محمد البساطي - ضوء ضعيف لا يكشف شيئا

كانوا هناك وسط أشجار الكافور العالية، الأشجار كثيفة الظلال تأخذ شكل مثلث على ضفة النهر. لا بد أنهم جاءوا في الليل، فلم يرهم أحد عند مجيئهم. لا شيء يدل على وجودهم غير مدفع بعجلتين خارج الأشجار فوهته مسددة إلى أعلى، وجندين على صهوتي جوادين يغلقان الكوبري المؤدي للبلدة.

كان الصيادون العائدون في الفجر أول من رآهم. الهلاهيل التي يلبسونها أثناء الخوض في البحيرة لا تزال مبتلة، وعلى ظهورهم الشباك ومقاطف السمك. مروا بالمدفع دون أن يلتفتوا إليه، وعندما صعدوا الطريق إلى الكوبري أوقفهم الجنديان. في البداية ظنوهما من جنود الدورية. كانوا أربعة. وقفوا صامتين في انتظار ما سيقوله الجنديان. غير أن الجنديين اندفعا بجواديهما نحوهم. تفرق الأربعة كالخراف الشاردة، وشهر كل من الجنديين عصاه وجمعاهم بين الجوادين، وأخذا يخزانهم بأطراف العصي. هرول الصيادون أمامهما مزمجرين، ولوا في تقهقرهم حتى بلغوا الأشجار فتوقفوا، وعندما رأوا إصرار الجنديين على ملاحقتهم اندفعوا وسط الأشجار.

خرج عويس - عامل التحويلة - من عشته قاصدا البلدة لصلاة الفجر بالجامع، ورغم وجود خرائب وقنوات مياه في طريقه تصلح لقضاء حاجته إلا أنه كان يفضل أن يفعلها وسط الأشجار، فمجرى المياه هناك مبلط بالأسمنت:

- أسمنت جميل. والماء جميل. تراه وهو يجري. الأرض أيضا نظيفة خالية من الحشائش فيستطيع أن يرى الثعابين والضفادع ويتجنبها. هو الآخر لم ير المدفع. سار وسط الأشجار حتى بلغ مجرى المياه. عندما أحاطوا به كان يخط بإصبعه في التراب. نظر إليهم وعجز عن القيام.

كنا على ضفة النهر، وقد عرفنا بمجيئهم، نبحث عنهم بنظراتنا. هم على الضفة الأخرى تخفيهم ظلال الأشجار المعتمة، والمدفع خارجها يتألق في ضوء الشمس:

- ثورة؟ أي ثورة؟

بلدتنا صغيرة نائية، وقد سمعنا كالآخرين بقيام الثورة، ثم نسينا الأمر، حتى ناظر المدرسة الابتدائية - الوحيدة بالبلدة - ظلت صورة الملك معلقة في مكتبه لا ينتبه إليها إلى أن جاءت الثورة إلى البلدة. كان المدرسون والتلاميذ مجتمعين في الحوش يهتفون ويطالبون بالذهاب إلى النهر. خرج الناظر من مكتبه وهبط درجتي السلم وسار إلى البوابة وفتحها صائحا:

- اخرجوا.

ثم عاد إلى مكتبه وأنزل الصورة وأخفاها وسط الملفات فوق الرف. وكان يعبر الحوش مهرولا حين رأى العلم. اندفع نحوه - وقد تذكر أن الثورة جاءت بعلم جديد - نزع السارية من حفرتها وحملها بالعلم إلى المخزن، وأسرع ليلحق بهم.

تلك اللحظات التي سبقت ذهابنا إلى النهر، وكأن زوبعة اجتاحت البلدة. كانوا يجرون صاخبين في الحواري، وأغلقت الدكاكين والبيوت. ووقف العدوي أمام بيته يضرب كفا بكف ويقول: سبحان الله.

وحين خفت القدم في الحارة أسرعا إلى الداخل وأغلقا الباب. حفر العدوي بيديه في ركن المندرة الداخلية بعد أن أزاح سحارة العيش جانبا وأخرج علبة صغيرة من الصفيح.

قالت امرأته:

- رائحتها فايحة.

- أعطيني خرقة.

لف العلبة بالخرقة ووضعها تحت إبطه وخرجا. سارا مهرولين وسط الحواري الخالية عكس اتجاه النهر. وبلغا حارة ضيقة تفضي إلى الحقول خلف البلدة. ظهر "عمرانها" آتيا من الاتجاه الآخر. صاح قبل أن يلتفوا:

- إلى أين يا عدوي. الجميع يذهبون إلى النهر؟

- آه. سأذهب.

وقف أمامهما، والتقطت أنفه رائحة الحشيش:

- تذهب؟!

حدق إليهما ورعشة خفيفة تسري في جسده الضخم المترهل، واستقرت عيناه الجاحظتان على اللفة:

- آه يا عدوي. عشرة أيام. وتقول لي هل تأخرت يوما في رد ديوني؟

- أبدا يا عمران. لم تعجبني حالك. كنت تدخن كثيرا.

- وأين تذهب بها؟

- يقولون إنهم سيفتشون البيوت.

- ولو فتشوا. كم مرة فتشوا بيتك؟ عشرين؟ وماذا و جدوا؟

ضحك ومال على العدوي ووخزه في جنبه:

- هه. ماذا وجدوا؟

ضحك العدوي. انفجر الاثنان فجأة في الضحك.

قال عمران لاهثا:

- ما قولك في المخبرين؟

- أولاد حرام.

- كم مرة فتشوا بيتك؟

- كثيرا.

- وكيف يفتشون؟

- يجعلون أعلاه أسفله.

- طيب. وماذا وجدوا؟

- وماذا عندي ليجدوه؟

- صحيح. ماذا عندك.

عادت عيناه تتحسسان اللفة تحت إبط العدوي :

- كم تزن ؟

- أبدا. مجرد إصبعين.

- أكثر. أزنها في يدي؟

تقهقر العدوي خطوة، ودفع امرأته أمامه وابتعدا ، يبدو طويلا شديد النحول وذيل جلبابه الواسع يكنس الأرض وراءه، وامرأته قصيرة ممتلئة والملاءة السوداء حول كتفيها.

همست:

- رآنا يا عدوي.

- وماذا لو رآنا. ليت كل أهل البلد مثله. الوحيد الذي لا أغشه أبدا.

اقتربا من نهاية الحارة وامتدت الحقول أمامهما. التفت العدوي ليلقي نظرة وراؤه.

لمح كتف عمران تطل من مدخل أحد البيوت. كان يقف على المصطبة وبدا المدخل غير كاف لاحتواء جسده الضخم. ناداه العدوي. خرج عمران من مكمنه وسار إليهما. قال العدوي:

- أتتبعني؟

- أتبعك؟

تبادلا النظر في صمت. العدوي غاضب وقد مال بجذعه قليلا للوراء، ويداه في فتحتي الجلباب، وعمران يبتسم ملتفتا حوله. زمجر العدوي:

- تتبعني؟!

الرائحة النفاذة. رفع عمران رأسه متشمما الهواء حوله. رمق اللفة بنظرة خاطفة وشردت عيناه بعيدا. سحب العدوي امرأته وابتعدا. تبعهما متباطئا. توقف العدوي واستدار إليه:

- أرجع يا عمران.

وقف مسترخيا ينظر إليهما، وعندما تحرك العدوي، تحرك هو أيضا. توقف العدوي ملتفتا إلى امرأته:

- ماذا جرى له؟

تركها وسار إليه. قال عمران:

- انظر إليها فقط يا عدوي وهي في العلبة وامش بعدها. مد يده إلى اللفة. أبعد العدوي يده:

- الأمر لله. سأعطيك مما في جيبي.

لمعت عينا عمران للحظة خاطفة اندفع على أثرها نحو العدوي وألصقه بالجدار، وضرب اللفة بيده وأسقطها. كان يزمجر وذراعه تضغط صدر العدوي مائلا بكل ثقله عليه. صرخت امرأة العدوي وأخذت تبحث حولها عن حجر. ضغطه مرة أخرى في عنف. كان يلهث، وكشر في وجه المرأة عندما اقتربت، ثم تركه فجأة وابتعد.

تهاوى العدوي ملتصقا بالجدار. كان يلتقط أنفاسه بصعوبة. تناولت المرأة اللفة وساعدته على القيام. واتجها إلى الحقول

غصت ضفة النهر بالأهالي. بعضهم تسلقوا الأشجار حتى الأطراف، غير أنهم لم يروا سوى المدفع الرابض هناك. الجنديان فوق جواديهما يغلقان الطريق. لا أحد يدخل البلدة أو يخرج منها. لا بد أنهم أيضا قد أوقفوا القطارات والسيارات من الجهتين، فلم نر أحدها يمر.

خرج الصيادون أولا. ساروا دون أن يلتفتوا. مروا من بين الجوادين، وحين تجمعنا حولهم دفعونا بعيدا واستمروا في طريقهم، ثم سمعنا صياحهم، كانوا هناك على طريق جانبية يتشاجرون، وثار الغبار كثيفا حولهم،

كل منهم كان يمسك بآخر، وتمرغوا طويلا في التراب، ثم هدأ الغبار، والتقط كل منهم مقطفه وشبكته وتابعوا سيرهم.

بعدها بقليل خرج عويس. وقف بجوار المدفع يتحسس فوهته، ثم أقبل نحونا. كان يضحك وينفض جلبابه. صاح:

- أين ذهبوا؟

- من؟

- الصيادون. نال منهم واحدا محترما على قفاه. وانفجر ضاحكا: يجرون كالفئران بين الأشجار. نظر إليهم وهو يلعق طرفي شاربه:

- سألوهم: أتصيدون السمك؟

قالوا: نحن صيادون.

وسألوهم: أين البحيرة؟

قالوا: هنا

وسألوهم: كم تبعد؟

تبادلوا النظرات ولم يردوا. الهلاهيل التي يلبسونها قصيرة لا تخفي شيئا. ينظرون إلى ضوء النهار الذي أخذ ينفذ من فروع الأشجار. كانوا يظنون أنهم سيصلون إلى بيوتهم مثل كل يوم في عتمة الفجر.

وسألوهم: وتسيرون دائما هكذا؟

انحنى الصيادون ونظروا إلى حيث يشيرون، ورأوا عوراتهم. تبادلوا النظرات ولم يردوا.

- من تظنوننا؟

ولم يرد الصيادون أيضا.

- ألم تسمعوا بالثورة؟ ظلوا في صمتهم. لم يبد على وجوههم أنهم سمعوا بها في حياتهم. كبيرهم يجلس على مقعد وبجواره مقعد آخر. أقول لنفسي: المقعدان غريبان لا يشبهان أي مقاعد في البلدة. أيحملونهما معهم طوال الوقت. كبيرهم ينظر إلي. وبعد ذهاب الصيادين وقد نالهم ما نالهم أشار إلي أن أقترب. قال: أتريد أن تجلس؟، قلت: أستغفر الله. أجلس في حضرتكم؟. سألني عن اسم البلدة وقلت له. وسألني كم تبعد البحيرة وقلت له. انتظرت أن يسألني عن الثورة، لم يسألني. وتركوني. توهجت الشمس واشتد الحر. الجنديان فوق جواديهما والعرق يبلل وجهيهما. مد كل من الجوادين رأسه وأخذ يتشمم الآخر.

وصلت صواني الطعام إلى الكوبري. جاءت صينية العمدة أولا تفوح منها رائحة المشلتت والزفر تحملها امرأة اخترقت زحام الأهالي عند رأس الكوبري وتوقفت أمام الجنديين ووقف العمدة بجوارها وقد لف شالا نظيفا حول كتفيه. انطلق أحد الجنديين بجواده إلى الأشجار. غاب قليلا ثم عاد وبعد أن اتخذ وقفته السابقة أشار للمرأة أن تبتعد. نظر العمدة حوله ثم تقدم مترددا. لم يتقدم كثيرا فقد أشار له الجندي أن يتوقف.

تجمعت صواني الطعام الأخرى وراء صينية العمدة، ووقف أصحابها بجوار النسوة. جفف العمدة عرقه بطرف شاله، ونظر قليلا إلى الجندين وقد تجمدا فوق جواديهما ثم استدار عائدا. واستدارت الصواني وراءه. وما كادت تبتعد عن مدخل الكوبري حتى امتدت الأيدي تتخاطف ما فوقها.

عندما طال الوقت ولم يحدث شيء أخذ الأهالي يتسربون عائدين، وظل البعض منا على الضفة. لقد أصبح من السهل بعد أن خف الزحام العثور على أماكن مريحة للجلوس فجلسنا.

- ماذا يفعلون هناك؟

غربت الشمس أخيرا وحلت العتمة. أضواء خافتة تتحرك بين الأشجار كأنها فوانيس صغيرة يحملونها، ثم أطفئت، وظل أحدها، كان معلقا بساق شجرة، ضوؤه الضعيف لا يكشف شيئا، غير أننا كنا نستطيع أن نلمح خيالا من حين لآخر يمر بجواره. تمددنا وعيوننا على الضوء.

كانوا هناك حين نهضنا في الليل عائدين بعد أن أخذتنا غفوة. الجنديان في وقفتهما كما رأيناهما في النهار مازالا يغلقان الكوبرى، والعتمة خفت قليلا مع تقدم الليل. في الصباح كانوا قد رحلوا.

1993



محمد البساطي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...