(عندما استتب الأمر لأبي العباس السفاح أول الخلفاء
العباسيين هرب الأمير عبد الرحمن الأموي من العراق
ووجهته الأندلس ليتسم عرش الأمارة فيها بمعاونة أنصاره
الأمويين. فبينما كان في شمال أفريقيا وقعت له هذه الحادثة
التي نرويها)
كان القمر ينشر نوره الفضي على قرية (مغيلة) في مراكش، فتبدو الدور على ضوئه الهادئ كأنها تتمطى مبتسمة رافعة هاماتها إلى السماء تنفض عنها فتور النوم. في تلك الساعة التي بدأت فيها القرية تتنفس كان يسير في طريق من طرقاتها المهجورة رجل طويل القامة نحيف الجسم ملتف بعباءة دكناء ووجهه ملثم. كان يسير سيراً حثيثاً في مشيه حذرة، متجنباً الأماكن التي انجلت عنها غبشة الليل، تدل مظاهره التي يجتهد في إخفائها على الأمارة والجاه. ولما دنا من دار (وانسوس) رئيس أقوى قبائل البربر في تلك الجهة توقف عن المسير والتفت حوله ثم دفع الباب في سكون ودخل، ثم أحكم إغلاقه خلفه، وما إن خطا بضع خطوات، حتى تقدم إليه (وانسوس) في خضوع وقال في صوت خافت:
- مولاي الأمير
- كدت أضل الطريق
وبدأ الزائر يرفع لثامه ويحل عباءته، فظهر عارضاه الخفيفان وبانت ضفيرتاه على ظهره، وسار بخطوات رزينة وخلفه (وانسوس)؛ وقال:
- هل أحضر (بدر) الجواهر؟
- أحضرها يا مولاي وهي وديعة عندي لا تستطيع أن تمتد إليها يد إنسان
- وماذا قال لك؟
- إن أختك (أم الإصبع) تقرئك السلام وتقول لك إنها سترسل لك غيره - بورك فيها. . . وماذا بعد ذلك يا (وانسوس)؟
- وإن وهب بن الأصفر وشاكرين أبي الأسمط يستحثانك على السفر، إن المراكب معد وهم في انتظارك
وكانا قد تلغا بهواً تتوسطه نافورة وقد نثرت بجوار حيطانه وسائد عريضة؛ فوقف الأمير أمام النافورة يتأمل المياه ويداه مثنيتان على صدره وقال:
- وأهل الأندلس؟
- يرحبون بمقدمك لتنقذهم من أميرها يوسف بن عبد الرحمن الفهري. هناك أبناء عمومتك يا مولاي ومعهم أنصارهم الأقوياء ثم لا تنس القبائل اليمنية
- هذه حطمتها قوات الفهري
- بل ما زالت محتفظة برجالها الأقوياء
- إن الحروب الأهلية يا (وانسوس) قد نهكت الأندلس، وعمها القحط وجلا كثير من أهلها عنها، فإذا أردنا أن نستعجل النصر فلنعتمد على الذهب نكسب به الأنصار
ودخلتْ في تلك اللحظة (تكفات) زوجة (وانسوس) وكانت امرأة بدينة تلبس إزاراً واسعاً، دخلت في عجلة واضطراب وهي مكفهرة الوجه وقالت:
- بينما كنت على السطح في مكاني المخصص للمراقبة أبصرت رهطاً من الرجال مقبلين في سرعة وتلصص نحو الدار، فما شككت أنهم من رجال ابن حبيب
فتغضن وجه الأمير وقال بصوت أجش:
- لقد وشي بي الواشون
وهرع وانسوس إلى البرج ليستعلم الخبر ثم عاد مضطرباً وهو يقول:
- عجل يا مولاي بالهرب
وجرى الاثنان نحو البرج، ولكن ما كادا يطلان منه حتى عادا أدراجهما والأمير يتمم:
- لقد أحاطوا بالدار
وسمعت في هذه اللحظة جلبه عالية في الخارج فيها وعيد وتهديد وطرح الأمير عبد الرحمن عباءته واستل سيفه ووقف وقفة الجبار ناظراً إلى باب البهو وقد انطبع على محياه المهيب عزم رهيب وقال: - إني لأشعر بأرواح بني أمية كلها قد تقمصت جسدي فيأت ابن حبيب وجيشه يجرب حظه معي
واشتدت الجلبة وسمع قرع قوي على الباب وأصوات تقول:
- افتحوا. . .
وقال الأمير لوانسوس:
- اذهب وافتح الباب
ووقف وانسوس متردداً
وتكرر القرع بحماس شديد. وسمع الباب يهتز ويتفلق والأصوات تتعالى في سخط مرددة:
افتحوا. افتحوا. . .
فقال الأمير وهو ينظر إلى وانسوس نظراً حاداً:
- لقد أمرتك أن تفتح الباب
فقال وانسوس في ذلة ويأس:
- الأمر لك يا مولاي
وذهب قاصداً الباب. وما كاد يخرج حتى أشرق وجه تكفات بغتة ولمعت عيناها. وتقدمت في جرأة غريبة نحو الأمير وقالت:
- إنها لحظة من لحظات الدهر الخالدة. فإما إلى العرش وإما إلى القبر. . . تعال
وفتح وانسوس الباب فتدفق الرجال في صحن الدار وضجتهم تسبقهم، ووقف زعيمهم مكشراً أمام وانسوس وقال:
اقبضوا على هذا الخائن. . .
وفي لحظة كان وانسوس مقيداً وملقى بجوار الحائط؛ وأتم الزعيم أمره قائلاً:
- دونكم الدار فلا تتركوا مخبأ إلا دخلتموه، أو ركناً إلا فتشتموه، وإياكم ألا تعثروا عليه
فانتشر الرجال في الدار يفتشون، وسار الزعيم في رهط من أنصاره قاصداً إلى بهو النافورة واختفى الجميع فيه
ومضى الوقت ووانسوس ملقي بجوار الحائط يصغي بأذن مرهفة إلى ضجيج الرجال في داخل داره وعيناه الحائرتان لا تفارقان باب البهو وأخيراً فتح الباب وخرج منه الزعيم وخلفه رجاله. ولما دنا من وانسوس ألقى عليه نظرة احتقار ثم التفت إلى جماعة بالقرب منه وقال:
- حلوا وثاق هذا الرجل
ثم سار في عجلة نحو الباب وهو يدمدم بكلمات غير مفهومة وخرج والجميع في أثره. وقام وانسوس وهو يفرك عينيه دهشا، وبعد أن أحكم قفل الباب سار مهرولاً إلى بهو النافورة فوجد زوجته (تكفات) جالسة على إحدى الوسائد متكئة بظهرها على الحائط؛ فما شك وانسوس أن قواها خارت من الخوف. فأقبل عليها وسألها قائلاً:
- أين الأمير؟
وفي لحظة كشفت إزارها الواسع فخرج من بينه الأمير وما إن توسط البهو حتى قال:
- تالله إن عرش الأندلس لمدين (لتكفات) بهذه الحيلة لن أنسى لك هذا الجميل يا (تكفات)
فانحنت المرأة أمامه في خضوع
ووقف الأمير عبد الرحمن أمام النافورة ويداه مثنيتان إلى صدره، وقال وقد سطع على وجهه العزم واليقين في صوت ممتلئ قوي:
لقد بت أعتقد أن العناية تساعدني. فهناك على شاطئ الفرات حيث كانت فرسان أبي العباس تلاحقني أنا وأخي نجوت بأعجوبة لم أكن أحلم بها في حين أن أخي قد عاكسه القدر فقبض عليه وقتل على مرأى مني. وهنا تمر بي رجال أبي حبيب وأنا على بعد خطوات منهم فلا يخامرهم شك في أني غير موجود
وأرسلت عيناه وميضاً عجيباً، والتفت حوله وهو رافع الرأس كأسد منتصر على فريسته وقال:
- إيه أيها القدر! تعصمني والعباسيون يتهالكون على الفتك بي، يطاردوني في كل شبر من الأرض. . . إني لأرى الأندلس تدنو مني كما يدنو مقبض هذا السيف من يميني
محمود تيمور
مجلة الرسالة - العدد 449
بتاريخ: 09 - 02 - 1942
العباسيين هرب الأمير عبد الرحمن الأموي من العراق
ووجهته الأندلس ليتسم عرش الأمارة فيها بمعاونة أنصاره
الأمويين. فبينما كان في شمال أفريقيا وقعت له هذه الحادثة
التي نرويها)
كان القمر ينشر نوره الفضي على قرية (مغيلة) في مراكش، فتبدو الدور على ضوئه الهادئ كأنها تتمطى مبتسمة رافعة هاماتها إلى السماء تنفض عنها فتور النوم. في تلك الساعة التي بدأت فيها القرية تتنفس كان يسير في طريق من طرقاتها المهجورة رجل طويل القامة نحيف الجسم ملتف بعباءة دكناء ووجهه ملثم. كان يسير سيراً حثيثاً في مشيه حذرة، متجنباً الأماكن التي انجلت عنها غبشة الليل، تدل مظاهره التي يجتهد في إخفائها على الأمارة والجاه. ولما دنا من دار (وانسوس) رئيس أقوى قبائل البربر في تلك الجهة توقف عن المسير والتفت حوله ثم دفع الباب في سكون ودخل، ثم أحكم إغلاقه خلفه، وما إن خطا بضع خطوات، حتى تقدم إليه (وانسوس) في خضوع وقال في صوت خافت:
- مولاي الأمير
- كدت أضل الطريق
وبدأ الزائر يرفع لثامه ويحل عباءته، فظهر عارضاه الخفيفان وبانت ضفيرتاه على ظهره، وسار بخطوات رزينة وخلفه (وانسوس)؛ وقال:
- هل أحضر (بدر) الجواهر؟
- أحضرها يا مولاي وهي وديعة عندي لا تستطيع أن تمتد إليها يد إنسان
- وماذا قال لك؟
- إن أختك (أم الإصبع) تقرئك السلام وتقول لك إنها سترسل لك غيره - بورك فيها. . . وماذا بعد ذلك يا (وانسوس)؟
- وإن وهب بن الأصفر وشاكرين أبي الأسمط يستحثانك على السفر، إن المراكب معد وهم في انتظارك
وكانا قد تلغا بهواً تتوسطه نافورة وقد نثرت بجوار حيطانه وسائد عريضة؛ فوقف الأمير أمام النافورة يتأمل المياه ويداه مثنيتان على صدره وقال:
- وأهل الأندلس؟
- يرحبون بمقدمك لتنقذهم من أميرها يوسف بن عبد الرحمن الفهري. هناك أبناء عمومتك يا مولاي ومعهم أنصارهم الأقوياء ثم لا تنس القبائل اليمنية
- هذه حطمتها قوات الفهري
- بل ما زالت محتفظة برجالها الأقوياء
- إن الحروب الأهلية يا (وانسوس) قد نهكت الأندلس، وعمها القحط وجلا كثير من أهلها عنها، فإذا أردنا أن نستعجل النصر فلنعتمد على الذهب نكسب به الأنصار
ودخلتْ في تلك اللحظة (تكفات) زوجة (وانسوس) وكانت امرأة بدينة تلبس إزاراً واسعاً، دخلت في عجلة واضطراب وهي مكفهرة الوجه وقالت:
- بينما كنت على السطح في مكاني المخصص للمراقبة أبصرت رهطاً من الرجال مقبلين في سرعة وتلصص نحو الدار، فما شككت أنهم من رجال ابن حبيب
فتغضن وجه الأمير وقال بصوت أجش:
- لقد وشي بي الواشون
وهرع وانسوس إلى البرج ليستعلم الخبر ثم عاد مضطرباً وهو يقول:
- عجل يا مولاي بالهرب
وجرى الاثنان نحو البرج، ولكن ما كادا يطلان منه حتى عادا أدراجهما والأمير يتمم:
- لقد أحاطوا بالدار
وسمعت في هذه اللحظة جلبه عالية في الخارج فيها وعيد وتهديد وطرح الأمير عبد الرحمن عباءته واستل سيفه ووقف وقفة الجبار ناظراً إلى باب البهو وقد انطبع على محياه المهيب عزم رهيب وقال: - إني لأشعر بأرواح بني أمية كلها قد تقمصت جسدي فيأت ابن حبيب وجيشه يجرب حظه معي
واشتدت الجلبة وسمع قرع قوي على الباب وأصوات تقول:
- افتحوا. . .
وقال الأمير لوانسوس:
- اذهب وافتح الباب
ووقف وانسوس متردداً
وتكرر القرع بحماس شديد. وسمع الباب يهتز ويتفلق والأصوات تتعالى في سخط مرددة:
افتحوا. افتحوا. . .
فقال الأمير وهو ينظر إلى وانسوس نظراً حاداً:
- لقد أمرتك أن تفتح الباب
فقال وانسوس في ذلة ويأس:
- الأمر لك يا مولاي
وذهب قاصداً الباب. وما كاد يخرج حتى أشرق وجه تكفات بغتة ولمعت عيناها. وتقدمت في جرأة غريبة نحو الأمير وقالت:
- إنها لحظة من لحظات الدهر الخالدة. فإما إلى العرش وإما إلى القبر. . . تعال
وفتح وانسوس الباب فتدفق الرجال في صحن الدار وضجتهم تسبقهم، ووقف زعيمهم مكشراً أمام وانسوس وقال:
اقبضوا على هذا الخائن. . .
وفي لحظة كان وانسوس مقيداً وملقى بجوار الحائط؛ وأتم الزعيم أمره قائلاً:
- دونكم الدار فلا تتركوا مخبأ إلا دخلتموه، أو ركناً إلا فتشتموه، وإياكم ألا تعثروا عليه
فانتشر الرجال في الدار يفتشون، وسار الزعيم في رهط من أنصاره قاصداً إلى بهو النافورة واختفى الجميع فيه
ومضى الوقت ووانسوس ملقي بجوار الحائط يصغي بأذن مرهفة إلى ضجيج الرجال في داخل داره وعيناه الحائرتان لا تفارقان باب البهو وأخيراً فتح الباب وخرج منه الزعيم وخلفه رجاله. ولما دنا من وانسوس ألقى عليه نظرة احتقار ثم التفت إلى جماعة بالقرب منه وقال:
- حلوا وثاق هذا الرجل
ثم سار في عجلة نحو الباب وهو يدمدم بكلمات غير مفهومة وخرج والجميع في أثره. وقام وانسوس وهو يفرك عينيه دهشا، وبعد أن أحكم قفل الباب سار مهرولاً إلى بهو النافورة فوجد زوجته (تكفات) جالسة على إحدى الوسائد متكئة بظهرها على الحائط؛ فما شك وانسوس أن قواها خارت من الخوف. فأقبل عليها وسألها قائلاً:
- أين الأمير؟
وفي لحظة كشفت إزارها الواسع فخرج من بينه الأمير وما إن توسط البهو حتى قال:
- تالله إن عرش الأندلس لمدين (لتكفات) بهذه الحيلة لن أنسى لك هذا الجميل يا (تكفات)
فانحنت المرأة أمامه في خضوع
ووقف الأمير عبد الرحمن أمام النافورة ويداه مثنيتان إلى صدره، وقال وقد سطع على وجهه العزم واليقين في صوت ممتلئ قوي:
لقد بت أعتقد أن العناية تساعدني. فهناك على شاطئ الفرات حيث كانت فرسان أبي العباس تلاحقني أنا وأخي نجوت بأعجوبة لم أكن أحلم بها في حين أن أخي قد عاكسه القدر فقبض عليه وقتل على مرأى مني. وهنا تمر بي رجال أبي حبيب وأنا على بعد خطوات منهم فلا يخامرهم شك في أني غير موجود
وأرسلت عيناه وميضاً عجيباً، والتفت حوله وهو رافع الرأس كأسد منتصر على فريسته وقال:
- إيه أيها القدر! تعصمني والعباسيون يتهالكون على الفتك بي، يطاردوني في كل شبر من الأرض. . . إني لأرى الأندلس تدنو مني كما يدنو مقبض هذا السيف من يميني
محمود تيمور
مجلة الرسالة - العدد 449
بتاريخ: 09 - 02 - 1942