قبل الزواج كانا يتحابان بعفة وطهارة.
وكانت بداية حبهما لقاء جميلا في أحد شواطئ البحر، حينما رآها تمر أمامه في الأفق الأزرق الذي يعانق فيه المدى المائي سعة السماء. كانت هي تتهدهد في كامل زينتها، بقامتها النحيفة وشعرها الأشقر ومظلتها الفاتحة. وكان هو يخلط بين الوله الذي ولدته فيه تلك الفتاة وبين الشعور الغامض والقوي الذي يبعثه في روحه وقلبه وشرايينه ذلك النسيم المحمل بالملوحة والحيوية، والمفعم بأشعة الشمس وموجات المحيط.
لقد أحبته لأنه غازلها وكان شابا وغنيا وطيبا وحساسا، أحبته لأنه من الطبيعي أن تحب الفتيات الشبان الذين يقولون لهن الكلمات الرقيقة العذبة. لهذا، خلال ثلاثة أشهر، عاشا جنبا إلى جنب، العينان في العينين، واليدان في اليدين؛ لا يفترقان. وكان لتحية الصباح التي يتبادلانها قبل الذهاب إلى الحمام، ولهمسات المساء فوق المائدة أو تحت نجوم السماء وسكون الليل طعم القبلات المحمومة على الرغم من أن شفاهما لم تلتقيا أبدا.
وحينما يغمضان أعينهما يشرع كل منهما في الحلم بالآخر، وحالما يستيقظان لا يكف كل منهما عن التفكير في الثاني. ودون أن ينطق بكلمة ينادي الآخر ويعبر بروحه وجسمه عن رغبته فيه.
بعد الزواج صار حبهما حسيا؛ في البداية نوعا من الشبق والهيجان المتواصل، ثم ودا ساميا ممزوجا بالمداعبات اللبقة واللمسات الشاعرية اللطيفة والخليعة. وغابت عن أعينهما تلك النظرات البريئة إذ أن كل حركاتهما كانت تذكـّرهما دفئ ساعات الليل الحميمة.
أما الآن، ودون أن يتجرأ أي منهما على الاعتراف به، وربما دون أن يدركانه بعد، فقد بدأ كل منهما يمل من الآخر. رغم ذلك فهما لا يزالان يتحابان. لكن لم يعد لدى كل منهما ما يكشفه للآخر. ليس هنالك شيء لم يكررا فعله مرات ومرات، لا شيء جديد يمكن أن يتعلمه أحدهما من الآخر: لا اندفاع طارئ ولا نبرة مبتدعة تضفي على الكلمات المكررة والمملة رونقا جديدا.
ومع ذلك كانا يجبران نفسيهما على إيقاظ نار الحب التي عرفاها في إثناء لقاءاتهما الأولى؛ اصطنعا حيلا بريئة وألعابا ساذجة أو معقدة، وقاما بمحاولات خائبة عديدة لكي يضرما لهيب الشوق في قلبيهما ويبعثا في شرايينهما هيجان شهر العسل. وقد يحدث في بعض المرات، بعد أن يبذلا جهودا مضنية في شحذ رغبتهما، أن ينجحا في اصطياد لحظات من الجنون المصطنع الذي تتبعه مباشرة لحظات طويلة من الضجر والتقزز. جرّبا ضوء القمر، والنزهات تحت أوراق الشجر في الليالي الباردة، وضفاف الأنهار الغارقة في الضباب، وازدحام الأعياد الشعبية…
وذات صباح قالت “هنريت” لـ”بول”:
– ألا يمكن أن تصطحبني إلى الملهى؟
– بالتأكيد يا عزيزتي.
– إلى ملهى مشهور جدا.
– بكل سرور.
نظر إليها متسائلا بعينيه ومخمنا أنها تفكر في شيء ما لا تريد أن تقوله. وأضافت:
– إلى ملهى …. كما تعرف… كيف أشرح لك هذا؟ …. إلى ملهى راق. إلى أحد تلك الملاهي التي يعطي فيها بعض الرجال والنساء مواعيد لبعضهم بعضا.
فابتسم قائلا: فهمت: تقصدين كابينة داخل مطعم كبير؟
– نعم، نعم … لكن داخل مطعم كبير يعرفك فيه الجميع وسبق أن تناولت فيه الطعام … تعرف أريد أن … لا، لن أتجرأ أبدا على هذا.
– بلى، قولي، يا عزيزتي.. فيما بيننا هذا لا يعني شيئا. ليس هنالك بيننا أي سر.
– لا، لن أجرأ.
– هيا لا تقومي بدور البريء هذا! تكلمي!
– إذن، إذن… أريد.. أن تعـدني عشيقتك. نعم عشيقتك، وأن ينظر لي الخدم الذين لا يعرفون أنك متزوج بصفتي عشيقتك. وأريدك أنت أيضا أن تصدق أنني عشيقتك.. لمدة ساعة.. في ذلك المكان. وسأؤمن أنا نفسي أنني عشيقتك … سأرتكب خطيئة كبيرة. سأخونك… معك. إنه أمر قبيح. لكني أريده.. لا تجعلني أحمر خجلا هكذا! لا يمكنك أن تتصور القلق والإحراج الذي يسببهما لقائي بك فسي مكان مريب كهذا… مكان يمارس فيه العشق كل مساء، نعم كل مساء !إنه أمر قبيح وأشعر بالخجل. لا تنظر إليّ هكذا!
ورد عليها وهو يضحك مرحا:
– نعم سنذهب هذا المساء.. إلى مكان يعرفني فيه الناس جيدا.
وفي حوالي الساعة السبعة مساءً كانا يرتقيان سلم أحد المطاعم الكبيرة الواقعة في أحد شوارع باريس. كان يقودها وعلى شفتيه بدت ابتسامة المنتصر الذي ضفر بفريسته. أما هي فقد وضعت على وجهها قناعا شفافا. وحالما دخلا كابينة مؤثثة بأربعة كراسي وصوفة عريضة من المخمل الأحمر جاء إليهما مدير المطعم بملابسه السوداء وقدم لهما قائمة الطعام التي أخذها بول وناولها بدوره إلى زوجته قائلا:
– ماذا تريدين أن تتناولي؟
– لا أدري. ماذا يأكل الناس هنا؟
حينئذ بينما هو يخلع معطفه ويناوله إلى الخادم شرع بول يقرأ لزوجته قائمة الطعام:
– وجبة دسمة: مرق، دجاج، فحسة أرانب، شروخ بالطريقة الأمريكية، سلطة خضار متبلة وحلويات وسنشرب شمبانيا.
في أثناء ذلك كان مدير المطعم ينظر إلى الفتاة وهو يبتسم. وحين استعاد قائمة الطعام قال بصوت هادئ:
– السيد بول يريد مشروبا ساخنا أو شمبانيا؟
– سنشرب شمبانيا نقية.
بدت العادة على وجه هنريت حينما أدركت أن مدير المطعم يعرف جيدا اسم زوجها. وبعدما أحضر لهما الأكل جلسا جنبا إلى جنب فوق الصوفة وأخذا يأكلان. وكانت عشر شمعات تضيء الكابينة وينعكس نورها في المرايا المغطاة بآلاف الأسماء التي نقشت بزوايا الأحجار الكريمة والتي تبدو هكذا كأنها بيت عنكبوت.
كانت هنريت تشرب الكأس تلو الأخرى لكي تصبح أكثر مرحا على الرغم من أنها شعرت برأسها يثقل من الكأس الأولى. وبول الذي أثارته الذكريات وأخذت عيناه تلمعان، لم يكف عن تقبيل يد زوجته المنفعلة والسعيدة والتي انتابها إحساس غريب من وجودها في هذا المكان المريب. اثنان من الخدم المتجهمين، الصامتين، المتعودين على رؤية كل شيء ونسيان كل شيء وعدم الدخول إلا في اللحظات المناسبة والخروج في الدقائق الحرجة، كانا يجيئان ويروحان في هدوء تام.
في منتصف العشاء، باتت هنريت منتشية، منتشية تماما. وبول، على غير عادته في الأيام الماضية صار ظريفا وأخذ يهرس ركبتها بشدة. وسرعان ما صارت وجنتا هنريت حمراء وعيناها تشعان بالحيوية والجرأة، ولم تلبث الفتاة أن بدأت تثرثر:
– أوه بول! اعترف! هل تعلم؟ أنني أريد أن أعرف كل شيء.
– تعرفين ماذا يا عزيزتي؟
– لا أتجرأ أن أقوله لك.
– قولي على كل حال.
– هل كانت لديك عشيقات؟ … كثيرات… قبلي؟
كان مترددا. ومستغربا قليلا. لا يدري هل ينبغي عليه أن يخفي مغامراته أو يتفاخر بها.
وأضافت هي:
– أوه! من فضلك! أرجوك قل لي! هل كان لديك منهن الكثير؟
– عدد قليل.
– كم؟
– لا أدري بالضبط. هل نعلم نحن الرجال مثل هذه الأشياْء؟
– ألم تعدهن؟
– لا أبدا.
– أوه! إذن كان لديك منهن الكثير؟
– نعم، أكيد.
– كم تقريبا؟ فقط بالتقريب؟
– لكني لا أدري أبدا يا عزيزتي. في بعض السنوات كان لدي الكثير . وفي سنوات أخرى أقل.
– كم في السنة، قل!
– أحيانا عشرون، ثلاثون. وأحيانا أربع أو خمس فقط.
– أوه! هذا يعني أنه كان لديك أكثر من مئة امرأة.
– نعم، تقريبا.
– أوه! كم هذا مقزز!
– لماذا مقزز؟
– لأنه مقزز. حينما نفكر فيه… كل هؤلاء النساء… عرايا.. وكل مرة الشيء نفسه… أوه! إنه مقرف على كل حال… أكثر من مئة امرأة!
صُدم بول أن تحكم زوجته أن ذلك مقزز. ورد عليها بتلك النبرة المتعالية التي يستخدمها الرجال ليفهموا النساء أنهن يقمن بحماقة ما:
-هذا هو المضحك، حقا. إذا كان الأمر مقززا أن تكون لديك مئة امرأة، فهو أيضا مقزز حينما يكون لديك واحدة.
– أوه! لا. مطلقا.
– لماذا لا؟
– لأنّ المرأة … علاقة، لأنها… حب يربطك بها. بينما مئة امرأة…! إنها قذارة! سؤ سلوك! لا أستطيع أن أفهم كيف يمكن أن يسمح رجل لنفسه أن يحتك بهؤلاء الفتيات الوسخات كلهن!
– لا، إنهن نظيفات جدا.
– لا يمكنهن أن يكن نظيفات وهن يقمن بالمهنة التي يقمن بها.
– بالعكس تماما؛ إنهن نظيفات بحكم المهنة التي يقمن بها.
– أوه! حينما تتصور أنهن الليلة الماضية يفعلن الشيء نفسه مع رجل آخر! يا للفضاعة!
– ليس أكثر فضاعة من الشرب في هذا الكوب الذي شرب فيه لا أدري من هذا الصباح، والذي غُسل بعناية أقل، بالتأكيد.
– أوه! اسكت! إنك تستفزني.
– إذن لماذا تسألينني إن كان لدي عشيقات؟
– حسنا، قل لي؛ هل كانت عشيقاتك، المئة، كلهن فتيات؟
– لا.
– من هن إذن؟
– ممثلات، عاملات، وبعض الحظيات…
– كم من هؤلاء الأخيرات؟
– ست.
– ست فقط!
– نعم.
– هل كن جميلات؟
– نعم طبعا.
– أجمل من الفتيات؟
– لا.
– أيهن كنت تفضل: المحظيات أو الفتيات؟
– الفتيات.
– أوه! كم أنت قذر! لماذا هكذا؟
– لأنني لا أحب أبدا التفنن والاحتراف.
– أوه! يا للهول! إنك متوحش؛ هل تعرف؟ قل لي: هل يسليك أن تتنقل هكذا من فتاة إلى أخرى؟
– نعم.
– كثيرا؟
– كثيرا.
– ماذا كان يسليك؟ ألم يكن يشبهن بعضهن بعضا؟
– لا. أبدا.
– لكن النساء يتشابهن!
– أبدا.
– ولا في أي شيء؟
– ولا في أي شيء.
– إن هذا لمضحك. ما هو المختلف لديهن؟
– كل شيء.
– الجسم؟
– بالتأكيد، الجسم.
– الجسم بأكمله؟
– نعم الجسم بأكمله.
– وماذا أيضا؟
– طريقة التقبيل، والكلام، والهمس….
– آه! أنه لمسلٍِ أنْ تـُغيـّر!
– بالطبع.
– وهل الرجال مختلفون؟
– هذا؟…. لا أدري.
– لا تدري؟
– لا.
– ينبغي أن يكونوا مختلفين.
– نعم. بالتأكيد.
وظلت هنريت واجمة في مكانها، تفكر وكأس الشمبانيا في يدها. كان مليئا. شربته دفعة واحدة. ثم وضعته فوق الطاولة وطوقت زوجها بذراعيها، وهمست في فمه:
– أوه! عزيزي، كم أحبك!
واحتضنها بقوة … واضطر أحد الخدم الذي كان يهم بالدخول إلى التقهقر وأغلق خلفه الباب. وتوقفت الخدمة لمدة خمس دقائق تقريبا. وحينما ظهر مدير المطعم مرة ثانية بوقاره وقامته المهيبة، حاملا الفواكه كانت هنريت تحمل كأسا أخرى بين أصابعها، وتحملق في السائل الأصفر الشفاف الذي بداخله كما لو كانت تبحث فيه عن أشياء مجهولة ومرغوبة. ثم همهمت بصوت حالم: “أوه! نعم، لا شك أنه سيكون مسليا…”
.
وكانت بداية حبهما لقاء جميلا في أحد شواطئ البحر، حينما رآها تمر أمامه في الأفق الأزرق الذي يعانق فيه المدى المائي سعة السماء. كانت هي تتهدهد في كامل زينتها، بقامتها النحيفة وشعرها الأشقر ومظلتها الفاتحة. وكان هو يخلط بين الوله الذي ولدته فيه تلك الفتاة وبين الشعور الغامض والقوي الذي يبعثه في روحه وقلبه وشرايينه ذلك النسيم المحمل بالملوحة والحيوية، والمفعم بأشعة الشمس وموجات المحيط.
لقد أحبته لأنه غازلها وكان شابا وغنيا وطيبا وحساسا، أحبته لأنه من الطبيعي أن تحب الفتيات الشبان الذين يقولون لهن الكلمات الرقيقة العذبة. لهذا، خلال ثلاثة أشهر، عاشا جنبا إلى جنب، العينان في العينين، واليدان في اليدين؛ لا يفترقان. وكان لتحية الصباح التي يتبادلانها قبل الذهاب إلى الحمام، ولهمسات المساء فوق المائدة أو تحت نجوم السماء وسكون الليل طعم القبلات المحمومة على الرغم من أن شفاهما لم تلتقيا أبدا.
وحينما يغمضان أعينهما يشرع كل منهما في الحلم بالآخر، وحالما يستيقظان لا يكف كل منهما عن التفكير في الثاني. ودون أن ينطق بكلمة ينادي الآخر ويعبر بروحه وجسمه عن رغبته فيه.
بعد الزواج صار حبهما حسيا؛ في البداية نوعا من الشبق والهيجان المتواصل، ثم ودا ساميا ممزوجا بالمداعبات اللبقة واللمسات الشاعرية اللطيفة والخليعة. وغابت عن أعينهما تلك النظرات البريئة إذ أن كل حركاتهما كانت تذكـّرهما دفئ ساعات الليل الحميمة.
أما الآن، ودون أن يتجرأ أي منهما على الاعتراف به، وربما دون أن يدركانه بعد، فقد بدأ كل منهما يمل من الآخر. رغم ذلك فهما لا يزالان يتحابان. لكن لم يعد لدى كل منهما ما يكشفه للآخر. ليس هنالك شيء لم يكررا فعله مرات ومرات، لا شيء جديد يمكن أن يتعلمه أحدهما من الآخر: لا اندفاع طارئ ولا نبرة مبتدعة تضفي على الكلمات المكررة والمملة رونقا جديدا.
ومع ذلك كانا يجبران نفسيهما على إيقاظ نار الحب التي عرفاها في إثناء لقاءاتهما الأولى؛ اصطنعا حيلا بريئة وألعابا ساذجة أو معقدة، وقاما بمحاولات خائبة عديدة لكي يضرما لهيب الشوق في قلبيهما ويبعثا في شرايينهما هيجان شهر العسل. وقد يحدث في بعض المرات، بعد أن يبذلا جهودا مضنية في شحذ رغبتهما، أن ينجحا في اصطياد لحظات من الجنون المصطنع الذي تتبعه مباشرة لحظات طويلة من الضجر والتقزز. جرّبا ضوء القمر، والنزهات تحت أوراق الشجر في الليالي الباردة، وضفاف الأنهار الغارقة في الضباب، وازدحام الأعياد الشعبية…
وذات صباح قالت “هنريت” لـ”بول”:
– ألا يمكن أن تصطحبني إلى الملهى؟
– بالتأكيد يا عزيزتي.
– إلى ملهى مشهور جدا.
– بكل سرور.
نظر إليها متسائلا بعينيه ومخمنا أنها تفكر في شيء ما لا تريد أن تقوله. وأضافت:
– إلى ملهى …. كما تعرف… كيف أشرح لك هذا؟ …. إلى ملهى راق. إلى أحد تلك الملاهي التي يعطي فيها بعض الرجال والنساء مواعيد لبعضهم بعضا.
فابتسم قائلا: فهمت: تقصدين كابينة داخل مطعم كبير؟
– نعم، نعم … لكن داخل مطعم كبير يعرفك فيه الجميع وسبق أن تناولت فيه الطعام … تعرف أريد أن … لا، لن أتجرأ أبدا على هذا.
– بلى، قولي، يا عزيزتي.. فيما بيننا هذا لا يعني شيئا. ليس هنالك بيننا أي سر.
– لا، لن أجرأ.
– هيا لا تقومي بدور البريء هذا! تكلمي!
– إذن، إذن… أريد.. أن تعـدني عشيقتك. نعم عشيقتك، وأن ينظر لي الخدم الذين لا يعرفون أنك متزوج بصفتي عشيقتك. وأريدك أنت أيضا أن تصدق أنني عشيقتك.. لمدة ساعة.. في ذلك المكان. وسأؤمن أنا نفسي أنني عشيقتك … سأرتكب خطيئة كبيرة. سأخونك… معك. إنه أمر قبيح. لكني أريده.. لا تجعلني أحمر خجلا هكذا! لا يمكنك أن تتصور القلق والإحراج الذي يسببهما لقائي بك فسي مكان مريب كهذا… مكان يمارس فيه العشق كل مساء، نعم كل مساء !إنه أمر قبيح وأشعر بالخجل. لا تنظر إليّ هكذا!
ورد عليها وهو يضحك مرحا:
– نعم سنذهب هذا المساء.. إلى مكان يعرفني فيه الناس جيدا.
وفي حوالي الساعة السبعة مساءً كانا يرتقيان سلم أحد المطاعم الكبيرة الواقعة في أحد شوارع باريس. كان يقودها وعلى شفتيه بدت ابتسامة المنتصر الذي ضفر بفريسته. أما هي فقد وضعت على وجهها قناعا شفافا. وحالما دخلا كابينة مؤثثة بأربعة كراسي وصوفة عريضة من المخمل الأحمر جاء إليهما مدير المطعم بملابسه السوداء وقدم لهما قائمة الطعام التي أخذها بول وناولها بدوره إلى زوجته قائلا:
– ماذا تريدين أن تتناولي؟
– لا أدري. ماذا يأكل الناس هنا؟
حينئذ بينما هو يخلع معطفه ويناوله إلى الخادم شرع بول يقرأ لزوجته قائمة الطعام:
– وجبة دسمة: مرق، دجاج، فحسة أرانب، شروخ بالطريقة الأمريكية، سلطة خضار متبلة وحلويات وسنشرب شمبانيا.
في أثناء ذلك كان مدير المطعم ينظر إلى الفتاة وهو يبتسم. وحين استعاد قائمة الطعام قال بصوت هادئ:
– السيد بول يريد مشروبا ساخنا أو شمبانيا؟
– سنشرب شمبانيا نقية.
بدت العادة على وجه هنريت حينما أدركت أن مدير المطعم يعرف جيدا اسم زوجها. وبعدما أحضر لهما الأكل جلسا جنبا إلى جنب فوق الصوفة وأخذا يأكلان. وكانت عشر شمعات تضيء الكابينة وينعكس نورها في المرايا المغطاة بآلاف الأسماء التي نقشت بزوايا الأحجار الكريمة والتي تبدو هكذا كأنها بيت عنكبوت.
كانت هنريت تشرب الكأس تلو الأخرى لكي تصبح أكثر مرحا على الرغم من أنها شعرت برأسها يثقل من الكأس الأولى. وبول الذي أثارته الذكريات وأخذت عيناه تلمعان، لم يكف عن تقبيل يد زوجته المنفعلة والسعيدة والتي انتابها إحساس غريب من وجودها في هذا المكان المريب. اثنان من الخدم المتجهمين، الصامتين، المتعودين على رؤية كل شيء ونسيان كل شيء وعدم الدخول إلا في اللحظات المناسبة والخروج في الدقائق الحرجة، كانا يجيئان ويروحان في هدوء تام.
في منتصف العشاء، باتت هنريت منتشية، منتشية تماما. وبول، على غير عادته في الأيام الماضية صار ظريفا وأخذ يهرس ركبتها بشدة. وسرعان ما صارت وجنتا هنريت حمراء وعيناها تشعان بالحيوية والجرأة، ولم تلبث الفتاة أن بدأت تثرثر:
– أوه بول! اعترف! هل تعلم؟ أنني أريد أن أعرف كل شيء.
– تعرفين ماذا يا عزيزتي؟
– لا أتجرأ أن أقوله لك.
– قولي على كل حال.
– هل كانت لديك عشيقات؟ … كثيرات… قبلي؟
كان مترددا. ومستغربا قليلا. لا يدري هل ينبغي عليه أن يخفي مغامراته أو يتفاخر بها.
وأضافت هي:
– أوه! من فضلك! أرجوك قل لي! هل كان لديك منهن الكثير؟
– عدد قليل.
– كم؟
– لا أدري بالضبط. هل نعلم نحن الرجال مثل هذه الأشياْء؟
– ألم تعدهن؟
– لا أبدا.
– أوه! إذن كان لديك منهن الكثير؟
– نعم، أكيد.
– كم تقريبا؟ فقط بالتقريب؟
– لكني لا أدري أبدا يا عزيزتي. في بعض السنوات كان لدي الكثير . وفي سنوات أخرى أقل.
– كم في السنة، قل!
– أحيانا عشرون، ثلاثون. وأحيانا أربع أو خمس فقط.
– أوه! هذا يعني أنه كان لديك أكثر من مئة امرأة.
– نعم، تقريبا.
– أوه! كم هذا مقزز!
– لماذا مقزز؟
– لأنه مقزز. حينما نفكر فيه… كل هؤلاء النساء… عرايا.. وكل مرة الشيء نفسه… أوه! إنه مقرف على كل حال… أكثر من مئة امرأة!
صُدم بول أن تحكم زوجته أن ذلك مقزز. ورد عليها بتلك النبرة المتعالية التي يستخدمها الرجال ليفهموا النساء أنهن يقمن بحماقة ما:
-هذا هو المضحك، حقا. إذا كان الأمر مقززا أن تكون لديك مئة امرأة، فهو أيضا مقزز حينما يكون لديك واحدة.
– أوه! لا. مطلقا.
– لماذا لا؟
– لأنّ المرأة … علاقة، لأنها… حب يربطك بها. بينما مئة امرأة…! إنها قذارة! سؤ سلوك! لا أستطيع أن أفهم كيف يمكن أن يسمح رجل لنفسه أن يحتك بهؤلاء الفتيات الوسخات كلهن!
– لا، إنهن نظيفات جدا.
– لا يمكنهن أن يكن نظيفات وهن يقمن بالمهنة التي يقمن بها.
– بالعكس تماما؛ إنهن نظيفات بحكم المهنة التي يقمن بها.
– أوه! حينما تتصور أنهن الليلة الماضية يفعلن الشيء نفسه مع رجل آخر! يا للفضاعة!
– ليس أكثر فضاعة من الشرب في هذا الكوب الذي شرب فيه لا أدري من هذا الصباح، والذي غُسل بعناية أقل، بالتأكيد.
– أوه! اسكت! إنك تستفزني.
– إذن لماذا تسألينني إن كان لدي عشيقات؟
– حسنا، قل لي؛ هل كانت عشيقاتك، المئة، كلهن فتيات؟
– لا.
– من هن إذن؟
– ممثلات، عاملات، وبعض الحظيات…
– كم من هؤلاء الأخيرات؟
– ست.
– ست فقط!
– نعم.
– هل كن جميلات؟
– نعم طبعا.
– أجمل من الفتيات؟
– لا.
– أيهن كنت تفضل: المحظيات أو الفتيات؟
– الفتيات.
– أوه! كم أنت قذر! لماذا هكذا؟
– لأنني لا أحب أبدا التفنن والاحتراف.
– أوه! يا للهول! إنك متوحش؛ هل تعرف؟ قل لي: هل يسليك أن تتنقل هكذا من فتاة إلى أخرى؟
– نعم.
– كثيرا؟
– كثيرا.
– ماذا كان يسليك؟ ألم يكن يشبهن بعضهن بعضا؟
– لا. أبدا.
– لكن النساء يتشابهن!
– أبدا.
– ولا في أي شيء؟
– ولا في أي شيء.
– إن هذا لمضحك. ما هو المختلف لديهن؟
– كل شيء.
– الجسم؟
– بالتأكيد، الجسم.
– الجسم بأكمله؟
– نعم الجسم بأكمله.
– وماذا أيضا؟
– طريقة التقبيل، والكلام، والهمس….
– آه! أنه لمسلٍِ أنْ تـُغيـّر!
– بالطبع.
– وهل الرجال مختلفون؟
– هذا؟…. لا أدري.
– لا تدري؟
– لا.
– ينبغي أن يكونوا مختلفين.
– نعم. بالتأكيد.
وظلت هنريت واجمة في مكانها، تفكر وكأس الشمبانيا في يدها. كان مليئا. شربته دفعة واحدة. ثم وضعته فوق الطاولة وطوقت زوجها بذراعيها، وهمست في فمه:
– أوه! عزيزي، كم أحبك!
واحتضنها بقوة … واضطر أحد الخدم الذي كان يهم بالدخول إلى التقهقر وأغلق خلفه الباب. وتوقفت الخدمة لمدة خمس دقائق تقريبا. وحينما ظهر مدير المطعم مرة ثانية بوقاره وقامته المهيبة، حاملا الفواكه كانت هنريت تحمل كأسا أخرى بين أصابعها، وتحملق في السائل الأصفر الشفاف الذي بداخله كما لو كانت تبحث فيه عن أشياء مجهولة ومرغوبة. ثم همهمت بصوت حالم: “أوه! نعم، لا شك أنه سيكون مسليا…”
.