(1)
مَدْخل
هل أقفُ الآن أمام بنايةٍ صغيرة أم كتابٍ كبير؟ يبدو أنني كنتُ تائهاً أو ثملاً فلم أتبيّن العنوان، لكنّ الغلاف الأمامي للكتاب كان على هيئة بابٍ ضخم، فتحتُه ودخلت، من غير شجاعةٍ ولا تَردّد. انغلقَ البابُ من ورائي بصوت ضحكةٍ مكبوتة، فقلتُ إنه لن يُفتَح بعد ذلك أبداً، وإنني لستُ سجيناً رغم هذا، وكل ما أحتاجُ إليه حتّى أعرف طريق الخروج أن أستريح وأقرأ ثم أنام. تحسستُ ما حولي فعرفتُ أنني في ممرٍّ، وبعد أن اعتادت عيناي الإضاءة الخفيضة ظهرتْ فصولُ الكتاب موزعةً أمامي أبواباً مُغلقة على جانبيّ الممرّ، لكلّ بابٍ شكله ولونه ومُثبّت عليه رقم معدني، جميعها أصغر من الباب الخارجي الذي اختفى الآن، وتخلو من زخارفه وكتابته. وقفت بين الأبواب تائهاً وثقيل الجسد لا أدري إلى أيّها أتجه، وقبل أن أتذاكى كعادتي وأقول شيئاً من قبيل إن تلك الأبواب هي فصول حياتي أو سنوات عمري، نصحتني نفسي بأن البلاغة غير مُستحبّة أمام غرفٍ موصدة في هذا الوقت من الليل. وتذكّرت مسلسلاً تليفزيونياً قديماً كان اسمه «حكاية وراء كل باب»، فخفتُ قليلاً ورجحّتُ أنّني مخمور في مدينةٍ غريبة، وأنَّ هذه هي ليلتي الأولى فيها، وأنني ما زلتُ بلا صديق يسندُ ترنّحي ويجيبُ أسئلتي، ولا بدّ أن هذا هو الكتاب الذي اشتريتُه قبل قليل من سوق الكتب القديمة، ثم دخلتُه بإرادتي غير مبالٍ بسُكري، فاتّضح أنّه فندق من نوعٍ ما. بدا الاحتمالُ معقولاً لكني لم أعثر على أيّ مفتاحٍ في جيوبي، وقلت إنني لا بدّ أن أدخل أيّ غرفة لأجد الحكاية التي وراء بابها، والفراش والنوم والأحلام، وإنَّ الممر بارد وساكن ومُقبض، وإنني لن أجد طريق الخروج إن لم أجرّب كل غرفة في هذا الفندق، محتضناً حكاية جديدة كلَّ ليلة، حتى أصلَ إلى الباب الأخير الخلفي، شبيه ذلك الذي ذاب في الظلام منذ لحظات. وقلتُ إن عنوان الكتاب هو «فندق الحكايات الخرافية»، عسى أن يساعدني اختيار العنوان على الدخول في النوم ولو بثياب الخروج، واقتربتُ من أوّل الأبواب مُتعباً وضجراً من أفكاري، وفتحتُه بأمل العثور وراءه على مَخرج في الحكاية النائمة على الصفحة التالية.
(2)
مخرج
هل نجوتُ أم غرقتُ؟ يبدو أنني كنتُ نائماً في بطن السفينة عندما فاجأتها العاصفة وتحطّمت أمام شواطئكم ليلةَ أمس. تخاطفَ الموجُ المسافرين والبحّارة وصاحَ القبطان: «مَن ينجو منكم فليحكِ الحكاية»، وقد هلكَ الجميعُ عداي، أو هذا ما أظنّ، فهل نجوتُ؟ وأي حكايةٍ كان يقصدها القبطان؟ سبحتُ حتّى اليابسة وأفقتُ على أحلامكم تتجوّل عاريةً وساكتةً من حولي، انتبهتْ الأحلامُ لي وكانت ودودة فلم تسألني عن شيء ودَلّتني على موضع الماء والطعام ثم تفرّقتْ قبل طلوع النهار، وأتيتم أنتم بثيابكم وعُبوسكم وأسئلتكم الكثيرة عن حكايتي، فأي حكايةٍ تقصدون؟ وأنا أحبّ الكلام لكني لا أجد لساني، أو أحبّ لساني لكني لا أجد الكلام، ولعلّ السر في مائكم الأحمر هذا أو تلك الثمار التي تشبه أَجِنَّةً صغاراً في أغلفة الأرحام، ومع هذا فمن حقي أن أسمّي بلدكم هذا جزيرة الحكايات الخرافية، عسى أن يساعدني هذا الاسم على تذكّر حكاية أو تلفيق أخرى، والنسيان يغري بالكذب والافتراء. فما سر مائكم الأحمر هذا؟ وكيف يتحدّث بهذا الهسيس الغريب؟ وحين شربتُه سمعتُه يغني في جَوفي كأنه يناغي وليداً؟ وتلك الثمار كيف تنمو على صورة الأجّنة، وهل تتركونها في أغلفتها الشفيفة حتى تسقط على الأرض دون مشقّة، ثم تسمعونها تبكي طلباً لفم الجائع أم تقطفونها عن الأغصان مُبكّراً كما فعلتُ ليلة أمس؟ لا هدايا معي ولا تذكارات والبحر ابتلعَ الحكاية وذاكرتي مشوّشة تماماً، لكني أعدكم أن تجدوني نافعاً في النهار ومُسلياً في الليل، جرّبوني وإذا أصررتم فسوف أبتكرُ لكلٍّ منكم حكايةً على هواه، بحيث تبدو كأنها حكايتي القديمة المجهولة، وقد استعادت طريقها إلى لساني بفضل غناء الماء الأحمر في جوفي، ستبدو حكايتي القديمة حقيقية وغريبة ومُنهكة لمَن يسمعها حتّى النهاية، لكنّ صاحبها الحقيقي منكم سيعرف على الفور أنها له وأنها عنه وأنها منه، وأنني سرقتُها من عينيه ولسانه وشفتيه. لماذا لا يُدهشكم حديثي؟ وهل يحدث أن تلتقوا أنتم وأحلامكم في نفس الوقت والمكان؟ ولماذا تبقون صامتين عابسين هكذا؟ ولماذا عندكم السماء هُنا والأرض هُناك؟ أجيبوني، تكلّموا قليلاً، احكوا لي أنتم.
---------
* مصر
الاتحاد
مَدْخل
هل أقفُ الآن أمام بنايةٍ صغيرة أم كتابٍ كبير؟ يبدو أنني كنتُ تائهاً أو ثملاً فلم أتبيّن العنوان، لكنّ الغلاف الأمامي للكتاب كان على هيئة بابٍ ضخم، فتحتُه ودخلت، من غير شجاعةٍ ولا تَردّد. انغلقَ البابُ من ورائي بصوت ضحكةٍ مكبوتة، فقلتُ إنه لن يُفتَح بعد ذلك أبداً، وإنني لستُ سجيناً رغم هذا، وكل ما أحتاجُ إليه حتّى أعرف طريق الخروج أن أستريح وأقرأ ثم أنام. تحسستُ ما حولي فعرفتُ أنني في ممرٍّ، وبعد أن اعتادت عيناي الإضاءة الخفيضة ظهرتْ فصولُ الكتاب موزعةً أمامي أبواباً مُغلقة على جانبيّ الممرّ، لكلّ بابٍ شكله ولونه ومُثبّت عليه رقم معدني، جميعها أصغر من الباب الخارجي الذي اختفى الآن، وتخلو من زخارفه وكتابته. وقفت بين الأبواب تائهاً وثقيل الجسد لا أدري إلى أيّها أتجه، وقبل أن أتذاكى كعادتي وأقول شيئاً من قبيل إن تلك الأبواب هي فصول حياتي أو سنوات عمري، نصحتني نفسي بأن البلاغة غير مُستحبّة أمام غرفٍ موصدة في هذا الوقت من الليل. وتذكّرت مسلسلاً تليفزيونياً قديماً كان اسمه «حكاية وراء كل باب»، فخفتُ قليلاً ورجحّتُ أنّني مخمور في مدينةٍ غريبة، وأنَّ هذه هي ليلتي الأولى فيها، وأنني ما زلتُ بلا صديق يسندُ ترنّحي ويجيبُ أسئلتي، ولا بدّ أن هذا هو الكتاب الذي اشتريتُه قبل قليل من سوق الكتب القديمة، ثم دخلتُه بإرادتي غير مبالٍ بسُكري، فاتّضح أنّه فندق من نوعٍ ما. بدا الاحتمالُ معقولاً لكني لم أعثر على أيّ مفتاحٍ في جيوبي، وقلت إنني لا بدّ أن أدخل أيّ غرفة لأجد الحكاية التي وراء بابها، والفراش والنوم والأحلام، وإنَّ الممر بارد وساكن ومُقبض، وإنني لن أجد طريق الخروج إن لم أجرّب كل غرفة في هذا الفندق، محتضناً حكاية جديدة كلَّ ليلة، حتى أصلَ إلى الباب الأخير الخلفي، شبيه ذلك الذي ذاب في الظلام منذ لحظات. وقلتُ إن عنوان الكتاب هو «فندق الحكايات الخرافية»، عسى أن يساعدني اختيار العنوان على الدخول في النوم ولو بثياب الخروج، واقتربتُ من أوّل الأبواب مُتعباً وضجراً من أفكاري، وفتحتُه بأمل العثور وراءه على مَخرج في الحكاية النائمة على الصفحة التالية.
(2)
مخرج
هل نجوتُ أم غرقتُ؟ يبدو أنني كنتُ نائماً في بطن السفينة عندما فاجأتها العاصفة وتحطّمت أمام شواطئكم ليلةَ أمس. تخاطفَ الموجُ المسافرين والبحّارة وصاحَ القبطان: «مَن ينجو منكم فليحكِ الحكاية»، وقد هلكَ الجميعُ عداي، أو هذا ما أظنّ، فهل نجوتُ؟ وأي حكايةٍ كان يقصدها القبطان؟ سبحتُ حتّى اليابسة وأفقتُ على أحلامكم تتجوّل عاريةً وساكتةً من حولي، انتبهتْ الأحلامُ لي وكانت ودودة فلم تسألني عن شيء ودَلّتني على موضع الماء والطعام ثم تفرّقتْ قبل طلوع النهار، وأتيتم أنتم بثيابكم وعُبوسكم وأسئلتكم الكثيرة عن حكايتي، فأي حكايةٍ تقصدون؟ وأنا أحبّ الكلام لكني لا أجد لساني، أو أحبّ لساني لكني لا أجد الكلام، ولعلّ السر في مائكم الأحمر هذا أو تلك الثمار التي تشبه أَجِنَّةً صغاراً في أغلفة الأرحام، ومع هذا فمن حقي أن أسمّي بلدكم هذا جزيرة الحكايات الخرافية، عسى أن يساعدني هذا الاسم على تذكّر حكاية أو تلفيق أخرى، والنسيان يغري بالكذب والافتراء. فما سر مائكم الأحمر هذا؟ وكيف يتحدّث بهذا الهسيس الغريب؟ وحين شربتُه سمعتُه يغني في جَوفي كأنه يناغي وليداً؟ وتلك الثمار كيف تنمو على صورة الأجّنة، وهل تتركونها في أغلفتها الشفيفة حتى تسقط على الأرض دون مشقّة، ثم تسمعونها تبكي طلباً لفم الجائع أم تقطفونها عن الأغصان مُبكّراً كما فعلتُ ليلة أمس؟ لا هدايا معي ولا تذكارات والبحر ابتلعَ الحكاية وذاكرتي مشوّشة تماماً، لكني أعدكم أن تجدوني نافعاً في النهار ومُسلياً في الليل، جرّبوني وإذا أصررتم فسوف أبتكرُ لكلٍّ منكم حكايةً على هواه، بحيث تبدو كأنها حكايتي القديمة المجهولة، وقد استعادت طريقها إلى لساني بفضل غناء الماء الأحمر في جوفي، ستبدو حكايتي القديمة حقيقية وغريبة ومُنهكة لمَن يسمعها حتّى النهاية، لكنّ صاحبها الحقيقي منكم سيعرف على الفور أنها له وأنها عنه وأنها منه، وأنني سرقتُها من عينيه ولسانه وشفتيه. لماذا لا يُدهشكم حديثي؟ وهل يحدث أن تلتقوا أنتم وأحلامكم في نفس الوقت والمكان؟ ولماذا تبقون صامتين عابسين هكذا؟ ولماذا عندكم السماء هُنا والأرض هُناك؟ أجيبوني، تكلّموا قليلاً، احكوا لي أنتم.
---------
* مصر
الاتحاد