لكل شعب حضارة تميزه، والشعوب الأمازيغية تتميّز بـ”حضارة قيم”، ومن القيم المعروفة في المناطق الأمازيغية، منذ القدم، ما يُصطلح عليه بـ “تيويزي”، التي تفرض العمل الجماعي التضامني بين الأفراد والجماعات؛ ذلك أن الحروب، ومختلف الأعمال الموسمية الفلاحية خصوصا كالحرث والحصاد والدرس، والمناسبات العائلية كالأعراس، تتم بتعاون بين أفراد القبيلة أو المنطقة، وكذلك الأمر بالنسبة لمظاهر الاحتفالات، ومنها أداء الألوان الغنائية والرقصات الجماعية، كرقصة “أهياض”، المعروفة في عدد من مناطق سوس.
“أهياض” تدخل ضمن فنون أحواش، الذي يطلق على جميع أنواع الرقص الجماعي مهما كانت أوزانه أو أشكاله وإيقاعاته وحركاته، خاصة في مناطق سوس والجنوب المغربي حيث تستوطن القبائل الأمازيغية. ومن ضمن ما يعنيه هذا الموروث الثقافي، اجتماع سكان الدوار أو القبيلة في مكان يسمى محليا “أسايس” أو “أسرير” أو “أساراك”، لإحياء سهرة فنية في الغناء والرقص والإنشاد الجماعي، وهي حفلة غناء ورقص عمومية مفتوحة لكل من آنس في نفسه القدرة على المشاركة بالكلمة أو النغمة أو الإيقاع أو الحركة، غير أن لـ”أهياض” خصائص تُميّزه عن باقي فنون أحواش.
عبد الرحمان فارس، باحث في التراث الأمازيغي، قال في تصريح لجريدة هسبريس: “أهياض رقصة ساحلية لها ارتباط بالمجال الحربي؛ لأن العدوّ غالبا ما كان يُباشر هجوماته انطلاقا من البحر”، مضيفا: “بمجرد الفوز عليه، يمارس أهل المنطقة هذه الرقصة احتفالا بالنصر، يرافقها انتشار للأغبرة بالمكان، تماما كميدان المعارك”.
وأورد الباحث أن للرقصة رمزية خاصّة، “رمزية لها ارتباط بتلك الأغبرة المتناثرة بساحة العرض أسايس، وأخرى مرتبطة بأشكال الحركات لدى المشاركين في الرقصة، التي تهم أعضاء مُحدّدة من الجسم، الكتفين والرجلين على الخصوص، في تناسق تام، وتتمُّ على طريقة رقص الخيول المشاركة في العمليات الحربية والمعارك في ما مضى”.
الرقصة تشتمل على ما شابه الكر والفر في ميدان القتال؛ لأن الراقصين يُمارسون حركات ذهاب وإياب بالساحة المحتضنة لها، مما يعني أن فكّ شيفرة هذه الرقصة يحيل دائما إلى ايحاءات حربية.
وينقسم المشاركون في “أهياض” إلى ثلاثة أصناف؛ الموسيقيون المتخصصون في آلة “العوّاد” وآخرون في الدفوف (تيلّونا)، مهمتهم ضبط الايقاعات والموسيقى، والراقصون (إمهضرن)، الذين يختلف عددهم بحسب المناسبة والمكان، و”رئيس” الفرقة، الذي يعمد إلى توجيه الحركات والرقصات والتصفيق (الرش)، وهو شبيه بالقائد العسكري في الميدان الحربي.
وعن دلالات دور “رئيس” فرقة أهياض، يقول الأستاذ فارس إن “التعليمات” والإشارات الصادرة عنه توحي بانتفاء العشوائية والارتجالية في الرقصة، وتُعبر عن الوحدة والامتثال للأوامر؛ “لأن غياب الامتثال لأوامر القائد العسكري قد يُفضي إلى الهزيمة”، وهي دلالة مبطنة في رقصة “أهياض” تفرض على جميع المشاركين توحيد حركاتهم، تبعا لتوجيهات “رئيس” الفرقة، لضمان أداء جيّد يستمتع به المتفرجون.
وعلى غرار عدد من الأنماط التراثية في مجال الغناء والرقص الأمازيغي، تعدّ “أهياض” استمرارية لفكرة “تيويزي”، النمط التضامني الاجتماعي السائد في السابق وسط قبائل كثيرة في المغرب؛ ذلك أن “الرقص جماعي، تطوعي غير كسبيّ”، وفقا للباحث نفسه الذي أضاف، ضمن وصفه لبعض مميزات هذا النمط، أن “أهياض مدرسة؛ بحيث إن الرواد، أو لْمْعَلْمين، يتموقعون في وسط الصف، فيما لْمْتعلْمين لهذا الفن يصطفون بالجوانب”.
والخطأ في مُسايرة الايقاعات والحركات غير مقبول لدى الممارسين “المْعْلْمِين”، غير أنه لا يُعاب ذلك على “المتعلمين”، الذين يرتقون بحسب درجة اكتسابهم لآليات الرقصة، إلى حين انضمامهم إلى أواسط الصفوف وضمان موطئ قدم بين “لمعلمين”، “وهذا له ارتباط، كما أسلفت، بالمجال الحربي، الذي يرتقي فيه الجنود إلى الرتب العليا، تبعا لأدائهم الأدوار المنوطة بهم بالوجه المطلوب، ووفق درجة انضباطهم لما تقتضيه الأنظمة العسكرية”، بتعبير فارس عبد الرحمان.
وتتميّز رقصة “أهياض” بمناطق سوس بقبولها من لدن الرافضين لأنماط أخرى من الغناء والرقص، كفن “الروايس”. ويرى الباحث في الشأن الأمازيغي، ضمن حديثه لهسبريس، أن “أهياض” ورقصة “إسمكان” من الفنون الممكن أداؤها حتى وسط المدارس العتيقة، اعتبارا لطابعها الذكوري بامتياز، ولغياب الغناء أو إلقاء الشعر، في كل تفاصيل ومراحل أداء هذا اللون، “لكون التواجد بساحة القتال لا مجال فيه للكلام”، مما يعتبر مؤشرا آخر لارتباط هذه الرقصة ارتباطا وطيدا بالحرب، واستنباطها من مختلف تفاصيله.
أما الرقعة الجغرافية لانتشار رقصة “أهياض”، فيرى الباحث أنها تشمل خاصّة “أهياض” حاحا، و”أهياض” أشتوكن التي تمتد على المناطق الساحلية، كآيت ميمون، وماست، “ونلاحظ غياب هذا النوع بالمناطق الجبلية، التي تُعرف عادة بفن أجماك”، بالإضافة إلى وجود أنماط أخرى في أكلو ضواحي تزنيت، وآيت بعمران، يُعرف بـ”تحوايشت”، ويشمل أيضا مناطق “إمسكين” وعددا من المناطق الساحلية الأخرى.
رقصة “أهياض”، إذن، الضاربة بجذورها في عمق الموروث التاريخي والثقافي لمناطق أمازيغية بالمغرب، تُعتبر نموذجا للفن الراقي والتعبير الفني السليم والتأطير الواعي للإنسان في تفاعله المستمر مع ذاته ومحيطه الخارجي، وتقتضي ممارستها طقوسا خاصة بها، من المكان والزمان والمراحل والعناصر، لا يمكن بأي شكل من الأشكال إدخالها ضمن نطاق “الفلكلرة”، التي تُقدم بها في مناسبات ومهرجانات عديدة؛ بحيث يطالها التشويه والتحريف، ما يفرض إعادة الاعتبار لها ولباقي الفنون الضاربة في عمق تراثنا.
www.hespress.com
“أهياض” تدخل ضمن فنون أحواش، الذي يطلق على جميع أنواع الرقص الجماعي مهما كانت أوزانه أو أشكاله وإيقاعاته وحركاته، خاصة في مناطق سوس والجنوب المغربي حيث تستوطن القبائل الأمازيغية. ومن ضمن ما يعنيه هذا الموروث الثقافي، اجتماع سكان الدوار أو القبيلة في مكان يسمى محليا “أسايس” أو “أسرير” أو “أساراك”، لإحياء سهرة فنية في الغناء والرقص والإنشاد الجماعي، وهي حفلة غناء ورقص عمومية مفتوحة لكل من آنس في نفسه القدرة على المشاركة بالكلمة أو النغمة أو الإيقاع أو الحركة، غير أن لـ”أهياض” خصائص تُميّزه عن باقي فنون أحواش.
عبد الرحمان فارس، باحث في التراث الأمازيغي، قال في تصريح لجريدة هسبريس: “أهياض رقصة ساحلية لها ارتباط بالمجال الحربي؛ لأن العدوّ غالبا ما كان يُباشر هجوماته انطلاقا من البحر”، مضيفا: “بمجرد الفوز عليه، يمارس أهل المنطقة هذه الرقصة احتفالا بالنصر، يرافقها انتشار للأغبرة بالمكان، تماما كميدان المعارك”.
وأورد الباحث أن للرقصة رمزية خاصّة، “رمزية لها ارتباط بتلك الأغبرة المتناثرة بساحة العرض أسايس، وأخرى مرتبطة بأشكال الحركات لدى المشاركين في الرقصة، التي تهم أعضاء مُحدّدة من الجسم، الكتفين والرجلين على الخصوص، في تناسق تام، وتتمُّ على طريقة رقص الخيول المشاركة في العمليات الحربية والمعارك في ما مضى”.
الرقصة تشتمل على ما شابه الكر والفر في ميدان القتال؛ لأن الراقصين يُمارسون حركات ذهاب وإياب بالساحة المحتضنة لها، مما يعني أن فكّ شيفرة هذه الرقصة يحيل دائما إلى ايحاءات حربية.
وينقسم المشاركون في “أهياض” إلى ثلاثة أصناف؛ الموسيقيون المتخصصون في آلة “العوّاد” وآخرون في الدفوف (تيلّونا)، مهمتهم ضبط الايقاعات والموسيقى، والراقصون (إمهضرن)، الذين يختلف عددهم بحسب المناسبة والمكان، و”رئيس” الفرقة، الذي يعمد إلى توجيه الحركات والرقصات والتصفيق (الرش)، وهو شبيه بالقائد العسكري في الميدان الحربي.
وعن دلالات دور “رئيس” فرقة أهياض، يقول الأستاذ فارس إن “التعليمات” والإشارات الصادرة عنه توحي بانتفاء العشوائية والارتجالية في الرقصة، وتُعبر عن الوحدة والامتثال للأوامر؛ “لأن غياب الامتثال لأوامر القائد العسكري قد يُفضي إلى الهزيمة”، وهي دلالة مبطنة في رقصة “أهياض” تفرض على جميع المشاركين توحيد حركاتهم، تبعا لتوجيهات “رئيس” الفرقة، لضمان أداء جيّد يستمتع به المتفرجون.
وعلى غرار عدد من الأنماط التراثية في مجال الغناء والرقص الأمازيغي، تعدّ “أهياض” استمرارية لفكرة “تيويزي”، النمط التضامني الاجتماعي السائد في السابق وسط قبائل كثيرة في المغرب؛ ذلك أن “الرقص جماعي، تطوعي غير كسبيّ”، وفقا للباحث نفسه الذي أضاف، ضمن وصفه لبعض مميزات هذا النمط، أن “أهياض مدرسة؛ بحيث إن الرواد، أو لْمْعَلْمين، يتموقعون في وسط الصف، فيما لْمْتعلْمين لهذا الفن يصطفون بالجوانب”.
والخطأ في مُسايرة الايقاعات والحركات غير مقبول لدى الممارسين “المْعْلْمِين”، غير أنه لا يُعاب ذلك على “المتعلمين”، الذين يرتقون بحسب درجة اكتسابهم لآليات الرقصة، إلى حين انضمامهم إلى أواسط الصفوف وضمان موطئ قدم بين “لمعلمين”، “وهذا له ارتباط، كما أسلفت، بالمجال الحربي، الذي يرتقي فيه الجنود إلى الرتب العليا، تبعا لأدائهم الأدوار المنوطة بهم بالوجه المطلوب، ووفق درجة انضباطهم لما تقتضيه الأنظمة العسكرية”، بتعبير فارس عبد الرحمان.
وتتميّز رقصة “أهياض” بمناطق سوس بقبولها من لدن الرافضين لأنماط أخرى من الغناء والرقص، كفن “الروايس”. ويرى الباحث في الشأن الأمازيغي، ضمن حديثه لهسبريس، أن “أهياض” ورقصة “إسمكان” من الفنون الممكن أداؤها حتى وسط المدارس العتيقة، اعتبارا لطابعها الذكوري بامتياز، ولغياب الغناء أو إلقاء الشعر، في كل تفاصيل ومراحل أداء هذا اللون، “لكون التواجد بساحة القتال لا مجال فيه للكلام”، مما يعتبر مؤشرا آخر لارتباط هذه الرقصة ارتباطا وطيدا بالحرب، واستنباطها من مختلف تفاصيله.
أما الرقعة الجغرافية لانتشار رقصة “أهياض”، فيرى الباحث أنها تشمل خاصّة “أهياض” حاحا، و”أهياض” أشتوكن التي تمتد على المناطق الساحلية، كآيت ميمون، وماست، “ونلاحظ غياب هذا النوع بالمناطق الجبلية، التي تُعرف عادة بفن أجماك”، بالإضافة إلى وجود أنماط أخرى في أكلو ضواحي تزنيت، وآيت بعمران، يُعرف بـ”تحوايشت”، ويشمل أيضا مناطق “إمسكين” وعددا من المناطق الساحلية الأخرى.
رقصة “أهياض”، إذن، الضاربة بجذورها في عمق الموروث التاريخي والثقافي لمناطق أمازيغية بالمغرب، تُعتبر نموذجا للفن الراقي والتعبير الفني السليم والتأطير الواعي للإنسان في تفاعله المستمر مع ذاته ومحيطه الخارجي، وتقتضي ممارستها طقوسا خاصة بها، من المكان والزمان والمراحل والعناصر، لا يمكن بأي شكل من الأشكال إدخالها ضمن نطاق “الفلكلرة”، التي تُقدم بها في مناسبات ومهرجانات عديدة؛ بحيث يطالها التشويه والتحريف، ما يفرض إعادة الاعتبار لها ولباقي الفنون الضاربة في عمق تراثنا.
رقصة "أهياض" .. تراث أمازيغي ينثر غبار "خيول الحرب"
لكل شعب حضارة تميزه، والشعوب الأمازيغية تتميّز بـ"حضارة قيم"، ومن القيم المعروفة في المناطق الأمازيغية، منذ القدم...