كاهنة عباس - رسالة مفتوحة الى وزيرة الثقافة بالجمهورية التونسية السيدة حياة قطاطة القرمازي

رسالة مفتوحة إلى وزيرة الثقافة​

إلى وزيرة الثقافة السيدة حياة قطاطة القرمازي :

لا شك أنكم على دراية تامة، أن التعرف على ذاكرة شعب ما وعلى خصوصياته، يستوجب الرجوع إلى فنونه المكتوبة والمرئية وعلومه وفكره، لأنها تعكس رؤيته للعالم للشعوب الأخرى ولنفسه ، فما بقي من الحضارات التي اندثرت هي منجزاتها الفنية والعلمية ،على سبيل المثال المنجزات المعمارية العظيمة للفراعنة رسومها ومنحوتاتها ،الإرث اليوناني وما تركه من فلسفة وأدب ونظام سياسي ،قوانين روما ومعمارها وآدابه وعلومها، ونحن إن ذكرنا بلدا ما ، يتبادر إلى أذهاننا كبار شعرائها وأدبائها ومفكريها ،على سبيل المثال يقترن اسم بوكشين ودستيوفسكي وتلستوي بروسا ويقترن اسم فيكتور ايقو وبلزاك وديكاترت وروسو وفولتار بفرنسا ويقترن اسم شيكسبير بانقلترا ويقترن اسم طاغور بالهند واسم نجيب محفوظ بمصر وهي أسماء نوردها على سبيل الذكر لا الحصر، ومرد ذلك ، أن هؤلاء هم الذين وصفوا وعبروا عما تتميز به شعوبهم من قيم جمالية فكرية وروحية وثقافية، والسؤال الذي أود توجهيه إليكم سيدتي الوزيرة : لو طلب منا أن نعرف بالخصائص الجمالية والفنية للشعب التونسي، ماذا يمكننا أن نقدم لغيرنا من الشعوب؟ هل لدينا مراجع تعرف مثلا بالأدب التونسي على مدى التاريخ، يمكننا تقديمها لباحث أو مؤسسة أو جهة للقطع مع الصورة الفلكلورية لبلادنا التي لا تعبر عن ثراء تراثها وتعدده ولا عن روحها ؟

من المعلوم ،أن الرهان الثقافي بات من أكبر رهانات المستقبل، لا على المستوى المحلي فحسب بل كذلك على المستوى الدولي ،لأسباب عديدة منها ضرورة الحفاظ على الخصائص الثقافية لكل بلد ، أهمية التواصل بين الثقافات ، ما تضطلع به الثقافة من دور داخل المجتمعات من أجل تماسك نسيجها وانسجامها واستيعاب خلافاتها ، قدرتها على إنتاج الثروة المادية والمعنوية ،لذلك لا يمكن لنا تحسين وضعنا الاجتماعي والاقتصادي دون تغيير الوضع الثقافي الحالي وإعادة النظر في الخيارات الثقافية وإدماج الإنتاج الثقافي في الدورة الاقتصادية كي يساهم في خلق الثروة .

ومن تلك الخيارات الاهتمام بالإنتاج الأدبي التونسي ،إذ يعبر اختيار صورة الشاعر التونسي الكبير أبي القاسم الشابي كشخصية اعتبارية ونسخها على أوراقنا النقدية عن مكانة الثقافة وقيمتها في تأسيس الدولة الوطنية،ومع ذلك، ليس لدينا مرجعا تاريخيا يضم الشعراء لا السابقين ولا اللاحقين للشاعر أبي القاسم الشابي ،حتى تكتسب تلك الرمزية بعدها التاريخي ، كذلك الشأن بالنسبة للأديب محمود المسعدي، إذ لا يمكن تقدير ما أضافه للأدب التونسي في غياب مراجع تضم الأجيال السابقة واللاحقة له.

وتجدر الإشارة أن الاعتراف بهاتين الشخصيتين ، لم يكن وليد موهبتهما الفذة، التي لا نشكك فيها، بل إنه تحقق بفضل إرادة سياسية، اختارت أن يكون الشاعر أبي القاسم الشابي صوتا من الأصوات المناهضة للاستعمار والمنادية بالحرية، وأن يكون الأديب محمود المسعدي رائدا من رواد الأدب الفكري من خلال ما طرحه من قضايا إنسانية.

وفي هذا المجال، لا يسعنا إلا الإشارة إلى الدراسات والأعمال النقدية التي تناولت بالدرس الأدب التونسي، فرغم أهميتها وقيمتها العلمية، إلا أنها ليست كافية ،إذ مازلنا نفتقد إلى حد اليوم إلى مرجع كامل وشامل يؤرخ للأدب في بلادنا ،فيبرز اتجاهاته وخصوصياته ومراحله التاريخية ،ينجزه فريق من الباحثين المختصين ويكون في مقام الانطولوجيا التي يمكن اعتمادها سواء في مجال البحث الأكاديمي أو للتعريف بالأدب التونسي بصفة عامة أي خارج دائرة الاختصاص.

فغياب الذاكرة الأدبية في بلادنا، معناه غياب تاريخ يروي ما عرفته شعوبنا من ويلات وهزات وانتكاسات وانتصارات وتحديات ، خاصة وإذا عرفنا أن التاريخ الرسمي لا يحتفظ بمثل هذه الذاكرة، باعتباره يتناول المادة التاريخية من وجهة نظر موضوعية، والنتيجة الحتمية لذلك ،أننا نعيش الراهن من خلال ما ينتجه كتابنا في الحاضر، دون التفكير في التأـسيس لإرث أدبي يستفيد منه أبناؤنا ، إلى جانب إهمالنا لهذا التراكم الهائل الذي أنتجته الأجيال المتعاقبة ورسخته الثورة بضمان حرية التعبير ورفع الرقابة على الإبداع، أدى إلى ظهور أدب يبرز ما تزخر به بلادنا من تعددية وثراء وثقافة، يتجاوز الصورة التي تشاع عنها من قبل جهات متعددة: سواء من قبل وسائل الإعلام أو شبكات التواصل الاجتماعي أو الإشهار بشتى أصنافه.

لقد بات من الضروري أيضا، إنتاج مرجعا لتصحيح ما ينشر ويذاع بالانترنت من أخطاء وصلت إلى حد ذكر من لم ينتج كتابا أدبيا واحدا من بين الكتاب التونسيين والسهو عن ذكر أسماء أضافت الكثير للأدب التونسي ، وهي ظاهرة غريبة عجيبة إن دلت على شيء، فإنها تدل على غياب كل المقاييس الموضوعية للتعريف بالكتاب التونسيين .

لذلك، فإننا نقترح عليكم سيادة الوزيرة ، تكوين لجنة من المختصين في المجال الأدبي، تتوفر فيها صفات الضرورية من موضوعية ونزاهة، لتأليف مرجع يؤرخ للأدب التونسي ويسعى إلى التوثيق لأهم مؤلفات الكتاب التونسيين بشتى مشاربهم في بلادنا ،دون إقصاء ولا تهميش ، يكون من بين أهدافه إثراء ذاكرتنا الجماعية.

كاهنة عباس
نشر هذا المقال بجريدة الشارع المغاربي بتاريخ 2022/01/18 الصفحة 24
التفاعلات: نقوس المهدي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...