الشك، أحد أهم مقومات العِلم، وأقوى محركات تقدمه وتطوره.. فالعلم لا يعرف اليقين، بل يهز أركانه، ولا يعرف التقديس والمطلق، وتاريخياً، كلما ظهرت نظرية علمية خرج من ينتقدها، أو يشكك بها، وكان هذا من شأنه تصليب شوكة العلم، وتدعيم أساساته، وسد الفجوات التي قد تظهر في أي نظرية.
وهنالك فرق بين الشك المبني على أسس علمية، مهما كانت دوافعه وأهدافه، وبين التشكيك الهادف إلى تقويض أساسات العلم، سواء كان بدوافع شخصية، أو لخدمة أجندات معينة.
يقوم العلم على أسس الاستقراء والبحث والتجريب والتكرار وصولاً إلى صياغة الفرضية، والتي تظل موضع مراجعة ونقد، بهدف الضبط والقياس والتنبؤ..إلخ، ومع ذلك، فإن هذا المنهج العلمي قد يوصل إلى نتائج مغلوطة، إما عن غير قصد، نتيجة خلل في إحدى الخطوات، أو عن قصد من خلال إخفاء أو تجاهل جانب معين، أو بسبب قراءة انتقائية، وهذه الحالة أنتجت ما يُعرف بالعلوم الزائفة، كما أنتجت علم التضليل، أو علم الجهل (Agnotology)، أو صناعة الجهل، وهي مسمّيات لعلمٍ تقنيّ يقوم بإنتاج معلومات مزيّفة ونشرها على أنّها حقائق، ومحو حقائق واعتبارها مزيّفة، وهو من بين أهمّ أدوات تثبيت السلطة المستبدة وإدارة وعي المجتمع، أو صناعة الرأي العام بما يخدم أصحاب المصالح، ونشر الجهل بطرق علمية احترافية.
في هذا السياق، يمكن ذكر ثلاثة أنواع على الأقل من حقول علم التضليل: الحقل الأيديولوجي، والحقل التجاري، والحقل السياسي؛ أي العلوم التي يكون هدفها الوصول إلى نتائج معينة تخدم فكرة أيديولوجية، أو غرض تجاري، أو تبرير ممارسات سياسية.
وللتوضيح يمكن استعراض بعض الأمثلة:
مثلاً لتبرير سلوك المستعمرين العنصري تجاه السكان الأصليين، أو تجاه شعوب العالم الثالث خرج فريق من العلماء بنظرية تفوق العنصر الأبيض جينياً، أي امتلاك الرجل الأبيض (المستعمِر) صفات جينية متفوقة، وغير موجودة لدى السود والملونين!
كما روجت النازية لآرائها العرقية العنصرية، والتي كانت في الأساس مجرد علوم زائفة قائمة على بعض الأنثروبولوجيا التي أُسيء فهمها. أو نظرية صراع الحضارات، حيث زعم «هنتنجتون» أنَّ صراعات ما بعد الحرب الباردة لن تكون بين الدول القومية واختلافاتها السياسية والاقتصادية، بل ستكون الاختلافات الثقافية هي المحرك الرئيس للنزاعات بين البشر في المستقبل.
وفي المجال الأيديولوجي، يبرز مثال دحض نظرية التطور، حيث خصص بعض الكنائس موازنات ضخمة لتجنيد علماء، ومولت أبحاثهم بسخاء للتشكيك بنظرية التطور، واستبدالها بنظريات «علمية» تتماشى مع معتقدات الكنيسة. وكذلك ما يقوم به بعض الدعاة من ترويج مقولات الإعجاز العددي والإعجاز العلمي في القرآن.
أما في المجال التجاري (وهو موضوع المقال) فلعل أبرز مثال ما قامت به شركات التبغ الأميركية حيث جندت مجموعة من العلماء لإنتاج بحوث علمية هدفها التشكيك في البحوث العلمية التي تربط التدخين بالسرطان، والتشكيك بمخاطر السجائر، وتحسين صورة التبغ اجتماعياً.
وأيضاً، ما قامت به شركة مشروبات غازية بعد هبوط مبيعاتها، حيث موّلت باحثين وأكاديميين لتنفيذ مهمة تغيير فهم المجتمع حول أسباب السُمنة، وذلك بتقليل دور المشروبات الغازية في انتشار السمنة وتوجيه اللوم إلى عدم ممارسة الرياضة.
وفي السياق ذاته دأبت كبريات الشركات التي تقوم صناعاتها على السكر (صناعات الشوكولاته والسكاكر والمشروبات الغازية...) على تمويل أبحاث تستهدف توجيه اللوم للدهنيات والكوليسترول كأسباب وحيدة للسمنة وأمراض القلب.. وفي نفس سياق الحرب التجارية بين شركات الصناعات الغذائية قامت الشركات التي تعتمد صناعاتها على اللحوم والبروتينات بتوجيه اللوم للسكر كأحد أهم مسببات أمراض العصر، ومدافعة عن الدهون والكوليسترول!
وكذلك مثال الأبحاث «العلمية» التي تروج لفكرة أن التغيير المناخي مجرد خدعة، وحتى أولئك الذين يقرون بحقيقته تراهم يرجعون أسبابه لعوامل لا دخل للإنسان بها، مثل حركة الأرض البندولية، أو تغير طبيعة إشعاعات الشمس، أو للبراكين، مبرئين المصانع الكبيرة من مسؤوليتها عن تلويث البيئة وانبعاثات غازات الدفيئة..
كل هذه الأبحاث «العلمية» مدفوعة الأجر، وممولة بسخاء، ويتم نشرها على أوسع نطاق بهدف إثارة الشكوك في ذهنية المتلقي، حتى يعيد تشكيل موقفه النفسي وتعديل سلوكه الاستهلاكي بما يتناسب مع أجندات ومصالح هذه الشركات.
اللعبة الذكية التي تمارسها تلك الشركات أنها تستغل أسماء علماء معروفين، وتنتج أبحاثاً باتباع منهج علمي تجريبي، وتقوم بترويجها إعلامياً، وتلك الأبحاث تتضمن معلومات ومفاهيم علمية صحيحة، بمعنى أنها ليست خطأ بالمطلق، لكنها عمدت إلى زج مفاهيمها بطريقة موجهة. تماماً كما يفعل المحامي حين يعتمد نصوصاً قانونية، وبأساليب قانونية صحيحة لتبرئة مجرم وهو يعلم أنه مجرم ويستحق العقوبة.
تعتمد تلك الأبحاث الممولة على منهج بث الخوف، وإثارة الشكوك، وصناعة الحيرة.
وهذا لا يقتصر على الشركات التجارية، بل هو أيضاً نهج الحكومات والنظم السياسية المستبدة لحماية مصالحها ولتمرير أجنداتها، عن طريق صناعة أعداء وهميين لتحشيد الرأي العام، أو بصناعة الرعب ومحاولة إقناع الجماهير بأن السلطة هي من تحميهم، وتضمن أمنهم، أو برفع الشعارات التي تقدس الزعيم، والحزب الحاكم، والمعركة، والصمود.
والوجه الآخر لعلم التجهيل «التضليل الإعلامي»، أو «البروباغندا»، والتي تعني نشر المعلومات بطريقة موجهة أحادية المنظور، وتوجيه مجموعة رسائل مركزة وضمنية بهدف توجيه الرأي العام، والتأثير على المتلقي عاطفياً. أو هي عرض المعلومات بهدف التأثير على المتلقي المستهدَف ولكن بصورة غير صادقة وغير موضوعية، بإعطائه معلومات ناقصة، أو كاذبة، أو إخفاء جزء من الحقيقة. وهذا ما نلمسه بوضوح في الإعلام الحزبي، والإعلام الرسمي، حيث يقلب الحقائق، أو يخفيها، أو يقدمها مشوهة ومجتزأة بما يخدم الأجندات الحزبية والسلطوية.
وهكذا، مع كل ما يضخه علم التضليل، من تقديم أبحاث ودراسات بإطار علمي شكلي، وما تفعله البروباغندا من تقديم معلومات في إطار مهني زائف، ومع كثرة المعلومات المتضاربة يدخل المواطن في دوّامة من الحيرة، حتى يبدو تائهاً وجاهلاً لما يجري من حوله، ومع زيادة العبء النفسي والذهني عليه، سيصعب عليه اتخاذ القرار المناسب والصحيح، وسيقبل ما لا ينبغي قبوله، وسيتجاهل ما يجب فعله، طمعاً في النجاة من هذه الدوامة. وهذه غاية علم التضليل.
وهنالك فرق بين الشك المبني على أسس علمية، مهما كانت دوافعه وأهدافه، وبين التشكيك الهادف إلى تقويض أساسات العلم، سواء كان بدوافع شخصية، أو لخدمة أجندات معينة.
يقوم العلم على أسس الاستقراء والبحث والتجريب والتكرار وصولاً إلى صياغة الفرضية، والتي تظل موضع مراجعة ونقد، بهدف الضبط والقياس والتنبؤ..إلخ، ومع ذلك، فإن هذا المنهج العلمي قد يوصل إلى نتائج مغلوطة، إما عن غير قصد، نتيجة خلل في إحدى الخطوات، أو عن قصد من خلال إخفاء أو تجاهل جانب معين، أو بسبب قراءة انتقائية، وهذه الحالة أنتجت ما يُعرف بالعلوم الزائفة، كما أنتجت علم التضليل، أو علم الجهل (Agnotology)، أو صناعة الجهل، وهي مسمّيات لعلمٍ تقنيّ يقوم بإنتاج معلومات مزيّفة ونشرها على أنّها حقائق، ومحو حقائق واعتبارها مزيّفة، وهو من بين أهمّ أدوات تثبيت السلطة المستبدة وإدارة وعي المجتمع، أو صناعة الرأي العام بما يخدم أصحاب المصالح، ونشر الجهل بطرق علمية احترافية.
في هذا السياق، يمكن ذكر ثلاثة أنواع على الأقل من حقول علم التضليل: الحقل الأيديولوجي، والحقل التجاري، والحقل السياسي؛ أي العلوم التي يكون هدفها الوصول إلى نتائج معينة تخدم فكرة أيديولوجية، أو غرض تجاري، أو تبرير ممارسات سياسية.
وللتوضيح يمكن استعراض بعض الأمثلة:
مثلاً لتبرير سلوك المستعمرين العنصري تجاه السكان الأصليين، أو تجاه شعوب العالم الثالث خرج فريق من العلماء بنظرية تفوق العنصر الأبيض جينياً، أي امتلاك الرجل الأبيض (المستعمِر) صفات جينية متفوقة، وغير موجودة لدى السود والملونين!
كما روجت النازية لآرائها العرقية العنصرية، والتي كانت في الأساس مجرد علوم زائفة قائمة على بعض الأنثروبولوجيا التي أُسيء فهمها. أو نظرية صراع الحضارات، حيث زعم «هنتنجتون» أنَّ صراعات ما بعد الحرب الباردة لن تكون بين الدول القومية واختلافاتها السياسية والاقتصادية، بل ستكون الاختلافات الثقافية هي المحرك الرئيس للنزاعات بين البشر في المستقبل.
وفي المجال الأيديولوجي، يبرز مثال دحض نظرية التطور، حيث خصص بعض الكنائس موازنات ضخمة لتجنيد علماء، ومولت أبحاثهم بسخاء للتشكيك بنظرية التطور، واستبدالها بنظريات «علمية» تتماشى مع معتقدات الكنيسة. وكذلك ما يقوم به بعض الدعاة من ترويج مقولات الإعجاز العددي والإعجاز العلمي في القرآن.
أما في المجال التجاري (وهو موضوع المقال) فلعل أبرز مثال ما قامت به شركات التبغ الأميركية حيث جندت مجموعة من العلماء لإنتاج بحوث علمية هدفها التشكيك في البحوث العلمية التي تربط التدخين بالسرطان، والتشكيك بمخاطر السجائر، وتحسين صورة التبغ اجتماعياً.
وأيضاً، ما قامت به شركة مشروبات غازية بعد هبوط مبيعاتها، حيث موّلت باحثين وأكاديميين لتنفيذ مهمة تغيير فهم المجتمع حول أسباب السُمنة، وذلك بتقليل دور المشروبات الغازية في انتشار السمنة وتوجيه اللوم إلى عدم ممارسة الرياضة.
وفي السياق ذاته دأبت كبريات الشركات التي تقوم صناعاتها على السكر (صناعات الشوكولاته والسكاكر والمشروبات الغازية...) على تمويل أبحاث تستهدف توجيه اللوم للدهنيات والكوليسترول كأسباب وحيدة للسمنة وأمراض القلب.. وفي نفس سياق الحرب التجارية بين شركات الصناعات الغذائية قامت الشركات التي تعتمد صناعاتها على اللحوم والبروتينات بتوجيه اللوم للسكر كأحد أهم مسببات أمراض العصر، ومدافعة عن الدهون والكوليسترول!
وكذلك مثال الأبحاث «العلمية» التي تروج لفكرة أن التغيير المناخي مجرد خدعة، وحتى أولئك الذين يقرون بحقيقته تراهم يرجعون أسبابه لعوامل لا دخل للإنسان بها، مثل حركة الأرض البندولية، أو تغير طبيعة إشعاعات الشمس، أو للبراكين، مبرئين المصانع الكبيرة من مسؤوليتها عن تلويث البيئة وانبعاثات غازات الدفيئة..
كل هذه الأبحاث «العلمية» مدفوعة الأجر، وممولة بسخاء، ويتم نشرها على أوسع نطاق بهدف إثارة الشكوك في ذهنية المتلقي، حتى يعيد تشكيل موقفه النفسي وتعديل سلوكه الاستهلاكي بما يتناسب مع أجندات ومصالح هذه الشركات.
اللعبة الذكية التي تمارسها تلك الشركات أنها تستغل أسماء علماء معروفين، وتنتج أبحاثاً باتباع منهج علمي تجريبي، وتقوم بترويجها إعلامياً، وتلك الأبحاث تتضمن معلومات ومفاهيم علمية صحيحة، بمعنى أنها ليست خطأ بالمطلق، لكنها عمدت إلى زج مفاهيمها بطريقة موجهة. تماماً كما يفعل المحامي حين يعتمد نصوصاً قانونية، وبأساليب قانونية صحيحة لتبرئة مجرم وهو يعلم أنه مجرم ويستحق العقوبة.
تعتمد تلك الأبحاث الممولة على منهج بث الخوف، وإثارة الشكوك، وصناعة الحيرة.
وهذا لا يقتصر على الشركات التجارية، بل هو أيضاً نهج الحكومات والنظم السياسية المستبدة لحماية مصالحها ولتمرير أجنداتها، عن طريق صناعة أعداء وهميين لتحشيد الرأي العام، أو بصناعة الرعب ومحاولة إقناع الجماهير بأن السلطة هي من تحميهم، وتضمن أمنهم، أو برفع الشعارات التي تقدس الزعيم، والحزب الحاكم، والمعركة، والصمود.
والوجه الآخر لعلم التجهيل «التضليل الإعلامي»، أو «البروباغندا»، والتي تعني نشر المعلومات بطريقة موجهة أحادية المنظور، وتوجيه مجموعة رسائل مركزة وضمنية بهدف توجيه الرأي العام، والتأثير على المتلقي عاطفياً. أو هي عرض المعلومات بهدف التأثير على المتلقي المستهدَف ولكن بصورة غير صادقة وغير موضوعية، بإعطائه معلومات ناقصة، أو كاذبة، أو إخفاء جزء من الحقيقة. وهذا ما نلمسه بوضوح في الإعلام الحزبي، والإعلام الرسمي، حيث يقلب الحقائق، أو يخفيها، أو يقدمها مشوهة ومجتزأة بما يخدم الأجندات الحزبية والسلطوية.
وهكذا، مع كل ما يضخه علم التضليل، من تقديم أبحاث ودراسات بإطار علمي شكلي، وما تفعله البروباغندا من تقديم معلومات في إطار مهني زائف، ومع كثرة المعلومات المتضاربة يدخل المواطن في دوّامة من الحيرة، حتى يبدو تائهاً وجاهلاً لما يجري من حوله، ومع زيادة العبء النفسي والذهني عليه، سيصعب عليه اتخاذ القرار المناسب والصحيح، وسيقبل ما لا ينبغي قبوله، وسيتجاهل ما يجب فعله، طمعاً في النجاة من هذه الدوامة. وهذه غاية علم التضليل.