فدوى العبود - لم يكنْ البابُ سوى خدعة

يمكنني أن أمكث في غرفتي لوقت طويل، أو أهيم على وجهي دون سبب. أندفع بجنون نحو الرفقة، أو أحدق كجدار في وجه الآخرين، أن أعيش في العراء أو في قصر فاره.
لا فرق!
فأنا أنتمي لشعوب الحدود القصوى… البلاد التي تتأرجح بين شعر مجنون ليلى ودماء الحلاج. خمريات ديك الجن ونصوص ابن حنبل، وجودية أبي العلاء المعري وتصوف الغزالي. عقلانية ابن رشد وساديّة الحلاّج.
فراشات في سرير الحب.. جلادون تحت الأرض؟
هنا لا يمكنك الوقوف في المنتصف فالسهام مصوبة نحوك، والكل قناص ولا فضيلة للوسط الأرسطي؛ لا فضيلة إلا لحدين أحدهما إفراط والآخر تفريط. وكل يختار سكناه ويحدث أن نختار البيت. فالعالم عدائي والطريق للبيت آمن، وهو – بخلاف الأصدقاء والعشاق – لا يغير وجهه كل دقيقتين، كما أن البيت له نوافذ وباب مغلق بإحكام. وهو مستمع جيد حين ترغب بالثرثرة أو التعري أو البكاء. عليك قبل كل شيء أن تتأكد من إغلاق الباب هذا ما تقوله جدتي التي يتوسط بابها الخشبي ترباس كبير من المعدن، جدتي التي رفض الجميع – ما عداي – حراسة نومها بسبب الشخير وثرثرة النوم.
أنا من ستغلق الباب في ليالي الشتاء. حدّ أني أواصل الآن إغلاقه في الأحلام والكوابيس وإذا كنت أغلقه قبلاً على خوفاً من الذئاب والريح الباردة، فأنا أفعل الآن خوفاً الحرب والرصاص والموتى الأحياء الذين يتجولون ببنادق مذخّره. في الهافانا وسط دمشق يتسابق رجل وضيفه الشاعر العراقي في إثبات فداحة الحرب من خلال الشعر أولاً، ثم من خلال الوصف وحين يخفق كل منهما بإقناع صاحبه يتبادلان عبارة أخيرة:
أنت لو رأيت….
وأنت لو رأيت…
هنا يصير للفظاعة مسرح، وللامعقول مكان، وللشر وسادة.
أشرب قهوتي، وأفكر فيك ينزلق تفكيري تلقائياً للحرب، الحرب والحب ولدا من بطن واحد. أفكر في الأبواب والمتاريس والحدود القصوى. أبواب السماء، أبواب دمشق، أبواب الزنازين، أبواب البيوت.. حين دعتني صديقتي لاحتفال ديني، كانت سعادة المحتفلات بي، سعادة راعٍ بالعثور على خروفه الذي ضل عن القطيع. لا بدّ أن الفرح المبالغ فيه سيتحول إلى النقيض لو قلت لهم أني فقدت أيماني بالطريقة التي يعرفونها. نشوة خمرة الإيمان هنا ممزوجة بالبخور والمسك. السكر دون نبيذ، السكر بالكلمات والأغاني المسروقة ألحانها من أغاني الحب، يتورد وجه صديقتي ونحن في الطريق تميل نحوي وتسألني بلطف عن قلبي العامر بالعدم كيف صار؟ تحدق في عيني ثم تصمت. تمضي في طريق طويل وتلوح لي وكأنها تلوح لذكرى! أتوجه لبار قريب، هنا النبيذ مغشوش بالشاي لا بالكلمات. هنا تسيل الجمل عطرة بعد أول كأس عطنةً بعد الكأس الثالثة. يتحدث أصدقائي عن كل شيء. عن الدين أفيون الشعوب. عن الخرافات ونهود النساء وعن فخذي مونيكا بيلوتشي، عن تشي غيفارا، وروزا لوكسمبورغ.. أفكر كيف يمكن لمن يعيش في العراء أن يترك غصن الخرافة. وكيف لمن نهبت أحلامه أن يفكر بالمنطق الأرسطي!
أمام خيمته يرحب عمي بي يمسك بيدي ويقودني معتذراً لأنه لا يملك كرسياً. والكراسي في بيته البعيد الذي نُهِب. نجلس فوق حجرين متقابلين، يخبرني أن العتمة خطرة في هذه الأنحاء وأنهم رأوا ملاكاً بين الخيم. يندب حظه لأنه لم يمت ويرتاح كأبي. يصمت لثوان ثم يغير رأيه، يقول بأنه محظوظ لأنه تلقى بشارة العودة، وهي شعرة سقطت من سالف الرسول الكريم. يخرج من جيب صدارته منديلاً ورقياً انظري.. عثرت عليها عند الآية العاشرة من سورة الملك. (تباااااارك الذي بيده الملك) ٭ ٭ (تعرفينها)
كانت الشعرة تشبه شعر رأسه الأبيض. يكمل بعينين ذاهلتين: سبعة أيام أو سبعة شهور. أقول في سري وربما سبعة دهور. في الحرب يزدهر اللامعقول، تصير الرطوبة على الجدار بشارة إلهيّة ويتحول الحلم إلى مستقبل.. إنها الحدود القصيّة… القصوويّة.. الحدود الأخيرة للعقل والقلب قبل أن تجنح السفينة نحو القاع… الحدود التي لا تهادن (أمامها الموت وخلفها الموت) هي منحدرات الروح الخطرة، حيث ينهار الجسر خلفك وتمحى كل الطرق، وتنقر عصافير الهلع خبز طمأنينتك. نحدق في المطلق ونبحث عنه، في الإيمان، في الحب، في قبعة غيفارا، في صوت أم كلثوم، في شعرة أو منام!
يقول رجل في الباص: الإنسان كالقرد لا يترك غصناً إلاّ ليمسك آخر
يصيح ثان: هل يمكنك الصمت سيد داروين؛ الإنسان كالبارود أفضل اختراع على الإطلاق.
من فضلكم: هو مخلوق متوحش وهذا رأيي ولن أغيره.
لكنه مسكين (يصيح بوذا من وراء المقود) ويتابع: أنظروا كيف يدمر نفسه وعليه أن يكون إما هنا…. أو هناك….
أردد فيخرج من فمي صوت درويش: أنا لست هنا ولست هناك
ولست هناك ولست هنا…
أسمع صوت جدتي: الذئاب ستمر الآن أقفلي الباب…
(حاضر يا جدتي)
أصل إلى غرفتي بعد أن تهت عدة مرات. يدي ترتجف، لا بد أني أسرفت في الشرب. أبحث في محفظتي عن مفتاح الباب فأخلط بينه وبين آخر أحتاج لوقت حتى أعثر عليه. رأسي غائم وحواسي مشتتة، يصطدم نظري بمدى شاسع ومخيف، وتغمرني ريح باردة. أدفع الباب فتنزلق قدمي وأهوي …. أهوي من أعلى الحافة …. أرى عمي يبحث بين صفحات كتاب مقدس… أخي يرتدي طاقية غيفارا… صديقتي تهز رأسها وعيناها مغمضتان. عاشقين يبكيان دماً… ملاكاً فوق رابية… ورأساً مقطوعاً ينزف فوق سياج. صورة مضاعفة لدرويش على صفحة السماء الشاسعة يقرأ من ورقة بيضاء: هي الحرب معجزة الرب.
هل هذه قصيدة لدرويش أم؟ ما الذي يجري لي! لا بدّ أنني أهذي… والأكيد أنني أهوي… أهوي وأنا أفكر بالجيران بالعشاق بالأصدقاء الذين حطموا كل باب!
الأبواب… كل الأبواب لم تكن سوى خدعة…

٭ ٭ من كتاب «آلهة من تمر»

كاتبة سورية

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...