ترتفع النخلة السامقة بعذوقها الصفراء المتخشبة وسط هالة مدّورة ومسطحة من الأرض الطباشيرية. تنتابها بين آونة وأخرى حركة واهنة تكاد تكون غير ملحوظة كإشارة خفيّة تعلن لمترقب بعيد لايحس بوجوده أحد أن ثمة حياة لازالت تعتمل بإصرار في جوف السكون القابض. تمتد الأرض إلى الأمام. تأخذ في البعد المغبر لوناً جافاً إلى أن تمتزج وبتداخل ليس من السهولة تبيان حدوده الفاصلة مع الصحراء الآخذة في الامتداد إلى ما لانهاية, إنما الأرض تبدأ باكتساب اللون الرمادي المغبر, مستمرة في امتدادها الذي كلما أوغل في بعده تضاعفت عتمة اللون الرمادي فيه. عتمة تنتهي بحاجز لا مرئي من الشفق الباهت, والذي يبدو من هذه المسافة القصيّة مكتسباً لون الغبار الكالح. تذوب العتمة البعيدة وهي تتسلّق السماء الفاقعة المشربة بنور شمس فاترة. تستقر الشمس بالضبط فوق قمّة النخلة المنفردة. بينهما – النخلة والشمس - حاجز قصير من زرقة السماء الشاحبة حيث يتسلّط النور الاستوائي على الأرض الفسيحة فيزيد من نصاعة ووضوح لون الطباشير القاحل. امتداد ابيض يملأ العين. ينكفئ البصر – الآن – إلى الداخل الظليل. جدران طينّية مطلية بالوحل ليست متناسقة الأبعاد, موبوءة بالتعاريج والنتوءات والثقوب. سقف ملوث برماد قديم تُرى واضحة فيه أغصان الأشجار اليابسة وأعواد القطن المتخالفة وأعمدة اليوكالبتس وحصران البردي المترهلة البطون, والظاهر من شقوقها قبضات كبيرة متدلية من العاقول والأشواك والتبن الخشن والصفّير. يقطعها وبشكل مستقيم على امتداد الغرفة عمود حديدي يشوهه الصدأ والتآكل, من جانبها الأيمن مروراً بالسقف كلّه إلى الجانب الأيسر. وفي المنتصف تماماً اتكأ عمود خشبي مزدحم بالتعاريج المقلّمة بإهمال مثبت في أرضية الغرفة التي بدت في الظل السميك كما لو أنها طليت بالمرمر الفسفوري. في الزاوية القريبة من الباب, وبمواجهة ضوء الشمس تماماً انحشر الأب الكهل داخل فروته الصوفية المرقعة متكئاً على وسادة معبأة بالخرق والقطن, مفروش تحته حصير مهلهل موشى بأًطر من القماش المطرز بخيوط وبّرية ملّونة وعتيقة. يثبت كوعه الملفوف بذراع الفروة على بطن الوسادة, وجسده النحيل ضائع تماماً في ضخامة الفروة, فيما تتكور ساقاه المسترخيتان أمام بطنة, وعلى رأسه يشماغ منقط بالأسود والأبيض تهدلت أطرافه المنحنية على جانبيه وصدغيه الاشيبين. ومن فتحة الفروة عند الصدر بانت ياقة الدشداشة متسخة ومنثنية إلى الداخل, وأمامه مباشرة نقرة الموقد سمراء لا يزال فيها بقايا رماد باهت. كان الأب صامتاً وتقاطيع وجهه المجعد, الذابل تشي بغياب مأزوم, غارقاً على ما يبدو في حلم طويل ولفافته المنطفئة مازالت مزروعة بين شفتيه القاسيتين, وقد تناثر رمادها القليل على لحيته التي أهمل حلاقتها منذ أمد بعيد. وفي الزاوية الأخرى من الغرفة, بعيداً عن تدفق ضوء الشمس, قابلته الأم جالسة على الأرض بدون فراش, يغطي جسدها مئزر صوفي مشدود بخيوط وبريّة وصوفيّة مضفورة بإتقان على كتفيها مخفياً وراءه كل الملابس تقريباً, فيما ظهر منه ملفعها الأسود وجزء من لبابها الحجرية المطعمة بخرز الشيح. يتراقص بين يديها وعلى نحو جنوني مغزل صغير, يدور بسرعة فائقة متأرجحاً في ارتفاع وانخفاض رتيبين, ويدها الثانية مطمورة تحت لفاف كثيف من شعر الماعز. من الملاحظ أنها تعمل بآلية لا واعية. إذ تبدو سارحة كزوجها في حلم مؤرق وعصيب خارج حدود هذه الغرفة المشحونة بالصمت والسكون، والى جانبها مدسوساً تحت منامية الملابس مخمر ترابي اللون مغطى بجودلية متعددة الرقع، وبالقرب من الباب حذاء من الجلد الأحمر المنكمش، ليس من السهولة التكهن بشأنه فيما إذا كان للرجل أو للمرأة. على الأرجح أنهما ينتعلانه بالتناوب وقت الضرورة، ومن خلال فتحة مستديرة ملوثة برماد قديم ظهر فانوس عتيق ومتسخ، عاطل وعديم الفائدة
الأب الكهل يبتعد في مسالك حلمة المؤرق. ليس له حضوراً ذهبياً على الإطلاق. غائب ومسحوق. سيكارته منطفئة ونابتة في مكانها. لا يطرف. وعلى حركات الأم الآلية تبدو جلياً ملامح سرعة منفعلة ومأخوذة بهوس داخلي غريب. يدها ترتفع على نحو لا إرادي وأصابعها تتقلص على المغزل ثم تديره بحركة عصبية نزقة. يدور المغزل على نفسه ضمن حدود محورية عنيفة، وعلى ضوء هذه الحركات المنفلتة والسريعة يشحب وجه الأم الملفوح بحرارة شمس الصيف. تولد على وجه الأم ملامح انفعال اخرس. إدانة صامتة لعالم خانق. صاخب. يأفل حثيثاً نحو نهايته المحتومة، وفي عينيها الضيقتين المحاطتين بهالتين داكنتين تغرق وجوه عديدة. يظمأ رجال عديدون. تلهث قرى عديدة. تولد كلمات مشرقة وتنبت آمال عريضة. تجف الأشياء العديدة بصمت. تورق الأشياء العديدة بصمت. يشمخ عالم جديد ومبتكر على أنقاض عالم ميت، ثم لا يلبث أن يتهاوى في ظلام الذاكرة، ولا شيء على الإطلاق يعكر صفاء العينين البراقتين. لا يبدو على الأب الكهل انه يرى شيئاً، أو يحس بوجود شيء. تتقاطر في ذهنه جحافل من الخواطر الكسيحة. كان يبتعد. يتوقف بخياله لحظة عند أسير متعب، خائر القوى, يرفل بالحديد في زنزانة جرداء موصدة الأبواب والنوافذ. يسامر سجانه إذ يجافيه النوم ويغني العتابة بصوت شجي في ظلمة الدهاليز الرطبة، فيسحق متعمداً ما تبقى من مسحة إنسانية ظلت راسبة في وعيه من أزمان الخير والفروسية والآمال التي لا تحدها حدود، وكل لمسة من لمسات وجهه المنفي تفصح بما لا يقبل الشك عن ألم دفين وقاهر لا ينوي بدافع أو بآخر أن يبوح به لأحد، وهو إذ يبتسم بمودة وألفة لقيوده القاسية أنما على الأرجح يهوّم في غيبوبة شفافة معتلياً فرسه العربية وفي يمناه سيفه الفولاذي العظيم. يرحل في جنح الظلام مختصراً أبعاد المسافات ومجتازاً الحدود الموهومة وناشراً ظلال الأمان في النفوس القلقة. يحلم انه يبكي بدموع كل المتعبين. فارس جريح عجزت فرسه الأصلية عن الوصول به إلى برّ الأمان. فيعاود حلمه القديم فاقداً - للحظة عصيبة ومغتصبة من زمن الاندحار والتمزق والخسائر المتلاحقة - الإحساس بقسوة الحياة .
عبر الباب المفتوح كانت أرضية الحوش بيضاء بلون الطباشير، سليمة من الحفر والأخاديد، والى جانب العتبة يرقد الكلب (صيّاد) بوداعة وخمول. ينكفئ رأسه بين قائمتيه الأماميتين وبوزه المدبب تحته, وعلى امتداد البطن يستدير الذيل الرافل بالشعر الناعم ليحاذي المخالب المواجهة للأرض, فيما تراءى بمواجهة النخلة مكّوماً قن الدجاج والى جانبه سقيفة الماشية. من الواضح أن سياج الحوش, أو بالأحرى ما تبقى من السياج الذي يربط الغرفة الوحيدة بقن الدجاج قد تصدع بخطوط متعاكسة وعميقة فتجرّد من طلائه الطيني, فيما انفرش ظلّ النخلة بالضبط بين المزبلة والجدار. ظل قزم بقمّة كثّة وساق ضئيل الحجم, تحته وبكميات كبيرة تكومت الأوساخ والنفايات المختلفة, وفي منتصفها بالضبط, فوق هذه الكومة من النفايات والأتربة المتكلسة ترقد جثة فرس دهماء نافقة. علامة سوداء يشطرها ظل النخلة إلى شطرين, غير أنها تحت الشمس تبدو لماعة, مموهة البريق, تنعكس على الجلد الناعم كتلة الضوء الساقطة من فوق فتنحرف بوهن لتذوب في عيني الأب الغائمتين. كانت الجثة السوداء تملأ الذاكرة الكهلة. يراها قادمة من ليل المستحيلات. مملوءة بالتحدي والكبرياء والعنفوان, لاهثة, متحفزة, حوافرها الصلبة تقرع صدر الصحراء بعنف وجبروت. تخفق الريح الساخنة قي شعر رقبتها المكتنزة. يتناثر الشعر المسترسل, البراق في وجه الفارس الغاضب الشاهر سيفه في وجه المستحيل, فيبدو في سراب الذاكرة مثل عاشق ولهان يدس وجهه في ثنايا شعر رأس معشوقته الجميلة, فيلتمع على نحو أكثر قسوة البريق الضوئي المنكسر على الجلد الناعم, وعلى امتداد البطن المنفوخة. وقائمتان – أمامية وخلفية – ترتفعان عن الأرض بمقدار انتفاخ البطن فيملأ العين حذاء الحديد المدور, الصدئ والمتآكل.على حين غمرت القائمتان الثانيتان – أمامية وخلفية أيضاً – بالنفايات والتراب وأوراق الأشجار, أما الذيل الطويل والذي يشبه ضفيرة فتاة فقد التوى منحرفاً إلى الوراء فبانت المؤخرة مشوهة وممسوخة بالروث الممزوج بالبول والقيح والدم. أما الرقبة الغليظة فقد ارتدت إلى الوراء مشكّلة بذلك حزوزاً من الأعلى ابتداءً من مؤخرة الجمجمة الضخمة إلى حوض الكتفين فيما انسدل الشعر الأسود الطويل بخصلات مبعثرة في التراب والقاذورات. على أن أسفلها ظل مكتنزاً ومحتفظاً بامتلائه الذي يصل حد الورم الباعث على التقزز. العين الوحيدة شمس منطفئة, تنبثق من مقدمة الجمجمة, محاطة بالجفون الكحيلة الثابتة. كانت مفتوحة على اتساعها, بلا بريق. تغطيها طبقة لماعة ورقيقة من المياه العكرة المتجمدة, تنظر بعمق وإسهاب إلى الأعلى. ترتبط مع الشمس بسلك ذهبي يكاد يكون غير مرئي, فيما أنطرح الرأس الضخم في المزبلة متوسداً أشلاء القمامة, وتهدلت الأذن تحت العين برخاوة ملتصقة بأعلى الفك المتيبس. بين الأب الكهل والفرس النافقة امتداد من النظر المركز, يصل في بعض الأحيان إلى حد الاقتناع بأن ثمة حياة متبقية ترفض الرضوخ لهيمنة الموت,ربما لا تزال في الكومة السوداء الراقدة على جنبها ببرود، حيث يصبح بالوسع كبت هواجس النفس المخذولة. الظل ينبض بشيء ما، غامض ورهيب، كأثر راسب لحياة متبقية تعتمل في جوف المزبلة. حياة لا يفصلها عن الموت سوى نفس ضئيل وباهت. بين يدي الأم تخف سرعة دوران المغزل، وعلى وجهها القمحي، الفاتر السحنة تتجسد مسحة سوداوية أليمة. كآبة مزمنة تتوالد على وجه مترب اعتاد الكآبة .تزيغ بصرها بنظرة جانبية خالية من التعبير تكاد تكون بليدة لولا وميض التطلع الحاد الموجه إلى الأب. تتلاشى متعثرة برؤوس الأصابع حركة المغزل. تنعدم الحركة تماماً .
_ لقد عانى من اجلها الكثير . كان يحبها أكثر من نفسه
لا يبدو على الأب الكهل انه سمع شيئاً، بل ولم يخرجه حديثها الصارم النبرة من حلمه المأزوم. ظل جامداً. بينه وبين الجثة امتداد كثيف من النظر المركز. يرتبط مع العالم بأمل غير قابل لأن يتحقق .
_هل يعطونهم كفايتهم من الأكل في الأسر ؟!
من الواضح أنها لم تكن تنتظر جواباً ولهذا واصلت عملها بصمت وأصابعها الخشنة المعروفة قابضة مع منتصف المغزل بشرود. قالت مهمهمة من بين شفتيها الجافتين
- لو كنت اعرف الطريق لذهبت لزيارته. استطيع أن أصل إلى آخر الدنيا مشياً على قدمي
أضافت وقد بدأ صوتها يحتدّ على نحو ملحوظ
_ ليتني استطيع أن أراه ولو لفترة قليلة
وحين أصرّ الأب بحكم كونه غائباً على عدم الحضور أضافت بإلحاح
_ وجودها أمام أعيننا شيء لا يحتمل, من الأفضل لو أبعدناها عن الحوش
شهق نفساً متأوهاً ثم دعك عقب سيكارته المنطفئة في رماد الموقد وعاد ليستكين في جوف الفروة وكأنه اصطدم بلا جدوى قناعاته التي وضحت الآن بأنها متأخرة بعض الشيء. بل متأخرة جداً. ينطفئ النبض المتوهج في الظل الميت. مجرد فرس نافقة يشطرها عمود الظل إلى نصفين منفوخين
_ ستشم الكلاب الجيفة وتهرع إلى الحوش
للكلاب حاسة شم على أسوأ الافتراضات ليست رديئة. تستطيع من مكان بعيد أن تشم الجيفة وتهرع إليها, وبالذات إذا كانت جائعة. للكلاب أفواه شرهة. أفواه مشقوقة بسخاء من الأذن اليمنى إلى الأذن اليسرى. الكلاب نادراً ما تشبع. تظل تأكل طالما أمامها ما يؤكل وكأنها لن تشبع على الإطلاق. أنيابها حادة, ومخالبها مدببة تنتزع وبتعاقب سريع وخاطف كل ما يصادفها من الجثة التي ستكون بعد لحظات قليلة ليست أكثر من هيكل عظمي مفكك ومهمل على سطح المزبلة تنبعث منه النتانة. هل ينبغي أن يصدق أنها بعد كل هذا التعب وتحّمل المشاق وتكديس الآمال ستصبح وليمة سهلة وشهية لكلاب القرية التي لاتشبع؟!!
جلب انتباهه تطاول الظل إلى ما وراء الجثة الهامدة وكأنه يستفيق مباشرة من صلب الكومة السوداء.وكانت النخلة ترتفع إلى الأعلى, توحي بشموخها العظيم بامتلاك حس الحياة برغم كل شيء آخر, فتبدو قمتها المنحنية السقف بأشكال دائرية خضراء متراكبة لا تخلو من طراوة نديّة. تحرّك في النفس ذلك الإحساس بالمقدرة – ولو بنسبة ضئيلة – على مواجهة المأساة. إحساس من لا يزال يأمل بمولد شيء جديد بين أشياء كثيرة كلها توحي بالموت.
همست بصوت ضعيف ولكنه يشي بالإصرار والحزم
_ لن نتركها فريسة للكلاب.
يزحف الظل العمودي فوق عالم هاجع من الموت الأسود. يغوص عميقاً في لون الطباشير حتى يصل أسفل الجدار فيبدو مساوياً إلى حدٍ ما لامتداد النخلة. ساقان عملاقان لشبح رهيب, غير مرئي, يرتدي وجه الحياة. إحداهما مزروعة في الأرض وتشمخ إلى الأعلى لتكمل الهيكل الشبحي اللامنظور والثانية تتفرع عنها منفرجة إلى بعيد لتنبسط على الأرض باتجاه الجدار الآيل للسقوط, وبين الساقين الشامختين يرقد السواد الميت, لا حياة فيه, سوى ذلك البريق الكاذب الذي وضح الآن بصورة لا تدعو إلى الشك, الناضح مع انعكاس الأشعة الذهبية المتألقة. يتثاءب الكلب صيّاد, ولسانه الأحمر المندلق من شدقيه الهائلين يلعق لعابه اللزج. ينهض متمطياً فينفرش ظله وراءه. كلب آخر يتمطى. تصطفق أذناه بحركة سريعة ومتذبذبة فيرتعش جسده الضامر بقوّة كمن ينفض عنه الخمول. يستدير إلى الجهة الثانية ومعه يستدير الظل. يجرجر خطاه بتمهل وهدوء مغموراً بضوء الشمس وذيله الرافل بالشعر الناعم يتلوى وراءه متجهاً بخطىً وئيدة وواثقة نحو المزبلة.
حمد صالح
الموصل – العــراق
الأب الكهل يبتعد في مسالك حلمة المؤرق. ليس له حضوراً ذهبياً على الإطلاق. غائب ومسحوق. سيكارته منطفئة ونابتة في مكانها. لا يطرف. وعلى حركات الأم الآلية تبدو جلياً ملامح سرعة منفعلة ومأخوذة بهوس داخلي غريب. يدها ترتفع على نحو لا إرادي وأصابعها تتقلص على المغزل ثم تديره بحركة عصبية نزقة. يدور المغزل على نفسه ضمن حدود محورية عنيفة، وعلى ضوء هذه الحركات المنفلتة والسريعة يشحب وجه الأم الملفوح بحرارة شمس الصيف. تولد على وجه الأم ملامح انفعال اخرس. إدانة صامتة لعالم خانق. صاخب. يأفل حثيثاً نحو نهايته المحتومة، وفي عينيها الضيقتين المحاطتين بهالتين داكنتين تغرق وجوه عديدة. يظمأ رجال عديدون. تلهث قرى عديدة. تولد كلمات مشرقة وتنبت آمال عريضة. تجف الأشياء العديدة بصمت. تورق الأشياء العديدة بصمت. يشمخ عالم جديد ومبتكر على أنقاض عالم ميت، ثم لا يلبث أن يتهاوى في ظلام الذاكرة، ولا شيء على الإطلاق يعكر صفاء العينين البراقتين. لا يبدو على الأب الكهل انه يرى شيئاً، أو يحس بوجود شيء. تتقاطر في ذهنه جحافل من الخواطر الكسيحة. كان يبتعد. يتوقف بخياله لحظة عند أسير متعب، خائر القوى, يرفل بالحديد في زنزانة جرداء موصدة الأبواب والنوافذ. يسامر سجانه إذ يجافيه النوم ويغني العتابة بصوت شجي في ظلمة الدهاليز الرطبة، فيسحق متعمداً ما تبقى من مسحة إنسانية ظلت راسبة في وعيه من أزمان الخير والفروسية والآمال التي لا تحدها حدود، وكل لمسة من لمسات وجهه المنفي تفصح بما لا يقبل الشك عن ألم دفين وقاهر لا ينوي بدافع أو بآخر أن يبوح به لأحد، وهو إذ يبتسم بمودة وألفة لقيوده القاسية أنما على الأرجح يهوّم في غيبوبة شفافة معتلياً فرسه العربية وفي يمناه سيفه الفولاذي العظيم. يرحل في جنح الظلام مختصراً أبعاد المسافات ومجتازاً الحدود الموهومة وناشراً ظلال الأمان في النفوس القلقة. يحلم انه يبكي بدموع كل المتعبين. فارس جريح عجزت فرسه الأصلية عن الوصول به إلى برّ الأمان. فيعاود حلمه القديم فاقداً - للحظة عصيبة ومغتصبة من زمن الاندحار والتمزق والخسائر المتلاحقة - الإحساس بقسوة الحياة .
عبر الباب المفتوح كانت أرضية الحوش بيضاء بلون الطباشير، سليمة من الحفر والأخاديد، والى جانب العتبة يرقد الكلب (صيّاد) بوداعة وخمول. ينكفئ رأسه بين قائمتيه الأماميتين وبوزه المدبب تحته, وعلى امتداد البطن يستدير الذيل الرافل بالشعر الناعم ليحاذي المخالب المواجهة للأرض, فيما تراءى بمواجهة النخلة مكّوماً قن الدجاج والى جانبه سقيفة الماشية. من الواضح أن سياج الحوش, أو بالأحرى ما تبقى من السياج الذي يربط الغرفة الوحيدة بقن الدجاج قد تصدع بخطوط متعاكسة وعميقة فتجرّد من طلائه الطيني, فيما انفرش ظلّ النخلة بالضبط بين المزبلة والجدار. ظل قزم بقمّة كثّة وساق ضئيل الحجم, تحته وبكميات كبيرة تكومت الأوساخ والنفايات المختلفة, وفي منتصفها بالضبط, فوق هذه الكومة من النفايات والأتربة المتكلسة ترقد جثة فرس دهماء نافقة. علامة سوداء يشطرها ظل النخلة إلى شطرين, غير أنها تحت الشمس تبدو لماعة, مموهة البريق, تنعكس على الجلد الناعم كتلة الضوء الساقطة من فوق فتنحرف بوهن لتذوب في عيني الأب الغائمتين. كانت الجثة السوداء تملأ الذاكرة الكهلة. يراها قادمة من ليل المستحيلات. مملوءة بالتحدي والكبرياء والعنفوان, لاهثة, متحفزة, حوافرها الصلبة تقرع صدر الصحراء بعنف وجبروت. تخفق الريح الساخنة قي شعر رقبتها المكتنزة. يتناثر الشعر المسترسل, البراق في وجه الفارس الغاضب الشاهر سيفه في وجه المستحيل, فيبدو في سراب الذاكرة مثل عاشق ولهان يدس وجهه في ثنايا شعر رأس معشوقته الجميلة, فيلتمع على نحو أكثر قسوة البريق الضوئي المنكسر على الجلد الناعم, وعلى امتداد البطن المنفوخة. وقائمتان – أمامية وخلفية – ترتفعان عن الأرض بمقدار انتفاخ البطن فيملأ العين حذاء الحديد المدور, الصدئ والمتآكل.على حين غمرت القائمتان الثانيتان – أمامية وخلفية أيضاً – بالنفايات والتراب وأوراق الأشجار, أما الذيل الطويل والذي يشبه ضفيرة فتاة فقد التوى منحرفاً إلى الوراء فبانت المؤخرة مشوهة وممسوخة بالروث الممزوج بالبول والقيح والدم. أما الرقبة الغليظة فقد ارتدت إلى الوراء مشكّلة بذلك حزوزاً من الأعلى ابتداءً من مؤخرة الجمجمة الضخمة إلى حوض الكتفين فيما انسدل الشعر الأسود الطويل بخصلات مبعثرة في التراب والقاذورات. على أن أسفلها ظل مكتنزاً ومحتفظاً بامتلائه الذي يصل حد الورم الباعث على التقزز. العين الوحيدة شمس منطفئة, تنبثق من مقدمة الجمجمة, محاطة بالجفون الكحيلة الثابتة. كانت مفتوحة على اتساعها, بلا بريق. تغطيها طبقة لماعة ورقيقة من المياه العكرة المتجمدة, تنظر بعمق وإسهاب إلى الأعلى. ترتبط مع الشمس بسلك ذهبي يكاد يكون غير مرئي, فيما أنطرح الرأس الضخم في المزبلة متوسداً أشلاء القمامة, وتهدلت الأذن تحت العين برخاوة ملتصقة بأعلى الفك المتيبس. بين الأب الكهل والفرس النافقة امتداد من النظر المركز, يصل في بعض الأحيان إلى حد الاقتناع بأن ثمة حياة متبقية ترفض الرضوخ لهيمنة الموت,ربما لا تزال في الكومة السوداء الراقدة على جنبها ببرود، حيث يصبح بالوسع كبت هواجس النفس المخذولة. الظل ينبض بشيء ما، غامض ورهيب، كأثر راسب لحياة متبقية تعتمل في جوف المزبلة. حياة لا يفصلها عن الموت سوى نفس ضئيل وباهت. بين يدي الأم تخف سرعة دوران المغزل، وعلى وجهها القمحي، الفاتر السحنة تتجسد مسحة سوداوية أليمة. كآبة مزمنة تتوالد على وجه مترب اعتاد الكآبة .تزيغ بصرها بنظرة جانبية خالية من التعبير تكاد تكون بليدة لولا وميض التطلع الحاد الموجه إلى الأب. تتلاشى متعثرة برؤوس الأصابع حركة المغزل. تنعدم الحركة تماماً .
_ لقد عانى من اجلها الكثير . كان يحبها أكثر من نفسه
لا يبدو على الأب الكهل انه سمع شيئاً، بل ولم يخرجه حديثها الصارم النبرة من حلمه المأزوم. ظل جامداً. بينه وبين الجثة امتداد كثيف من النظر المركز. يرتبط مع العالم بأمل غير قابل لأن يتحقق .
_هل يعطونهم كفايتهم من الأكل في الأسر ؟!
من الواضح أنها لم تكن تنتظر جواباً ولهذا واصلت عملها بصمت وأصابعها الخشنة المعروفة قابضة مع منتصف المغزل بشرود. قالت مهمهمة من بين شفتيها الجافتين
- لو كنت اعرف الطريق لذهبت لزيارته. استطيع أن أصل إلى آخر الدنيا مشياً على قدمي
أضافت وقد بدأ صوتها يحتدّ على نحو ملحوظ
_ ليتني استطيع أن أراه ولو لفترة قليلة
وحين أصرّ الأب بحكم كونه غائباً على عدم الحضور أضافت بإلحاح
_ وجودها أمام أعيننا شيء لا يحتمل, من الأفضل لو أبعدناها عن الحوش
شهق نفساً متأوهاً ثم دعك عقب سيكارته المنطفئة في رماد الموقد وعاد ليستكين في جوف الفروة وكأنه اصطدم بلا جدوى قناعاته التي وضحت الآن بأنها متأخرة بعض الشيء. بل متأخرة جداً. ينطفئ النبض المتوهج في الظل الميت. مجرد فرس نافقة يشطرها عمود الظل إلى نصفين منفوخين
_ ستشم الكلاب الجيفة وتهرع إلى الحوش
للكلاب حاسة شم على أسوأ الافتراضات ليست رديئة. تستطيع من مكان بعيد أن تشم الجيفة وتهرع إليها, وبالذات إذا كانت جائعة. للكلاب أفواه شرهة. أفواه مشقوقة بسخاء من الأذن اليمنى إلى الأذن اليسرى. الكلاب نادراً ما تشبع. تظل تأكل طالما أمامها ما يؤكل وكأنها لن تشبع على الإطلاق. أنيابها حادة, ومخالبها مدببة تنتزع وبتعاقب سريع وخاطف كل ما يصادفها من الجثة التي ستكون بعد لحظات قليلة ليست أكثر من هيكل عظمي مفكك ومهمل على سطح المزبلة تنبعث منه النتانة. هل ينبغي أن يصدق أنها بعد كل هذا التعب وتحّمل المشاق وتكديس الآمال ستصبح وليمة سهلة وشهية لكلاب القرية التي لاتشبع؟!!
جلب انتباهه تطاول الظل إلى ما وراء الجثة الهامدة وكأنه يستفيق مباشرة من صلب الكومة السوداء.وكانت النخلة ترتفع إلى الأعلى, توحي بشموخها العظيم بامتلاك حس الحياة برغم كل شيء آخر, فتبدو قمتها المنحنية السقف بأشكال دائرية خضراء متراكبة لا تخلو من طراوة نديّة. تحرّك في النفس ذلك الإحساس بالمقدرة – ولو بنسبة ضئيلة – على مواجهة المأساة. إحساس من لا يزال يأمل بمولد شيء جديد بين أشياء كثيرة كلها توحي بالموت.
همست بصوت ضعيف ولكنه يشي بالإصرار والحزم
_ لن نتركها فريسة للكلاب.
يزحف الظل العمودي فوق عالم هاجع من الموت الأسود. يغوص عميقاً في لون الطباشير حتى يصل أسفل الجدار فيبدو مساوياً إلى حدٍ ما لامتداد النخلة. ساقان عملاقان لشبح رهيب, غير مرئي, يرتدي وجه الحياة. إحداهما مزروعة في الأرض وتشمخ إلى الأعلى لتكمل الهيكل الشبحي اللامنظور والثانية تتفرع عنها منفرجة إلى بعيد لتنبسط على الأرض باتجاه الجدار الآيل للسقوط, وبين الساقين الشامختين يرقد السواد الميت, لا حياة فيه, سوى ذلك البريق الكاذب الذي وضح الآن بصورة لا تدعو إلى الشك, الناضح مع انعكاس الأشعة الذهبية المتألقة. يتثاءب الكلب صيّاد, ولسانه الأحمر المندلق من شدقيه الهائلين يلعق لعابه اللزج. ينهض متمطياً فينفرش ظله وراءه. كلب آخر يتمطى. تصطفق أذناه بحركة سريعة ومتذبذبة فيرتعش جسده الضامر بقوّة كمن ينفض عنه الخمول. يستدير إلى الجهة الثانية ومعه يستدير الظل. يجرجر خطاه بتمهل وهدوء مغموراً بضوء الشمس وذيله الرافل بالشعر الناعم يتلوى وراءه متجهاً بخطىً وئيدة وواثقة نحو المزبلة.
حمد صالح
الموصل – العــراق