هارى ماجدوف - مفهوم الإمبريالية.. ترجمة سعيد العليمى

من الغريب حقاً أن نتلقى اقتراحات تهدف إلى نبذ مصطلح الإمبريالية فى الوقت الذى تشكل ملامحه الكلاسيكية الطابع الأشد مركزية فى الأوضاع الجارية. فمن المؤكد أن انتهاء الحرب الباردة لم يؤد لفرق كبير، فغزو بنما والحرب الضارية ضد العراق يجب أن تكونا دلائل كافية على أن طبيعة الوحش لم تتغير. إذا كان هناك ما ينبغى ذكره، فإن انهيار نظم أوروبا الشرقية قد هيأ فرصة سانحة للبلدان الرأسمالية المتقدمة، فى نفس الوقت الذى خلق فيه مساحة للمناورات التنافسية بين القوى الكبرى فيما يتعلق بمسألة من منها عليه أن يلعب الدور الاساسى فى منطقة أو أخرى من "المناطق المفتوحة حديثاً". إن الخطوات التى اتخذت للهيمنة على الأطراف القديمة والجديدة ليست قاصرة بالطبع على التدخل العسكرى المباشر: فهناك تنويعة من الوسائل السياسية، والاقتصادية والتدخل العسكرى غير المباشر قد استخدمت حسب الظروف. ناهيك عن أن الولايات المتحدة ليست اللاعب الوحيد. تابعت القوى الأخرى مثل فرنسا، وألمانيا، واليابان، وإنجلترا بطرقها الخاصة هدف التحكم أو السيطرة على مستعمراتها القديمة ومناطق نفوذها.
لا يمثل هذا جديداً بالطبع بالنسبة للمشاركين فى هذه الندوة. ومع ذلك فهناك عدم ارتياح نحو مفهوم الإمبريالية. ويمكن رد قدر كبير من عدم الارتياح هذا إلى استخدام تعريف صارم للمصطلح ـ يعتصر الحياة من التاريخ . كان السخط وأسبابه أمراً شائعاً من الأيام الباكرة لعصر الإمبريالية. ومع ذلك حين يبدو لكثير من الدارسين أن الإمبريالية قد جرى تجاوزها، فإن للتاريخ طريقته فى إعادة المفهوم ليحوم حولنا. وأظن أن هذا هو الحال بالفعل بشأن الفكرة التى قدمت حول هذه المائدة المستديرة، أى أن نطرح جانباً المصطلح ونستبدله بكلمة ما بعد إمبريالية post imperialism. لماذا؟ لأن اى مفهوم عن الإمبريالية يتطلب وجود سمات معينة دنيا مثل الإمبراطوريات المتنافسة التى تسعى لقدر كبير من الاحتكار ـ الباب المغلق ـ وسيطرة على منافذ الاستثمار، وأسواق التصدير، وواردات رخيصة من المواد الخام. ومن الجلى أن أحكام صندوق النقد الدولى، والبنك الدولى والجات التى تحكم التجارة العالمة تمنع حيازة أو تعزيز مثل هذه السيطرة الاحتكارية. نحن فى حقبة ما بعد الإمبريالية.
يمكن القول بأنه ربما بدا هذا الموقف معقولاً فى الستينيات مثلاً، ولكن هذا إذا ما اقتصرت رؤيتنا على ملاحظة مظهر التناغم بين الأمم الرأسمالية المتقدمة. لأنه حتى عندئذ كان سيكون من الخطر تجاهل ما كان يتجه إلى الغليان تحت السطح. بينما كان توسع الرأسمالية دائماً ما يفترض مسبقاً وتطلب بالفعل تعاوناً بين مكوناتها القومية المختلفة ـ فيما يتعلق بتسهيلات المواصلات ووحدة الأوزان والمقاييس، والترتيبات النقدية والائتمانية، إلخ. لم يكن هناك وقت توقفت فيه هذه المكونات القومية عن الصراع كل منها من أجل ترقيها وامتيازها. لقد وجدت دائماً قوى الطرد والجذب المركزيتين فى لب العملية الرأسمالية، حيناً تهيمن هذه وحيناً تهيمن تلك. ونتيجة لذلك، فقد تناوبت فترات السلام والتناغم مع فترات العنف والاختلاف.
سوف يذهب ذلك بنا بعيداً فى المجال إذا ما تتبعنا فى هذه المناسبة الاختلافات بين قوى الطرد والجذب المركزيتين فى عصر الإمبريالية والرأسمالية الباكرة. ولكن من المهم الاعتراف بتطورين كبيرين يكمنان وراء التغييرات فى هذه الفترة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية التى أظهرت منذ وقت طويل التصورات عن الإمبريالية العليا ultra imperialism أو ما بعد الإمبريالية post imperialism بوصفها أوهاماً: صعود وتدهور الولايات المتحدة كقوة مهيمنة فى النظام الرأسمالى العالمى، والتغير من موجه النمو القوى خلال العقود الباكرة ما بعد الحرب إلى الركود الذى استطال منذ نهاية الستينيات. ما كان هناك بأى معنى "حقبة ما بعد إمبريالية" فقد مثلت فترة قصيرة، حافلة بتناقضات كامنة تمخضت أخيراً عن عكسها على طول الخط. بدا النظام العالمى الجديد فى بدايته وكأنه خلق في بيئة من التناغم الجميل. لقد كان على أى حال نظام فرضته الولايات المتحدة لحد بعيد. فى هذا الوقت كان للولايات المتحدة تفوق فى السلاح لا يناقش وكذلك فى الطاقة الإنتاجية، والمالية، تفوق كافٍ لتعيين قوام بقية العالم الرأسمالى وإدارته. بدلاً من معيار الذهب الأول كرس الدولار الأمريكى بمقتضى اتفاقية بريتون وودز بوصفه العملة الدولية الأولى، ودعمه وعد واشنطن بأنها ستبدل الدولار الذى تحوزه البنوك المركزية بالذهب عند الطلب. بعد أن باتت فى موضع القيادة فقد روجت مثلها فى ذلك مثل البريطانيين فى أيام عزهم أيديولوجية السوق الحرة والتجارة الحرة. إن المؤسسات الدولية قد انطلقت وتكيفت لتعزز بهذه الدرجة أو تلك شبكة إمبريالية موحدة تهدف إلى توسيع نطاق التجارة العالمية، ممسكة بزمام العالم الاستعمارى السابق، كابحة بواسطة الحرب الأمم التى تحاول أن تنفصل عن الشبكة.
استمرت هيمنة الولايات المتحدة، على أية حال، مثلها فى ذلك مثل بريطانيا قبلها أقل من ثلاثة عقود. ومثل خبرة بريطانيا، فقد اتسمت هذه الفترة بازدهار اقتصادى كبير وغير عادى. بعده، اضمحلت الهيمنة حينما انحسر الازدهار. حوالى أواخر الستينيات، فإن القوة الاقتصادية للأمم الرأسمالية المتقدمة الأخرى (خصوصاً ألمانيا واليابان) كانت تلحق بسرعة وقادرة على تحدى تفوق الولايات المتحدة فى التجارة الخارجية والمالية. فسد التناغم فيما بعد بسبب الطريقة التى استغلت بها الولايات المتحدة الوضع المميز للدولار الأمريكى. تدفقت كمية ضخمة غير مسيطر عليها من الدولارات لبلدان أجنبية لشن حروب، ولتشغيل قواعد عسكرية، وتمويل الدول العميلة، وللاستثمار فى الفروع الأجنبية للشركات متعددة القوميات، مع عدم اعتبار كامل للوعد الذى قطعته الولايات المتحدة على نفسها وهو أن تغطى الدولار بالذهب. وعلى ذلك، فإن الولايات المتحدة فى شئونها المالية، كما هو الحال فى الشئون السياسية والعسكرية كانت تقول لبقية العالم سيان أن يقبلها أو يرفضها. ولكن المنافسين الطالعين، الذين يتصرفون ليظهروا (بداعى) التحدى أو دفاعاً عن النفس فحسب قد قبلوا التحدى بتحويل كميات من الدولارات إلى ذهب. وإذ يتناقص بشدة مخزون الذهب، اختارت الولايات المتحدة فى النهاية أن تنكث بشكل انفرادى بوعدها الذى قطعته لصندوق النقد الدولى، الذى انشئ بمقتضى اتفاقية بريتون وودز ليكون عماداً لما سيكون عصراً جديداً فى التناغم المالى.
إن صندوق النقد الدولى والبنك الدولى يواصلان العمل كحماة للنظام الإمبريالى، ويتصرفان بوصفهما منفذان لرأسمالية المركز ليجعلا المحيط يقوم بدور مورد المواد الخام، وأن يوفر فرص الاستثمار والتجارة، وأخيراً وليس آخراً يتأكد من أن ديون المصرفيين فى المراكز المالية تجرى خدمتها على نحو صحيح. ولكن هل يضمنان التناغم فى مركز الرأسمالية، ويشكلان عقبة أمام نمو الإمبراطوريات المتنافسة؟ واضعى الأحكام اللذان تخضع لهما كل البلدان الرأسمالية الأساسية؟ ليس حتماً بأى حال! فلننتبه خاصة لنمو عدم الانسجام فى أسواق النقد الأساسية، حيث تتموقع مراكز قيادة رأس المال.
حينما نكثت الولايات المتحدة بعهدها فى ظل اتفاقية صندوق النقد الدولى بأن تدعم الدولار الأمريكى بالذهب، فقد شعر الكثيرون أن الترتيبات المريحة (للولايات المتحدة) قد حانت نهايتها. ولكنها لم تحن. لأن ما حدث فى هذا الوقت أن تراكمات الدولار فى الخارج، خاصة فى خزائن البنوك المركزية ـ حيث شكلت الكتلة الأساسية من الاحتياطات التى تدعم غالبية النقد الدولى، ـ أصبحت غاية فى الضخامة للحد الذى لم يستطع فيه أى بلد أن يفعل شيئاً قد يهدد قيمة الدولار. وكانت النيجة أنه بعد عام 1971، مثلما كان الحال قبلاً، استمرت الولايات المتحدة تصب الدولارات واستمر الأجانب يقبلونها. تضاعفت بين 1969 و1977 كمية من الدولارات خارج الولايات المتحدة بمعدل 4.5% واستمرت فى التزايد من وقتها.
وضع انهيار اتفاقية صندوق النقد الدولى بشأن استقرار النقد الدولى البلدان المركزية فى الاقتصاد العالمى على طريق سرعان ما قادت لانفجار تضخمى فى السيولة ونوع مختلف من الفوضى. ولفترة قصيرة بعد نهاية قابلية الدولار للتحويل سعت البلدان الكبرى Top – dog لتجد طريقاً جديداً لتجعل معدلات صرف النقد الأجنبى مستقرة ـ التى اعتبرت جوهرية بالنسبة لتطبيع الاقتصاد العالمى ـ افتراضاً من أجل عصر "ما بعد الإمبريالية". ولكن كان من الصعب الوصول إلى اتفاقية ذات معنى، إذا وضعنا فى اعتبارنا مصالح القوى المتنازعة ومقاومة الخضوع لهيمنة الولايات المتحدة الدائمة. حوالى مارس 1973، استسلمت القوى الرأسمالية الكبرى ونحت باتجاه لا يقاوم نحو تعويم معدلات الصرف، وعلى ذلك فقد فتحت ثغرة (بوابة الفيضان) لمضاربات منفلتة فى أسواق النقد الأجنبى وباتت معدلات الصرف سلاح منافسة تجارية ـ وهو تحديداً ما انشئ صندوق النقد الدولى أصلاً من أجل منعه. ومنذ بداية السبعينيات فإن معدل صرف الدولار الأمريكى، والمارك الألمانى، والين اليابانى قد كانوا فوق سكة حديد إفعوانية (مسار ملتو)، مصحوب بتأرجح شديد فى حركة رأس المال بين الأمم، واختلال توازن عظيم فى الحسابات الجارية بين الأمم الرأسمالية المتقدمة.
كما أن أداء الجات GATT ـ الساق الأخرى لما يسمى "ما بعد الإمبريالية" لم يكن أفضل. وبرغم أن هناك احتفاء لفظياً بمبدأ حرية التجارة فقد كانت هناك مساع صريحة لخلق موانع للاستيراد. وهكذا، فإن تقرير عام 1988 لبنك التسويات الدولية قد لاحظ أن معايير ما يسمى المنطقة الرمادية تضمن عوائق تصدير طوعية، وترتيبات لتقاسم السوق وحواجز أخرى لا تتعلق بالتعريفة صممت للالتفاف على أحكام الجات GATT استمرت فى التزايد حتى بلغت حوالى 50% من نصيب التجارة العالمية التى "تدار" بالفعل بطريقة أو بأخرى.
وتحت كل هذا هناك ظاهرة عامة كامنة، وهى، بطء معمم للاقتصاديات فى مركز العالم الرأسمالى. هذا البطء، الذى استمر حتى الآن أزيد من عقدين، حفز رأس المال لان يجد فرصاً جديدة للربح. مع هذا ظهر، نمو المنافسة للحصول على مواقع متميزة، انتشار النزعة الحمائية، حركة نحو الاتفاقات الثنائية (خصوصاً، كندا ـ الولايات المتحدة، والمكسيك ـ الولايات المتحدة) وميل إلى تكوين كتل ومجموعات من الدول الأضعف ممركزة حول واحدة أو أكثر من القوى الكبرى. هذه التكوينات لازالت فى مرحلة باكرة من التطور، ولكن الميول فى هذا الاتجاه تصير أشد وضوحاً. وهكذا فإن التقارير التى تقدمها الأونكتاد UNCTAD والجات GATT ناقشت تطور كتل التجارة ثلاثية الأقطاب ومراكز التجارة. إن مركز الولايات المتحدة حول الشركات متعدية القومية أضافت إلى عنوان تقرير الاستثمار الدولى 1991: "الثلاثى فى الاستثمار الأجنبى المباشر" يشير إلى ظهور ثلاثة أقطاب اقتصادية رئيسية فى العلاقات الاقتصادية والمالية الدولية: الجماعة الأوروبية، واليابان، والولايات المتحدة. لاحظوا على سبيل المثال، هذه الملاحظة فى التقرير:
على مدى العقدين الأخيرين، تبين أن البلدان النامية تتجه صوب نظام يبدو فيه أن عملتها النقدية مربوطة، بهذا القدر أو ذاك على نحو وثيق بالعملات النقدية للأقاليم الوطنية الكبرى، اعتماداً على قوة تجارتها، الاستثمار والعلاقات المالية. وهكذا يبدو أن هناك كتلة للدولار، تتكون إلى حد بعيد من أقطار فى أميركا اللاتينية والكاريبى، مع قلة من البلدان الأخرى، مثل الدول المصدرة للبترول التى تعود روابطها بالدولار بغير شك إلى حقيقة أن السعر العالمى للبترول يحسب بالدولار. وفى معظم الحالات، فإن هذه البلدان تقوم بتعويم موجه مقابل الدولار.
لاحظ أيضاً خدمات بحث الكونجرس فى تقريرها دور اليابان التوسعى ونفوذها فى آسيا والمحيط الهادى (7 سبتمبر 1990).
رغم أن دور اليابان كمصدر للسلع المصنعة وكمستورد للمواد الأولية من بلدان آسيا والمحيط الهادى ظل لوقت طويل، فإن بزوغها بعد 1985 بوصفها المصدر الأساسى للرأسمال والتكنولوجيا، وبوصفها سوقاً نامياً للسلع، قد جعل اليابان "اقتصاداً مركزياً" وعصباً مالياً للإقليم.
لا تتسع المساحة لمزيد من تقصى هذه التطورات، عدا أنه يتعين أن نذكر على الأقل افتراض ألمانيا حول دورها القيادى فى أوروبا، وتطلعها نحو وسط وشرق أوروبا والتحدى المتنامى لسوق فرانكفورت المالى فى تنافسه مع مدينة لندن.
يتعين ألا تكون هناك حاجة لتذكر مؤرخى هذه الأصداء من المراحل الأبكر، يمثل منعطف نهاية القرن التاسع عشر والكساد الكبير. ولكن كما نعلم، حتى عندما يكرر التاريخ نفسه فإنه يفعل ذلك بطرق جديدة ومختلفة. الذى أقترحه، إذن، هو أنه إذا ما أراد المرء أن يفهم الحاضر فمن فادح الخطأ أن يتخلص من مفهوم الإمبريالية كأداة للكشف والتفسير.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...