوظ.
فأما الجاحظ (150 – 255 هـ) الذي عاش طفولة شَقِيَّة بعد موت أبيه، يكسب قوته ببيع الخبز والسَّمَك في الأسواق، فيروى أنه لما رحل من البصرة إلى بغداد طارت شهرته فيها، وسمع به الخليفة المأمون فأراد أن يفيد منه، فأسند إليه ديوان الرسائل، وكان الاشتغال بالكتابة في الدواوين آنذاك هو الطريق المعبدة للوصول إلى المناصب الكبرى مثل الوزارة والولاية وغيرها. لكن الجاحظ الذي نشأ فقيرا، لم يُغْرِه بريق المنصب، فلم يبق فيه إلا ثلاثة أيام، ثم استعفى فأعفي، وتركه هاربا بعقله وحريته، لأنه لم يستطع أن يأخذ نفسه بنظم الدواوين وتقاليدها، ولم يتحمل دسائس الذين خافوا على مناصبهم من علمه وذكائه، ففارق أكبر وظيفة في ديوان الخلافة غير آسف عليها.
وأما أحمد حسن الزيات رحمه الله (1885 – 1968م) صاحب مجلة «الرسالة» الخالدة، فقد كان رُشح لكُرْسِيّ في كلية الآداب جامعة فؤاد فاعتذر عنه قائلا: «إن الترشيح لمثل هذه المناصب تتنازعه عوامل مختلفة من هوى السياسة ورضا الحكم، والمعروف أنهم ينظرون في المنصب إلى المال والجهد ومن لهما يستحق، ولا ينظرون فيه إلى الفضل والكفاية ومن بهما يتصف، وإني أعلم من نفسي، ومن طبعي، أنني لا أقبل هذا الكرسي وإن ذُلِّلَتْ عِقَابُه، وسُهِّلت صِعَاُبه، لأني أفضّل أن أظل بقية حياتي كما كنت جُنْديا متطوعا في القوة الخفيفة من قوى الأدب العربي أرودُ وأنْتَجِع وأكتشف، من غير نظام أتَّبِعُه، ولا قائد أطيعه، ولا جزاء أبتغيه.. ولقد عَرَضَ علي في العام الماضي عميدُ كلية الآداب السابق أن أكون أستاذا زائرا في الكلية، فقلت له والأسى يهدج صوتي، ويقطع كلامي، شكرا يا صديقي وعذرا، لقد تقدمت السن، وتأخرت الصحة، وأوشك الماخِر في عُبَابِ الحياة أن يبلغَ السَّاحِل».
وفي الوقت الذي نجد فيه الجاحظ والزيات يتخذان هذا الموقف الرافض للتقيد بالوظيفة، نجد الرافعي ونجيب محفوظ ينخرطان فيها، كل على طريقته، فقد كانت الوظيفة لهما مصدرا لكسب القوت.
فأما مصطفى صادق الرافعي فقد كان يعمل في صدر شبابه كاتبًا في محكمة طنطا، وكان يقوم بأعباء وظيفته ويؤدي عمله على أكمل وجه، لكن نفس الأديب الحر التي تسكن جوانحه، حالت دون الالتزام بدقة مواعيد العمل، فكان يذهب إلى عمله متأخرًا ويغادره في الوقت الذي يحلو له من غير تقصير فيه، حتى أطلق عليه كتبة المحامين وأصحاب المصالح «عمدة المحكمة«، وقد قيض الله له من رؤساء العمل، من راعى هذه الخصيصة فيه، فسمح له بقدر من الحرية أعانه على الجمع بين أعباء الوظيفة، ومطالب الإبداع.
وأما نجيب محفوظ فقد كان مخلصا لفنه كل الإخلاص، وكان موظفا كذلك مخلصا لوظيفته كل الإخلاص، غير أنه كان يرى أن إنتاجه الأدبي هو قيمته الحقيقية، وأن الترقي في الوظائف والمناصب ليس بشيء، ولهذا تخلق بأخلاق الكبار، وترك أخلاق الموظفين، حتى ليقول عنه يحيى حقي: «ليس في نجيب ذرة واحدة من طبائع الموظفين، ليس في حياته كلها سعي وراء درجة أو علاوة، أو افتتان ببريق السلطة أو أبهة المنصب، ولا تستغرب إذا قلت لك إنه -مع ذلك- موظف مثالي، لم يحدث له أن تأخر عن الوصول إلى مكتبه دقيقة واحدة بعد دقة الساعة معلنة الثامنة صباحا. كان هذا دأبه حتى وهو يشغل المنصب الرفيع بوصف مديرا عاما لمؤسسة دعم السينما. إنه يفعل ذلك لأنه حريص على أداء واجبه، وأن يكون قدوة لغيره – بل- وهذه هي الحقيقة – أن يبعد عن نفسه وجع الدماغ ليفرغ إلى فنه«.
لم تذكرت هذه المواقف كلها ولم رويتها الآن مجتمعة؟!
قد أبوح بذلك في وقت قريب . . وقد لا أبوح!
لكنها مواقف جديرة بالتأمل والاحتذاء . .
وأصحاب الملكات في هذه الميدان صنوف، فمنهم من لا يصبر على حَزِّ القيود، فتراه ينفر من الوظيفة أشد النفور، ويتركها غير آسف عليها، ويؤثر اللواذ بفنه، ومنهم من يهبه الله ملكة الجمع بين أعباء الوظيفة والقدرة على الإبداع.
ومن أصحاب الصنف الأول نجد الجاحظ وأحمد حسن الزيات، وأما أصحاب الصنف الثاني فمنهم الرافعي ونجيب محفوظ.
فأما الجاحظ (150 – 255 هـ) الذي عاش طفولة شَقِيَّة بعد موت أبيه، يكسب قوته ببيع الخبز والسَّمَك في الأسواق، فيروى أنه لما رحل من البصرة إلى بغداد طارت شهرته فيها، وسمع به الخليفة المأمون فأراد أن يفيد منه، فأسند إليه ديوان الرسائل، وكان الاشتغال بالكتابة في الدواوين آنذاك هو الطريق المعبدة للوصول إلى المناصب الكبرى مثل الوزارة والولاية وغيرها. لكن الجاحظ الذي نشأ فقيرا، لم يُغْرِه بريق المنصب، فلم يبق فيه إلا ثلاثة أيام، ثم استعفى فأعفي، وتركه هاربا بعقله وحريته، لأنه لم يستطع أن يأخذ نفسه بنظم الدواوين وتقاليدها، ولم يتحمل دسائس الذين خافوا على مناصبهم من علمه وذكائه، ففارق أكبر وظيفة في ديوان الخلافة غير آسف عليها.
وأما أحمد حسن الزيات رحمه الله (1885 – 1968م) صاحب مجلة «الرسالة» الخالدة، فقد كان رُشح لكُرْسِيّ في كلية الآداب جامعة فؤاد فاعتذر عنه قائلا: «إن الترشيح لمثل هذه المناصب تتنازعه عوامل مختلفة من هوى السياسة ورضا الحكم، والمعروف أنهم ينظرون في المنصب إلى المال والجهد ومن لهما يستحق، ولا ينظرون فيه إلى الفضل والكفاية ومن بهما يتصف، وإني أعلم من نفسي، ومن طبعي، أنني لا أقبل هذا الكرسي وإن ذُلِّلَتْ عِقَابُه، وسُهِّلت صِعَاُبه، لأني أفضّل أن أظل بقية حياتي كما كنت جُنْديا متطوعا في القوة الخفيفة من قوى الأدب العربي أرودُ وأنْتَجِع وأكتشف، من غير نظام أتَّبِعُه، ولا قائد أطيعه، ولا جزاء أبتغيه.. ولقد عَرَضَ علي في العام الماضي عميدُ كلية الآداب السابق أن أكون أستاذا زائرا في الكلية، فقلت له والأسى يهدج صوتي، ويقطع كلامي، شكرا يا صديقي وعذرا، لقد تقدمت السن، وتأخرت الصحة، وأوشك الماخِر في عُبَابِ الحياة أن يبلغَ السَّاحِل».
وفي الوقت الذي نجد فيه الجاحظ والزيات يتخذان هذا الموقف الرافض للتقيد بالوظيفة، نجد الرافعي ونجيب محفوظ ينخرطان فيها، كل على طريقته، فقد كانت الوظيفة لهما مصدرا لكسب القوت.
فأما مصطفى صادق الرافعي فقد كان يعمل في صدر شبابه كاتبًا في محكمة طنطا، وكان يقوم بأعباء وظيفته ويؤدي عمله على أكمل وجه، لكن نفس الأديب الحر التي تسكن جوانحه، حالت دون الالتزام بدقة مواعيد العمل، فكان يذهب إلى عمله متأخرًا ويغادره في الوقت الذي يحلو له من غير تقصير فيه، حتى أطلق عليه كتبة المحامين وأصحاب المصالح «عمدة المحكمة«، وقد قيض الله له من رؤساء العمل، من راعى هذه الخصيصة فيه، فسمح له بقدر من الحرية أعانه على الجمع بين أعباء الوظيفة، ومطالب الإبداع.
وأما نجيب محفوظ فقد كان مخلصا لفنه كل الإخلاص، وكان موظفا كذلك مخلصا لوظيفته كل الإخلاص، غير أنه كان يرى أن إنتاجه الأدبي هو قيمته الحقيقية، وأن الترقي في الوظائف والمناصب ليس بشيء، ولهذا تخلق بأخلاق الكبار، وترك أخلاق الموظفين، حتى ليقول عنه يحيى حقي: «ليس في نجيب ذرة واحدة من طبائع الموظفين، ليس في حياته كلها سعي وراء درجة أو علاوة، أو افتتان ببريق السلطة أو أبهة المنصب، ولا تستغرب إذا قلت لك إنه -مع ذلك- موظف مثالي، لم يحدث له أن تأخر عن الوصول إلى مكتبه دقيقة واحدة بعد دقة الساعة معلنة الثامنة صباحا. كان هذا دأبه حتى وهو يشغل المنصب الرفيع بوصف مديرا عاما لمؤسسة دعم السينما. إنه يفعل ذلك لأنه حريص على أداء واجبه، وأن يكون قدوة لغيره – بل- وهذه هي الحقيقة – أن يبعد عن نفسه وجع الدماغ ليفرغ إلى فنه«.
لم تذكرت هذه المواقف كلها ولم رويتها الآن مجتمعة؟!
قد أبوح بذلك في وقت قريب . . وقد لا أبوح!
لكنها مواقف جديرة بالتأمل والاحتذاء . .