بغداد 8-12 تشرين الثاني 1976
عزيزي إلياس
أكتب لك بعد انقطاع طويل رسالة قصيرة، وذلك لأنّ الوقت هنا وفي هذه الأيام بالذات لا يتيح للإنسان أن يجالس نفسه ويصارحها وتصارحه ويتكشّف لها فتتعرى له. وأنت تعلم أنك أحد أقرب المقرّبين إلى نفسي، وكم أود لو أطيل معك الحديث، ولكن ها أنت ترى أنني حتى أكتب ما أكتب بقلمٍ لا ينسجم مع قريحتي وورقة لا تصلح للرسائل. أعرف ما تعانيه وأعرف مأساة العضّ على الإصبع كما تسمّيها -وقد وُفقتَ في التسميّة- من طرف واحد يدعو لاندلاع القهر ولظاه في أحشاء الإنسان. ولا أريد أن أكتب لك خطبة عصماء عن الصمود، وعضّ الوسائد والأحلام، وصُوَر الأحبّة -ماغي وثريا- من طرفنا. كل ما أستطيع قوله هو أنني أشد على أيديكم وأنتظر اللحظة التي سأشارككم فيها أقذر معركة في أقذر ساحة، لأنها المعركة المجردة من الأمل. ولا أكذب ولا أخاتل فأقول إنني أنتظرها بشوق. لا.. إنني أنتظرها بعزم وإعداد خالٍ تماماً من الشوق، ولكن مفعم بإرادة الصبر والصمود. ويبقى قرار الصمود عائداً للإنسان نفسه.. لكني لا أعتقد أبداً أنني في حاجة إلى مناشدتك الصبر، فالأيام المشرقة ليست ببعيدة. وهذا ليس كلام حالمٍ يحلم، بل مؤمنٍ يؤمن.. ونحن أصحاب أحلام وإيمان معاً.
إني أعرف عن مقدرتك الهائلة على مجابهة الظروف القاسية -ربما- أكثر مما تعرف أنت عن نفسك. وإني أقدّر فيك هذا.
حياتنا هنا مختلفة.. أسهل وليست أمتع. قد تكون نتائجها مدمِّرة، إذا أخذتَ منها عادةَ وضع القدمين في الماء البارد، أي التأثر بالأجواء الإيجابية بحيث تفقد المناعة إذا ما عدتَ إلى أجواء سلبية. وقد تكون آثارها جيدة ورائعة إنْ أنتَ انتزعتَ منها نكهة النصر وإمكان تحقيقه وصعوبة المحافظة عليه.. وأحياناً تفاهة الواقع مهما كان قريباً إلى الكمال مقارنة مع الحلم.. فإذا استوعبتَ الجانب الأخير عرفتَ أن الإمكان أنبل من الفعل، ولو أن الفعل هو الوسيلة الوحيدة التي تقيكَ الغَرَق والأعداء حين يكون البحر من ورائك والعدو من أمامك. فحاولْ أن ترى المتعة في الصبر ولا تسأل كثيراً: متى الفَرَج؟
قصتكَ لم تُنشَر. فالصحفي الذي ينشر لي نُقل من مجلة (أ ب) إلى جريدة «الجمهورية» ولم أره من يومها. على أي حال سأتصل به وأسأله. أما قصتك التي نُشرت فسأحاول البحث عن العدد الذي يحتويها رغم صعوبة ذلك.
أخيراً سلامي وأشواقي الحارة إليك، وإلى سليمان، وإسماعيل، وجميع الأهل والأصدقاء.
مؤنس
******************
عمّان (5/3/2013)
من أين أتيتَ بهذا التشبيه يا أنتَ، المدعو إلياس فركوح، الذي رآه صاحبُكَ موفقاً؟ الأرجح أنكَ عُدتَ للوراء كثيراً، عشرين سنة ربما، أو أزْيَد قليلاً. عُدتَ مسترجعاً، بلا وعيٍ بالتأكيد، تاركاً لذاكرتكَ أن تفرزَ ما يصلح ويناسب ما كنتَ تعيشه وقتذاك، حين كتبتَ لمؤنس رسالةً أتيتَ فيها على تشبيه التحدي والصمود هذا.
إذَن؛ أنتَ الآن حيال وقتين اثنين. وقت الرسالة المكتوبة في بغداد ردّاً على أخرى من عمّان، ووقت المحطة التي عدتَ إليها لتنتشل منها الحَدَثَ الذي أوحى لكَ بـ»العَضّ على الإصبع». الآن، بداية ليلة الاثنين 4 آذار 2013، وها تشرع بالكتابة وأمامك أوّل رسالة مما تبقّى. ولكن، وقبل أن تسترسلَ، عليكَ أن تَعي فتعترف أنك في اللحظة التي ستبدأ فيها ستكون قد ولجتَ وقتاً ثالثاً تعاينُ خلال توالده، وفقَ شروطه وظرفك الشخصي (لعلّه المَزاجي أيضاً)، صُوَراً قديمةً، وأحداثاً باهتةً، وأصواتاً مكبوتةً، وأصداءً لأشياءَ غامضة ملتبسة أشبه ما تكون بـ»حفيف» أوراق يابسة، وأعشاب شوكية، وأكياس مخلَّفات، تكنسُ بها الريحُ أرصفةَ مدينةٍ ما. قد تكون المدينة عمّان، أو بيروت، أو القدس، أو القاهرة، وقد لا تعدو كونها واحدة من مدن مخيلتكَ لمَّا تَنْشط عمليةُ التعويض فيك - أنتَ الناقص أبداً.
في الخطوة الأولى على درب الوقت الثالث تراكَ تلتفت للوراء، للوراء كثيراً، لتجدَ نفسكَ تعاينُ وَلَداً يرتعش داخلُه، وربما كانت أصابع يديه تنتفض أيضاً وتَعْرَق. أمامكَ قامةٌ سوداء على طولها، فارعة، ذات سطوة وحضور طاغ. وخلفكَ نافذةٌ عريضةٌ سَمَحَت لشمس الظهيرة أن تنفذ من جهة القدس الغربيّة «الإسرائيلية»، وراء الأسوار العثمانيّة، لتفضحَ ورقةً كنتَ رسمتَ عليها، بوحيٍ من أبطال السينما الرائجة وقتذاك، رَجُلاً بكتفين عريضتين وذراعين مفتولتين وصدرٍ متعضِّل عريض. الرجل البطل مرسومٌ بخطوطٍ تفتقرُ لأيّ إتقان فنيّ، على مستوى التشريح، والورقة بسطورها الأفقية المنتظمة الفاهية، المنزوعة من دفتر الفروض، تتعرض للخطف و»الجَعْلَكَة» والتمزيق مثلما تتعرض أنتَ للهزء أوّلاً، ثم للتوبيخ بصوتٍ هادر وسط صمت طلبة الصف، وترقبهم لعقابٍ جديد قاس ينتظرك. كنتَ تعرف أنكَ ستعاقَب، وكنتَ مَقَتَّ متوالية العقوبات والقَصاص إلى درجة عدم الاحتمال والطَفْح، وكنتَ ترتعش من الداخل وتنتفض من الخارج وتَعْرَق. هذا ما تذكره، أو تحاول ما تستطيع. غير أنكَ، لحظتها، وبكل يقينيات الكون، كنتَ اتخذتَ قراراً لم تدرك كيف واتاكَ بغير رجعة، كأنكَ قطعتَ أشواطاً من عُمركَ إلى عُمركَ الذي لم يأتِ بعد، واتخذتَ خطوة التحدي:
رفضتَ الاعتذار، وبقيتَ جالساً في مقعدك، وغرستَ عينيكَ في عيني القامة السوداء، الفارعة، ذات السطوة والحضور الطاغي! يا أنتَ، يا الوَلَد العاصي، كيف لكَ أن تتحدّى، وبالعينين تنغرسان في العينين؟ ماذا كنتَ تريد؟ ماذا كنتَ تتوقع؟ مَن «تنكسر عينه» أولاً؟ الصفعة الأولى لم تهزمك. ظلَّت تحديقتك ثابتة. تلتها صفعة ثانية أقوى، فانْتَثَرَت دمعةٌ منكَ، ولم تهبط بعينيك اللتين زاغتا! زعقةٌ كأنكَ سمعتها، لكنها بَدَت غباراً تبددَ خارج النافذة خلفكَ، فواصلتَ تحديك منتصراً لعينيكَ؛ فكانَ أن جُررتَ إلى خارج الصف.
أوَليست هذه المحطة هي التي استقيتَ منها «العَضّ على الإصبع»؟
أوَليست هذه الحادثة ما أوْصَلَكَ إلى أنكَ، مهما بلغت بكَ الحال سوءاً، لن تكون مَن «يصرخ أوّلاً»؟
أوًليست حالةُ التحدي تلك، وأنكَ لستَ الصارخ الأوّل، قد يعني، في تأويلٍ رغائبي، ربما، أنكَ مَن «يضحك أخيراً»؟ غير أنّ مؤنساً يكتب، من بغداد «البعث» الذي يعيش «انتصاره» وأحلام ما سوف ينجز وطموحات ما سوف يبني ويشيد، إلى إلياس الذي يتحرك داخل عمّان وشروطها في المنتصف الثاني لسبعينيات القرن الماضي (ياه! كم كبرنا يا رَبّ!) ليقول، بعد «أشدّ على أيديكم» منتظراً أن يشاركنا «أقذر معركة في أقذر ساحة، لأنها المعركة المجردة من الأمل».
أكنتَ، يا مؤنس، تعي أنكَ حين تدخل معركةً مجردةً من أمَل الانتصار إنما تتماهى، على نحوٍ ما، مع أسطورة البطولات العارية إلاّ من مجد وجودها المحض؟ بطولات لا تتوجها أكاليل الغار الخضراء، النضرة، المقطوفة للتو عن غصن شجرتها، بقدر ما هي معدنٌ مطليٌّ بالذَهب، فوق رأسٍ من رخام، ينتصبُ وسط أضغاث أحلام؟ أهو مجدُ ضَرْب الأمثولة وتسجيل الموقف؟ مجدُ «سيزيف» المحكوم بأسطورته قبل أن يخلقها وتخلقه؛ ولذلك باتَ رمزاً للأقدار الأبديّة عندما تربضُ فوقنا بقوة صخرةٍ هَوَت علينا من سابع سماء؟ ورغم ذلك؛ ترانا نحملها ونصعد الجَبَل! بلا توقف! بلا هوادة! بلا أيّ هُدنة! لا نستريح أبداً! ألأننا لم نتعب أصلاً كوننا مجرد تمثيل لفكرة، لا يكون لسؤال الراحة ما يبرره؟ أم لأنّ «الإمكان أنبل من الفعل»، بحسب ما كتبتَ، تتخلّى أسئلةُ النتائج والجدوى عن مبرراتها؟ أم لأننا، بعد وقتٍ رابع وخامس وعاشر، لا يتبقّى مِنّا سوى كلمات بهتَ حِبرُها، أو رُزمة أوراق ضاعت بين مخلَّفات العائلة داخل صناديق كرتونيّة؟
«ويبقى قرار الصمود عائداً للإنسان نفسه..»، كتبَ مؤنس في الوقت الثاني.
ويكتب إلياس الآن، في الوقت الثالث، ما آمنَ به طوال جميع الأوقات: ويبقى انسجامُ الإنسان مع نفسه صخرةَ صموده، وسِرَّ صعوده المتواصل حاملاً لها مرتقياً «جَبَل التجربة»، بصرف النظر إنْ كانت «الأيام المشرقة ليست ببعيدة»، لأننا، مثلما كتبَ صاحبه أيضاً: «أصحاب أحلام وإيمان معاً».
أوَلسنا، جميعنا، أصحابُ حفنةٍ من أحلامٍ صعبة التحقق، وإذا ما تحقّقت تَشَوَهَت؟ («تفاهة الواقع مهما كان قريباً إلى الكمال مقارنةً مع الحلم»). ولأنها كذلك، نحن بأمَسّ الحاجة إلى إيمانٍ قد يكون أعمى، على الأغلب!هل نضحك أخيراً؟
الآن، في الوقت الثالث، أتساءل يا صديقي إنْ كان يجدر بي أن أضحك مني، من أحلامي وأحلامك، من حارفي أحلامنا وحارقي أعمارنا وأوطاننا، من هذا الوقت وما يليه بتسلسله غير المتناهي أبداً، من الكلمات التي سوف تُكتب عن أحداثٍ لم تقع، وانكتامها وخَرَسها عن أحداثٍ وقعَت، وتطويعها لأحداثٍ عصيّة على الانمحاء وإعادة إخراجها، من أشخاصٍ يتأسطرون كلّما عصَفت أكاذيبُ الأوقات بالذاكرة، وبجهودنا الضائعة لاستعادة أشخاصٍ يختفون إثر انقضائها، من حبيباتنا القديمات (الماغيات والثريات)، أم من حُبّنا الواثق لهنّ (مَن بوسعه التأكد!)، من « المتعة في الصبر»، أم من فَرَجٍ لا يأتينا إلاّ من داخلنا عبر فُرجات فُتِحَت في قلوبنا مرّات.. وفي رقابنا مَرّةً!
أنتَ، يا مؤنس، يا صاحبي الراقد فيَّ وفي ترابكَ الأبدي، كنتَ تركتهم يفتحون ثقباً في عنقك لتتنفس هواءك الأخير.
وأنا، بعد رحيلك النهائي، تركْتُهم يثقبون جسدي ليحفروا، من جديد وجديد، ممراً دموياً سالكاً وآمناً نحو قلبي، لأصمدَ حتّى هذا الوقت الثالث.
ماذا أفعل بهذا الوقت، يا أنتَ الذي خرجَ من جميع الأوقات متخففاً من أشيائها، والجاً مساحات الضوء الباهر أو العتمة المطبقة - وحدكَ تعرف؟ كأني كنتُ أعرف، بدوري، أنّ ما سيكون مني لا يعدو مجرد محاولة لأن نشتركَ، معاً، في جذب الماضي من ياقته، ومتابعة ما بدأناه في يومٍ بعيد وقديم، من حوارات لن تحظى بـ»فاصلة في آخر السطر»، ولا حتّى بنقطة خِتام.
إذ: لا شيء يكتمل!
إلياس
عزيزي إلياس
أكتب لك بعد انقطاع طويل رسالة قصيرة، وذلك لأنّ الوقت هنا وفي هذه الأيام بالذات لا يتيح للإنسان أن يجالس نفسه ويصارحها وتصارحه ويتكشّف لها فتتعرى له. وأنت تعلم أنك أحد أقرب المقرّبين إلى نفسي، وكم أود لو أطيل معك الحديث، ولكن ها أنت ترى أنني حتى أكتب ما أكتب بقلمٍ لا ينسجم مع قريحتي وورقة لا تصلح للرسائل. أعرف ما تعانيه وأعرف مأساة العضّ على الإصبع كما تسمّيها -وقد وُفقتَ في التسميّة- من طرف واحد يدعو لاندلاع القهر ولظاه في أحشاء الإنسان. ولا أريد أن أكتب لك خطبة عصماء عن الصمود، وعضّ الوسائد والأحلام، وصُوَر الأحبّة -ماغي وثريا- من طرفنا. كل ما أستطيع قوله هو أنني أشد على أيديكم وأنتظر اللحظة التي سأشارككم فيها أقذر معركة في أقذر ساحة، لأنها المعركة المجردة من الأمل. ولا أكذب ولا أخاتل فأقول إنني أنتظرها بشوق. لا.. إنني أنتظرها بعزم وإعداد خالٍ تماماً من الشوق، ولكن مفعم بإرادة الصبر والصمود. ويبقى قرار الصمود عائداً للإنسان نفسه.. لكني لا أعتقد أبداً أنني في حاجة إلى مناشدتك الصبر، فالأيام المشرقة ليست ببعيدة. وهذا ليس كلام حالمٍ يحلم، بل مؤمنٍ يؤمن.. ونحن أصحاب أحلام وإيمان معاً.
إني أعرف عن مقدرتك الهائلة على مجابهة الظروف القاسية -ربما- أكثر مما تعرف أنت عن نفسك. وإني أقدّر فيك هذا.
حياتنا هنا مختلفة.. أسهل وليست أمتع. قد تكون نتائجها مدمِّرة، إذا أخذتَ منها عادةَ وضع القدمين في الماء البارد، أي التأثر بالأجواء الإيجابية بحيث تفقد المناعة إذا ما عدتَ إلى أجواء سلبية. وقد تكون آثارها جيدة ورائعة إنْ أنتَ انتزعتَ منها نكهة النصر وإمكان تحقيقه وصعوبة المحافظة عليه.. وأحياناً تفاهة الواقع مهما كان قريباً إلى الكمال مقارنة مع الحلم.. فإذا استوعبتَ الجانب الأخير عرفتَ أن الإمكان أنبل من الفعل، ولو أن الفعل هو الوسيلة الوحيدة التي تقيكَ الغَرَق والأعداء حين يكون البحر من ورائك والعدو من أمامك. فحاولْ أن ترى المتعة في الصبر ولا تسأل كثيراً: متى الفَرَج؟
قصتكَ لم تُنشَر. فالصحفي الذي ينشر لي نُقل من مجلة (أ ب) إلى جريدة «الجمهورية» ولم أره من يومها. على أي حال سأتصل به وأسأله. أما قصتك التي نُشرت فسأحاول البحث عن العدد الذي يحتويها رغم صعوبة ذلك.
أخيراً سلامي وأشواقي الحارة إليك، وإلى سليمان، وإسماعيل، وجميع الأهل والأصدقاء.
مؤنس
******************
عمّان (5/3/2013)
من أين أتيتَ بهذا التشبيه يا أنتَ، المدعو إلياس فركوح، الذي رآه صاحبُكَ موفقاً؟ الأرجح أنكَ عُدتَ للوراء كثيراً، عشرين سنة ربما، أو أزْيَد قليلاً. عُدتَ مسترجعاً، بلا وعيٍ بالتأكيد، تاركاً لذاكرتكَ أن تفرزَ ما يصلح ويناسب ما كنتَ تعيشه وقتذاك، حين كتبتَ لمؤنس رسالةً أتيتَ فيها على تشبيه التحدي والصمود هذا.
إذَن؛ أنتَ الآن حيال وقتين اثنين. وقت الرسالة المكتوبة في بغداد ردّاً على أخرى من عمّان، ووقت المحطة التي عدتَ إليها لتنتشل منها الحَدَثَ الذي أوحى لكَ بـ»العَضّ على الإصبع». الآن، بداية ليلة الاثنين 4 آذار 2013، وها تشرع بالكتابة وأمامك أوّل رسالة مما تبقّى. ولكن، وقبل أن تسترسلَ، عليكَ أن تَعي فتعترف أنك في اللحظة التي ستبدأ فيها ستكون قد ولجتَ وقتاً ثالثاً تعاينُ خلال توالده، وفقَ شروطه وظرفك الشخصي (لعلّه المَزاجي أيضاً)، صُوَراً قديمةً، وأحداثاً باهتةً، وأصواتاً مكبوتةً، وأصداءً لأشياءَ غامضة ملتبسة أشبه ما تكون بـ»حفيف» أوراق يابسة، وأعشاب شوكية، وأكياس مخلَّفات، تكنسُ بها الريحُ أرصفةَ مدينةٍ ما. قد تكون المدينة عمّان، أو بيروت، أو القدس، أو القاهرة، وقد لا تعدو كونها واحدة من مدن مخيلتكَ لمَّا تَنْشط عمليةُ التعويض فيك - أنتَ الناقص أبداً.
في الخطوة الأولى على درب الوقت الثالث تراكَ تلتفت للوراء، للوراء كثيراً، لتجدَ نفسكَ تعاينُ وَلَداً يرتعش داخلُه، وربما كانت أصابع يديه تنتفض أيضاً وتَعْرَق. أمامكَ قامةٌ سوداء على طولها، فارعة، ذات سطوة وحضور طاغ. وخلفكَ نافذةٌ عريضةٌ سَمَحَت لشمس الظهيرة أن تنفذ من جهة القدس الغربيّة «الإسرائيلية»، وراء الأسوار العثمانيّة، لتفضحَ ورقةً كنتَ رسمتَ عليها، بوحيٍ من أبطال السينما الرائجة وقتذاك، رَجُلاً بكتفين عريضتين وذراعين مفتولتين وصدرٍ متعضِّل عريض. الرجل البطل مرسومٌ بخطوطٍ تفتقرُ لأيّ إتقان فنيّ، على مستوى التشريح، والورقة بسطورها الأفقية المنتظمة الفاهية، المنزوعة من دفتر الفروض، تتعرض للخطف و»الجَعْلَكَة» والتمزيق مثلما تتعرض أنتَ للهزء أوّلاً، ثم للتوبيخ بصوتٍ هادر وسط صمت طلبة الصف، وترقبهم لعقابٍ جديد قاس ينتظرك. كنتَ تعرف أنكَ ستعاقَب، وكنتَ مَقَتَّ متوالية العقوبات والقَصاص إلى درجة عدم الاحتمال والطَفْح، وكنتَ ترتعش من الداخل وتنتفض من الخارج وتَعْرَق. هذا ما تذكره، أو تحاول ما تستطيع. غير أنكَ، لحظتها، وبكل يقينيات الكون، كنتَ اتخذتَ قراراً لم تدرك كيف واتاكَ بغير رجعة، كأنكَ قطعتَ أشواطاً من عُمركَ إلى عُمركَ الذي لم يأتِ بعد، واتخذتَ خطوة التحدي:
رفضتَ الاعتذار، وبقيتَ جالساً في مقعدك، وغرستَ عينيكَ في عيني القامة السوداء، الفارعة، ذات السطوة والحضور الطاغي! يا أنتَ، يا الوَلَد العاصي، كيف لكَ أن تتحدّى، وبالعينين تنغرسان في العينين؟ ماذا كنتَ تريد؟ ماذا كنتَ تتوقع؟ مَن «تنكسر عينه» أولاً؟ الصفعة الأولى لم تهزمك. ظلَّت تحديقتك ثابتة. تلتها صفعة ثانية أقوى، فانْتَثَرَت دمعةٌ منكَ، ولم تهبط بعينيك اللتين زاغتا! زعقةٌ كأنكَ سمعتها، لكنها بَدَت غباراً تبددَ خارج النافذة خلفكَ، فواصلتَ تحديك منتصراً لعينيكَ؛ فكانَ أن جُررتَ إلى خارج الصف.
أوَليست هذه المحطة هي التي استقيتَ منها «العَضّ على الإصبع»؟
أوَليست هذه الحادثة ما أوْصَلَكَ إلى أنكَ، مهما بلغت بكَ الحال سوءاً، لن تكون مَن «يصرخ أوّلاً»؟
أوًليست حالةُ التحدي تلك، وأنكَ لستَ الصارخ الأوّل، قد يعني، في تأويلٍ رغائبي، ربما، أنكَ مَن «يضحك أخيراً»؟ غير أنّ مؤنساً يكتب، من بغداد «البعث» الذي يعيش «انتصاره» وأحلام ما سوف ينجز وطموحات ما سوف يبني ويشيد، إلى إلياس الذي يتحرك داخل عمّان وشروطها في المنتصف الثاني لسبعينيات القرن الماضي (ياه! كم كبرنا يا رَبّ!) ليقول، بعد «أشدّ على أيديكم» منتظراً أن يشاركنا «أقذر معركة في أقذر ساحة، لأنها المعركة المجردة من الأمل».
أكنتَ، يا مؤنس، تعي أنكَ حين تدخل معركةً مجردةً من أمَل الانتصار إنما تتماهى، على نحوٍ ما، مع أسطورة البطولات العارية إلاّ من مجد وجودها المحض؟ بطولات لا تتوجها أكاليل الغار الخضراء، النضرة، المقطوفة للتو عن غصن شجرتها، بقدر ما هي معدنٌ مطليٌّ بالذَهب، فوق رأسٍ من رخام، ينتصبُ وسط أضغاث أحلام؟ أهو مجدُ ضَرْب الأمثولة وتسجيل الموقف؟ مجدُ «سيزيف» المحكوم بأسطورته قبل أن يخلقها وتخلقه؛ ولذلك باتَ رمزاً للأقدار الأبديّة عندما تربضُ فوقنا بقوة صخرةٍ هَوَت علينا من سابع سماء؟ ورغم ذلك؛ ترانا نحملها ونصعد الجَبَل! بلا توقف! بلا هوادة! بلا أيّ هُدنة! لا نستريح أبداً! ألأننا لم نتعب أصلاً كوننا مجرد تمثيل لفكرة، لا يكون لسؤال الراحة ما يبرره؟ أم لأنّ «الإمكان أنبل من الفعل»، بحسب ما كتبتَ، تتخلّى أسئلةُ النتائج والجدوى عن مبرراتها؟ أم لأننا، بعد وقتٍ رابع وخامس وعاشر، لا يتبقّى مِنّا سوى كلمات بهتَ حِبرُها، أو رُزمة أوراق ضاعت بين مخلَّفات العائلة داخل صناديق كرتونيّة؟
«ويبقى قرار الصمود عائداً للإنسان نفسه..»، كتبَ مؤنس في الوقت الثاني.
ويكتب إلياس الآن، في الوقت الثالث، ما آمنَ به طوال جميع الأوقات: ويبقى انسجامُ الإنسان مع نفسه صخرةَ صموده، وسِرَّ صعوده المتواصل حاملاً لها مرتقياً «جَبَل التجربة»، بصرف النظر إنْ كانت «الأيام المشرقة ليست ببعيدة»، لأننا، مثلما كتبَ صاحبه أيضاً: «أصحاب أحلام وإيمان معاً».
أوَلسنا، جميعنا، أصحابُ حفنةٍ من أحلامٍ صعبة التحقق، وإذا ما تحقّقت تَشَوَهَت؟ («تفاهة الواقع مهما كان قريباً إلى الكمال مقارنةً مع الحلم»). ولأنها كذلك، نحن بأمَسّ الحاجة إلى إيمانٍ قد يكون أعمى، على الأغلب!هل نضحك أخيراً؟
الآن، في الوقت الثالث، أتساءل يا صديقي إنْ كان يجدر بي أن أضحك مني، من أحلامي وأحلامك، من حارفي أحلامنا وحارقي أعمارنا وأوطاننا، من هذا الوقت وما يليه بتسلسله غير المتناهي أبداً، من الكلمات التي سوف تُكتب عن أحداثٍ لم تقع، وانكتامها وخَرَسها عن أحداثٍ وقعَت، وتطويعها لأحداثٍ عصيّة على الانمحاء وإعادة إخراجها، من أشخاصٍ يتأسطرون كلّما عصَفت أكاذيبُ الأوقات بالذاكرة، وبجهودنا الضائعة لاستعادة أشخاصٍ يختفون إثر انقضائها، من حبيباتنا القديمات (الماغيات والثريات)، أم من حُبّنا الواثق لهنّ (مَن بوسعه التأكد!)، من « المتعة في الصبر»، أم من فَرَجٍ لا يأتينا إلاّ من داخلنا عبر فُرجات فُتِحَت في قلوبنا مرّات.. وفي رقابنا مَرّةً!
أنتَ، يا مؤنس، يا صاحبي الراقد فيَّ وفي ترابكَ الأبدي، كنتَ تركتهم يفتحون ثقباً في عنقك لتتنفس هواءك الأخير.
وأنا، بعد رحيلك النهائي، تركْتُهم يثقبون جسدي ليحفروا، من جديد وجديد، ممراً دموياً سالكاً وآمناً نحو قلبي، لأصمدَ حتّى هذا الوقت الثالث.
ماذا أفعل بهذا الوقت، يا أنتَ الذي خرجَ من جميع الأوقات متخففاً من أشيائها، والجاً مساحات الضوء الباهر أو العتمة المطبقة - وحدكَ تعرف؟ كأني كنتُ أعرف، بدوري، أنّ ما سيكون مني لا يعدو مجرد محاولة لأن نشتركَ، معاً، في جذب الماضي من ياقته، ومتابعة ما بدأناه في يومٍ بعيد وقديم، من حوارات لن تحظى بـ»فاصلة في آخر السطر»، ولا حتّى بنقطة خِتام.
إذ: لا شيء يكتمل!
إلياس