«والشاعرة ملك عبدالعزيز لا تقول الشعر عندما تريد، وإنما تقوله حينما تتهيأ له روحها الشعرية، فشعرها شعر طبع لا إرادة، وكم من مرة تبدأ قصيدة تهيأت لها روحها، ثم تشغلها عن إتمامها بعض مشاغل الحياة، فلا تستطيع إتمام ما بدأت إلا إذا تهيأت لها من جديد نفس الحالة الشعرية. ولا أدلّ على ذلك من أن نرى معظم أغانيها تصوُّر حالة من حالات الروح المنفعلة بمشاهد الطبيعة. ولقد تعاودها نفس الحالة إزاء نفس المشهد فينفجر وجدانها من جديد. وفي كل مرة تطربنا، لأنها لا تفتعل الشعر ولا تقوله عن قصد وإرادة، وإنما ينبجس من روحها كما تنبجس ينابيع الماء العذب وسط مجالي الطبيعة. وكما ينساب الماء من النبع دائم الصفاء متجدِّد الخرير يتجدد الشعر في روح هذه الشاعرة الأصيلة الصادقة، المخلصة لذاتها».
بهذه الكلمات التي تحمل رؤية نقدية وإنسانية نافذة، قدّم الناقد الكبير الدكتور محمد مندور لشعر الشاعرة ملك عبدالعزيز التي كانت تلميذته ثم أصبحت شريكة حياته وأم أبنائه في مناسبة صدور ديوانها الأول: «أغاني الصبا»، الذي أصدرت بعده خمس مجموعات شعرية هي: قال المساء، وبحر الصمت، وأن ألمس قلب الأشياء، وأغنيات الليل، وشمس الخريف. ومن خلال حديث مندور عن شعرها، كان ذيوع مصطلحه النقدي «الشعر المهموس» الذي أذاعه في كتاباته النقدية المبكّرة، وأخذ يطبقه على شعر المهجريين ثم على شعر عدد من الشعراء المصريين.
كما حاولت الشاعرة نفسها في مقدمتها التي كتبتها لديوانها أن تفسّر جمعها بين الصيغتين أو الشكلين العمودي والحر للشعر، وميلها الواضح إلى نوع أكثر من الحرية في استخدام التفاعيل، قائلة: «فهناك ألوان من الأحاسيس ليس لها هذا الوضوح ولا تلك الجهارة التي يضفيها التعبير بالأوزان الكاملة والموسيقى المطردة على الشعر، كما أن هذا الشكل الجديد أقدر على تصوير العواطف والأحاسيس المتموجة في القصيدة الواحدة، كأنْ تبدأ القصيدة هادئة، ثم تفور فيها الأحاسيس، أو تبدأ مظلمة ثم مشرقة ثم مظلمة مرة أخرى أو العكس أو أيّ نوع آخر من أنواع التموّج».
وقد ظلت ملك عبدالعزيز على إخلاصها وولائها للشعر منذ ديوانها الأول الذي يحمل ملامح شعر البداية، تلك الملامح التي لم تتغير عبر مسيرتها الشعرية واتساع أفقها الإبداعي واستقرار أدائها الهامس العميق، المفعم على طول المدى الزمني بألوان من الشجن والمرارة والشك والقلق، وألوان أخرى مقابلة من التصميم والتحدي والمواجهة والانخراط في غمار التيار التقدمي والتنويري، وهي ألوان تمثلت في قصائدها عن الشهيد جواد حسني الذي استشهد إبان العدوان الثلاثي على مصر -، وقصيدتها الرمزية: أغنية إلى جيفارا، وقصيدتها: «بطاقة إلى الشهيدة سناء محيدلي» وغيرها.
ولم تقف ملك عبدالعزيز في شعرها عند حدود علاقتها بالطبيعة، باعتبارها مرآة عاكسة لمواقفها وانطباعاتها وأشجانها وهمومها الحياتية، ولا عند حدود نزعتها القريبة من تخوم «الوجودية» في بعض مراحل حياتها، ومن «التصوّف» في مراحلها الأخيرة، بعد أن امتدت حياتها إلى الثامنة والسبعين (1921 1999). وكانت وفاتها وهي العاشقة للطبيعة بسبب سقوط شجرة عليها أمام بيتها في حي الروضة بالقاهرة. وجاءت هذه النهاية المأساوية ختامًا لحياة شاعرة كانت تجد في الطبيعة وفي الشجر على وجه الخصوص مرآة واقعها الإنساني وتجسيدًا لمعاناتها الروحية. وقد عبرت عن هذا كله في قصيدة جعلتها عنوانًا لإحدى مجموعاتها الشعرية: «أن ألمس قلب الأشياء»:
أن ألمسَ قلْبَ الأشياء
أتغلغلَ في لبّ الشجر الممتدّ الأفياء
أتمدّدَ في الخضرةِ
أتوهّج في الثمر العذْبِ الإرواء
وأغوص بعمق البحر وأَشتفَّ الأنحاء
أتسلَّلَ في اللؤلؤ في أعشاب البحر الخضراء
أتحلَّلَ في حِضْنِ النهرِ
قُطيْراتٍ من ريٍّ وخصوبة
وأذوب عطاءً وعذوبة
أن أسري في الزهر عطورًا فوّاحة
في الأفق رياحا
في قلب الطير لُحونًا وغناءَ
في زبد البحر ضياءَ
لونًا في الشفق الذائب في الآفاقْ
ألقًا في النور السّابحِ في الأحداقْ
نغمًا في الموجِ
رعودًا في الإعصار
ظلاًّ في الغيم رذاذًا في الأمطار
وهجًا في الصبح، ندًى في قلب الأسحار
***
حين تعانقْنا
هل ذاب عصيرُ الروح خلال الروحِ
هل امتزجت كلُّ الأهواء؟
هل صرنا كُلاًّ متحدًا
يتحدّى وجْهَ الأشياء؟
أم قام جدارٌ
يفصل بين الأغوارْ
يجعلنا اثنين غريبيْن
ويجعل كلَّ حوار
زيْفًا تلفظه الأفواه
لا تدرك يومًا معناه!
***
أن نتجاور ليس القُرْب
أن نُعطيَ سرَّ القلب
ألا نحتجزَ هوانا شُحًّا وضغينة
أن ننسى الذات ونفنى في المحبوبِ
رضًا وسكينة
حين نجودُ بِسرّ القلب
حين نجود بفيض الحبّ
تتداعى الجدرانُ وتنهدّ
عندئذٍ، نلمسُ قلب الأشياء
نلمسُ
قلب الأشياء
نلمسُ قلب الأشياء
وكأننا نقرأ في ثنايا هذه القصيدة الإنسانية الدافئة «بيانًا شعريًّا» تتقدم به الشاعرة إلى الحياة والناس، ودعوة شعرية إلى فهم الحياة على حقيقتها، والتعامل معها في كلّ وجوهها المختلفة من خلال هذه النظرة الإنسانية الحانية والواعية في آن. ويكتسي هذا البيان الشعري بلون من البوْح الشفيف العميق، والإفضاء الروحي العامر بالرغبة في استكناه حقيقة الكون والوجود، واكتشاف السرِّ الأول، والنفاذ إلى ما وراء العالم المنظور، في لغة شعرية شديدة الرهافة والرقة والحساسية، كلّ هذا يفيض عنها في بعض تجلياتها الشعرية البديعة، أحدُها قصيدتها «مرفأ» التي تقول فيها:
لم يزل في المواني البعيدة
مرفأُ
تسكنُ الروح في شطِّهِ
تستريحُ السّكينة
يورقُ الحلْمُ في ظلِّه
وتذوب الضغينة
ويضيءُ الغدُ!
***
لم يزل في بروج الزمان الشريدة
موعدُ
قد قطعْنا البطاحَ الوئيدة
نرقبُ
في صحارى القفار المديدة
في صخور الجبال المَريدة
نصعدُ
في المياه الغِضابِ الصّخوبة
وهْمَنَا ننشدُ!
***
وأَذبْنا مع النهرِ أشواقَنا
ووهبْنا البحار الصوادي
سُدًى
عذْبَنا
وامتزجْنا بتُرْبِ الثرى
وبماء المطر
بالسّواقي البواكي
بنور القمر
ورقصْنا مع الأنجم الدائرة
مُنتشينَ يدًا في يدِ
واحتضنَّا الأثيرَ
شرِبنا المدى
وانطلقْنا مع الريحِ
نحنُ الغناءُ،
ونحنُ الصّدى!
***
لم يزل في الكؤوس الأسى..
يقطرُ
تُعصرُ الروح في شجْوها
تُقهرُ
إن أَذتْنا الفيافي الحقودة
أحرقتْنا صدى
وضللْنا ببيْدائها
عن دروب النّدى
لم يزل في المواني البعيدة
لم يزلْ
مرفأُ!
***
لم تزل زرقةُ الأُفْقِ
خلف
الغيوم الغوادي
في صفاها الودودِ تُغنيّ لنا
تحملُ الحُبَّ
تُعطي الأغاني الحواني
تبعثُ
الذِّكرَى المُلهمة!
ثاني هذه التجليات الشعرية البديعة نطالعه في قصيدة ملك عبدالعزيز «البيت»، التي تفيض بأحاسيس الدفء والأمومة والامتلاك والامتلاء والانتماء، وبنقيض هذه الأحاسيس من تكسّر وغربة ووحشة وهجران، ومن جدلية هذه الأحاسيس المصطرعة والمتناقضة، لوجدانٍ يتفكك ويتفتت ووجود يتلاشى في خضمّ البحث عن المأوى، تولد هذه النغمة الشعرية القاسية العذوبة والوقع، الحادّة القاطعة كالنصل الذي ينغرز ويغوص في وجود يشبه تيه العدم والضياع، وحياةٍ تريد أن تلوذ بالمأوى الأخير، بالمثوى الروحيّ الأخير. أما اللغة الشعرية فهي في صفاء النّدى وبريق اللؤلؤ وشفافية الضوء الناعم، وأما الصور الشعرية فهي متلاحقة متسارعة، مندفعة جياشة، وكأنها نغم حاد جارح، تتكسّر أوتاره المشدودة من قسوة العزف والإيقاع، بينما تتطاير الكلمات متناثرةً لاهثة:
أنكسرُ على عتباتِ اللّيلْ
تذروني الريحُ على العتباتْ
تذروني في تيه السّاحاتْ
آهٍ،
أتفكّكُ
أتفتّتُ
أتلاشى،
أشتاقْ
أن تحضنني كفٌّ،
تُؤويني
في العتماتْ!
***
وحدي في اللّيلْ
أتكسّرُ فوق العتماتْ
أتبعثرُ فوق العتباتْ
وحدي في تيه الصَحْراءِ العطْشى
تذروني الريحُ على السّاحات!
هكذا كانت ملك عبدالعزيز، وستبقى. شاعرة للهمس، والبوْح، والصفاء الروحي.
فاروق شوشة مجلة العربي اغسطس 2010
بهذه الكلمات التي تحمل رؤية نقدية وإنسانية نافذة، قدّم الناقد الكبير الدكتور محمد مندور لشعر الشاعرة ملك عبدالعزيز التي كانت تلميذته ثم أصبحت شريكة حياته وأم أبنائه في مناسبة صدور ديوانها الأول: «أغاني الصبا»، الذي أصدرت بعده خمس مجموعات شعرية هي: قال المساء، وبحر الصمت، وأن ألمس قلب الأشياء، وأغنيات الليل، وشمس الخريف. ومن خلال حديث مندور عن شعرها، كان ذيوع مصطلحه النقدي «الشعر المهموس» الذي أذاعه في كتاباته النقدية المبكّرة، وأخذ يطبقه على شعر المهجريين ثم على شعر عدد من الشعراء المصريين.
كما حاولت الشاعرة نفسها في مقدمتها التي كتبتها لديوانها أن تفسّر جمعها بين الصيغتين أو الشكلين العمودي والحر للشعر، وميلها الواضح إلى نوع أكثر من الحرية في استخدام التفاعيل، قائلة: «فهناك ألوان من الأحاسيس ليس لها هذا الوضوح ولا تلك الجهارة التي يضفيها التعبير بالأوزان الكاملة والموسيقى المطردة على الشعر، كما أن هذا الشكل الجديد أقدر على تصوير العواطف والأحاسيس المتموجة في القصيدة الواحدة، كأنْ تبدأ القصيدة هادئة، ثم تفور فيها الأحاسيس، أو تبدأ مظلمة ثم مشرقة ثم مظلمة مرة أخرى أو العكس أو أيّ نوع آخر من أنواع التموّج».
وقد ظلت ملك عبدالعزيز على إخلاصها وولائها للشعر منذ ديوانها الأول الذي يحمل ملامح شعر البداية، تلك الملامح التي لم تتغير عبر مسيرتها الشعرية واتساع أفقها الإبداعي واستقرار أدائها الهامس العميق، المفعم على طول المدى الزمني بألوان من الشجن والمرارة والشك والقلق، وألوان أخرى مقابلة من التصميم والتحدي والمواجهة والانخراط في غمار التيار التقدمي والتنويري، وهي ألوان تمثلت في قصائدها عن الشهيد جواد حسني الذي استشهد إبان العدوان الثلاثي على مصر -، وقصيدتها الرمزية: أغنية إلى جيفارا، وقصيدتها: «بطاقة إلى الشهيدة سناء محيدلي» وغيرها.
ولم تقف ملك عبدالعزيز في شعرها عند حدود علاقتها بالطبيعة، باعتبارها مرآة عاكسة لمواقفها وانطباعاتها وأشجانها وهمومها الحياتية، ولا عند حدود نزعتها القريبة من تخوم «الوجودية» في بعض مراحل حياتها، ومن «التصوّف» في مراحلها الأخيرة، بعد أن امتدت حياتها إلى الثامنة والسبعين (1921 1999). وكانت وفاتها وهي العاشقة للطبيعة بسبب سقوط شجرة عليها أمام بيتها في حي الروضة بالقاهرة. وجاءت هذه النهاية المأساوية ختامًا لحياة شاعرة كانت تجد في الطبيعة وفي الشجر على وجه الخصوص مرآة واقعها الإنساني وتجسيدًا لمعاناتها الروحية. وقد عبرت عن هذا كله في قصيدة جعلتها عنوانًا لإحدى مجموعاتها الشعرية: «أن ألمس قلب الأشياء»:
أن ألمسَ قلْبَ الأشياء
أتغلغلَ في لبّ الشجر الممتدّ الأفياء
أتمدّدَ في الخضرةِ
أتوهّج في الثمر العذْبِ الإرواء
وأغوص بعمق البحر وأَشتفَّ الأنحاء
أتسلَّلَ في اللؤلؤ في أعشاب البحر الخضراء
أتحلَّلَ في حِضْنِ النهرِ
قُطيْراتٍ من ريٍّ وخصوبة
وأذوب عطاءً وعذوبة
أن أسري في الزهر عطورًا فوّاحة
في الأفق رياحا
في قلب الطير لُحونًا وغناءَ
في زبد البحر ضياءَ
لونًا في الشفق الذائب في الآفاقْ
ألقًا في النور السّابحِ في الأحداقْ
نغمًا في الموجِ
رعودًا في الإعصار
ظلاًّ في الغيم رذاذًا في الأمطار
وهجًا في الصبح، ندًى في قلب الأسحار
***
حين تعانقْنا
هل ذاب عصيرُ الروح خلال الروحِ
هل امتزجت كلُّ الأهواء؟
هل صرنا كُلاًّ متحدًا
يتحدّى وجْهَ الأشياء؟
أم قام جدارٌ
يفصل بين الأغوارْ
يجعلنا اثنين غريبيْن
ويجعل كلَّ حوار
زيْفًا تلفظه الأفواه
لا تدرك يومًا معناه!
***
أن نتجاور ليس القُرْب
أن نُعطيَ سرَّ القلب
ألا نحتجزَ هوانا شُحًّا وضغينة
أن ننسى الذات ونفنى في المحبوبِ
رضًا وسكينة
حين نجودُ بِسرّ القلب
حين نجود بفيض الحبّ
تتداعى الجدرانُ وتنهدّ
عندئذٍ، نلمسُ قلب الأشياء
نلمسُ
قلب الأشياء
نلمسُ قلب الأشياء
وكأننا نقرأ في ثنايا هذه القصيدة الإنسانية الدافئة «بيانًا شعريًّا» تتقدم به الشاعرة إلى الحياة والناس، ودعوة شعرية إلى فهم الحياة على حقيقتها، والتعامل معها في كلّ وجوهها المختلفة من خلال هذه النظرة الإنسانية الحانية والواعية في آن. ويكتسي هذا البيان الشعري بلون من البوْح الشفيف العميق، والإفضاء الروحي العامر بالرغبة في استكناه حقيقة الكون والوجود، واكتشاف السرِّ الأول، والنفاذ إلى ما وراء العالم المنظور، في لغة شعرية شديدة الرهافة والرقة والحساسية، كلّ هذا يفيض عنها في بعض تجلياتها الشعرية البديعة، أحدُها قصيدتها «مرفأ» التي تقول فيها:
لم يزل في المواني البعيدة
مرفأُ
تسكنُ الروح في شطِّهِ
تستريحُ السّكينة
يورقُ الحلْمُ في ظلِّه
وتذوب الضغينة
ويضيءُ الغدُ!
***
لم يزل في بروج الزمان الشريدة
موعدُ
قد قطعْنا البطاحَ الوئيدة
نرقبُ
في صحارى القفار المديدة
في صخور الجبال المَريدة
نصعدُ
في المياه الغِضابِ الصّخوبة
وهْمَنَا ننشدُ!
***
وأَذبْنا مع النهرِ أشواقَنا
ووهبْنا البحار الصوادي
سُدًى
عذْبَنا
وامتزجْنا بتُرْبِ الثرى
وبماء المطر
بالسّواقي البواكي
بنور القمر
ورقصْنا مع الأنجم الدائرة
مُنتشينَ يدًا في يدِ
واحتضنَّا الأثيرَ
شرِبنا المدى
وانطلقْنا مع الريحِ
نحنُ الغناءُ،
ونحنُ الصّدى!
***
لم يزل في الكؤوس الأسى..
يقطرُ
تُعصرُ الروح في شجْوها
تُقهرُ
إن أَذتْنا الفيافي الحقودة
أحرقتْنا صدى
وضللْنا ببيْدائها
عن دروب النّدى
لم يزل في المواني البعيدة
لم يزلْ
مرفأُ!
***
لم تزل زرقةُ الأُفْقِ
خلف
الغيوم الغوادي
في صفاها الودودِ تُغنيّ لنا
تحملُ الحُبَّ
تُعطي الأغاني الحواني
تبعثُ
الذِّكرَى المُلهمة!
ثاني هذه التجليات الشعرية البديعة نطالعه في قصيدة ملك عبدالعزيز «البيت»، التي تفيض بأحاسيس الدفء والأمومة والامتلاك والامتلاء والانتماء، وبنقيض هذه الأحاسيس من تكسّر وغربة ووحشة وهجران، ومن جدلية هذه الأحاسيس المصطرعة والمتناقضة، لوجدانٍ يتفكك ويتفتت ووجود يتلاشى في خضمّ البحث عن المأوى، تولد هذه النغمة الشعرية القاسية العذوبة والوقع، الحادّة القاطعة كالنصل الذي ينغرز ويغوص في وجود يشبه تيه العدم والضياع، وحياةٍ تريد أن تلوذ بالمأوى الأخير، بالمثوى الروحيّ الأخير. أما اللغة الشعرية فهي في صفاء النّدى وبريق اللؤلؤ وشفافية الضوء الناعم، وأما الصور الشعرية فهي متلاحقة متسارعة، مندفعة جياشة، وكأنها نغم حاد جارح، تتكسّر أوتاره المشدودة من قسوة العزف والإيقاع، بينما تتطاير الكلمات متناثرةً لاهثة:
أنكسرُ على عتباتِ اللّيلْ
تذروني الريحُ على العتباتْ
تذروني في تيه السّاحاتْ
آهٍ،
أتفكّكُ
أتفتّتُ
أتلاشى،
أشتاقْ
أن تحضنني كفٌّ،
تُؤويني
في العتماتْ!
***
وحدي في اللّيلْ
أتكسّرُ فوق العتماتْ
أتبعثرُ فوق العتباتْ
وحدي في تيه الصَحْراءِ العطْشى
تذروني الريحُ على السّاحات!
هكذا كانت ملك عبدالعزيز، وستبقى. شاعرة للهمس، والبوْح، والصفاء الروحي.
فاروق شوشة مجلة العربي اغسطس 2010