(14)
لم ينم أيهم بعد طرد غبريلا من شقته, بدا ملتاشاً, كأنه لم يستوعب الموقف بعد, راح وجاء في الصالون, في محاولة ناجحة لامتصاص الصدمة, لتحييد مشاعره والحكم بنزاهة على كل ما جرى, دون أن يشرب كأساً, دون اعداد فنجان من القهوة, ودون أن يتناول حبة واحدة من المهدئات, ففي الموقف العصيب, اعتاد أن يروض أعصابه على مهل, أن يجعلها تستجيب للهدوء الذي ينشده, كي يفكر, إذا ما كان لا بد من التفكير, بمنأى عن الانفعال الذي يخرجه عن الصراط المستقيم.
إن أحداً, قال في نفسه, لا يحق له أن يرغم غيره, على تبديل قناعته بالعنف,وأحداً لا يحق له أن يحل العنف محل الحوار, أو يلغي حق الاختلاف بالرأي, وإذا كانت غبريلا لاتستشعر بؤس البؤساء فمن العبث ارغامها على ذلك, وهذا مفروغ منه, إما أن تتعرى, كعاهرة مبتذلة وتقول:(جوابي هو هذا),فإن ذلك من الفجور, من الوقاحة, ومن انعدام الشرف..لتكن رجعية, ورافضة التقدمية, لتكن لا مبالية بجوع الجياع, غير مكترثة بآلام المظلومين, فإن هذا لا يضير, لكن أن تدير مؤخرتها للإنسانية العذبة, وتنبح لأنني لا أسلك سلوكها, فإن هذا, لو طاوعتها يجردني من شرف إنسانيتي, يرتهنني لعبادة فخذها العاري, ومجاراتها في الشبق الذي لايرتوي.. أن لست بالمناضل إلا أنني إنسان, فإذا سلبت إنسانيتي ماذا يتبقى مني؟
وإذا حجب سرير الفحش, رؤية الشوارع الخلفية, ما هي الصلة بيني وبين الانتماء إلى الشعب الذي أنا فرد منه؟ الأنكى من كل هذا, إنها تتباهى, ولو بشكل مستور, لفوقيتها الغربية, وترغب, بشكل مستور أيضاً, أن ترتذل رفضي لدونية الشرقي, حيال بهارج الغرب وتفصح عن ذلك بالشتائم المقذعة التي وجهتها إلي وأنا اصفها خارج الباب.. لقد غضضت الطرف عن كونها امرأة مهجورة, فاتها زوجها لأسباب أشك في حقيقتها, وأنها امرأة ذات عشيق مجرم, وأن فراشها تداوله رجال لا أعرف عددهم, وانني اكرمتها ودافعت عن كرامتها,فإذا بها تعض اليد التي امتدت لانتشالها من بؤرة الفساد, عض كلب مسعور.
رنين الهاتف, قطع عليها استرساله في التأملات الموجعة, رفع سماعة الهاتف, القاها جانباً دون أن يعرف أو يهتم بأن يعرف, من المتكلم, تحول إلى البار ليأخذ كأساً, فإذا طرق شديد على الباب, فابتسم باحتقار لهذه المحاولات الغبية من غير أن يفتح, خلع خاتم الخطوبة وضعه في كفه, تذكر الدكتور أنداش استعاد مرافعته, وقف, مشى, استدار,دخل المطبخ لإعداد فنجان من القهوة, وإذا بصوت يأتي من الشرفة:
- أيهم, يا عزيزي, أنا مارغريت, افتح لي الباب للحظة.
(ماذا تريد مارغريت, هذه؟ إنها تكرهني, فهل تحول الكره إلى حب, تريدني في السرير؟ اللعنة على السرير! جاء دورها في التعري, ودوري في إلقائها خارج الباب عارية؟ عدنا إلى قصة الأم وابنتها؟ رجعنا إلى عقده خبث اللاشعور, حيث المنافسة في الشبق, رهان بين جسدين؟ لوط كان ذكراً, سافو كانت أنثى, والنتيجة واحدة: الارتواء والإنجاب, فهل كتب علي أن أنجب من الأم, بعد أن فاتني الإنجاب من البنت؟ قالت غبريلا: أنت شرقي, أنت همجي, أنت وحش ).
إلا أن هذا الشرقي, الرافض الدونية أمام ما هو غربي,رد بسرعة, بقسوة, جعل هذه الغربية حاملة عقلية التفوق, تخرج عارية, وثيابها مقذوفة وراءها, لترتديها خارج الباب,وكان هذا يكفي, لو كانت ثمة كرامة, أن تعود إلي بمسدس, لا بسكين كما فعلت في المرة الأولى.. أعرف الأفعى,لينة الملمس , وأعرف الأفعى لاطية في جحرها, وأعرف الأفعى, متجمدة في البرد, وأعرف الأفعى يقطر نابها سماً عند التقلب, وأعرف حكاية ذلك المغفل, الذي وضع الأفعى المتجمدة في عبه, فلما دب الدفء, لدغته في إبطه, وأعرف الأفعى المنتصبة كوتر طويل في رمل الصحراء فإذا حط عليه الطير, ابتلعته, وأعرف الأفعى , المتكورة في دغل, فإذا رأى العصفور نظرتها الباردة, تيبس من خوف, وعندئذ تلتقمه, وأعرف ا لأفعى, في المياه المستنقعة, والضفدعة تزعق من رعب وهي في فمها, وأعرف الأفعى وحواء, وتفاحة الخير والشر.
وأعرف الأفعى, تربى في مزارع خصوصية لاستقطار سمها دواء ورسمها ملتفة على الكأس, في واجهات الصيدليات وأعرف الأفعى وتقديسها عند الوثنيين في العهود القديمة, وأعرف الأفعى, وقولة السيد المسيح: (كونوا ودعاء كالحمام, حكماء كالحيات) أعرف كل هذا, أجهل المرأة, التي هي أفعى الأفاعي, وأعرف ما تريده من الثعبان, الذي هو أنا.
عاد النداء:(افتح يا أيهم, يا عزيزي) من باب الشرفة, من وسطها, من نهايتها, وبح النداء, فسكن كل شيء, وإذا الطرق يتعالى من جديد على الباب, والتوسل واحد في النداء والطرق معاً(سيقال الآن, على لسان الأم أو البنت هذا هو الرجل الشرقي, وهذه أفعاله الشائنة!) لابأس أيهم لا يفعل شيئاً سوى رد الجواب, أيهم يجزي على الجميل جميلاً, وعلى القبيح قبيحاً رافضاً الدونية في نظرته إلى غبريلا, والفوقية في نظرة غبريلا إليه, والعدل أن تتساوى كفتا الميزان, والميزان في هذا الموقف تساوت كفتاه , وليكن, بعد ذلك ما يكون.. لتتفضل ا لسيدة مارغريت فسيفتح لها الباب, لأنه ( لا تزر وازرة وزر أخرى).
فتح الباب, أطلت منه السيدة مارغريت تعبة, شاحبة, تلوص نظرتها في كل الأنحاء, بينما انهد جسدا غير الفتي على كنبة, طالبة جرعة من الماء, وبكياسة رحب بها أيهم, حاملاً مع الماء قدحاً من البالنكا غير المعتقة, جالساً إلى جانبها وكأسه من البراندي في يمناه.
تركها تستريح تشرب البالنكا و ترتب أفكارها على مهل, تقول ما تشاء أن تقول أو تسكت ما طاب لها السكوت إنها مدعية والبينة على المدعي وبصرف النظر عن نوع هذه البينة مدحا أو قدحا فإن أيهم قرر بعد كلمتين من الترحيب أن يلتزم الصمت مهما تمادى هذا الصمت أو تثاءب أو أغفى,إنه في حالة استرخاء وكل ما يرجوه بعد جنة الأعصاب أن تترك أعصابه عاقلة.
قالت السيدة مارغريت:
جرعة أخرى من البالنكا يا أيهمي العزيز يا ابني!
جاءها بقدح من البالنكا وجاء بقدح من البراندي لنفسه راغبا, في لغو سريرته, أن تشرب وتشرب, أن تسكر إذا أرادت, فاللغو في السريرة, إضمار, وفي اضماره, قرر حل عقدة ازدواجية الرغبة الجنسية بين الأم والبنت, لا للانتقام, فالانتقام الجنسي لذة مضافة للمنتقم منه, وهذا ما فعله كاتب عربي مع امرأة انكليزية, بل كي يقوم بواجبه تجاه الأم بعد أن قام بهذا الواجب تجاه البنت.. لكنه, بعد أن تفحص ضميره, عدل عن هذه الفكرة, إرضاء لهذا الضمير, وصيانة لحرمة الأب انداش, وماله من معزة عنده.
أوقف تقديم البالنكا للسيدة مارغريت, وأوقف أيضاً تقديم البراندي لنفسه, جاء بالقهوة تكريماً لضيفته ولما يئست هذه الضيفة من مبادرة أيهم بالحديث, افتتحته هي ودمعة تتدحرج على خدها:
- غبريلا يا أيهم, ياعزيزي, تكاد تقتل نفسها !
- قال بلؤم:
- لا تخافي, لن تقتل نفسها.. أنها تمثل دوراً, لا يخفى على ذكائك الرائع!
- شكراً على هذا المديح, حتى وأن كان تمثيلاً أيضاً.. غبريلا ترجوك أن تستقبلها, وأن تستمع لها قليلاً.
- جاء أيهم بالخاتم الذي كان على التربيزة, قدمه للسيدة مارغريت وقال:
- هذا جوابي على طلبها.. إنه خاتم الخطوبة التي فسخت تلقائياً!
- خاتم الخطوبة؟ يوزش ماريو! ما هذا الذي يحدث؟
- سليها تجبك!
- بعد أن طردتها عارية؟
- ارتداء الثياب, خارج الباب, أفضل من النزول إليك بغير ورقة توت!
الأمور لم تزل قابلة للبحث, ولم تصل إلى هذه الدرجة!
- تجاوزتها أيضاً! نبحث بماذا يا سيدتي؟
- بالخلاف الذي لم يكن مقصوداً.
- بلى! كان مقصوداً, كان داعراً أحدثها عن بؤس البؤساء, أقول لها ضعي ذراعك مع ذراعي لنصرة الحق, فتتعرى, كأي عاهرة وتقول: (هذا جوابي!) أي جواب يكون حين الخطيبة تتباهى على خطيبها, بنقطة, أو منطقة معينة, في جسدها؟
أنا كنت في شارع بينال في باريس حيث يقع سوق الدعارة وحيث المرأة تعرض جسدها للبيع وتحدثت مع بعض هؤلاء النسوة, حول فنجان من القهوة أو كأس من الجن,ولم تتعر, أي من المومسات أمامي, قائلة:»هذا جوابي!) متحدية مشاعري!
- غبريلا تعرت؟ وقالت متحدية:»هذا جوابي!)؟
- نعم! فعلت هذا, وبغير حياء!
- وهل كنت تريدها بثيابها في السرير, إذا ما كان هناك سرير؟
- رد أيهم بغضب:
- أنت, يا سيدة مارغريت, على موقفك ذاته مني, تحسبينني أهبل أو مجنوناً.. عن أي سرير وأي ثياب تتحدثين؟ ابنتك كانت تجلس أمامي وكانت بكامل ثيابها وكنا نتحدث كما تحدث والدها, الدكتور أنداش, عن أهمية رفع الظلم عن المظلومين, ودعوتها إلى أن تكون معي في أمثال هذا الموقف, فهبت واقفة, تعرت وقالت:
»هذا جوابي) أي أن كل ما قلته لا يساوي فرجها, هذه الساقطة, وأنت تعرفين سقوطها, وتبذلها, لكنك كأم جئت لتدافعي عنها, وأنا لا ألومك على هذا, إنه حنان الأم, تسترها على التي حملتها تسعة أشهر في بطنها إنما الدفاع شيء, والاستغباء شيء آخر, لست بالغبي الذي تظنين!
- آه منك يا غبريلا, كم جلبت من مصائب لأمك! أعطني عزيزي قليلاً من البالنكا أيضاً, وخذ أنت قليلاً من البراندي واجلس إلى جانبي لنتكلم بهدوء, البالنكا لديك غير معتقة طبعاً, لكنها لذيذة, سائغة, مع إنسان نبيل مثلي.. اسمع يا عزيزي, لنشرب نخب صداقتنا أولاً, وبعد أصارحك بكل شيء.
شربا النخب, في جو من المودة التي كانت مفقودة بينهما, ولأمر ما عادت الآن, ومع عودتها, ورغم البالنكا فقد حرصت السيدة مارغريت على الحشمة, على تصرف الأم التي سعادة ابنتها فوق سعادتها, وبسمو أكبر مما كان يظن أيهم, وكان ظنه في محله, بعد سماع اعتراف هذه الأم التي قالت:
- غبريلا, يا عزيزي, غير سيئة غير مبتذلة, لكنها مرت بمحن جعلتها متوفزة متحدية, سريعة في ردة فعلها..
قاطعها أيهم:
- حدثيني, يا سيدة مارغريت, بما يتعلق بك, إذا كان هناك حديث من هذا النوع, دعي الكلام على غبريلا فإنني أعرفها جيداً..
- لا بأس, لا بأس, وكما تريد.. في البدء كانت بيننا, غبريلا وأنا, مجاذبة قوية, حول شيء معيب, أخجل أن أقوله, في حال الصحو الذي أنا فيه, رغم تناولي البالنكا!
- أنا أعرف هذا الذي تريدين قوله.. كنت, رغم كرهك الظاهري لي, تريدينني لنفسك..
- وكان هذا عيباً, عيباً مشيناً, أن تتنافس الأم والبنت على اللذة في سرير رجل واحد!
قال أيهم:
- لكن هذا يحدث, وليس بالأمر النادر!
- أنا معك, يحدث, وأعرف أنه يحدث, إلا أنني أشكر الله على أنه لم يحدث في هذا البيت, ولن يحدث أبداً.
- بلى! سيحدث, إذا ما افترقنا, غبريلا وأنا, نهائياً, وإذا ما بقيت في هذا البيت!
- تظن ذلك؟
- بل وأنا واثق منه!
- أنت وقح, واعذرني, على ما أقول.. لماذا هذا التأكيد, وهذا الوثوق الذي لا أساس له؟
- لأنني أعرف ا لمرأة, في كل أطوارها.
- هذا ادعاء فارغ, لا أحد يعرف المرأة في كل أطوارها, كما لا أحد يعرف النفس في كل أطوارها.. أنا لا أراودك عن نفسي, وما أتيت لهذا الغرض, وأنت لا تراودني عن نفسك, وما استقبلتني لهذا الغرض.. لا تجعلني أندم على مكاشفتك عن كل ما في ذاتي..
- إنما ذاتك, يا سيدتي, كتاب مفتوح, قرأت كل ما فيه, منذ تعرفت بك.. أنت لن تندمي على شيء, لأنني أعرف كل شيء.
- يوزش ماريو! هل أنت ساحر أم شيطان؟
- المسألة لا تحتاج إلى سحر أو شيطنة.. أنت تريدينني لنفسك, والعائق بيننا هي ابنتك غبريلا, والآن زالت غبريلا وزال العائق بيننا! ماذا تريدين؟
- أن تأذن لغبريلا في المجيء, إليك والتحدث معك بلطف, من غير استعلاء أو تحد من الطرفين, أرجوك أنا الأم.
- غبريلا انتهت بالنسبة إلي,وبقيت أنت!
- وأنت تريدني كي تذل غبريلا أكثر!
- هذا ما سيحدث, فلماذا المكابرة فيه!
- أفهم أن هذا شرطك لتستقبل غبريلا ؟ لقد ضحى لأجلها فرجع إليه, وأنا أضحي لأجل ابنتي فهيا إلى السرير!
- لست من هواة ممارسة الجنس مع الجثث.
- أنا لست جثة, فلا تتواقح.. كل ما قلته عما كان سابقاً صحيح, وكل ما تقوله عما سيكون لاحقاً, قد يكون صحيحاً.. إنما الآن أضحي لأجل ابنتي..
قالت ذلك وبكت, المرأة, حتى في أحط درك تصل إليه, ترفض الذل, وأيهم مصر على إذلال مارغريت ليتشفى من غبريلا, وكل ما عدا ذلك لعب بالألفاظ, أما التضحية, حتى من فاسقة, فإنها ترتفع بها عن الفسق, فكيف بالأم, التي لم تفسق, كرمى لابنتها, ولذاتها ربما, والموقف بين مارغريت وأيهم, تحول فصار لصالحها, و»عنترة الشرقي) كاد يهوي إلى قعر ذكورية الشرقي, وهذا من العيب, هذا من الدونية, المرفوضة كي لا تنتصر الفوقية, وعلى أيهم ألا يبكي مع السيدة مارغريت, لا لأن البكاء مرذول من الرجل فحسب, وإنما لأنه مرذول حين هو معتصر بسبب موقف ينحط بالخلق الكريم!
قال أيهم آسياً, ملاطفاً:
- لا تبكي سيدتي, رجل من الشرق أنا, غير أن في الشرق فضيلة, وفيه نخوة وكرامة, ووفاء للخبز والملح, وارتفاع عن الدونية.. لتتفضل غبريلا, وقت تشاء, فالعربي لا يغلق بابه في وجه امرأة..
ردت السيدة ماغريت, وهي في نوبة غضب مستعر, ونوبة بكاء ينطوي على احتجاج:
- لكن هذا العربي الذي لا يغلق بابه في وجه امرأة وضع امرأة عارية خارج بابه!
استشعر أيهم ندماً على ما فعل, طرد امرأة مهما تكن , من بيت رجل, فيه جرح لنفسها, وفيه تجريح لروحها, وفيه خروج على الكرامة, والانحدار إلى الاكرامة التي يطردها, وهذا جزء من الذكورية التي يزعم أنه براء منها, فكيف إذا طرد هذه المرأة وهي عارية, وقذف بها خارج الباب, وثيابها وراءها؟ »لقد جننت, أعماني الغضب, أوقفتني رواسب الجهل في قاع مجهلة بغيضة, الفكر, مهما يكن عظيماً, تنحط عظمته إذا فرض بالقوة.
أنت يا أيهم, ومهما تكن مبرراتك, أردت أن تفرض فكرك على غبريلا بالقوة, وهذا ليس من المبدأ, مهما يكن, وليس من الخلق الكريم مهما يكن أيضاً, وكل المبررات التي سقتها, بالتواطؤ مع مرونة عقلك ومبرراته, باطلة وقد سأل معاوية وهو من هو في الدهاء. »عمرو بن العاص)وكان على دهاء غير قليل:»ما مبلغ دهائك ياعمرو,؟) قال عمرو: »يا أمير المؤمنين, ما دخلت مدخلاً إلا أو أحسنت الخروج منه) .
رد معاوية :»ما هكذا يكون الدهاء ياعمرو, الدهاء ألا تدخل مدخلاً تدفع ثمن الخروج منه!) أنا, أيهم, دخلت مدخلاً, علي أن أدفع ثمن الخروج منه, إلا أنني سأدفع هذا الثمن, بأقل الخسائر الممكنة, لن أتراجع عن رفضي للفوقية التي أظهرته غبريلا, ولن أعتذر عن إنهاء علاقتي بها, لكنني سأقول لها, إذا ما جاءت, وأثارت موضوع طردي لها عارية, كلمة واحدة: أخطأت!
بحرج خجول, تقدم من السيدة مارغريت وقال:
- إنني يا سيدتي لست بالسيىء, لكن عصبيتي تدفعني, أحياناً, للتصرف بطيش.. وبعد أن عانقها, وقبلها في وجهها ويديها قال:
كيزي شوكولم براتم مارغريت »أقبل يديك عزيزتي مارغريت) إنني, حتى مع الفارق القليل في السن, ابنك أيضاً, وهذه الزيارة لي, موضع تقديري واحترامي, وقد قلنا خلالها, قولاً طيباً, وقولاً سيئاً, والحكمة تقول:»لا فائدة من تذكر الأقوال السيئة وكذلك الأشياء السيئة) إذن علينا أن ننسى, أو أن نتعلم أن ننسى, وأن نشرب نخب صحتك, وصحة الدكتور أنداش.
- وصحة غبريلا وصحتك!
- في صحة الجميع إذن, وإني بانتظار زيارة غبريلا في أي وقت تريد, خلال تواجدي في البيت, خارج أعمالي التي تعرفين.
قالت السيدة مارغريت:
- غبريلا ستصعد الآن, وبذلك أثبت لها أنني لم أسكر, ولم أكن في السرير.. إنها, الآن تلعنني, لأنني جئت لأطلب منك أن تستقبلها, فشربنا البالنكا والكونياك معاً, وتحدثنا مطولاً, مع بعضنا حيناً, ومع نفسينا حيناً آخر, وكنت تفكر, وكنت , مثلك, أفكر, والأفكار تذهب بصاحبها وتجيء, وهذا ما حدث لنا, فشكراً لأنك لم تقبل تضحيتي, وبذلك جنبتني العار!
قالت غبريلا, منذ رأت أمها تدخل البيت:
- لم أكن أتوقع أن تخون الأم ابنتها!
قالت مارغريت:
- وأنا لم أكن اتوقع أن تتهم البنت أمها بالخيانة!
- أنا أقصد ما أقول!
- وأنا أقصد ما قلت!
أضافت السيدة مارغريت:
-فيزاج غبريلا فيزاج ( انتبهي غبريلا انتبهي) أنت مسكونة بألف وسواس لأنك مسكونة بألف عفريت! بلغ بي حنان الأمومة أن أضحي لأجلك, لكنه رفض, بإصرار, تضحيتي قال لي وأنا أبكي:» لا تبكي سيدتي لا تبكي إنما أنا رجل من الشرق في نظر غبريلا, غير أن في الشرق فضيلة, نخوة, كرامة, وفيه ايضا وفاء للخبز والملح).
أضاف:» إنني يا سيدتي لست بالسيئ إلا أن عصبيتي تدفعني أحيانا للتصرف بطيش).
- هو قال هذا؟
-نعم! ووضع في كفي خاتم الخطوبة هذا فخذيه!
- نذل!
- لا أرى رأيك.
- تحبينه إذن!
-فات أوان الحب بالنسبة لي.
- ومع البالنكا التي سقاك إياها؟
-قبل باحترام خدي ودي قال لي بأدب » كيزي شوكولوم) وكان صادقا نادما على ما فعل إلا أنه لم يغفر, ولن يغفر, لك نظرتك الفوقية إليه, لأنك فقط من الغرب, وهو يرفض الدونية, في نظرة الشرقي إلى ما هو غربي.. وأنا معه.
صاحت غبريلا:
- أنت عجوز خرقاء, أنت مع البالنكا والسرير, فلماذا لا تكوني عشيقته وينتهي الأمر!؟
- هذا ليس من التربية والاخلاق با غبريلا ليس من الأدب أن تقول البنت لأمها ما تقولينه لي, وكي أريحك هذا ردي على بذاءتك:» سأكون عشيقته , عندما أريد أن أكون عشيقته وعندما يقبل هو, لكنه لا يقبل لأنه يرفض ازدواجية حب الأم والبنت في وقت واحد, وبرفضه حل عقدة حب آثم, طالما عانينا منها, أنت وأنا, منذ سكن بيتنا.
- هذه عقدتك أنت!
- عقدتي أنا وحدي, واذا كان هذا يرضيك!
ضربت غبريلا الطاولة بقبضتها وزمجرت:
- إنه يرضيني, أجل يرضيني! العقدة التي تخرفين حولها , هي عقدة الأم العائبة التي تحب من تحبه ابنتها!
ردت الأم بنبرة كيد:
- واذا كان يحب الأم, ولا يحب ابنتها!؟
-هو قال ذلك؟!
- لو أردت لقاله.. لكنني اشفقت عليك, ومن المؤسف أن اشفاقي لم يفدك في شيء, لأنك... المهم هذا هو خاتم الخطوبة, رده اليك مع الاحتقار, لأنك تشوفت عليه , تعريت كفاجرة وقلت له: » هذا هو جوابي) هل تنكرين ذلك؟ وهل هذا لائق بخطيبة أمام خطيبها؟ وهل من الذوق على الاقل, أن تشمخ الحبيبة بأنفها على حبيبها, لأنها من الغرب وهو من الشرق؟ هذه الفوقية الرعناء, لها معنى واحد الدونية التي تقابلها وكان عليك أن تعرفي أن زمن هذه الفوقية صار وراءنا, وزمن هذه الدونية صار وراءنا ايضا, وقد قال لي والدك أنداش: » حتى عبيد أفريقيا استيقظوا من غفوتهم وهم يرفضون بعضهم على الأقل فوقية أوروبا ودونية افريقيا, كلنا أولاد آدم وحواء) هل فهمت لماذا أعاد اليك خاتم الخطوبة معي؟ وهل اتعظت بما بدر منك؟ وآه لو سمعت أيهم يقول: » إذا كانت غبريلا تتعرى, وتقول هذا هو جوابي فماذا أبقت لعاهرات شارع بيغال في باريس!؟).
نبرت غبريلا:
- هذا الكلام ليس كلامك أنت, إنه كلام والدي, فلماذا لم يقله لي بالذات؟
- قاله لي بالهاتف, بعد أن اطلع على ما جرى بيني وبين أيهم, بالهاتف ايضا لقد تقزز من سماع شنائع كهذه, وقال لي بالحرف الواحد:» بأي وجه أقابل أيهم بعد اليوم, وابنتي تنحدر إلى مادون عاهرات شارع بيغال في باريس).
- لا أصدق , لا أصدق, لا أصدق!
- عندما تنظرين إلى خاتم الخطوبة مردودا اليك, وملقى أمامك على الطاولة, ستصدقين, وتصدقين, وتصدقين أيهم فوق , قبل رجائي في أن تصعدي اليه, وتقولي ما تريدين!
- أنا لا أصعد برجاء, ولا أنزل برجاء, وسترين!
- هذا يعود إليك.. هذا يضع نقطة النهاية لعلاقته بك!
- إلى الجحيم بهذه العلاقة كلها!
- هذا ليس من قلبك!
- وهو ليس من شفاهي أيضا!
- ربما!
- ولماذا ربما المسمومة هذه؟
- لأنها ربما وكفى!
/يتبع/
حنا مينة
المصدر: الثورة
لم ينم أيهم بعد طرد غبريلا من شقته, بدا ملتاشاً, كأنه لم يستوعب الموقف بعد, راح وجاء في الصالون, في محاولة ناجحة لامتصاص الصدمة, لتحييد مشاعره والحكم بنزاهة على كل ما جرى, دون أن يشرب كأساً, دون اعداد فنجان من القهوة, ودون أن يتناول حبة واحدة من المهدئات, ففي الموقف العصيب, اعتاد أن يروض أعصابه على مهل, أن يجعلها تستجيب للهدوء الذي ينشده, كي يفكر, إذا ما كان لا بد من التفكير, بمنأى عن الانفعال الذي يخرجه عن الصراط المستقيم.
إن أحداً, قال في نفسه, لا يحق له أن يرغم غيره, على تبديل قناعته بالعنف,وأحداً لا يحق له أن يحل العنف محل الحوار, أو يلغي حق الاختلاف بالرأي, وإذا كانت غبريلا لاتستشعر بؤس البؤساء فمن العبث ارغامها على ذلك, وهذا مفروغ منه, إما أن تتعرى, كعاهرة مبتذلة وتقول:(جوابي هو هذا),فإن ذلك من الفجور, من الوقاحة, ومن انعدام الشرف..لتكن رجعية, ورافضة التقدمية, لتكن لا مبالية بجوع الجياع, غير مكترثة بآلام المظلومين, فإن هذا لا يضير, لكن أن تدير مؤخرتها للإنسانية العذبة, وتنبح لأنني لا أسلك سلوكها, فإن هذا, لو طاوعتها يجردني من شرف إنسانيتي, يرتهنني لعبادة فخذها العاري, ومجاراتها في الشبق الذي لايرتوي.. أن لست بالمناضل إلا أنني إنسان, فإذا سلبت إنسانيتي ماذا يتبقى مني؟
وإذا حجب سرير الفحش, رؤية الشوارع الخلفية, ما هي الصلة بيني وبين الانتماء إلى الشعب الذي أنا فرد منه؟ الأنكى من كل هذا, إنها تتباهى, ولو بشكل مستور, لفوقيتها الغربية, وترغب, بشكل مستور أيضاً, أن ترتذل رفضي لدونية الشرقي, حيال بهارج الغرب وتفصح عن ذلك بالشتائم المقذعة التي وجهتها إلي وأنا اصفها خارج الباب.. لقد غضضت الطرف عن كونها امرأة مهجورة, فاتها زوجها لأسباب أشك في حقيقتها, وأنها امرأة ذات عشيق مجرم, وأن فراشها تداوله رجال لا أعرف عددهم, وانني اكرمتها ودافعت عن كرامتها,فإذا بها تعض اليد التي امتدت لانتشالها من بؤرة الفساد, عض كلب مسعور.
رنين الهاتف, قطع عليها استرساله في التأملات الموجعة, رفع سماعة الهاتف, القاها جانباً دون أن يعرف أو يهتم بأن يعرف, من المتكلم, تحول إلى البار ليأخذ كأساً, فإذا طرق شديد على الباب, فابتسم باحتقار لهذه المحاولات الغبية من غير أن يفتح, خلع خاتم الخطوبة وضعه في كفه, تذكر الدكتور أنداش استعاد مرافعته, وقف, مشى, استدار,دخل المطبخ لإعداد فنجان من القهوة, وإذا بصوت يأتي من الشرفة:
- أيهم, يا عزيزي, أنا مارغريت, افتح لي الباب للحظة.
(ماذا تريد مارغريت, هذه؟ إنها تكرهني, فهل تحول الكره إلى حب, تريدني في السرير؟ اللعنة على السرير! جاء دورها في التعري, ودوري في إلقائها خارج الباب عارية؟ عدنا إلى قصة الأم وابنتها؟ رجعنا إلى عقده خبث اللاشعور, حيث المنافسة في الشبق, رهان بين جسدين؟ لوط كان ذكراً, سافو كانت أنثى, والنتيجة واحدة: الارتواء والإنجاب, فهل كتب علي أن أنجب من الأم, بعد أن فاتني الإنجاب من البنت؟ قالت غبريلا: أنت شرقي, أنت همجي, أنت وحش ).
إلا أن هذا الشرقي, الرافض الدونية أمام ما هو غربي,رد بسرعة, بقسوة, جعل هذه الغربية حاملة عقلية التفوق, تخرج عارية, وثيابها مقذوفة وراءها, لترتديها خارج الباب,وكان هذا يكفي, لو كانت ثمة كرامة, أن تعود إلي بمسدس, لا بسكين كما فعلت في المرة الأولى.. أعرف الأفعى,لينة الملمس , وأعرف الأفعى لاطية في جحرها, وأعرف الأفعى, متجمدة في البرد, وأعرف الأفعى يقطر نابها سماً عند التقلب, وأعرف حكاية ذلك المغفل, الذي وضع الأفعى المتجمدة في عبه, فلما دب الدفء, لدغته في إبطه, وأعرف الأفعى المنتصبة كوتر طويل في رمل الصحراء فإذا حط عليه الطير, ابتلعته, وأعرف الأفعى , المتكورة في دغل, فإذا رأى العصفور نظرتها الباردة, تيبس من خوف, وعندئذ تلتقمه, وأعرف ا لأفعى, في المياه المستنقعة, والضفدعة تزعق من رعب وهي في فمها, وأعرف الأفعى وحواء, وتفاحة الخير والشر.
وأعرف الأفعى, تربى في مزارع خصوصية لاستقطار سمها دواء ورسمها ملتفة على الكأس, في واجهات الصيدليات وأعرف الأفعى وتقديسها عند الوثنيين في العهود القديمة, وأعرف الأفعى, وقولة السيد المسيح: (كونوا ودعاء كالحمام, حكماء كالحيات) أعرف كل هذا, أجهل المرأة, التي هي أفعى الأفاعي, وأعرف ما تريده من الثعبان, الذي هو أنا.
عاد النداء:(افتح يا أيهم, يا عزيزي) من باب الشرفة, من وسطها, من نهايتها, وبح النداء, فسكن كل شيء, وإذا الطرق يتعالى من جديد على الباب, والتوسل واحد في النداء والطرق معاً(سيقال الآن, على لسان الأم أو البنت هذا هو الرجل الشرقي, وهذه أفعاله الشائنة!) لابأس أيهم لا يفعل شيئاً سوى رد الجواب, أيهم يجزي على الجميل جميلاً, وعلى القبيح قبيحاً رافضاً الدونية في نظرته إلى غبريلا, والفوقية في نظرة غبريلا إليه, والعدل أن تتساوى كفتا الميزان, والميزان في هذا الموقف تساوت كفتاه , وليكن, بعد ذلك ما يكون.. لتتفضل ا لسيدة مارغريت فسيفتح لها الباب, لأنه ( لا تزر وازرة وزر أخرى).
فتح الباب, أطلت منه السيدة مارغريت تعبة, شاحبة, تلوص نظرتها في كل الأنحاء, بينما انهد جسدا غير الفتي على كنبة, طالبة جرعة من الماء, وبكياسة رحب بها أيهم, حاملاً مع الماء قدحاً من البالنكا غير المعتقة, جالساً إلى جانبها وكأسه من البراندي في يمناه.
تركها تستريح تشرب البالنكا و ترتب أفكارها على مهل, تقول ما تشاء أن تقول أو تسكت ما طاب لها السكوت إنها مدعية والبينة على المدعي وبصرف النظر عن نوع هذه البينة مدحا أو قدحا فإن أيهم قرر بعد كلمتين من الترحيب أن يلتزم الصمت مهما تمادى هذا الصمت أو تثاءب أو أغفى,إنه في حالة استرخاء وكل ما يرجوه بعد جنة الأعصاب أن تترك أعصابه عاقلة.
قالت السيدة مارغريت:
جرعة أخرى من البالنكا يا أيهمي العزيز يا ابني!
جاءها بقدح من البالنكا وجاء بقدح من البراندي لنفسه راغبا, في لغو سريرته, أن تشرب وتشرب, أن تسكر إذا أرادت, فاللغو في السريرة, إضمار, وفي اضماره, قرر حل عقدة ازدواجية الرغبة الجنسية بين الأم والبنت, لا للانتقام, فالانتقام الجنسي لذة مضافة للمنتقم منه, وهذا ما فعله كاتب عربي مع امرأة انكليزية, بل كي يقوم بواجبه تجاه الأم بعد أن قام بهذا الواجب تجاه البنت.. لكنه, بعد أن تفحص ضميره, عدل عن هذه الفكرة, إرضاء لهذا الضمير, وصيانة لحرمة الأب انداش, وماله من معزة عنده.
أوقف تقديم البالنكا للسيدة مارغريت, وأوقف أيضاً تقديم البراندي لنفسه, جاء بالقهوة تكريماً لضيفته ولما يئست هذه الضيفة من مبادرة أيهم بالحديث, افتتحته هي ودمعة تتدحرج على خدها:
- غبريلا يا أيهم, ياعزيزي, تكاد تقتل نفسها !
- قال بلؤم:
- لا تخافي, لن تقتل نفسها.. أنها تمثل دوراً, لا يخفى على ذكائك الرائع!
- شكراً على هذا المديح, حتى وأن كان تمثيلاً أيضاً.. غبريلا ترجوك أن تستقبلها, وأن تستمع لها قليلاً.
- جاء أيهم بالخاتم الذي كان على التربيزة, قدمه للسيدة مارغريت وقال:
- هذا جوابي على طلبها.. إنه خاتم الخطوبة التي فسخت تلقائياً!
- خاتم الخطوبة؟ يوزش ماريو! ما هذا الذي يحدث؟
- سليها تجبك!
- بعد أن طردتها عارية؟
- ارتداء الثياب, خارج الباب, أفضل من النزول إليك بغير ورقة توت!
الأمور لم تزل قابلة للبحث, ولم تصل إلى هذه الدرجة!
- تجاوزتها أيضاً! نبحث بماذا يا سيدتي؟
- بالخلاف الذي لم يكن مقصوداً.
- بلى! كان مقصوداً, كان داعراً أحدثها عن بؤس البؤساء, أقول لها ضعي ذراعك مع ذراعي لنصرة الحق, فتتعرى, كأي عاهرة وتقول: (هذا جوابي!) أي جواب يكون حين الخطيبة تتباهى على خطيبها, بنقطة, أو منطقة معينة, في جسدها؟
أنا كنت في شارع بينال في باريس حيث يقع سوق الدعارة وحيث المرأة تعرض جسدها للبيع وتحدثت مع بعض هؤلاء النسوة, حول فنجان من القهوة أو كأس من الجن,ولم تتعر, أي من المومسات أمامي, قائلة:»هذا جوابي!) متحدية مشاعري!
- غبريلا تعرت؟ وقالت متحدية:»هذا جوابي!)؟
- نعم! فعلت هذا, وبغير حياء!
- وهل كنت تريدها بثيابها في السرير, إذا ما كان هناك سرير؟
- رد أيهم بغضب:
- أنت, يا سيدة مارغريت, على موقفك ذاته مني, تحسبينني أهبل أو مجنوناً.. عن أي سرير وأي ثياب تتحدثين؟ ابنتك كانت تجلس أمامي وكانت بكامل ثيابها وكنا نتحدث كما تحدث والدها, الدكتور أنداش, عن أهمية رفع الظلم عن المظلومين, ودعوتها إلى أن تكون معي في أمثال هذا الموقف, فهبت واقفة, تعرت وقالت:
»هذا جوابي) أي أن كل ما قلته لا يساوي فرجها, هذه الساقطة, وأنت تعرفين سقوطها, وتبذلها, لكنك كأم جئت لتدافعي عنها, وأنا لا ألومك على هذا, إنه حنان الأم, تسترها على التي حملتها تسعة أشهر في بطنها إنما الدفاع شيء, والاستغباء شيء آخر, لست بالغبي الذي تظنين!
- آه منك يا غبريلا, كم جلبت من مصائب لأمك! أعطني عزيزي قليلاً من البالنكا أيضاً, وخذ أنت قليلاً من البراندي واجلس إلى جانبي لنتكلم بهدوء, البالنكا لديك غير معتقة طبعاً, لكنها لذيذة, سائغة, مع إنسان نبيل مثلي.. اسمع يا عزيزي, لنشرب نخب صداقتنا أولاً, وبعد أصارحك بكل شيء.
شربا النخب, في جو من المودة التي كانت مفقودة بينهما, ولأمر ما عادت الآن, ومع عودتها, ورغم البالنكا فقد حرصت السيدة مارغريت على الحشمة, على تصرف الأم التي سعادة ابنتها فوق سعادتها, وبسمو أكبر مما كان يظن أيهم, وكان ظنه في محله, بعد سماع اعتراف هذه الأم التي قالت:
- غبريلا, يا عزيزي, غير سيئة غير مبتذلة, لكنها مرت بمحن جعلتها متوفزة متحدية, سريعة في ردة فعلها..
قاطعها أيهم:
- حدثيني, يا سيدة مارغريت, بما يتعلق بك, إذا كان هناك حديث من هذا النوع, دعي الكلام على غبريلا فإنني أعرفها جيداً..
- لا بأس, لا بأس, وكما تريد.. في البدء كانت بيننا, غبريلا وأنا, مجاذبة قوية, حول شيء معيب, أخجل أن أقوله, في حال الصحو الذي أنا فيه, رغم تناولي البالنكا!
- أنا أعرف هذا الذي تريدين قوله.. كنت, رغم كرهك الظاهري لي, تريدينني لنفسك..
- وكان هذا عيباً, عيباً مشيناً, أن تتنافس الأم والبنت على اللذة في سرير رجل واحد!
قال أيهم:
- لكن هذا يحدث, وليس بالأمر النادر!
- أنا معك, يحدث, وأعرف أنه يحدث, إلا أنني أشكر الله على أنه لم يحدث في هذا البيت, ولن يحدث أبداً.
- بلى! سيحدث, إذا ما افترقنا, غبريلا وأنا, نهائياً, وإذا ما بقيت في هذا البيت!
- تظن ذلك؟
- بل وأنا واثق منه!
- أنت وقح, واعذرني, على ما أقول.. لماذا هذا التأكيد, وهذا الوثوق الذي لا أساس له؟
- لأنني أعرف ا لمرأة, في كل أطوارها.
- هذا ادعاء فارغ, لا أحد يعرف المرأة في كل أطوارها, كما لا أحد يعرف النفس في كل أطوارها.. أنا لا أراودك عن نفسي, وما أتيت لهذا الغرض, وأنت لا تراودني عن نفسك, وما استقبلتني لهذا الغرض.. لا تجعلني أندم على مكاشفتك عن كل ما في ذاتي..
- إنما ذاتك, يا سيدتي, كتاب مفتوح, قرأت كل ما فيه, منذ تعرفت بك.. أنت لن تندمي على شيء, لأنني أعرف كل شيء.
- يوزش ماريو! هل أنت ساحر أم شيطان؟
- المسألة لا تحتاج إلى سحر أو شيطنة.. أنت تريدينني لنفسك, والعائق بيننا هي ابنتك غبريلا, والآن زالت غبريلا وزال العائق بيننا! ماذا تريدين؟
- أن تأذن لغبريلا في المجيء, إليك والتحدث معك بلطف, من غير استعلاء أو تحد من الطرفين, أرجوك أنا الأم.
- غبريلا انتهت بالنسبة إلي,وبقيت أنت!
- وأنت تريدني كي تذل غبريلا أكثر!
- هذا ما سيحدث, فلماذا المكابرة فيه!
- أفهم أن هذا شرطك لتستقبل غبريلا ؟ لقد ضحى لأجلها فرجع إليه, وأنا أضحي لأجل ابنتي فهيا إلى السرير!
- لست من هواة ممارسة الجنس مع الجثث.
- أنا لست جثة, فلا تتواقح.. كل ما قلته عما كان سابقاً صحيح, وكل ما تقوله عما سيكون لاحقاً, قد يكون صحيحاً.. إنما الآن أضحي لأجل ابنتي..
قالت ذلك وبكت, المرأة, حتى في أحط درك تصل إليه, ترفض الذل, وأيهم مصر على إذلال مارغريت ليتشفى من غبريلا, وكل ما عدا ذلك لعب بالألفاظ, أما التضحية, حتى من فاسقة, فإنها ترتفع بها عن الفسق, فكيف بالأم, التي لم تفسق, كرمى لابنتها, ولذاتها ربما, والموقف بين مارغريت وأيهم, تحول فصار لصالحها, و»عنترة الشرقي) كاد يهوي إلى قعر ذكورية الشرقي, وهذا من العيب, هذا من الدونية, المرفوضة كي لا تنتصر الفوقية, وعلى أيهم ألا يبكي مع السيدة مارغريت, لا لأن البكاء مرذول من الرجل فحسب, وإنما لأنه مرذول حين هو معتصر بسبب موقف ينحط بالخلق الكريم!
قال أيهم آسياً, ملاطفاً:
- لا تبكي سيدتي, رجل من الشرق أنا, غير أن في الشرق فضيلة, وفيه نخوة وكرامة, ووفاء للخبز والملح, وارتفاع عن الدونية.. لتتفضل غبريلا, وقت تشاء, فالعربي لا يغلق بابه في وجه امرأة..
ردت السيدة ماغريت, وهي في نوبة غضب مستعر, ونوبة بكاء ينطوي على احتجاج:
- لكن هذا العربي الذي لا يغلق بابه في وجه امرأة وضع امرأة عارية خارج بابه!
استشعر أيهم ندماً على ما فعل, طرد امرأة مهما تكن , من بيت رجل, فيه جرح لنفسها, وفيه تجريح لروحها, وفيه خروج على الكرامة, والانحدار إلى الاكرامة التي يطردها, وهذا جزء من الذكورية التي يزعم أنه براء منها, فكيف إذا طرد هذه المرأة وهي عارية, وقذف بها خارج الباب, وثيابها وراءها؟ »لقد جننت, أعماني الغضب, أوقفتني رواسب الجهل في قاع مجهلة بغيضة, الفكر, مهما يكن عظيماً, تنحط عظمته إذا فرض بالقوة.
أنت يا أيهم, ومهما تكن مبرراتك, أردت أن تفرض فكرك على غبريلا بالقوة, وهذا ليس من المبدأ, مهما يكن, وليس من الخلق الكريم مهما يكن أيضاً, وكل المبررات التي سقتها, بالتواطؤ مع مرونة عقلك ومبرراته, باطلة وقد سأل معاوية وهو من هو في الدهاء. »عمرو بن العاص)وكان على دهاء غير قليل:»ما مبلغ دهائك ياعمرو,؟) قال عمرو: »يا أمير المؤمنين, ما دخلت مدخلاً إلا أو أحسنت الخروج منه) .
رد معاوية :»ما هكذا يكون الدهاء ياعمرو, الدهاء ألا تدخل مدخلاً تدفع ثمن الخروج منه!) أنا, أيهم, دخلت مدخلاً, علي أن أدفع ثمن الخروج منه, إلا أنني سأدفع هذا الثمن, بأقل الخسائر الممكنة, لن أتراجع عن رفضي للفوقية التي أظهرته غبريلا, ولن أعتذر عن إنهاء علاقتي بها, لكنني سأقول لها, إذا ما جاءت, وأثارت موضوع طردي لها عارية, كلمة واحدة: أخطأت!
بحرج خجول, تقدم من السيدة مارغريت وقال:
- إنني يا سيدتي لست بالسيىء, لكن عصبيتي تدفعني, أحياناً, للتصرف بطيش.. وبعد أن عانقها, وقبلها في وجهها ويديها قال:
كيزي شوكولم براتم مارغريت »أقبل يديك عزيزتي مارغريت) إنني, حتى مع الفارق القليل في السن, ابنك أيضاً, وهذه الزيارة لي, موضع تقديري واحترامي, وقد قلنا خلالها, قولاً طيباً, وقولاً سيئاً, والحكمة تقول:»لا فائدة من تذكر الأقوال السيئة وكذلك الأشياء السيئة) إذن علينا أن ننسى, أو أن نتعلم أن ننسى, وأن نشرب نخب صحتك, وصحة الدكتور أنداش.
- وصحة غبريلا وصحتك!
- في صحة الجميع إذن, وإني بانتظار زيارة غبريلا في أي وقت تريد, خلال تواجدي في البيت, خارج أعمالي التي تعرفين.
قالت السيدة مارغريت:
- غبريلا ستصعد الآن, وبذلك أثبت لها أنني لم أسكر, ولم أكن في السرير.. إنها, الآن تلعنني, لأنني جئت لأطلب منك أن تستقبلها, فشربنا البالنكا والكونياك معاً, وتحدثنا مطولاً, مع بعضنا حيناً, ومع نفسينا حيناً آخر, وكنت تفكر, وكنت , مثلك, أفكر, والأفكار تذهب بصاحبها وتجيء, وهذا ما حدث لنا, فشكراً لأنك لم تقبل تضحيتي, وبذلك جنبتني العار!
قالت غبريلا, منذ رأت أمها تدخل البيت:
- لم أكن أتوقع أن تخون الأم ابنتها!
قالت مارغريت:
- وأنا لم أكن اتوقع أن تتهم البنت أمها بالخيانة!
- أنا أقصد ما أقول!
- وأنا أقصد ما قلت!
أضافت السيدة مارغريت:
-فيزاج غبريلا فيزاج ( انتبهي غبريلا انتبهي) أنت مسكونة بألف وسواس لأنك مسكونة بألف عفريت! بلغ بي حنان الأمومة أن أضحي لأجلك, لكنه رفض, بإصرار, تضحيتي قال لي وأنا أبكي:» لا تبكي سيدتي لا تبكي إنما أنا رجل من الشرق في نظر غبريلا, غير أن في الشرق فضيلة, نخوة, كرامة, وفيه ايضا وفاء للخبز والملح).
أضاف:» إنني يا سيدتي لست بالسيئ إلا أن عصبيتي تدفعني أحيانا للتصرف بطيش).
- هو قال هذا؟
-نعم! ووضع في كفي خاتم الخطوبة هذا فخذيه!
- نذل!
- لا أرى رأيك.
- تحبينه إذن!
-فات أوان الحب بالنسبة لي.
- ومع البالنكا التي سقاك إياها؟
-قبل باحترام خدي ودي قال لي بأدب » كيزي شوكولوم) وكان صادقا نادما على ما فعل إلا أنه لم يغفر, ولن يغفر, لك نظرتك الفوقية إليه, لأنك فقط من الغرب, وهو يرفض الدونية, في نظرة الشرقي إلى ما هو غربي.. وأنا معه.
صاحت غبريلا:
- أنت عجوز خرقاء, أنت مع البالنكا والسرير, فلماذا لا تكوني عشيقته وينتهي الأمر!؟
- هذا ليس من التربية والاخلاق با غبريلا ليس من الأدب أن تقول البنت لأمها ما تقولينه لي, وكي أريحك هذا ردي على بذاءتك:» سأكون عشيقته , عندما أريد أن أكون عشيقته وعندما يقبل هو, لكنه لا يقبل لأنه يرفض ازدواجية حب الأم والبنت في وقت واحد, وبرفضه حل عقدة حب آثم, طالما عانينا منها, أنت وأنا, منذ سكن بيتنا.
- هذه عقدتك أنت!
- عقدتي أنا وحدي, واذا كان هذا يرضيك!
ضربت غبريلا الطاولة بقبضتها وزمجرت:
- إنه يرضيني, أجل يرضيني! العقدة التي تخرفين حولها , هي عقدة الأم العائبة التي تحب من تحبه ابنتها!
ردت الأم بنبرة كيد:
- واذا كان يحب الأم, ولا يحب ابنتها!؟
-هو قال ذلك؟!
- لو أردت لقاله.. لكنني اشفقت عليك, ومن المؤسف أن اشفاقي لم يفدك في شيء, لأنك... المهم هذا هو خاتم الخطوبة, رده اليك مع الاحتقار, لأنك تشوفت عليه , تعريت كفاجرة وقلت له: » هذا هو جوابي) هل تنكرين ذلك؟ وهل هذا لائق بخطيبة أمام خطيبها؟ وهل من الذوق على الاقل, أن تشمخ الحبيبة بأنفها على حبيبها, لأنها من الغرب وهو من الشرق؟ هذه الفوقية الرعناء, لها معنى واحد الدونية التي تقابلها وكان عليك أن تعرفي أن زمن هذه الفوقية صار وراءنا, وزمن هذه الدونية صار وراءنا ايضا, وقد قال لي والدك أنداش: » حتى عبيد أفريقيا استيقظوا من غفوتهم وهم يرفضون بعضهم على الأقل فوقية أوروبا ودونية افريقيا, كلنا أولاد آدم وحواء) هل فهمت لماذا أعاد اليك خاتم الخطوبة معي؟ وهل اتعظت بما بدر منك؟ وآه لو سمعت أيهم يقول: » إذا كانت غبريلا تتعرى, وتقول هذا هو جوابي فماذا أبقت لعاهرات شارع بيغال في باريس!؟).
نبرت غبريلا:
- هذا الكلام ليس كلامك أنت, إنه كلام والدي, فلماذا لم يقله لي بالذات؟
- قاله لي بالهاتف, بعد أن اطلع على ما جرى بيني وبين أيهم, بالهاتف ايضا لقد تقزز من سماع شنائع كهذه, وقال لي بالحرف الواحد:» بأي وجه أقابل أيهم بعد اليوم, وابنتي تنحدر إلى مادون عاهرات شارع بيغال في باريس).
- لا أصدق , لا أصدق, لا أصدق!
- عندما تنظرين إلى خاتم الخطوبة مردودا اليك, وملقى أمامك على الطاولة, ستصدقين, وتصدقين, وتصدقين أيهم فوق , قبل رجائي في أن تصعدي اليه, وتقولي ما تريدين!
- أنا لا أصعد برجاء, ولا أنزل برجاء, وسترين!
- هذا يعود إليك.. هذا يضع نقطة النهاية لعلاقته بك!
- إلى الجحيم بهذه العلاقة كلها!
- هذا ليس من قلبك!
- وهو ليس من شفاهي أيضا!
- ربما!
- ولماذا ربما المسمومة هذه؟
- لأنها ربما وكفى!
/يتبع/
حنا مينة
المصدر: الثورة