د. المختار حسني - السرقة الشعرية المفهوم وآليات الاشتغال -1- محمد بن سلام الجمحي

1- محمد بن سلام الجمحي:

لعل محمد بن سلام الجمحي –على الأقل فيما وصلنا في الموضوع- كان أول ناقد –وهو مؤرخ أدبي أساسا- توفرت فيه هذه الشروط، وعمل، في غمرة اشتغاله بقضايا أخرى، على استجلاء الموضوع، والتفريق بين ما يمكن اعتباره سرقة وما لا يمكن اعتباره كذلك. ويبدأ ذلك عند الحديث عن بيت مشهور يروى للنابغة الذبياني: [الطويل]:
فَلَستَ بِمستَبْقٍ أَخًا لا تَلُمُّهُ إلى شَعَثٍ أَيُّ الرِّجال المُهَذَّبُ؟( )
حيث نفهم من كلام ابن سلام أنه لا يُستبعد أن يكون هذا البيت مما ضمَّنه النابغة شعرَه، بعد أن ساق ادعاء بني سعد «البيتَ لرجل من بني مالك بن سعد يقال له شِقَّة»( ). وأكد وجود هذا الرجل اعتمادا على ما أخبره به "خَلَفٌ الأحمر" من أنه سمع من أعراب بني سعد لهذا الرجل( ). ورغم أنه من الممكن استخلاص مجموعة من الدلالات من سياقة هذا الخبر عند ابن سلام مثل:
- فضيلة السبق والريادة
- تعقُّد مهمة الناقد إذا كان الشاعر المأخوذ منه، مثل "شقة"، مغمورا.
- إشكالية "حق الملكية" تبعا لذلك، أو بسبب المبالغة في إخفاء المأخوذ كما في حال النابغة…الخ
إلا أن الناقد، لا يبتغي، في الأغلب، غير تقرير: أن اعتماد الشعراء على بعضهم بعض، أمرٌ بدهي لا ينبغي أن يكون مدعاة للطعن في قدراتهم، فهذا النابغة ذاته، تعرض لنفس ما "اقترفه" في حق "شقة"، لأن بيته [البسيط]:
تعدو الذِّئَابُ عَلى مَن لا كِلاب لهُ وتَــتَّـقي مَربِـضَ المُسْـتَثْفِرِ الحَامي( )
يُروى للزِّبْرِقان بن بَدْر على الوجه التالي: [البسيط]
إنّ الذِّئَابَ تَرى مَن لا كِلابَ لــهُ وَتَحتمي مَربِـضَ المُسْـتَثْفِرِ الحَامي( )
وقد سأل ابن سلام يونسَ بنَ حبيب عن البيت فقال له : «هو للنابغة، أظن الزِّبْرِقَانَ استزاده في شعره كالـمَثل حين جاء موضعُه لا مُجتلِبا له»، ثم عقب ابن سلام على ذلك مقررا: «وقد تفعل ذلك العرب، لا يريدون به السرقة»( )خاصة إذا كان الشعر "المسروق" مما هو معروف لدى الجميع صاحبُه؛ ككلمة النابغة التي استزادها الزبرقان، أو كلمة أمية بن أبي الصلت [البسيط]:
تلك المَكَارمُ؛ لاَ قَعْبَانِ من لَبَنٍ شِـيــبـَا بِـماءٍ فَعَادا بَعْدُ أَبْـوالا( )
التي ضمنها النابغة الجعدي قصيدة له [البسيط]:
فإن يَكُن حَاجِبٌ مِمَّنْ فَخَرْتَ به فَــــــلَمْ يــــَكُــــنْ حَاجِبٌ عَمَّا ولا خَالا
هَلاَّ فَخَرْتَ بِيَوْمَيْ رَحْرحَانَ وَقَدْ ظَــنَّــتْ هَـــوَازِنُ أَنَّ الــعِـزَّ قَــــدْ زالاَ
تلك المَكَارم لاَ قَعْــبَــانِ من لَـبَنٍ شِـيـبَـا ِبـمــاءٍ فَعَادا بَـــعْـدُ أَبْـــــوالا( )
«وقال غير واحد من الرجاز:
*عِنْدَ الصَّباحِ يَحمَدُ القَوْمُ السُّرى)* )
إذا جاء موضعه جعلوه مثلاً»( ). فالظاهر، إذن، أن ابن سلام أراد أن يصرف المهتمين بالشعر عن الاتهام العشوائي للشعراء بالسرقة؛ فالذي يفهم من هذه الاستشهادات والتوضيحات التي ساقها، أن المتلقي كان يتجه آنذاك وجهة غير سليمة في تقويم الشعر، وأن الاهتمام والاتهام بالسرقة كان آخذا بالتزايد( )، فاستدعى منه هذا الوضع، العناية بضبط المفاهيم، وتنظيم الدراسة النقدية وفق معايير موضوعية تراعي مقتضى الحال ومقصدية الشاعر، قبل أن تنفلت الأمور. وهذه نظرة متقدمة جدا إلى مشكل السرقات بالنظر إلى العصر الذي طرحت فيه رغم أن ابن سلام لم يخصص لها مبحثا واسعا في كتابه الذي ألفه لأهداف أخرى، وهكذا طرح مصطلحين آخرين للتداول هما: الاستزادة والتمثل ليقابلا "السرقة" ولِـيَحُدَّا من الاستعمال المطلق لها، ولمصطلحي "الاجتلاب" و"الإغارة"( )، اللذين يُقْصَدُ بهما الحَطُّ من شأن الآخذ. ومصطلحات الاستزادة والتمثل والتضمين، بمعنى واحد؛ وتكون في حال شعور الشاعر بالتقصير فيما عبر عنه فيضمن مثل هذه الزيادة أو المثل في شعره لتقوية قصده وتأكيده، وهو مقصد شريف يرفع من قدر الشعر المأخوذ ويتلاقح معه.



الهوامش :
– طبقات فحول الشعراء؛ 56 – والديوان؛ 74. وفيه "على شَعَثٍ" وهي الرواية المشهورة. كما أشار محقق الطبقات أما رواية "إلى شعث" فهي كما يقول في نفس الصفحة:«رواية غريبة ولكنها شريفة محكمة…».
- نفسه.
– نفسه؛ 57.
– نفسه. وديوان النابغة(صنعة ابن السكيت)؛ 222.
– نفسه. وشعراء النصرانية بعد الإسلام، لويس شيخو؛ 35. وفيه (المستـنفر). وقبله بيت آخر يروى كذلك للنابغة كما ورد في (ابن السكيت) 222 وهو[البسيط]:
فلن أصالحهم ما دمتُ ذا فرس واشتد قبضا على السِّيلانِ إبهامي
- طبقات فحول الشعراء؛ 58.
– نفسه.
– نفسه؛ 59. والأغاني؛ 5: 14.
– «يُضرَب للرجل يحتمل المشقة رجاء الراحة». ويروى أن أول من قاله خالد بن الوليد/ مجمع الأمثال، الميداني؛ 2: 318.
- طبقات فحول الشعراء؛59.
– مصطلحات النقد العربي؛291. و- مشكلة السرقات؛ 23.
– طبقات فحول الشعراء؛ 733 – واستعمل مصطلح الإغارة فعلا في الحديث عن قُرَاد بن حَنَش قال: «كان قُرادُ بنُ حنَشٍ من شعراء غطفان، وكان قليل الشعر جيدَه، وكانت الشعراء تغير على شعره فتأخذه فتَدّعيه». / وينظر – مشكلة السرقات 92.





تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...