عماد عبيد - السرقات الأدبية، تاريخ حافل وأسماء مشبوهة

عرّف القانون السرقة بأنها (أخذ مال الغير المنقول دون رضاه) لكن ماذا لو أن السرقة تمت على غير المال، ألا يعاقب عليها؟ ولا تبقى تحت مسمى السرقة؟ كالأدب والفن والفكر والتراث اللامادي، سيما وأنه يصعب تقييمه ماديا، مثلما يصعب حصر عائديته إن لم يكن مشهورا.
في الوقت الذي عجَّ فيه الفضاء الأدبي بالأدباء، وكثر النشر الورقي والالكتروني وأضحت الأعمال الأدبية تحت متناول الجميع، وأتيح المدى لمن هبَّ ودبَّ أن يرمي بدلوه في بحر الأدب، إما لينضح منه صفو البيان، أو ليعكره عن سابق قصد أو ربما عن حسن نية، لذلك استسهل البعض ريادة المورد، فسرقوا الطرائد من سلال الصيادين، ونسبوا الصيد لأنفسهم متكلين على جهل المتلقي، أو مغمورية الكاتب الأصلي.
غير أن للسرقة الأدبية والفكرية تاريخ بعيد موغل في القدم منذ تاريخ الفكر الإنساني، استطاع المتقصون كشف خيوطها وحلقات اتصالها، وحتى الآن لا يحدثنا التاريخ عن محاكم خُصصت للسرقات الأدبية، ولا عن أحكام صدرت بحق سراق الأدب إلا لماما.
أشار (أرسطو 384 ق م 322 ق م) إلى السرقات الأدبية وأنواعها، بعد أن شاع أمرها في زمنه، وتوالت الحكايات لتحدثنا عن الشاعر الروماني (فرجيل 70 ق م 19 ق م) صاحب ملحمة (الإنيادة) الذي اعترف أنه سرق أشعاره من الشاعر (كوينتس إينوس 239 قم 169 ق م) قائلا (أنا أقوم بنزع اللؤلؤ من قاع إينوس).
تنداح الدهشة على الأفواه حين نعلم أن شاعر بريطانيا العظيم (وليم شكسبير1564 – 1616) متهم بسرقات أدبية عديدة وليس بسرقة واحدة، فقد اتهمه مواطنه ومعاصره الكاتب البريطاني (روبرت غرين 1558 – 1598) بأنه لص ومحتال، وجميع أعماله باستثناء (حلم ليلة صيف والليلة الثانية عشر) مسروقة من أعمال كلاسيكية سابقة وأكد على أن مسرحية (أنطونيو وكليوباترا) مأخوذة من كتابات الشاعر اليوناني (بلوتارك 64 – 120 م) وأن ثلثي مسرحية (هنري الخامس) مسروقة حرفيا، فضلا عن توظيفه لأفكار الفلاسفة والكتاب السابقين في مجمل أعماله.
هذه الأخبار لم تأتي مرسلة على عواهنها، بل فضحها الصحفي البريطاني (روبرت ماكروم) في مقال طويل عبر ملحق صحيفة (الغارديان) البريطانية.
ونبقى على أهبة الدهشة بعد أن يخبرنا المقال أن أديب بريطانيا الكبير (تي أس إليوت 1888 - 1948) هو الآخر متهم بالسرقة الأدبية، فقصيدته الشهيرة (الأرض اليباب) تنسب روحها وأفكارها إلى الشاعر البريطاني (جون ميلتون 1608 – 1674) ليعلق إليوت قائلا (الشعراء الصغار يقلدون، والكبار يسرقون)
أيضا تم السطو على فكر الفلاسفة، فقد عثر في مكتبة فيلسوف فرنسا العظيم (رينيه ديكارت 1596 – 1650) على كتاب (المنقذ من الضلال) للإمام (أبو حامد الغزالي المتوفي عام 1111) مترجما إلى اللاتينية، ووجد بالكتاب خطوط حمراء بخط (ديكارت) تحت الكثير من العبارات والجمل منها عبارة (الشك أولى مراتب اليقين) وكتب بجوارها (ينقل إلى منهجنا) أي إلى كتابه (مقال في المنهج)، وما عبارة ديكارت الشهيرة (أنا أفكر إذا أنا موجود) إلا اقتباس، بل سرقة لقول الغزالي (أنا أريد إذا أنا موجود قادر).
وكثر أولئك الذين نوهوا إلى أن (الكوميديا الإلهية) لشاعر إيطاليا الأول (دانتي 1265 – 1321) مسروقة نصا وروحا من (رسالة الغفران) لفيلسوف الشعراء العرب (أبو العلاء المعري 973 – 1057)
لدى البحث في الآداب الأجنبية سنعثر على الكثير من التهم بالسرقات الأدبية، وقد دارت بشأنها معارك انتهت إلى فضائح مجلجلة، لكن ماذا عن الأدب العربي وسدنته، هل لهم في هذا المضمار سوابق؟
قال (طرفة بن العبد) يبرأ نفسه من فعل السرقة:
ولا أغيرُ على الأشعارِ أسرقها ... عنها غُنيتُ وشرُّ الناسِ منْ سرقا
فهل كان يدحض المتهمين له بأن بيته القائل:
وقوفا بها صحبي عليَّ مطيّهم ... يقولون لا تهلك أسىً وتجلّدَ
ليس مسروقا من بيت (امرؤ القيس) القائل:
وقوفا بها صحبي عليَّ مطيّهم ... يقولون لا تهلك أسىً وتجمّلَ
لكم الخيار في أن تصنفوا ذلك سرقة أم كما قالت العرب (نقر الحافر على الحافر)
وكان (الأصمعي) قد أشار في الكثير من المواضع إلى السرقات الأدبية، فاعتبر أن شعر (النابغة الجعدي) نصفه مسروق، وعن (الفرزدق وجرير) قال: (تسعة أعشار شعر الفرزدق مسروقة، وأما جرير فما علمته سرق إلا نصف بيت)
كما أثيرت الكثير من الشائعات حول اتهام (أبو تمام) بالنحل والسرقة، كذلك شاعر العرب العظيم (المتنبي) الذي ترصد له الكثيرون في حياته ومماته يتربصون لأشعاره وممن استوحاها، ولاسيما جلساته في حضرة (سيف الدولة) وتنطح (أبو فراس الحمداني) و(ابن خلويه) و(ابن حنزابة) له، ثم طعن به (الشريف الرضي)، إلى كتاب (الصاحب بن عباد) في رسالته (الكشف عن مساوئ شعر المتنبي).
نمضي إلى الأدب العربي الحديث لنجد أن السرقات الأدبية أصبحت أكثر وضوحا، سيما إذا عرفنا أن أصحابها عاصروا التهمة وجوبهوا بها، ومنهم من أثيرت بحقه دعاوى قانونية أمام القضاء.
لعل قضية اتهام الكاتب المصري الكبير (عبد القادر المازني) بالسرقة من قبل صديقه الكاتب (عبد الرحمن شكري) وكلاهما من مؤسسي مدرسة (الديوان) مع (عباس محمود العقاد) والتي انتهت إلى خصومة حادة بينهما، فاتهمه (شكري) بأن معظم أشعاره مترجم عن اللغات الأجنبية، فقصيدته (الشاعر المحتضر) مترجمة عن قصيدة للشاعر الإنكليزي (شيلي) و (قصته (إبراهيم الكاتب) مأخوذة عن رواية (ابن الطبيعة) لـ (ميشيل بياشيف) هذه القضية أحدثت دويا كبيرا وتراشقا بالتهم بين الطرفين، وقد انحاز (العقاد) إلى صاحبه المازني، فما كان من (شكري) إلا أن فتح النار عليهما معا.
رواية (عزازيل) للكاتب المصري (يوسف زيدان) أثارت ضجة كبيرة، ولم تهدأ الاتهامات حولها حتى الآن، فهيئة الاتهام أكدت وبالدليل القاطع أن الرواية مسروقة نصا وفكرة من رواية (هيباتيا – أعداء جدد بوجه قديم) للكاتب (تشالرز كيسغنلي 1819-1875) فالنصف الأول منها منقول حرفيا، أما أفكارها الجدلية فهي مأخوذة من رواية (اسم الوردة) للروائي الإيطالي الشهير (أمبرتو إيكو1936-2016) على حد قول الروائي المصري (علاء حمودة)، ومع ذلك فاز (زيدان) بجائزة البوكر ولم تحرك لجنة البوكر ساكنا حول هذه التهمة.
أيضا الشاعر العربي الأشهر (نزار قباني) لم يسلم من الاتهام بالسرقة، فقصيدته (مع الجريدة) التي غنتها (ماجدة الرومي) وتقول كلماتها: (أخرج من معطفه الجريدة/ وعلبة الثقاب/ ودون أن يلاحظ اضطرابي/ ودونما اهتمام/ ذوب في الفنجان قطعتين/ ذوبني، ذوب قطعتين/ وبعد لحظتين/ ودون أن يراني/ ويعرف الخوف الذي اعتراني/ تناول المعطف من أمامي/ وغاب في الزحام/ مخلفاً وراءه الجريدة/ وحيدة/ مِثلي أنا وحيدة) مسروقة تماما من قصيدة الشاعر الفرنسي (جاك بريفير 1900-1977) بعنوان (غذاء الصباح) يقول فيها (وضع القهوة في الفنجان/ ووضع الحليب في فنجان القهوة/ ووضع السكر في القهوة بالحليب/ وبالملعقة الصغيرة حركها/ وشرب القهوة بالحليب/ ووضع الفنجان/ دون أن يحدثني/ وأشعل سيجارة/ وجعل دوائر من دخان/ ووضع الدخان في المدخنة/ ودون أن يحدثني/ وضع قبعته على رأسه/ ووضع معطفه الشتوي/ لأن السماء كانت ماطرة/ ثم راح دونما كلمة/ ودون أن يرنو إلي/ وأنا أخذت رأسي بين يدي/ وبكيت) .... ربما سقط (نزار قباني) في إغراء النص وأراد أن يلبسه ثوبا عربيا فتلبسته التهمة.
ومن الاتهامات الطازجة التي لم تخمد جمارها بعد، اتهام الكاتب (إسلام أبو شكير) في صحيفة (الاتحاد الثقافي) للروائي (فادي عزام) بسرقة نصوص سردية كتبها أصحابها على صفحاتهم يبثون فبها شجونهم ومعاناتهم من الحرب السورية، فاقتطعها (عزام) نسخا ولصقا وضمنها لروايته (بيت حدد) وربما بسبب هذا الاتهام استبعدت رواية فادي من قائمة جائزة البوكر، إلا أن الحكاية تطورت بين الرجلين مصحوبة بالشتائم والسباب.
ونذكر على نفس المقام ما حدث بين الروائيين (لينا هويان الحسن) و (خالد خليفة) المتهم بسرقة ثيمة وأفكار وأحداث وشخصيات وأماكن من روايتها (ليست رصاصة طائشة التي قتلت بيلا) – الصادرة قبل روايته بستة أشهر - ووظفها في روايته (لم يصلِ عليهم أحد) المرشحة لجائزة البوكر عام 2020، وسجلت صفحات التواصل سجالا بينهما حيث شتمها (خليفة) ووصفها بـ (مارلين مونرو البدوية) فصرحت (هويان الحسن) أن القضاء سيكون الفيصل بينهما.
كثيرة هي الحوادث عن السرقات الأدبية تلك التي تطال الكبار، أما عن جمهرة المتشاعرين وحديثي النعمة الأدبية، فكل يوم حافل بقصص وتراشقات، وغالبا ما تكون النصوص المتنازع عليها ليست بذات قيمة (الجنازة حامية والميت كلب).
لا بد من التنويه أن مفهوم السرقة الأدبية مفهوم ملتبس، فقد صنفها (ابن الأثير) في منجزه (المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر) قائلا: (السرقات ثلاث، النسخ والسلخ والمسخ، أما النسخ فأخذ المعنى واللفظ برمته من غير زيادة عليه، والسلخ أخذ بعض المعنى، وهو مأخوذ من سلخ الجلد الذي هو بعض الجسم، والمسخ إحالة المعنى إلى ما دونه، ومأخوذ من مسخ الآدميين قردة)
إلا أن النقد الحديث أدخل مصطلح (التناص) المبني على فكرة تداخل النصوص وتفاعلها، وهو مصطلح ابتدعته الباحثة البلغارية (جوليا كرستيفا 1941) في أواخر الستينات من القرن العشرين، حيث غدا دليلا على سعة ثقافة الأديب واطلاعه وتأثره بغيره وبناءه على نصوص سابقة، وبذلك تنقلب التهمة لتصبح مديحا وفعلا محمودا.
كذلك التضمين فهو أسلوب يلجأ إليه الأدباء كمحاكاة واستثمار للجملة المقبوسة تضمينا يراد منها غرضا دلاليا في البناء الأدبي.
وكي لا يتمادى المتهمون (بكسر الهاء) في توسعهم بإطلاق فعل السرقة جزافا، فإن الأفكار في الحياة على قارعة الطريق، ولم يعد هناك أفكار بكر، بل كلها مطروقة، وكذلك الحبكات الأدبية التي لا تتجاوز العشر حبكات في سجل الكتابة الأدبية، فهذا لا يعني أن كل من تأثر بفكرة أو سلك حبكة ما أنه سرقها من الآخر مادامت ملامحه وأسلوبه واضحين في أعماله. وهذه الأساليب تختلف عن السرقة والنحل تماما، ولها أصولها ولا بد من الإشارة فيها إلى النصوص الأصلية كأمانة أدبية وتدليل على القصد المتعمد كفعل إبداعي.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...