بين يديَّ الآن كتاب ظهر في هذه الأيام، موضوعه تاريخ الفكر اليوناني، لأستاذ من علماء الفرنسيين هو المسيو «ليون روبان»، وليس هذا الكتاب الضخم القيم أول كتاب ظهر في هذا الموضوع، ولن يكون آخر كتاب، بل ليس هو الكتاب الوحيد الذي ظهر في هذه الأيام من نوعه، وإنما هناك كتب كثيرة ظهرت، وتظهر وستظهر في هذا الموضوع، لأن الأوربيين يتخذون هذه القاعدة قانونًا لهم، وهي أن ليس إلى فهم الحياة الحديثة على اختلاف وجوهها من سبيل إلا إذا فهمت مصادرها الأولى. ومصادرها الأولى هي الحياة اليونانية من جهة، والرومانية من جهة أخرى؛ أو قل: هي الحياة اليونانية؛ لأن حياة الرومان كانت من أكثر وجوهها متأثرة بالحياة اليونانية وإذا كنا قد أخذنا في هذا العصر الحديث نسلك سبيل الأوربيين، لا في حياتنا العقلية وحدها، بل في حياتنا العملية على اختلاف فروعها أيضًا، فليس لنا بد من أن نسلك سبيل الأوربيين في فهم هذه الحياة التي استعرناها. أقول: إننا أخذنا في هذا العصر الحديث نسلك السبيل الأوربية في جميع فروع الحياة، ونعدل عن حياتينا القديمة عدولًا يوشك أن يكون تامًّا. وأحسب أنك لن تطالبني بالدليل على ذلك؛ فأنت في المدرسة تتعلم العلم الأوربي، وأنت إذا قرأت تقرأ العلم الأوربي، وإذا فكرت فعلى النحو الأوربي. وأنت في بيتك وفي صِلاتك المختلفة تسلك المسلك الأوربي. وأنت في حياتك السياسية وفي نظامك الإداري والاجتماعي تنهج المنهج الأوربي. وما أحسب أننا نكتفي من هذا الحياة بتقليد القِرَدة، وإنما أعلم أننا نريد أن نتخذها حياة لنا عن فهم وبصيرة. وإذن فلنفهمها قبل كل شيء. ولنتبين — إذا كان الأمر كذلك — كيف كانت حالة الفكر في تلك العصور اليونانية الخصبة، وكيف كانت قيادة الفلسفة إياه. ولنبدأ من هؤلاء الفلاسفة الذين أشرفوا على قيادة الفكر اليوناني، ولا يزالون يشرفون على قيادة الفكر الإنساني، بأبيهم وزعيمهم جميعًا «سقراط».
ولست أستطيع أن أحدثك عن سقراط دون أن ألفتك إلى أنه لم يتول قيادة الفكر اليوناني إلا بعد أن ارتقى هذا الفكر، وانتهى من الرقي إلى حد عجيب، وأن الفلسفة سلكت من قبله طرقًا مختلفة شديدة الالتواء وأفلست فيها واحدة بعد أخرى، وأن هذه الفلسفة التي أفلست في آخر الأمر كانت أيام انتصارها مشرفة على العقل اليوناني، تقوده وتدبره، وتنتهي به إلى الخير، ولكن هذا العقل كان شديد التطور سريع الاستحالة، فلم يكن بدٌّ لتلك المذاهب الفلسفية من أن تنتهي إلى ما انتهت إليه من إفلاس، ولم يكن بدٌّ من أن يظهر مذهب فلسفي جديد يلائم هذه الحياة الجديدة التي انتهى إليها العقل اليوناني في آخر القرن الخامس قبل المسيح.
تستطيع أن تقرأ في غير هذا الفصل من كتب التاريخ الفلسفي، كيف نشأت الفلسفة اليونانية، وكيف جاهدت لتنتصر على الشعر والدين وكيف التمست تفسير هذا الكون في الأرض مرة، وفي السماء مرة أخرى، وفي الماء حينًا، وفي الجو حينًا آخر، ثم كيف عدلت عن المادة إلى المعنى، وكيف تعمقت في بحثها المعنوي دون أن تنتهي إلى شيء قيِّم، وكيف كانت أثناء هذا البحث والاضطراب مصدرًا لهذا التطور السياسي الذي أقر النظام الديمقراطي في أثينا وغيرها من المدن اليونانية، وأما أنا فلن أحدثك من هذا كله بشيء، وإنما أحدثك في كلمات موجزة عن حال العقل اليوناني أيام سقراط، لتستطيع أن تفهم فلسفة سقراط وما تنشأ عنها من المذاهب المختلفة. أما الحياة العامة الأثينية، فكانت متأثرة بشيئين مختلفين: أحدهما النظام الديمقراطي المتطرف الذي يقوي حرية الفرد إلى أقصى حد ممكن، ويجعل شخصيته بارزة تستطيع أن تعاند الدولة وتنتصر عليها أحيانًا. والثاني هذا الاختلاط الشديد بين الشعوب المختلفة المتباينة الذي كان يبعث على الحياة العقلية القوية ويجعلها مضطرمة دائمًا، والآخر كان يبعث على اصطدام المنافع وتنازعها وتعقدها إلى حد عظيم. أضف إلى هذين السببين ما أشرت إليه من إفلاس المذاهب الفلسفية الأولى تنته إلى هذه النتيجة، وهي أن العقل اليوناني في ذلك العصر كان قد وصل إلى حال من الشك لم يعرفها من قبل: شك في الفلسفة التي عجزت عن تفسير الكون، وشك في الدين الذي أصبح من السخف بحيث لا يستطيع أن يؤمن به عقل يحترم نفسه، وشك في الحياة السياسية التي اشتد فيها الاضطراب وعبثت بها الحروب من جهة، والثورات من جهة أخرى. والأهواء الشخصية من جهة ثالثة، وشك في النظام الاجتماعي الذي لا قيمة له إذا لم يعتمد على فلسفة قوية، أو دين متين، أو سياسة ثابتة — شك في كل شيء وحرص على المنفعة الخاصة التي يمكن أن يؤمن بها الفرد حقًّا؛ لأنه يمسُّها ويستمتع بها ويسعى إليها.
في هذه الحال نشأت فلسفة «السوفسطائيين» (Sophistes) التي كانت في حقيقة الأمر مرآة صادقة للحياة الاجتماعية، والتي كانت تنكر كل شيء في نفسه، ولا تعترف إلا بشيء واحد وهو المنفعة الفردية، والتي كان زعماؤها يطوفون في الأرض كما كان يفعل الشعراء القدماء يحملون الشك والإنكار، ويخدمون المنفعة الفردية، ويعلمون الفرد كيف يلبس الحق بالباطل، وكيف يعبث بعقول القضاة في المحكمة، وبعقول الجماعات في المجالس السياسية العليا، وكيف يعبث بعقول الأفراد ومنافعهم فيما يكون بينه وبينهم من حوار.
في هذه الحال السيئة نشأ سقراط، ولم يكن من أسرة ممتازة، بل لم يكن من أسرة متوسطة، وإنما كان إلى الطبقة الدنيا أقرب منه إلى الطبقات الأخرى: كان أبوه حفَّارًا، وكانت أمه قابلة، ولم يكن حسن الخلق، ولا جميل الطلعة، وإنما كان قبيح المنظر، ممقوت الشكل، ولكنه كان ذكي القلب، نافذ البصيرة، شديد الفطنة. ولم يكن بدعًا من الأثينيين في عصره، وإنما سلك السبيل التي كان يسلكها غيره من الناس يقال: إنه تعلم مهنة أبيه ولكنه لم يمض فيها. ومهما يكن من شيء فقد كان كغيره من الشبان الأثينيين: يختلف إلى المجالس العامة، وإلى الحمَّام، وإلى محالِّ الألعاب الرياضية، وكان يستمع للخطباء السياسيين في جماعة الشعب والقضائيين في المحكمة، وكان يجلس إلى «السوفسطائيين» فيسمع منهم ويحاورهم، وكان يدرس المذاهب الفلسفية المختلفة، حتى إذا قضى من هذا كله وطره وبلغ سنَّ الرجولة، أحس أن في نفسه شيئًا يخالف ما في أنفس الأثينيين، وأن له ميولًا تخالف ميولهم، وأهواءً تخالف أهواءهم، وأخذ يحاور السوفسطائيين من جهة والشبان من جهة أخرى، لا يصرفه ذلك عن واجباته الوطنية؛ فقد كان يشترك في الانتخابات، ويجلس في جماعة الشعب، بل انتخب في مجلس الشورى ورأَسَ جماعة الشعب. وكان يؤدي واجبه العسكري؛ فقد اشترك في الحرب غير مرة، وأظهر فيها بلاءً حسنًا وشجاعةً قيِّمة وتضحية بالنفس في سبيل الأصدقاء. ولكنه كان يحاور كل من لقيه ضروبًا من الحوار غريبة لم يألفها الناس. في ألفاظ إن لم تكن راقية مهذبة، فقد كانت قوية خلابة ساحرة. وما هي إلا أن كلف به الشبان وكلف بهم، فسعوا إليه، أو قل: سعى إليهم، فلم تكن مدرسة، وإنما كان هو مدرسة متنقلة، يحاور في الميادين العامة وفي حوانيت الحذَّائين وغيرهم من الصناع، وفي أروقة الحمَّام وفي الملاعب الرياضية. وقد فُتن به الشبان فتنة لم يُفتنوها بأحد من قبله، فالتفوا حوله التفافًا شديدًا، واستغرق حواره إياهم يومه كله أو أكثره. وكان حَسَن الدعابة، بل لم يكن حواره إلا دعابة متصلة وهزلًا مستمرًّا. ولكن هذه الدعابة الحلوة وهذا الهزل اللذيذ، لم يكونا إلا ستارًا لطيفًا شفافًا ينم بما دونه من حق وَجَدٍّ. لم تكن له مدرسة ثابتة، ولم يكن له موضوع بعينه يدرسه أو يحاوره فيه، وإنما كان يدرس كل شيء، ويحاور في كل شيء، ويتخذ كل شيء وسيلة للبحث والجدال وطريقًا إلى غاية معينة سنراها بعد حين. كان إذن يخالف غيره من فلاسفة عصره من هذين الوجهين: من حيث إنه لم يكن يلتزم مكانًا للدرس، ومن حيث إنه لم يكن يلتزم موضوعًا للدرس. وكان يخالفهم من جهة أخرى، فقد كان هؤلاء الفلاسفة من السوفسطائيين، سواءٌ منهم من طوف في الأرض وانتقل من مدينة إلى مدينة يسعى إلى طلابها ويلتمسهم ومن أقام في مدينة بعينها يسعى إليه الطلاب ويلتمسونه، كانوا جميعًا يتخذون الفلسفة والدرس وسيلة إلى المجد وكسب المال: وسيلة إلى المجد، فكانوا ينشئون الفصول والرسائل يتلونها في المحافل والمشاهد العامة ليفتن بهم الجمهور، ويعجب بهم الناس، كما كانوا يتعرضون للفلاسفة وزعماء العصر ويحاورونهم ويجادلونهم، ويخلبون الناس بهذه المقدرة التي كانت تتيح لهم أن يلبسوا الحق بالباطل؛ ويسبغوا على الخطأ ثوب الصواب. ووسيلة إلى كسب المال، فكانوا لا يلقون دروسهم مجانًا، بل كانوا يتقاضون عليها الأجور الضخمة، وكانوا يحاسبون الطالب حسابًا دقيقًا على ما ألقوا إليه من علم: أتريد درسًا واحدًا أم دروسًا عدة؟ أم أنت تريد أن تتعلم الفلسفة كلها؟ لكل شيء من ذلك أجره.
أما سقراط فلم يكن يلتمس مجدًا ولا كسبًا، ولم يكن يحفل بالمجامع العامة يلقي فيها الخطب أو يقرأ فيها الفصول، وإنما كان يفرُّ من ذلك فرارًا ولا يأتيه إلا إذا اضطر إليه اضطرارًا في جماعة الشعب أو مجلس الشورى، وكان لا يعدُّ الخطب للناس يلقونها في المحاكم أو الجماعات السياسية، وكان لا يتقاضى على علمه أجرًا؛ لأنه كان يعتقد أنه لا يعلِّم الناس شيئًا. فليس غريبًا أن يفتن به الجمهور من شباب أثينا. وليس غريبًا أن يتسامع به الناس في «أتكا» ثم في البلاد اليونانية الأخرى. وليس عجيبًا أن يفد اليونانيون من أقطار الأرض على أثينا ليلقوا سقراط، ويتحدثوا إليه. ولكن حادثة حدثت فغيرت من سيرة سقراط ورأيه في نفسه شيئًا كثيرًا، ذلك أن أحد المعجبين به — وكانوا كثيرين — ذهب إلى «دلف» (Delphes)، وسأل «أبلون» (Appollon): أبين فلاسفة اليونان وحكمائهم من يفوق سقراط أو يبلغه فلسفة وحكمةً؟ فأجابت الكاهنة أن لا. وبلغ ذلك سقراط، فحمله على أن يتبين السبب الذي بعث الإله «أبلون» على أن يعلن أنه أحكم الناس وأحسنهم فلسفة. ولم يكن سقراط يرى في نفسه هذا الرأي، وإنما كان يرى أنه أشد الناس جهلًا وأقلهم حظًّا من علم أو فلسفة.
وما هي إلا أن أخذ في البحث والتحقيق، فألم بالحكماء والفلاسفة، وبالشعراء والكتَّاب، وبالصناع وأهل الفن، يحادثهم ويسألهم ويعلم علمهم، حتى انتهى إلى هذه النتيجة، وهي أنه أحكم الناس حقًّا؛ ذلك لأنه رأى هذه الطبقات كلها شديدة الغرور، قوية الإيمان بحظها من العلم أو الفلسفة أو الشعر أو الفن، شديدة الجهل بنفسها، ورأى أنه هو الرجل الوحيد الذي لا يغرُّه شيءٌ، ولا يعلم إلا شيئًا واحدًا هو أنه شديد الجهل بكل شيء، وكان القدماء قد كتبوا على معبد «دلف» هذه الحكمة القديمة «اعرف نفسك بنفسك»، فما أسرع ما اتخذها سقراط شعارًا له وقاعدة لحياته وحواره وتعليمه — وما أسرع ما اعتقد أنه قد أصبح شيئًا يشبه الأنبياء، وأن «أبلون» قد كلفه مهمة عظيمة الخطر، هي أن يبث الحكمة في الناس ويعلمهم أن يعرفوا أنفسهم بأنفسهم. من ذلك الوقت جدَّ سقراط في تأدية رسالته، وتحقيق الواجب الذي كلفه إياه «أبلون»، فتتبع الشباب الأثيني في كل مكان، وأخذ عليه كل سبيل، حتى لقد كان يمشي في طريقه، فإذا رأى شابًّا يمضي لعمل من أعماله، أخذ عليه الطريق ومنعه أن يمضي، وأخذ يلقي عليه أسئلة عادية لا قيمة لها، فيجيبه الشاب أجوبة تلائم هذه الأسئلة، ولكنه يمضي في السؤال، ويمضي الشاب في الجواب، وإذا هما في حوار فلسفي قد أنسى الشاب عمله، وجمع حولهما الناس. وقد ظهر تأثر الجماعة الأثينية بسقراط وجزع الطبقات الأرستقراطية من سلطانه على الشبان في نحو سنة ٤٢٥ قبل المسيح، حين أخذ الشاعر التمثيلي المشهور «أرستفان» (Aristophane) الذي كان لسان الأحزاب الأرستقراطية المحافظة، يُعَرِّض بسقراط في قصصه التمثيلية المضحكة، ولا سيما في قصة الطير والضفادع، ولا سيما في قصة السحاب التي خصصت كلها لسقراط والهزؤ به.
وأصبح سقراط شيئًا يخيف الأرستقراطية لأنه كان شديد العبث بالعادات والأخلاق الموروثة. ولكنه، لسوء حظه، لم يرض الديمقراطية، بل كان بها شديد العبث أيضًا. ألم يكن يتخذ الدين موضوعًا لحواره؟ ألم يكن يتخذ النظم الديمقراطية موضوعًا لهذا الحوار؟ ألم يكن يُظهر كلما سنحت له الفرصة سخطه على حكم الشعب واستهزاءه بهذا الحكم؟ ثم أليس هو الذي عارض أشد المعارضة حين أرادت جماعة الشعب أن تحاكم القواد الأثينيين المنتصرين الذين اتهموا بالتقصير في جمع الغرقى في موقعة «أرجينوس» (Arginus)؟ أبى سقراط على جماعة الشعب محاكمة هؤلاء القواد، وكان هو من رؤساء الجلسة في ذلك اليوم. ولكن جماعة الشعب حاكمت هؤلاء القواد وقضت عليهم بالموت، وأنفذت فيهم هذا القضاء، وأكرهت سقراط؛ ثم لم تلبث أن ندمت على ما قدَّمت، وأحست أنها قد حرمت أثينا ظلمًا عشرة من قوادها الماهرين حين كان احتياجها إلى الرجال شديدًا.
كان سقراط قليل الميل إلى الديمقراطية؛ كما كان شديد البغض للاستبداد، عدوًّا للأرستقراطية، وقد أغضب هذه الطبقة كما أغضب الشعب: أغضبها حين أبى على الطغاة الثلاثين ما أرادوه عليه من المعونة، وحين عرض نفسه بذلك الخطر. ومن هنا لم ينته القرن الخامس حتى كان سقراط قد ألَّب على نفسه الديمقراطية المنتصرة والأرستقراطية المنهزمة، كما أنه كان قد ألَّب على نفسه الشعراء والفلاسفة والمعلمين، لأنه صرف عنهم الشباب من جهة، ولأنه كان شديد السخر بهم من جهة أخرى. فما هي إلا أن تم انتصار الديمقراطية على الطغاة الثلاثين، حتى تقدم اثنان من الأثينيين، أحدهما شاعر، بقضية إلى الشعب يتهمان فيها سقراط تهمًا عدَّة: منها أنه أفسد الشباب، ومنها أنه لا دين له، ومنها أنه يعبث بالنظم السياسية القائمة. وحوكم سقراط، فلم يكن موقفه من قضاته موقف الرجل الذي يريد أن يدافع عن نفسه حقًّا ويثبت براءته حقًّا، وإنما كان موقفه من القضاة موقف الساخر بهم، المزدري لهم، ومع ذلك فقد صدر الحكم عليه بكثرة قليلة جدًّا. وكانت العادة عند الأثينيين وغيرهم من القدماء أن يصدر في مثل هذه القضايا الجنائية حكمان: الأول يثبت إدانة المتهم أو ينفيها، والثاني يقرر العقوبة التي يستحقها المتهم إذا ثبتت إدانته. وكانت العادة إذا ثبتت إدانة المتهم أن يُسأل عن العقوبة التي يرى أن يستحقها، وأن يُسأل المدعي عن العقوبة التي يرى أن المتهم خليق بها، ثم تفصل المحكمة بين هذين الجوابين، فتقر إحدى العقوبتين اللتين اقترحهما المتهم والمدعي. فلما صدر الحكم بإدانة سقراط سُئل عن العقوبة التي يرى أن يستحقها، فأجاب ساخرًا مستهزئًا: أنه يرى أن تطعمه الدولة مجانًا بقية حياته؛ لأنه أنفق هذه الحياة في تعليم الأثينيين وتهذيبهم. وسئل المدعون فطلبوا الموت، وكان القضاة قد سخطوا لهذه السخرية القاسية، فأقروا في حكمهم ما طلب المدعون، وقُضِيَ بالموت على سقراط.
وليس من شك في أنه لو أحسن الدفاع عن نفسه لبرئ. وليس من شك في أنه لو لم يسخر من القضاة بعد إدانته لما حكم عليه إلا بالغرامة كثيرة أو قليلة؛ ولكن موقفه أحنق عليه القضاة، ثم انتهت به هذه السخرية إلى أن اعتبر مهينًا للدولة، فعوقب معاقبة من تثبت عليه الخيانة العظمى أو الخروج على النظام القائم.
أما إذا أردنا أن نتبين نصيب هذا الحكم من العدل أو الجور، فنحن مضطرون إلى أن نرى فيه رأيين مختلفين: أحدهما أن أثينا لم تكن ظالمة حين قضت بالموت على هذا الرجل الذي خرج بفلسفته وتعليمه على النظام القائم، واتخذ القوانين سخرية وهزءًا، وانتهى إلى أن أهان الشعب ممثلًا في المحكمة. والآخر أن أثينا — وإن كانت قد عدلت في حكمها، بالقياس إلى نظمها وقوانينها — فليس من شك في أنها قد أساءت حين قضت بالموت على رجل لا لشيء إلا أنه خالف الجمهور في الرأي. وبهذا الحكم كانت الديمقراطية الأثينية عدوة لحرية الرأي. وحسبك بهذا سبة وعارًا، وحسبك به مجدًا وفخارًا لسقراط.
صدر الحكم على سقراط والأثينيون في حفلة من حفلاتهم الدينية، قد أرسلوا وفدهم إلى «أبلون» في جزيرة «دلوس» (Dellos) وكان «أبلون» صاحب «دلوس» هذه إلهًا خاصًّا لليونانيين يخالف من وجوه كثيرة «أبلون» صاحب «دلف» الذي كان إلهًا للدوريين خاصة واليونانيين جميعًا. فكانت أثينا تعنى عناية خاصة بإله «دلوس»، وترسل إليه وفدًا من الحجيج في كل سنة يقيمون الحفلات حول معبده في الجزيرة التي يقال إنها كانت سابحة على وجه الماء حينما هبطت أم أبلون من السماء، وكانت حاملًا وكانت هاربة من زوج «زوس» (Zeuss) كبير الآلهة؛ فأوت إلى هذه الجزيرة السابحة، ولم تكد تأوي إليها حتى استقرت في مكانها، وولدت هذه الإلهة «أبلون» و«أزتميس» أخته. وكانت العادة عند الأثينيين ألا ينفذ حكم الموت أثناء هذا العيد؛ فإذا قضي بالموت على متهم أثناء هذا العيد انتظر في السجن حتى يؤوب الحجيج ثم ينفذ فيه الحكم. فاضطر سقراط إلى أن ينتظر أيامًا في سجنه. وأخذ أصحابه وتلاميذه يختلفون إليه في السجن كل يوم يقضون معه بياض النهار في حوار وجدال كأن لم صدر عليه حكم، وكأنه لم يكن ينتظر الموت، حتى آب الحجيج وآن تنفيذ الحكم. في هذا اليوم أقبل تلاميذ سقراط على أستاذهم كعادتهم، ولكنهم كانوا جزعين مضطربين وكان هو كعادته هادئًا مطمئنًّا مبتسمًا، فكان بينه وبينهم حوار معروف هو آية من آيات الفلسفة والبلاغة الإنسانية، وهو الحوار الذي صوره أفلاطون في كتابه «فيدون» (Phédon) والذي يثبت فيه سقراط خلود النفس، والذي كان له التأثير العظيم في الحياة الرومانية أيام الإمبراطورية حين كان القياصرة يقضون بالموت على زعماء الرومان وأشرافهم؛ فإذا أنفذ إليهم أمر قيصر أن يموتوا استعدوا للموت هذا الاستعداد الجميل، فعنوا بأجسامهم العناية العادية، وأخذوا في أمورهم كما يأخذون من قبل. فمنهم من كان يجدُّ، ومنهم من كان يلهو؛ حتى إذا فرغوا من ذلك قرءوا «فيدون»، ثم قتلوا أنفسهم تنفيذًا لأمر قيصر.
ولست أريد أن أنتقل من هذا الموضوع دون أن أشير إلى هذه القصة التي اتفق عليها المؤرخون؛ وهي أن بعض تلاميذ سقراط هيأ له الهرب وأعدَّ له وسائله وألح عليه فيه، ولكن سقراط أبى أن يهرب، ولو شاء لنجا: أبى الهرب إكبارًا لقوانين الدولة، واحترامًا لأحكامها. الحق أنَّا لا نستطيع أن نفهم الصلة بين هذا الموقف الذي وقفه سقراط بعد الحكم والذي يمثله خاضعًا لنظام الدولة محترمًا له، وبين ذلك الموقف الذي وقفه أثناء المحاكمة والذي يمثله ساخرًا من نظام الدولة عابثًا به، وأكبر ظننا أن هذه القصة لا تخلو من مبالغة، أو قل: إن سقراط لم يأب الهرب إلا ازدراءً للحياة وشوقًا إلى الموت. فنحن نراه في حواره ينتظر الموت انتظار مشتاق إليه مؤمن بأنه سيكون سعيدًا به. وقد تناول السم، وجاد بنفسه بين تلاميذه في فبراير أو مارس سنة ٣٩٩ قبل المسيح، وهو في نحو السبعين من عمره.
أوجزتُ لك حياة سقراط، ولكني أشد حرصًا على الأمانة التاريخية من أن أخفي عليك شيئًا يضطرب في بعض أذهان العلماء العصريين من أمر سقراط، ذلك أن من العلماء المعاصرين من يشك في وجود سقراط أو ينكره ويريد أن يرى فيه رأيًا يشبه رأي النقاد في واضع «الإلياذة» و«الأودسا» أي يريد أن يعتقد أن سقراط شخص خرافي اخترعه القدماء ليضيفوا إليه هذه الفلسفة التي تسمى السقراطية، والتي نشأت عنها فلسفة أفلاطون وأرسطاطاليس وغيرهما من الفلاسفة. ولست أخفي عليه أن هذا الرأي لا يزال شاذًّا، وأن الكثرة المطلقة من العلماء والمؤرخين لا تكاد تحفل به. ولكن من يدري! فقد كان رأي الذين أنكروا شخص «هوميروس» شاذًّا في عصر من العصور، وكان الكثرة المطلقة من العلماء والمؤرخين لا تحتفل به، ثم تمت له السيادة الآن. أليس من الممكن أن تتم السيادة في يوم من الأيام لهذا الرأي الذي ينكر وجود سقراط؟ نعتقد أن هذا لن يكون؛ ذلك لأن سقراط لم يعش في عصور جاهلية، وإنما عاش في عصر تاريخي معروف لا يخفى فيه على الناس شيء، ولا يمكن أن يجري فيه على الناس خداع غليظ كهذا الخداع. ليس عندنا شك في أن سقراط قد وجد وعلم وأثار العقل الأثيني، وأغضب الأثينيين، وحوكم وقضي عليه بالموت، وأنفذ فيه هذا القضاء، ولكن الذين ينكرون شخص سقراط معذورون:
أولًا: لأن الآثار التاريخية المباشرة التي تثبت وجود سقراط وما اعترض حياته من الخطوب قد فقدت منذ زمان طويل، فنحن لا نكاد نحقق تاريخ ميلاده، وليست لدينا نقوش معاصرة فيها اسمه أو فيها إشارة إلى ما أصابه. ولكن هذا كله لا يدل على شيء — فقد فقدنا من آثار القدماء معظمها، ولم يكد يبقى لنا منها شيء.
وثانيًا: لأن سقراط لم يكتب شيئًا، وإنما كان تعليمه حوارًا لا يسجل، فلم يبق لنا من سقراط كتاب يمثل شخصيته تمثيلًا ما، وإنما نحن مضطرون إلى أن نلتمس شخصية سقراط فيما ترك تلاميذه من الكتب: نلتمسها عند أفلاطون وعند ذينوفون (Xénophon) وعند أرسطاطاليس وعند غيرهم من الفلاسفة والكتَّاب الذين حاوروا تلاميذه. وهؤلاء الفلاسفة والكتاب لا يتفقون في تصوير سقراط، بل لا يكادون يتشابهون في هذا التصوير. أضف إلى هذا كله أن آثار هؤلاء الفلاسفة والكتَّاب قد أصابها شيءٌ كثير من عبث الزمان، فهي لا تؤدي إلينا شخصية سقراط على وجهٍ مُرْضٍ.
وثالثًا: لأن الفلاسفة الذين حاوروا سقراط، وأخذوا عنه قد علموا الفلسفة بعده في مدن مختلفة، بل في أوقات مختلفة؛ وكان من المعقول أن تتشابه فلسفتهم ويتقارب تعليمهم؛ إذ كان كله منتهيًا إلى مصدر واحد هو سقراط، ولكن هذه الفلسفة مختلفة وهذا التعليم متناقض؛ فإذا نطقت بلفظ الفلسفة السقراطية لم تفهم منها شيئًا متشابهًا، وإنما فهمت منها أشياء متباينة تباينًا شديدًا، كما سنرى.
رابعًا: لأن حياة سقراط وموته وما اعترضه من الخطوب، كل ذلك قد أحدث في نفوس الناس أثرًا عظيمًا، وما هي إلا أن كثرت الأساطير والأكاذيب حول سقراط وحياته، وأخذ الكتَّاب المتأخرون هذه الأساطير والأكاذيب فخلطوها خلطًا، ومزجوها بالصواب مزجًا — فأصبح من العسير جدًّا تمييز الحق في أمر سقراط من الباطل. ولكن كل هذا لا يثبت أن سقراط لم يوجد، وإنما يثبت شيئًا واحدًا لا يختلف فيه اثنان، وهو أن شخصية سقراط شيء عسير الإثبات والتمييز، وما أكثر الفلاسفة والأبطال الذين بعد بهم العهد فأصبح من العسير إثبات شخصياتهم وتمييزها — على أن مثل هذا البحث يخرج بنا عن الخطة التي رسمناها لأنفسنا في هذه الفصول، فلنتركه ولنمض فيما نحن فيه من إيجاز فلسفة سقراط، وأثرها في الحياة بعده.
الفلسفة السقراطية
قلنا: إن سقراط اتخذ لنفسه قاعدة جعلها إمامًا له في سيرته وفي تعليمه، وهي هذه الحكمة التي كانت مكتوبة على معبد «دلف»: «اعرف نفسك بنفسك». وهذه الحكمة نفسها إذا تأملناها أوضحت لنا جملة الفلسفة السقراطية. فهذه الفلسفة تنحصر، أو تكاد تنحصر، في شيئين:
الأول: أن الإنسان قد جهل نفسه في جميع العصور المتقدمة، وأن جهله نفسه هو الذي حمله على أن يلتمس العلم في الخارج، فيبحث عنه مرة في الأرض وأخرى في السماء، وحينًا في الجو وحينًا في الماء؛ وكان الحق عليه أن يبدأ بنفسه فيدرسها ويتبين أمرها، حتى إذا فرغ منها استطاع أن ينتقل إلى الخارج. وليس هو في حاجة إلى ذلك؛ لأنه لن يفرغ في درس نفسه أبدًا، ولأنه سيجد في نفسه إذا درسها كل شيء.
الثاني: أن الفلسفة يجب أن تقوم منذ اليوم على معرفة النفس والعلم بها، أي إن الفلسفة يجب أن تكون إنسانية، أي إن الفلسفة يجب أن تقوم قبل كل شيء على الأخلاق.
فأنت ترى أن هذه القاعدة السقراطية قد حملته قبل كل شيء على أن يعلن جهله؛ لأنه لا يستطيع أن يعلم شيئًا قبل أن يعلم نفسه؛ وإذا كان يجهل نفسه فهو يجهل كل شيء. ثم حملته بعد ذلك على أن يتبين نفسه، فيبحث عن جوهرها وخصالها، وعما يلائمها وما يخالفها. وبهذا البحث وضع سقراط أساس علم النفس من جهة، وأساس علم الأخلاق من جهة أخرى. أما علم النفس فلم يتعمق فيه سقراط؛ لأن سقراط لم يكن نظريًّا ولا مفتونًا بالبحث الخالص الذي ليس بينه وبين الحياة العملية صلة، وإنما كان يشبه السوفسطائيين شبهًا قويًّا، ويخالفهم مخالفة قوية: كان يشبههم من حيث إنه كان يمقت البحث النظري الخالص، وكان شديد الميل إلى البحث الذي يمس الحياة العملية ويهدي إلى سبل الخير فيها.
من هذه الجهة كان ينكر المذاهب الفلسفية القديمة كما كان ينكرها السوفسطائيون، وكان يعبث بالعادات والنظم الموروثة كما كان يعبث بها السوفسطائيون. ولكنه كان يخالف السوفسطائيين خلافًا شديدًا، فقد كان هؤلاء يعرضون عن النظر الخالص إلى المنفعة العملية الخالصة، وكانوا يبتغون المنفعة في أغلظ وجوهها وأحطها: يبتغون المجد والصوت، والمال ولذات الحياة؛ ويسلكون إلى هذا كله أيسر السبل وأسهلها، لا يعوقهم عنه عائق ولا يمنعهم منه مانع.
أما سقراط، فكان يعرض عن النظر الخالص، لا إلى هذه المنافع المبتذلة، بل إلى المنفعة المحققة، إلى منفعة النفس من حيث هي؛ فلم يكن يحفل بالمجد ولا بالثروة ولا بالشهرة، وإنما كان يبتغي السعادة، وقد بحث عنها كثيرًا واهتدى إليها آخر الأمر؛ فعرف أن السعادة إنما هي الخير، أي أن يكون الإنسان خيِّرًا، عدلًا مؤثرًا للحق من حيث هو، مطمئنًّا إلى الحق في نفسه. فبينما كان السوفسطائيون يعلمون الناس أن يكونوا نفعيين ماديين، كان سقراط يعلم الناس أن يكونوا نفعيين، ولكن على الوجه الروحي الذي يؤثر الباقية على الفانية، ويستطيع أن يميز الجوهر من العرض، وأن يزدري زخرف الحياة في سبيل السعادة الحقيقية.
وبينما كان السوفسطائيون ينكرون كل شيء ويجحدون كل حقيقة؛ فيهدمون بذلك كل علم وكل فلسفة، كان سقراط يثبت الحقائق، ويعلن أن هذا العلم ليس لغوًا ولا عبثًا ولا باطلًا، ويسلك في إثبات هذا كله سبيلًا تقرب كل القرب من السبيل التي سلكها ديكارت بعده بعشرين قرنًا، وهي أن يثبت وجود نفسه أولًا. فإذا ثبت له وجود نفسه فقد ثبت أن في العالم حقائق ثابتة، وأن الفلسفة السوفسطائية كلها تقوم على شيء من العبث والمغالطة. ذلك أنك مهما تنكر فلن تستطيع أن تنكر نفسه، ولن تستطيع أن تنكر أنك تفكر وتحسُّ وتشعر، وإذن فنفسك وما يصدر عنها من تفكير وحسن شعور، كل ذلك حقائق ثابتة لا تحتمل شكًّا ولا جدالًا؛ ومن هنا قامت الفلسفة السقراطية، أولًا: على محاربة السوفسطائية، وإثبات أن هناك حقائق موجودة، وثانيًا: على أن هذه الحقائق، إنما تُعلم إذا عُلمت النفس الإنسانية التي هي السبيل الحقيقية إلى إدراكها، وثالثًا: على أن العلم بهذه النفس ليس معناه إلا العلم بجوهرها وما يلائمها وما يخالفها. ورابعًا: على أن العلم بهذا كله ليس الغرض منه — أو لا ينبغي أن يكون الغرض منه — إلا السعادة التي هي تحصيل ما يلائم النفس وتجنب ما يخالفها، وخامسًا: أن الحياة كلها تدور حول محور واحد عنه صدرت وإليه تنتهي، وهو الخير. هذه هي خلاصة الفلسفة التي يمكن أن تضاف إلى سقراط، وهي شيء من اليسير أن يوجز في جمل قصار، ولكن من العسير جدًّا أن يحصى تأثيره في الحياة الإنسانية والعقل الإنساني.
على أن من التقصير أن نزعم أن فلسفة سقراط قد انتهت عند هذا الحد، بل من الحق أن نقول: إن هناك وجهًا آخر من وجوه الفلسفة السقراطية يحسن ألا ننساه وألا نهمله، وهو منهجه في البحث وطريقته في التفكير، فلم يكن سقراط كغيره من الفلاسفة الذين تقدموه، ولا كغيره من الفلاسفة الذين جاءوا بعده بزمن قصير، يواجه المباحث الفلسفية مباشرةً، ويهجم عليها هجومًا عنيفًا، حتى يخلص منها إلى نتائجها، وإنما كان يدور حول المباحث الفلسفية في رفق ولطف، وما يزال يدور حولها، حتى يجد مسلكًا ضيقًا يسلكه فينتهي به إلى النتيجة التي كان يبتغيها. هذه الطريقة الفلسفية هي طريقة الحوار. لم يكن سقراط يضع أمامه مسألة بعينها ثم يأخذ في التحليل والنقد والتعليم حتى ينتهي إلى ما يريد، وإنما كان يتحدث، فيسأل ويناقش جواب المسئول، ثم يسأل، ثم يتعرض للسؤال، ثم يجيب، ثم يورِّط محاوره في الخطأ، أو يتورَّط هو في الخطأ، وما يزال في حوارٍ وفي أخذ وردٍّ حتى يستخلص النتيجة كأنها إحدى القضايا الأولية التي لا تحتمل الشك ولا الجدال. ومصدر هذه الطريقة أن سقراط كان يعتقد أن النفس بطبيعتها قادرة على العلم بالأشياء، وعلى استكشاف الحقائق، ولكن ظروف الحياة العملية وأعراضها، وما ورث الناس من عادات وأخلاق، ومن أساطير وسخافات، كل ذلك قد تراكم على هذه النفس الصافية كما يتراكم الصدأ على المرآة. فعمل الفيلسوف ليس هو تعليم الإنسان ما لم يعلم، وإنما هو إعداد الإنسان لكشف الحقائق، أو قل: إن عمل الفيلسوف إنما هو إزالة هذا الصدأ عن المرآة، حتى إذا أتمَّ صقلها وتصفية جوهرها تجلت فيها الحقائق واضحة بيِّنة. ومن هنا كان سقراط يعلن أنه لا يعلِّم الناس شيئًا؛ لأنه لا يعلم شيئًا، وإنما يبحث معهم عن الحق فيجده حينًا ويخطئه حينًا، ومن هنا سميت طريقة سقراط طريقة «التوليد»؛ لأنه كان يعتقد أن النفس مشتملة على الحقائق كما تشتمل الأم على الجنين، وأن عمل الفيلسوف هو استخراج هذه الحقائق من النفس، كما أن عمل القابلة هو استخراج الجنين من الأم. وسواءٌ أكانت هذه التسمية صحيحة أم لم تكن، وسواءٌ أكانت بينها وبين صناعة سقراط صلة أم لم تكن، فليس من شك في أن هذه التسمية تصف طريقة سقراط الفلسفية في البحث وصفًا دقيقًا.
أعتقد أني قد أجملت لك ما يمكن إجماله من فلسفة سقراط وما هو بمعزل عن النزاع والجدال، فهناك مسائل كثيرة يختلف العلماء في صحة إضافتها إلى سقراط. ولم يبق عليَّ الآن إلا أن أجمل لك مقدار التأثير الذي أحدثه سقراط في العصر الذي جاء بعده مباشرةً.
قلت: إن الشباب الأثيني كان شديد الالتفاف حول سقراط، وإن الناس تسامعوا به في جميع البلاد اليونانية، فأقبلوا إليه واشتركوا في حواره، فلما قضي عليه بالموت وأنفذ فيه هذا القضاء، ظهر في أثينا روح رجعي معاد للفلسفة والفلاسفة ميال إلى المحافظة في الرأي، فتفرق تلاميذ سقراط الأصفياء سواء منهم الأثينيون وغير الأثينيين. فمنهم من عاد إلى وطنه وأخذ يعلم الفلسفة فيه، ومنهم من هاجر إلى أرض أخرى وأنشأ فيها مدرسة توارثها خلفاؤه من بعده، ومنهم من ساح في الأرض، ومنهم من استخفى في أثينا وترك الفلسفة إلى حين، حتى إذا هدأت العاصفة استأنف بحثه الفلسفي وأخذ يعلم الناس. كل هؤلاء التلاميذ نشروا في أطراف الأرض اليونانية فلسفة سقراط وفلسفتهم الخاصة. وما هي إلا أعوام بعد موت سقراط. حتى كان تلاميذه قد أنشئوا المدارس المختلفة في أطراف من بلاد اليونان الحقيقية أو في بعض المدن الإيطالية والآسيوية، بل في إفريقية. وأخذت هذه المدارس بحظوظها المختلفة من الحياة، فمنها ما بقي وحفظت آثاره، ومنها ما ذهب به عبث الأيام. ولست أذكر من هذه المدارس إلا ثلاثًا كان لها أثرًا عظيمًا جدًّا في حياة العالم القديم، وكان لبعضها أثرٌ لا يزال قويًّا في حياة العالم الحديث: الأولى: مدرسة «الكلبيين» التي أنشأها رجل من تلاميذ سقراط يسمى «أنتستين» (Antistène) في أثينا، والتي اتخذت اسمها من المكان الذي أنشئت فيه، والتي كانت تقوم فلسفتها على قاعدة سقراط التي قدَّمناها، وهي معرفة النفس بالنفس، ولكنها كانت تطبق هذه القاعدة تطبيقًا انتهى بها إلى الزهد وإلى المبالغة فيه؛ لأنها حاولت أن تعرف النفس فعرفتها واستغنت بها عن كل شيء، وحملتها هذه المعرفة على أن تزدري الحياة والأحياء، وما يستمتعون به من لذة، وما يتهالكون عليه من زينة. ولعلك تعرف كثيرًا من أخبار «ديوجين» (Diogène) الذي كان يبحث عن الإنسان فلا يجده؛ لأن الإنسان عنده هو من عرف نفسه؛ وأي الناس يعرف نفسه! والذي يقال إنه كان يأوي إلى دَنٍّ يتخذه له بيتًا، وكان لا يكره أن يستظل السماء ويتخذ الأرض له وطاءً ويشرب الماء بيده يستغني بها عن الأقداح، والذي يقال إن الإسكندر زاره وسأله: ماذا يريد؟ فأجابه: أريد ألا تحجب عني الشمس، فقال الإسكندر: لو لم أكن الإسكندر لوددت أن أكون ديوجين. كان تأثير هذه المدرسة شديدًا جدًّا في العصور الأولى؛ فقد انبعث تلاميذها في البلاد اليونانية في أزياء الفقراء والمعوزين لا يلتمسون من الناس شيئًا، ولكنهم يدعونهم إلى الزهد والقناعة والانصراف عن اللذات. ولعلك تذكر ما كان لمثل هذه النظريات من الأثر ي حياة العالم القديم، ولا سيما أيام الإمبراطورية الرومانية قبل انتشار الديانة المسيحية.
المدرسة الثانية: مدرسة «قورينا» (Cyrène)، أو مدرسة «برقة»، وهي مدرسة مناقضة من كل وجه للمدرسة التي قدَّمت لك ذكرها، أنشأها تلميذ من تلاميذ سقراط يقال له أرِستيب (Aristippe)، وتوارثها خلفاؤه من بعده إلى أيام المقدونيين في مصر، وكانت تقوم أيضًا على قاعدة سقراط «اعرف نفسك بنفسك»، ولكنها سلكت سبيلًا غير سبيل «الكلبيين»، عرف النفس فوجدت أن الخير إنما هو في أن تزدري النفس الحياة والأحياء ازدراء لا يقوم على الزهد والحرمان، وإنما يقوم على اللذة والاستمتاع بالخير، ما وجدت إلى هذا الاستمتاع سبيلًا. فلمَ الحرمان؟ ولمَ الزهد ولمَ النفاق؟ ألست تشعر بأن شيئًا يلذك وشيئًا يؤذيك! فالخير هو أن تؤثر ما يلذك على ما يؤذيك، ولكن لا على أن تجعل نفسك عبدًا للذة، بل على أن تجعل اللذة أمةً لنفسك، تأخذ منها ما استطعت، دون أن تأسف عليها إذا حيل بينك وبينها، ودون أن تضحِّي في سبيلها بإنسانيتك في حاجة إلى أن أذكرك بما كان لهذه المدرسة من التأثير في الحياة القديمة؛ فأنت تعلم أن مذهبين خلقيين كانا يتنازعان حياة القدماء: أحدهما مذهب الزهد الذي أعلنه الكلبيون بعد سقراط، وبالغ فيه الرواقيون بعد أرسطاطاليس. والآخر مذهب اللذة الذي أعلنه «أرستيب» بعد سقراط، وبالغ فيه «أبيقور» (Epicure) بعد أرسطاطاليس.
أما المدرسة الثالثة، فهي أبقى المدارس التي نشأت عن فلسفة سقراط وأبعدها أثرًا في الحياة الإنسانية، وأعظمها حظًّا في الخلود: أثرت في العالم القديم، وأثرت في القرون الوسطى، وأثرت في العالم الحديث، وما زال لها أنصارها وتلاميذها إلى اليوم وإلى ما بعد اليوم؛ ولكني لا أحدِّثك عنها في هذا الفصل؛ فهي تحتاج إلى فصل خاص؛ لأنها نشأت لنا رجلين من قادة الفكر الإنساني العام: أحدهما: «أفلاطون»، والآخر: «أرسطاطاليس».
ولست أستطيع أن أحدثك عن سقراط دون أن ألفتك إلى أنه لم يتول قيادة الفكر اليوناني إلا بعد أن ارتقى هذا الفكر، وانتهى من الرقي إلى حد عجيب، وأن الفلسفة سلكت من قبله طرقًا مختلفة شديدة الالتواء وأفلست فيها واحدة بعد أخرى، وأن هذه الفلسفة التي أفلست في آخر الأمر كانت أيام انتصارها مشرفة على العقل اليوناني، تقوده وتدبره، وتنتهي به إلى الخير، ولكن هذا العقل كان شديد التطور سريع الاستحالة، فلم يكن بدٌّ لتلك المذاهب الفلسفية من أن تنتهي إلى ما انتهت إليه من إفلاس، ولم يكن بدٌّ من أن يظهر مذهب فلسفي جديد يلائم هذه الحياة الجديدة التي انتهى إليها العقل اليوناني في آخر القرن الخامس قبل المسيح.
تستطيع أن تقرأ في غير هذا الفصل من كتب التاريخ الفلسفي، كيف نشأت الفلسفة اليونانية، وكيف جاهدت لتنتصر على الشعر والدين وكيف التمست تفسير هذا الكون في الأرض مرة، وفي السماء مرة أخرى، وفي الماء حينًا، وفي الجو حينًا آخر، ثم كيف عدلت عن المادة إلى المعنى، وكيف تعمقت في بحثها المعنوي دون أن تنتهي إلى شيء قيِّم، وكيف كانت أثناء هذا البحث والاضطراب مصدرًا لهذا التطور السياسي الذي أقر النظام الديمقراطي في أثينا وغيرها من المدن اليونانية، وأما أنا فلن أحدثك من هذا كله بشيء، وإنما أحدثك في كلمات موجزة عن حال العقل اليوناني أيام سقراط، لتستطيع أن تفهم فلسفة سقراط وما تنشأ عنها من المذاهب المختلفة. أما الحياة العامة الأثينية، فكانت متأثرة بشيئين مختلفين: أحدهما النظام الديمقراطي المتطرف الذي يقوي حرية الفرد إلى أقصى حد ممكن، ويجعل شخصيته بارزة تستطيع أن تعاند الدولة وتنتصر عليها أحيانًا. والثاني هذا الاختلاط الشديد بين الشعوب المختلفة المتباينة الذي كان يبعث على الحياة العقلية القوية ويجعلها مضطرمة دائمًا، والآخر كان يبعث على اصطدام المنافع وتنازعها وتعقدها إلى حد عظيم. أضف إلى هذين السببين ما أشرت إليه من إفلاس المذاهب الفلسفية الأولى تنته إلى هذه النتيجة، وهي أن العقل اليوناني في ذلك العصر كان قد وصل إلى حال من الشك لم يعرفها من قبل: شك في الفلسفة التي عجزت عن تفسير الكون، وشك في الدين الذي أصبح من السخف بحيث لا يستطيع أن يؤمن به عقل يحترم نفسه، وشك في الحياة السياسية التي اشتد فيها الاضطراب وعبثت بها الحروب من جهة، والثورات من جهة أخرى. والأهواء الشخصية من جهة ثالثة، وشك في النظام الاجتماعي الذي لا قيمة له إذا لم يعتمد على فلسفة قوية، أو دين متين، أو سياسة ثابتة — شك في كل شيء وحرص على المنفعة الخاصة التي يمكن أن يؤمن بها الفرد حقًّا؛ لأنه يمسُّها ويستمتع بها ويسعى إليها.
في هذه الحال نشأت فلسفة «السوفسطائيين» (Sophistes) التي كانت في حقيقة الأمر مرآة صادقة للحياة الاجتماعية، والتي كانت تنكر كل شيء في نفسه، ولا تعترف إلا بشيء واحد وهو المنفعة الفردية، والتي كان زعماؤها يطوفون في الأرض كما كان يفعل الشعراء القدماء يحملون الشك والإنكار، ويخدمون المنفعة الفردية، ويعلمون الفرد كيف يلبس الحق بالباطل، وكيف يعبث بعقول القضاة في المحكمة، وبعقول الجماعات في المجالس السياسية العليا، وكيف يعبث بعقول الأفراد ومنافعهم فيما يكون بينه وبينهم من حوار.
في هذه الحال السيئة نشأ سقراط، ولم يكن من أسرة ممتازة، بل لم يكن من أسرة متوسطة، وإنما كان إلى الطبقة الدنيا أقرب منه إلى الطبقات الأخرى: كان أبوه حفَّارًا، وكانت أمه قابلة، ولم يكن حسن الخلق، ولا جميل الطلعة، وإنما كان قبيح المنظر، ممقوت الشكل، ولكنه كان ذكي القلب، نافذ البصيرة، شديد الفطنة. ولم يكن بدعًا من الأثينيين في عصره، وإنما سلك السبيل التي كان يسلكها غيره من الناس يقال: إنه تعلم مهنة أبيه ولكنه لم يمض فيها. ومهما يكن من شيء فقد كان كغيره من الشبان الأثينيين: يختلف إلى المجالس العامة، وإلى الحمَّام، وإلى محالِّ الألعاب الرياضية، وكان يستمع للخطباء السياسيين في جماعة الشعب والقضائيين في المحكمة، وكان يجلس إلى «السوفسطائيين» فيسمع منهم ويحاورهم، وكان يدرس المذاهب الفلسفية المختلفة، حتى إذا قضى من هذا كله وطره وبلغ سنَّ الرجولة، أحس أن في نفسه شيئًا يخالف ما في أنفس الأثينيين، وأن له ميولًا تخالف ميولهم، وأهواءً تخالف أهواءهم، وأخذ يحاور السوفسطائيين من جهة والشبان من جهة أخرى، لا يصرفه ذلك عن واجباته الوطنية؛ فقد كان يشترك في الانتخابات، ويجلس في جماعة الشعب، بل انتخب في مجلس الشورى ورأَسَ جماعة الشعب. وكان يؤدي واجبه العسكري؛ فقد اشترك في الحرب غير مرة، وأظهر فيها بلاءً حسنًا وشجاعةً قيِّمة وتضحية بالنفس في سبيل الأصدقاء. ولكنه كان يحاور كل من لقيه ضروبًا من الحوار غريبة لم يألفها الناس. في ألفاظ إن لم تكن راقية مهذبة، فقد كانت قوية خلابة ساحرة. وما هي إلا أن كلف به الشبان وكلف بهم، فسعوا إليه، أو قل: سعى إليهم، فلم تكن مدرسة، وإنما كان هو مدرسة متنقلة، يحاور في الميادين العامة وفي حوانيت الحذَّائين وغيرهم من الصناع، وفي أروقة الحمَّام وفي الملاعب الرياضية. وقد فُتن به الشبان فتنة لم يُفتنوها بأحد من قبله، فالتفوا حوله التفافًا شديدًا، واستغرق حواره إياهم يومه كله أو أكثره. وكان حَسَن الدعابة، بل لم يكن حواره إلا دعابة متصلة وهزلًا مستمرًّا. ولكن هذه الدعابة الحلوة وهذا الهزل اللذيذ، لم يكونا إلا ستارًا لطيفًا شفافًا ينم بما دونه من حق وَجَدٍّ. لم تكن له مدرسة ثابتة، ولم يكن له موضوع بعينه يدرسه أو يحاوره فيه، وإنما كان يدرس كل شيء، ويحاور في كل شيء، ويتخذ كل شيء وسيلة للبحث والجدال وطريقًا إلى غاية معينة سنراها بعد حين. كان إذن يخالف غيره من فلاسفة عصره من هذين الوجهين: من حيث إنه لم يكن يلتزم مكانًا للدرس، ومن حيث إنه لم يكن يلتزم موضوعًا للدرس. وكان يخالفهم من جهة أخرى، فقد كان هؤلاء الفلاسفة من السوفسطائيين، سواءٌ منهم من طوف في الأرض وانتقل من مدينة إلى مدينة يسعى إلى طلابها ويلتمسهم ومن أقام في مدينة بعينها يسعى إليه الطلاب ويلتمسونه، كانوا جميعًا يتخذون الفلسفة والدرس وسيلة إلى المجد وكسب المال: وسيلة إلى المجد، فكانوا ينشئون الفصول والرسائل يتلونها في المحافل والمشاهد العامة ليفتن بهم الجمهور، ويعجب بهم الناس، كما كانوا يتعرضون للفلاسفة وزعماء العصر ويحاورونهم ويجادلونهم، ويخلبون الناس بهذه المقدرة التي كانت تتيح لهم أن يلبسوا الحق بالباطل؛ ويسبغوا على الخطأ ثوب الصواب. ووسيلة إلى كسب المال، فكانوا لا يلقون دروسهم مجانًا، بل كانوا يتقاضون عليها الأجور الضخمة، وكانوا يحاسبون الطالب حسابًا دقيقًا على ما ألقوا إليه من علم: أتريد درسًا واحدًا أم دروسًا عدة؟ أم أنت تريد أن تتعلم الفلسفة كلها؟ لكل شيء من ذلك أجره.
أما سقراط فلم يكن يلتمس مجدًا ولا كسبًا، ولم يكن يحفل بالمجامع العامة يلقي فيها الخطب أو يقرأ فيها الفصول، وإنما كان يفرُّ من ذلك فرارًا ولا يأتيه إلا إذا اضطر إليه اضطرارًا في جماعة الشعب أو مجلس الشورى، وكان لا يعدُّ الخطب للناس يلقونها في المحاكم أو الجماعات السياسية، وكان لا يتقاضى على علمه أجرًا؛ لأنه كان يعتقد أنه لا يعلِّم الناس شيئًا. فليس غريبًا أن يفتن به الجمهور من شباب أثينا. وليس غريبًا أن يتسامع به الناس في «أتكا» ثم في البلاد اليونانية الأخرى. وليس عجيبًا أن يفد اليونانيون من أقطار الأرض على أثينا ليلقوا سقراط، ويتحدثوا إليه. ولكن حادثة حدثت فغيرت من سيرة سقراط ورأيه في نفسه شيئًا كثيرًا، ذلك أن أحد المعجبين به — وكانوا كثيرين — ذهب إلى «دلف» (Delphes)، وسأل «أبلون» (Appollon): أبين فلاسفة اليونان وحكمائهم من يفوق سقراط أو يبلغه فلسفة وحكمةً؟ فأجابت الكاهنة أن لا. وبلغ ذلك سقراط، فحمله على أن يتبين السبب الذي بعث الإله «أبلون» على أن يعلن أنه أحكم الناس وأحسنهم فلسفة. ولم يكن سقراط يرى في نفسه هذا الرأي، وإنما كان يرى أنه أشد الناس جهلًا وأقلهم حظًّا من علم أو فلسفة.
وما هي إلا أن أخذ في البحث والتحقيق، فألم بالحكماء والفلاسفة، وبالشعراء والكتَّاب، وبالصناع وأهل الفن، يحادثهم ويسألهم ويعلم علمهم، حتى انتهى إلى هذه النتيجة، وهي أنه أحكم الناس حقًّا؛ ذلك لأنه رأى هذه الطبقات كلها شديدة الغرور، قوية الإيمان بحظها من العلم أو الفلسفة أو الشعر أو الفن، شديدة الجهل بنفسها، ورأى أنه هو الرجل الوحيد الذي لا يغرُّه شيءٌ، ولا يعلم إلا شيئًا واحدًا هو أنه شديد الجهل بكل شيء، وكان القدماء قد كتبوا على معبد «دلف» هذه الحكمة القديمة «اعرف نفسك بنفسك»، فما أسرع ما اتخذها سقراط شعارًا له وقاعدة لحياته وحواره وتعليمه — وما أسرع ما اعتقد أنه قد أصبح شيئًا يشبه الأنبياء، وأن «أبلون» قد كلفه مهمة عظيمة الخطر، هي أن يبث الحكمة في الناس ويعلمهم أن يعرفوا أنفسهم بأنفسهم. من ذلك الوقت جدَّ سقراط في تأدية رسالته، وتحقيق الواجب الذي كلفه إياه «أبلون»، فتتبع الشباب الأثيني في كل مكان، وأخذ عليه كل سبيل، حتى لقد كان يمشي في طريقه، فإذا رأى شابًّا يمضي لعمل من أعماله، أخذ عليه الطريق ومنعه أن يمضي، وأخذ يلقي عليه أسئلة عادية لا قيمة لها، فيجيبه الشاب أجوبة تلائم هذه الأسئلة، ولكنه يمضي في السؤال، ويمضي الشاب في الجواب، وإذا هما في حوار فلسفي قد أنسى الشاب عمله، وجمع حولهما الناس. وقد ظهر تأثر الجماعة الأثينية بسقراط وجزع الطبقات الأرستقراطية من سلطانه على الشبان في نحو سنة ٤٢٥ قبل المسيح، حين أخذ الشاعر التمثيلي المشهور «أرستفان» (Aristophane) الذي كان لسان الأحزاب الأرستقراطية المحافظة، يُعَرِّض بسقراط في قصصه التمثيلية المضحكة، ولا سيما في قصة الطير والضفادع، ولا سيما في قصة السحاب التي خصصت كلها لسقراط والهزؤ به.
وأصبح سقراط شيئًا يخيف الأرستقراطية لأنه كان شديد العبث بالعادات والأخلاق الموروثة. ولكنه، لسوء حظه، لم يرض الديمقراطية، بل كان بها شديد العبث أيضًا. ألم يكن يتخذ الدين موضوعًا لحواره؟ ألم يكن يتخذ النظم الديمقراطية موضوعًا لهذا الحوار؟ ألم يكن يُظهر كلما سنحت له الفرصة سخطه على حكم الشعب واستهزاءه بهذا الحكم؟ ثم أليس هو الذي عارض أشد المعارضة حين أرادت جماعة الشعب أن تحاكم القواد الأثينيين المنتصرين الذين اتهموا بالتقصير في جمع الغرقى في موقعة «أرجينوس» (Arginus)؟ أبى سقراط على جماعة الشعب محاكمة هؤلاء القواد، وكان هو من رؤساء الجلسة في ذلك اليوم. ولكن جماعة الشعب حاكمت هؤلاء القواد وقضت عليهم بالموت، وأنفذت فيهم هذا القضاء، وأكرهت سقراط؛ ثم لم تلبث أن ندمت على ما قدَّمت، وأحست أنها قد حرمت أثينا ظلمًا عشرة من قوادها الماهرين حين كان احتياجها إلى الرجال شديدًا.
كان سقراط قليل الميل إلى الديمقراطية؛ كما كان شديد البغض للاستبداد، عدوًّا للأرستقراطية، وقد أغضب هذه الطبقة كما أغضب الشعب: أغضبها حين أبى على الطغاة الثلاثين ما أرادوه عليه من المعونة، وحين عرض نفسه بذلك الخطر. ومن هنا لم ينته القرن الخامس حتى كان سقراط قد ألَّب على نفسه الديمقراطية المنتصرة والأرستقراطية المنهزمة، كما أنه كان قد ألَّب على نفسه الشعراء والفلاسفة والمعلمين، لأنه صرف عنهم الشباب من جهة، ولأنه كان شديد السخر بهم من جهة أخرى. فما هي إلا أن تم انتصار الديمقراطية على الطغاة الثلاثين، حتى تقدم اثنان من الأثينيين، أحدهما شاعر، بقضية إلى الشعب يتهمان فيها سقراط تهمًا عدَّة: منها أنه أفسد الشباب، ومنها أنه لا دين له، ومنها أنه يعبث بالنظم السياسية القائمة. وحوكم سقراط، فلم يكن موقفه من قضاته موقف الرجل الذي يريد أن يدافع عن نفسه حقًّا ويثبت براءته حقًّا، وإنما كان موقفه من القضاة موقف الساخر بهم، المزدري لهم، ومع ذلك فقد صدر الحكم عليه بكثرة قليلة جدًّا. وكانت العادة عند الأثينيين وغيرهم من القدماء أن يصدر في مثل هذه القضايا الجنائية حكمان: الأول يثبت إدانة المتهم أو ينفيها، والثاني يقرر العقوبة التي يستحقها المتهم إذا ثبتت إدانته. وكانت العادة إذا ثبتت إدانة المتهم أن يُسأل عن العقوبة التي يرى أن يستحقها، وأن يُسأل المدعي عن العقوبة التي يرى أن المتهم خليق بها، ثم تفصل المحكمة بين هذين الجوابين، فتقر إحدى العقوبتين اللتين اقترحهما المتهم والمدعي. فلما صدر الحكم بإدانة سقراط سُئل عن العقوبة التي يرى أن يستحقها، فأجاب ساخرًا مستهزئًا: أنه يرى أن تطعمه الدولة مجانًا بقية حياته؛ لأنه أنفق هذه الحياة في تعليم الأثينيين وتهذيبهم. وسئل المدعون فطلبوا الموت، وكان القضاة قد سخطوا لهذه السخرية القاسية، فأقروا في حكمهم ما طلب المدعون، وقُضِيَ بالموت على سقراط.
وليس من شك في أنه لو أحسن الدفاع عن نفسه لبرئ. وليس من شك في أنه لو لم يسخر من القضاة بعد إدانته لما حكم عليه إلا بالغرامة كثيرة أو قليلة؛ ولكن موقفه أحنق عليه القضاة، ثم انتهت به هذه السخرية إلى أن اعتبر مهينًا للدولة، فعوقب معاقبة من تثبت عليه الخيانة العظمى أو الخروج على النظام القائم.
أما إذا أردنا أن نتبين نصيب هذا الحكم من العدل أو الجور، فنحن مضطرون إلى أن نرى فيه رأيين مختلفين: أحدهما أن أثينا لم تكن ظالمة حين قضت بالموت على هذا الرجل الذي خرج بفلسفته وتعليمه على النظام القائم، واتخذ القوانين سخرية وهزءًا، وانتهى إلى أن أهان الشعب ممثلًا في المحكمة. والآخر أن أثينا — وإن كانت قد عدلت في حكمها، بالقياس إلى نظمها وقوانينها — فليس من شك في أنها قد أساءت حين قضت بالموت على رجل لا لشيء إلا أنه خالف الجمهور في الرأي. وبهذا الحكم كانت الديمقراطية الأثينية عدوة لحرية الرأي. وحسبك بهذا سبة وعارًا، وحسبك به مجدًا وفخارًا لسقراط.
صدر الحكم على سقراط والأثينيون في حفلة من حفلاتهم الدينية، قد أرسلوا وفدهم إلى «أبلون» في جزيرة «دلوس» (Dellos) وكان «أبلون» صاحب «دلوس» هذه إلهًا خاصًّا لليونانيين يخالف من وجوه كثيرة «أبلون» صاحب «دلف» الذي كان إلهًا للدوريين خاصة واليونانيين جميعًا. فكانت أثينا تعنى عناية خاصة بإله «دلوس»، وترسل إليه وفدًا من الحجيج في كل سنة يقيمون الحفلات حول معبده في الجزيرة التي يقال إنها كانت سابحة على وجه الماء حينما هبطت أم أبلون من السماء، وكانت حاملًا وكانت هاربة من زوج «زوس» (Zeuss) كبير الآلهة؛ فأوت إلى هذه الجزيرة السابحة، ولم تكد تأوي إليها حتى استقرت في مكانها، وولدت هذه الإلهة «أبلون» و«أزتميس» أخته. وكانت العادة عند الأثينيين ألا ينفذ حكم الموت أثناء هذا العيد؛ فإذا قضي بالموت على متهم أثناء هذا العيد انتظر في السجن حتى يؤوب الحجيج ثم ينفذ فيه الحكم. فاضطر سقراط إلى أن ينتظر أيامًا في سجنه. وأخذ أصحابه وتلاميذه يختلفون إليه في السجن كل يوم يقضون معه بياض النهار في حوار وجدال كأن لم صدر عليه حكم، وكأنه لم يكن ينتظر الموت، حتى آب الحجيج وآن تنفيذ الحكم. في هذا اليوم أقبل تلاميذ سقراط على أستاذهم كعادتهم، ولكنهم كانوا جزعين مضطربين وكان هو كعادته هادئًا مطمئنًّا مبتسمًا، فكان بينه وبينهم حوار معروف هو آية من آيات الفلسفة والبلاغة الإنسانية، وهو الحوار الذي صوره أفلاطون في كتابه «فيدون» (Phédon) والذي يثبت فيه سقراط خلود النفس، والذي كان له التأثير العظيم في الحياة الرومانية أيام الإمبراطورية حين كان القياصرة يقضون بالموت على زعماء الرومان وأشرافهم؛ فإذا أنفذ إليهم أمر قيصر أن يموتوا استعدوا للموت هذا الاستعداد الجميل، فعنوا بأجسامهم العناية العادية، وأخذوا في أمورهم كما يأخذون من قبل. فمنهم من كان يجدُّ، ومنهم من كان يلهو؛ حتى إذا فرغوا من ذلك قرءوا «فيدون»، ثم قتلوا أنفسهم تنفيذًا لأمر قيصر.
ولست أريد أن أنتقل من هذا الموضوع دون أن أشير إلى هذه القصة التي اتفق عليها المؤرخون؛ وهي أن بعض تلاميذ سقراط هيأ له الهرب وأعدَّ له وسائله وألح عليه فيه، ولكن سقراط أبى أن يهرب، ولو شاء لنجا: أبى الهرب إكبارًا لقوانين الدولة، واحترامًا لأحكامها. الحق أنَّا لا نستطيع أن نفهم الصلة بين هذا الموقف الذي وقفه سقراط بعد الحكم والذي يمثله خاضعًا لنظام الدولة محترمًا له، وبين ذلك الموقف الذي وقفه أثناء المحاكمة والذي يمثله ساخرًا من نظام الدولة عابثًا به، وأكبر ظننا أن هذه القصة لا تخلو من مبالغة، أو قل: إن سقراط لم يأب الهرب إلا ازدراءً للحياة وشوقًا إلى الموت. فنحن نراه في حواره ينتظر الموت انتظار مشتاق إليه مؤمن بأنه سيكون سعيدًا به. وقد تناول السم، وجاد بنفسه بين تلاميذه في فبراير أو مارس سنة ٣٩٩ قبل المسيح، وهو في نحو السبعين من عمره.
أوجزتُ لك حياة سقراط، ولكني أشد حرصًا على الأمانة التاريخية من أن أخفي عليك شيئًا يضطرب في بعض أذهان العلماء العصريين من أمر سقراط، ذلك أن من العلماء المعاصرين من يشك في وجود سقراط أو ينكره ويريد أن يرى فيه رأيًا يشبه رأي النقاد في واضع «الإلياذة» و«الأودسا» أي يريد أن يعتقد أن سقراط شخص خرافي اخترعه القدماء ليضيفوا إليه هذه الفلسفة التي تسمى السقراطية، والتي نشأت عنها فلسفة أفلاطون وأرسطاطاليس وغيرهما من الفلاسفة. ولست أخفي عليه أن هذا الرأي لا يزال شاذًّا، وأن الكثرة المطلقة من العلماء والمؤرخين لا تكاد تحفل به. ولكن من يدري! فقد كان رأي الذين أنكروا شخص «هوميروس» شاذًّا في عصر من العصور، وكان الكثرة المطلقة من العلماء والمؤرخين لا تحتفل به، ثم تمت له السيادة الآن. أليس من الممكن أن تتم السيادة في يوم من الأيام لهذا الرأي الذي ينكر وجود سقراط؟ نعتقد أن هذا لن يكون؛ ذلك لأن سقراط لم يعش في عصور جاهلية، وإنما عاش في عصر تاريخي معروف لا يخفى فيه على الناس شيء، ولا يمكن أن يجري فيه على الناس خداع غليظ كهذا الخداع. ليس عندنا شك في أن سقراط قد وجد وعلم وأثار العقل الأثيني، وأغضب الأثينيين، وحوكم وقضي عليه بالموت، وأنفذ فيه هذا القضاء، ولكن الذين ينكرون شخص سقراط معذورون:
أولًا: لأن الآثار التاريخية المباشرة التي تثبت وجود سقراط وما اعترض حياته من الخطوب قد فقدت منذ زمان طويل، فنحن لا نكاد نحقق تاريخ ميلاده، وليست لدينا نقوش معاصرة فيها اسمه أو فيها إشارة إلى ما أصابه. ولكن هذا كله لا يدل على شيء — فقد فقدنا من آثار القدماء معظمها، ولم يكد يبقى لنا منها شيء.
وثانيًا: لأن سقراط لم يكتب شيئًا، وإنما كان تعليمه حوارًا لا يسجل، فلم يبق لنا من سقراط كتاب يمثل شخصيته تمثيلًا ما، وإنما نحن مضطرون إلى أن نلتمس شخصية سقراط فيما ترك تلاميذه من الكتب: نلتمسها عند أفلاطون وعند ذينوفون (Xénophon) وعند أرسطاطاليس وعند غيرهم من الفلاسفة والكتَّاب الذين حاوروا تلاميذه. وهؤلاء الفلاسفة والكتاب لا يتفقون في تصوير سقراط، بل لا يكادون يتشابهون في هذا التصوير. أضف إلى هذا كله أن آثار هؤلاء الفلاسفة والكتَّاب قد أصابها شيءٌ كثير من عبث الزمان، فهي لا تؤدي إلينا شخصية سقراط على وجهٍ مُرْضٍ.
وثالثًا: لأن الفلاسفة الذين حاوروا سقراط، وأخذوا عنه قد علموا الفلسفة بعده في مدن مختلفة، بل في أوقات مختلفة؛ وكان من المعقول أن تتشابه فلسفتهم ويتقارب تعليمهم؛ إذ كان كله منتهيًا إلى مصدر واحد هو سقراط، ولكن هذه الفلسفة مختلفة وهذا التعليم متناقض؛ فإذا نطقت بلفظ الفلسفة السقراطية لم تفهم منها شيئًا متشابهًا، وإنما فهمت منها أشياء متباينة تباينًا شديدًا، كما سنرى.
رابعًا: لأن حياة سقراط وموته وما اعترضه من الخطوب، كل ذلك قد أحدث في نفوس الناس أثرًا عظيمًا، وما هي إلا أن كثرت الأساطير والأكاذيب حول سقراط وحياته، وأخذ الكتَّاب المتأخرون هذه الأساطير والأكاذيب فخلطوها خلطًا، ومزجوها بالصواب مزجًا — فأصبح من العسير جدًّا تمييز الحق في أمر سقراط من الباطل. ولكن كل هذا لا يثبت أن سقراط لم يوجد، وإنما يثبت شيئًا واحدًا لا يختلف فيه اثنان، وهو أن شخصية سقراط شيء عسير الإثبات والتمييز، وما أكثر الفلاسفة والأبطال الذين بعد بهم العهد فأصبح من العسير إثبات شخصياتهم وتمييزها — على أن مثل هذا البحث يخرج بنا عن الخطة التي رسمناها لأنفسنا في هذه الفصول، فلنتركه ولنمض فيما نحن فيه من إيجاز فلسفة سقراط، وأثرها في الحياة بعده.
الفلسفة السقراطية
قلنا: إن سقراط اتخذ لنفسه قاعدة جعلها إمامًا له في سيرته وفي تعليمه، وهي هذه الحكمة التي كانت مكتوبة على معبد «دلف»: «اعرف نفسك بنفسك». وهذه الحكمة نفسها إذا تأملناها أوضحت لنا جملة الفلسفة السقراطية. فهذه الفلسفة تنحصر، أو تكاد تنحصر، في شيئين:
الأول: أن الإنسان قد جهل نفسه في جميع العصور المتقدمة، وأن جهله نفسه هو الذي حمله على أن يلتمس العلم في الخارج، فيبحث عنه مرة في الأرض وأخرى في السماء، وحينًا في الجو وحينًا في الماء؛ وكان الحق عليه أن يبدأ بنفسه فيدرسها ويتبين أمرها، حتى إذا فرغ منها استطاع أن ينتقل إلى الخارج. وليس هو في حاجة إلى ذلك؛ لأنه لن يفرغ في درس نفسه أبدًا، ولأنه سيجد في نفسه إذا درسها كل شيء.
الثاني: أن الفلسفة يجب أن تقوم منذ اليوم على معرفة النفس والعلم بها، أي إن الفلسفة يجب أن تكون إنسانية، أي إن الفلسفة يجب أن تقوم قبل كل شيء على الأخلاق.
فأنت ترى أن هذه القاعدة السقراطية قد حملته قبل كل شيء على أن يعلن جهله؛ لأنه لا يستطيع أن يعلم شيئًا قبل أن يعلم نفسه؛ وإذا كان يجهل نفسه فهو يجهل كل شيء. ثم حملته بعد ذلك على أن يتبين نفسه، فيبحث عن جوهرها وخصالها، وعما يلائمها وما يخالفها. وبهذا البحث وضع سقراط أساس علم النفس من جهة، وأساس علم الأخلاق من جهة أخرى. أما علم النفس فلم يتعمق فيه سقراط؛ لأن سقراط لم يكن نظريًّا ولا مفتونًا بالبحث الخالص الذي ليس بينه وبين الحياة العملية صلة، وإنما كان يشبه السوفسطائيين شبهًا قويًّا، ويخالفهم مخالفة قوية: كان يشبههم من حيث إنه كان يمقت البحث النظري الخالص، وكان شديد الميل إلى البحث الذي يمس الحياة العملية ويهدي إلى سبل الخير فيها.
من هذه الجهة كان ينكر المذاهب الفلسفية القديمة كما كان ينكرها السوفسطائيون، وكان يعبث بالعادات والنظم الموروثة كما كان يعبث بها السوفسطائيون. ولكنه كان يخالف السوفسطائيين خلافًا شديدًا، فقد كان هؤلاء يعرضون عن النظر الخالص إلى المنفعة العملية الخالصة، وكانوا يبتغون المنفعة في أغلظ وجوهها وأحطها: يبتغون المجد والصوت، والمال ولذات الحياة؛ ويسلكون إلى هذا كله أيسر السبل وأسهلها، لا يعوقهم عنه عائق ولا يمنعهم منه مانع.
أما سقراط، فكان يعرض عن النظر الخالص، لا إلى هذه المنافع المبتذلة، بل إلى المنفعة المحققة، إلى منفعة النفس من حيث هي؛ فلم يكن يحفل بالمجد ولا بالثروة ولا بالشهرة، وإنما كان يبتغي السعادة، وقد بحث عنها كثيرًا واهتدى إليها آخر الأمر؛ فعرف أن السعادة إنما هي الخير، أي أن يكون الإنسان خيِّرًا، عدلًا مؤثرًا للحق من حيث هو، مطمئنًّا إلى الحق في نفسه. فبينما كان السوفسطائيون يعلمون الناس أن يكونوا نفعيين ماديين، كان سقراط يعلم الناس أن يكونوا نفعيين، ولكن على الوجه الروحي الذي يؤثر الباقية على الفانية، ويستطيع أن يميز الجوهر من العرض، وأن يزدري زخرف الحياة في سبيل السعادة الحقيقية.
وبينما كان السوفسطائيون ينكرون كل شيء ويجحدون كل حقيقة؛ فيهدمون بذلك كل علم وكل فلسفة، كان سقراط يثبت الحقائق، ويعلن أن هذا العلم ليس لغوًا ولا عبثًا ولا باطلًا، ويسلك في إثبات هذا كله سبيلًا تقرب كل القرب من السبيل التي سلكها ديكارت بعده بعشرين قرنًا، وهي أن يثبت وجود نفسه أولًا. فإذا ثبت له وجود نفسه فقد ثبت أن في العالم حقائق ثابتة، وأن الفلسفة السوفسطائية كلها تقوم على شيء من العبث والمغالطة. ذلك أنك مهما تنكر فلن تستطيع أن تنكر نفسه، ولن تستطيع أن تنكر أنك تفكر وتحسُّ وتشعر، وإذن فنفسك وما يصدر عنها من تفكير وحسن شعور، كل ذلك حقائق ثابتة لا تحتمل شكًّا ولا جدالًا؛ ومن هنا قامت الفلسفة السقراطية، أولًا: على محاربة السوفسطائية، وإثبات أن هناك حقائق موجودة، وثانيًا: على أن هذه الحقائق، إنما تُعلم إذا عُلمت النفس الإنسانية التي هي السبيل الحقيقية إلى إدراكها، وثالثًا: على أن العلم بهذه النفس ليس معناه إلا العلم بجوهرها وما يلائمها وما يخالفها. ورابعًا: على أن العلم بهذا كله ليس الغرض منه — أو لا ينبغي أن يكون الغرض منه — إلا السعادة التي هي تحصيل ما يلائم النفس وتجنب ما يخالفها، وخامسًا: أن الحياة كلها تدور حول محور واحد عنه صدرت وإليه تنتهي، وهو الخير. هذه هي خلاصة الفلسفة التي يمكن أن تضاف إلى سقراط، وهي شيء من اليسير أن يوجز في جمل قصار، ولكن من العسير جدًّا أن يحصى تأثيره في الحياة الإنسانية والعقل الإنساني.
على أن من التقصير أن نزعم أن فلسفة سقراط قد انتهت عند هذا الحد، بل من الحق أن نقول: إن هناك وجهًا آخر من وجوه الفلسفة السقراطية يحسن ألا ننساه وألا نهمله، وهو منهجه في البحث وطريقته في التفكير، فلم يكن سقراط كغيره من الفلاسفة الذين تقدموه، ولا كغيره من الفلاسفة الذين جاءوا بعده بزمن قصير، يواجه المباحث الفلسفية مباشرةً، ويهجم عليها هجومًا عنيفًا، حتى يخلص منها إلى نتائجها، وإنما كان يدور حول المباحث الفلسفية في رفق ولطف، وما يزال يدور حولها، حتى يجد مسلكًا ضيقًا يسلكه فينتهي به إلى النتيجة التي كان يبتغيها. هذه الطريقة الفلسفية هي طريقة الحوار. لم يكن سقراط يضع أمامه مسألة بعينها ثم يأخذ في التحليل والنقد والتعليم حتى ينتهي إلى ما يريد، وإنما كان يتحدث، فيسأل ويناقش جواب المسئول، ثم يسأل، ثم يتعرض للسؤال، ثم يجيب، ثم يورِّط محاوره في الخطأ، أو يتورَّط هو في الخطأ، وما يزال في حوارٍ وفي أخذ وردٍّ حتى يستخلص النتيجة كأنها إحدى القضايا الأولية التي لا تحتمل الشك ولا الجدال. ومصدر هذه الطريقة أن سقراط كان يعتقد أن النفس بطبيعتها قادرة على العلم بالأشياء، وعلى استكشاف الحقائق، ولكن ظروف الحياة العملية وأعراضها، وما ورث الناس من عادات وأخلاق، ومن أساطير وسخافات، كل ذلك قد تراكم على هذه النفس الصافية كما يتراكم الصدأ على المرآة. فعمل الفيلسوف ليس هو تعليم الإنسان ما لم يعلم، وإنما هو إعداد الإنسان لكشف الحقائق، أو قل: إن عمل الفيلسوف إنما هو إزالة هذا الصدأ عن المرآة، حتى إذا أتمَّ صقلها وتصفية جوهرها تجلت فيها الحقائق واضحة بيِّنة. ومن هنا كان سقراط يعلن أنه لا يعلِّم الناس شيئًا؛ لأنه لا يعلم شيئًا، وإنما يبحث معهم عن الحق فيجده حينًا ويخطئه حينًا، ومن هنا سميت طريقة سقراط طريقة «التوليد»؛ لأنه كان يعتقد أن النفس مشتملة على الحقائق كما تشتمل الأم على الجنين، وأن عمل الفيلسوف هو استخراج هذه الحقائق من النفس، كما أن عمل القابلة هو استخراج الجنين من الأم. وسواءٌ أكانت هذه التسمية صحيحة أم لم تكن، وسواءٌ أكانت بينها وبين صناعة سقراط صلة أم لم تكن، فليس من شك في أن هذه التسمية تصف طريقة سقراط الفلسفية في البحث وصفًا دقيقًا.
أعتقد أني قد أجملت لك ما يمكن إجماله من فلسفة سقراط وما هو بمعزل عن النزاع والجدال، فهناك مسائل كثيرة يختلف العلماء في صحة إضافتها إلى سقراط. ولم يبق عليَّ الآن إلا أن أجمل لك مقدار التأثير الذي أحدثه سقراط في العصر الذي جاء بعده مباشرةً.
قلت: إن الشباب الأثيني كان شديد الالتفاف حول سقراط، وإن الناس تسامعوا به في جميع البلاد اليونانية، فأقبلوا إليه واشتركوا في حواره، فلما قضي عليه بالموت وأنفذ فيه هذا القضاء، ظهر في أثينا روح رجعي معاد للفلسفة والفلاسفة ميال إلى المحافظة في الرأي، فتفرق تلاميذ سقراط الأصفياء سواء منهم الأثينيون وغير الأثينيين. فمنهم من عاد إلى وطنه وأخذ يعلم الفلسفة فيه، ومنهم من هاجر إلى أرض أخرى وأنشأ فيها مدرسة توارثها خلفاؤه من بعده، ومنهم من ساح في الأرض، ومنهم من استخفى في أثينا وترك الفلسفة إلى حين، حتى إذا هدأت العاصفة استأنف بحثه الفلسفي وأخذ يعلم الناس. كل هؤلاء التلاميذ نشروا في أطراف الأرض اليونانية فلسفة سقراط وفلسفتهم الخاصة. وما هي إلا أعوام بعد موت سقراط. حتى كان تلاميذه قد أنشئوا المدارس المختلفة في أطراف من بلاد اليونان الحقيقية أو في بعض المدن الإيطالية والآسيوية، بل في إفريقية. وأخذت هذه المدارس بحظوظها المختلفة من الحياة، فمنها ما بقي وحفظت آثاره، ومنها ما ذهب به عبث الأيام. ولست أذكر من هذه المدارس إلا ثلاثًا كان لها أثرًا عظيمًا جدًّا في حياة العالم القديم، وكان لبعضها أثرٌ لا يزال قويًّا في حياة العالم الحديث: الأولى: مدرسة «الكلبيين» التي أنشأها رجل من تلاميذ سقراط يسمى «أنتستين» (Antistène) في أثينا، والتي اتخذت اسمها من المكان الذي أنشئت فيه، والتي كانت تقوم فلسفتها على قاعدة سقراط التي قدَّمناها، وهي معرفة النفس بالنفس، ولكنها كانت تطبق هذه القاعدة تطبيقًا انتهى بها إلى الزهد وإلى المبالغة فيه؛ لأنها حاولت أن تعرف النفس فعرفتها واستغنت بها عن كل شيء، وحملتها هذه المعرفة على أن تزدري الحياة والأحياء، وما يستمتعون به من لذة، وما يتهالكون عليه من زينة. ولعلك تعرف كثيرًا من أخبار «ديوجين» (Diogène) الذي كان يبحث عن الإنسان فلا يجده؛ لأن الإنسان عنده هو من عرف نفسه؛ وأي الناس يعرف نفسه! والذي يقال إنه كان يأوي إلى دَنٍّ يتخذه له بيتًا، وكان لا يكره أن يستظل السماء ويتخذ الأرض له وطاءً ويشرب الماء بيده يستغني بها عن الأقداح، والذي يقال إن الإسكندر زاره وسأله: ماذا يريد؟ فأجابه: أريد ألا تحجب عني الشمس، فقال الإسكندر: لو لم أكن الإسكندر لوددت أن أكون ديوجين. كان تأثير هذه المدرسة شديدًا جدًّا في العصور الأولى؛ فقد انبعث تلاميذها في البلاد اليونانية في أزياء الفقراء والمعوزين لا يلتمسون من الناس شيئًا، ولكنهم يدعونهم إلى الزهد والقناعة والانصراف عن اللذات. ولعلك تذكر ما كان لمثل هذه النظريات من الأثر ي حياة العالم القديم، ولا سيما أيام الإمبراطورية الرومانية قبل انتشار الديانة المسيحية.
المدرسة الثانية: مدرسة «قورينا» (Cyrène)، أو مدرسة «برقة»، وهي مدرسة مناقضة من كل وجه للمدرسة التي قدَّمت لك ذكرها، أنشأها تلميذ من تلاميذ سقراط يقال له أرِستيب (Aristippe)، وتوارثها خلفاؤه من بعده إلى أيام المقدونيين في مصر، وكانت تقوم أيضًا على قاعدة سقراط «اعرف نفسك بنفسك»، ولكنها سلكت سبيلًا غير سبيل «الكلبيين»، عرف النفس فوجدت أن الخير إنما هو في أن تزدري النفس الحياة والأحياء ازدراء لا يقوم على الزهد والحرمان، وإنما يقوم على اللذة والاستمتاع بالخير، ما وجدت إلى هذا الاستمتاع سبيلًا. فلمَ الحرمان؟ ولمَ الزهد ولمَ النفاق؟ ألست تشعر بأن شيئًا يلذك وشيئًا يؤذيك! فالخير هو أن تؤثر ما يلذك على ما يؤذيك، ولكن لا على أن تجعل نفسك عبدًا للذة، بل على أن تجعل اللذة أمةً لنفسك، تأخذ منها ما استطعت، دون أن تأسف عليها إذا حيل بينك وبينها، ودون أن تضحِّي في سبيلها بإنسانيتك في حاجة إلى أن أذكرك بما كان لهذه المدرسة من التأثير في الحياة القديمة؛ فأنت تعلم أن مذهبين خلقيين كانا يتنازعان حياة القدماء: أحدهما مذهب الزهد الذي أعلنه الكلبيون بعد سقراط، وبالغ فيه الرواقيون بعد أرسطاطاليس. والآخر مذهب اللذة الذي أعلنه «أرستيب» بعد سقراط، وبالغ فيه «أبيقور» (Epicure) بعد أرسطاطاليس.
أما المدرسة الثالثة، فهي أبقى المدارس التي نشأت عن فلسفة سقراط وأبعدها أثرًا في الحياة الإنسانية، وأعظمها حظًّا في الخلود: أثرت في العالم القديم، وأثرت في القرون الوسطى، وأثرت في العالم الحديث، وما زال لها أنصارها وتلاميذها إلى اليوم وإلى ما بعد اليوم؛ ولكني لا أحدِّثك عنها في هذا الفصل؛ فهي تحتاج إلى فصل خاص؛ لأنها نشأت لنا رجلين من قادة الفكر الإنساني العام: أحدهما: «أفلاطون»، والآخر: «أرسطاطاليس».