عبد الفتاح المطلبي - الوباء

(إذا ماتَ الضميرُ وُلـِدَ المِسخُ)
كانَ كلُّ شيءٍ عادياً عندما خلدتُ للنومِ والكتابُ آخرَ ما كنتُ أنظرُ أليه دون تركيزٍ إذ أن هذا الكتاب قد أدمنتُ قرائته فكلما نويتُ النومَ سريعاً، شرعتُ بقرائته، فعلتُ ذلك للمرة الألف ربما ولم أكمل من قرائته غير عشرين صفحة، حالما أتمدد على سريري و أبدأ بقرائته تنتابني حالة ٌ من النعاس الشديد ربما لأنه يتكلم عن أهواء الإنسان ونوازعه ومجمل الأمور التي تتعلق بما تحت الوعي وما فوقه بإسلوبٍ غاية في التعقيدِ وبعد أن فتحتُ شدقيّ على اتساعهما وتثائبتُ أطفأتُ النورَ وغطيتُ وجهي بملائتي القطنية ذات المربعات السود والبيض الصغيرة المتداخلة ورحتُ أستعيد ما قرأته من الكتاب عن ظهر قلب ولكنني في كل مرة أغطّ في النوم قبل إكمال ما حاولت استذكاره من الكتاب ربما كان ذلك بتأثيرتلك المربعات وفعلها البصري، وكما في كل مرة ظننتُ إن ما أراهُ الآن مجرد حلم ضلّ طريق الليل وانتابني في وضح النهار، إذ كانت الشمسُ تنفذُ من النافذة إلى عيني مباشرة وعندما رفعت كفي لأحجب أشعتها تأكدتُ بأنني مستيقظٌ و كررتُ الحركة َعدة مرات ٍوفي كل مرة استطيعُ بها حجبَ الشمس عن عيني، كانَ كلُّ ما حولي غريباً والسريرُ ليسَ سريري ولا الملاءةُ ملائتي ولم يكن هناك كتابي الذي كنت أقرأه وبحثتُ عنه حولي فلم أعثر له على أثر فقلت لنفسي إنه حلم رغم استطاعتي حجب الشمس بكفي فهو حلم ولما طال جلوسي في السرير وتذكرت موعد الذهاب إلى عملي نهضتُ وفركتُ عيني وخطوت عدة خطوات ووجدتُ أن لاشيء يشبه ما كان حولي بالأمس، كانت ملابسي التي علقتها فوق شماعة السرير هي الشيء الوحيد الذي بقي من الأمس، ارتديتها على عجل ونفذتُ إلى الشارع عبر ممر طويل يفضي إلى الخارج، حفـّتِ الممرَّ الطويل أشجارُ النارنج الميتة وكنت أعلم أن النارنجيات لا تموت إلا إذا فسدَ الهواء والهواءُ لا يفسد كما جاء في الصفحة الثامنة عشرة من الكتاب إلا إذا فسدَ الشجرُ والشجرُلا يفسدُ إلا إذا فسدَ الناسُ، أسمع محركاتِ الديزل تهدرُ وسطَ الحيّ، الهواء يدخل إلى رئتيّ بصعوبه لاختلاطه بعوادم تلك المحركات، قرصتُ عضدي فأحسست بألم القرصة، وقلتُ ربما كان هذا في الحلم أيضا ولما استمر الحلم يجري كواقع ملموس أو الواقعُ كحلمٍ في نومٍ متواصل أو هكذا ظننت رحتُ أعيشه كما بدا، ما أصابني بالذهول شعوري بأنني قد دُفعتُ إلى محيط ما ألِفتهُ من قبل وقلتُ في سري لا بأس فهو حلم وليس غير ذلك وفي الشارع رأيت الكثير من الناس يضعون شيئا على آذانهم وقليل منهم لا يضع ذلك الشيء، راودتني فكرة أن أسأل أحدهم، لكنني وجدتهم لا يلتفتون لي ولا إلى كلماتي فعرفت أنهم لا يسمعون بسبب تلك الأشياء التي يضعونها على آذانهم ورأيتهم يتحدثون فيما بينهم بالإشارة كما يفعل الصم البكم، انتظرتُ كثيرا ليمر واحدٌ من الذين لا يضعون على آذانهم ذلك الشيء ولما صار قريبا، تقدمت إليه وسألته، لكنه ظن بي الظنون وتهرب وزاغَ عن طريقي كثعلب بيدَ أنني لاحظتُ شيئا صغيرا يتحرك كذيل جرذ متدلٍ من أسفل رأسه إلى مابين كتفيه، أصابتني الحيرة فرحت ُ أتجولُ في المدينة التي لم أرها من قبل كان الناس فيها نوعين لا ثالث لهما أما يضعون ذلك الشيء على آذانهم لوقرها و أما لهم ذيولٌ صغيرةٌ تنبتُ من مؤخرة الرأس ولا يضعون شيئا على آذانهم ولما كنت لاأملك ذيلا ولا أضع ذلك الشيء فقد بدوتُ مختلفا في نظرهم وراحوا يسلقونني بنظرات ملأتها الدهشة ويتطلعون إلي ككائنٍ غريب حتى إن أحدهم كان يشير لآخر بقربه بإشارات تتعلق بموخر رأسي وبأذني وعلى وجهه مسحةٌ من دهشة، رغبتُ بزجاجة مرطبات فاتجهت إلى أحد الباعة، شعرت أن البائع قد استنفر كل قواه وتحفز لدرء شيءٍ طاريءٍ قد ألم به، فتح زجاجة البيبسي ووضعها بحذر أمامي تناولتها ورحت أشفط محتوياتها بهدوء كان مذاقها مختلفا عما عهدته وكأنها مغشوشة، سألني صاحب الدكان بعدما نحّى الشيء الذي يغطي أذنه اليمنى قليلاً : كيف تتحمل كل هذا الألم، فأنا أراك لم تـُشفَ بعد وذلك بائن من مؤخر رأسك، قلت له الحمد لله أنت أول من يكلمني، قل لي مم أشفى؟ وبعد تردد أردف وهو يصر على أسنانه : هل أنت غريب؟ قلت: نعم عابر سبيل وصلت للمدينة تواً، قال: ألا تسمع شيئا يخترق إذنيك ؟، قلتُ لا، قال ولا ذيل لك خلف رأسك؟ قلتُ لا قال كيف ؟ إن ذلك عجيب، ألاَ زال عندك هادئا ومتزنا؟ قلت ما هو قال : هذا الذي يرن ولو لم أكن في طريقي للشفاء لما استطعت أن أزيح الواقرة قليلا لكي أسمعك، هو يرن الآن ولكن يمكن احتماله، ثم أدار رأسه لي وعرض علي بروزا كالإصبع بنهاية مدببة قائلا بمرح : الحمد لله أيام قلائل ويموت الرنـّان، قلت لم أفهم ! ماهو الرنـّان قال: هو صوت كصوت ناقوس ضخم يخرج من مكانٍ ما فينا ثم يرن في الآذان بقوة، مثل صرير يحفر في الإذن، يصرخُ بصوتٍ لا يُحتمَلُ يخترقُ الآذان ويعبثُ بالدماغ لولا هذه الواقرةِ التي نضعها، وصعّد تنهيدةً عميقة ًقائلا آه لولاها لجننا، قلت له وما قصة تلك الذيول عند البعض؟، قال بعد وضع الواقرات مدة من الزمن يموت فينا االرنان شيئا فشيئا حتى يكتمل ظهور هذا الذيل وكشف لي غطاء رأسه مرة أخرى وبان تحته خلف رأسه ذلك الذيلُ الذي لا زال صغيراً وقال لي بفرح، حال اكتماله سأتخلص من الواقرة وأعود طبيعيا عندما يموت الرنان وينقطع الصوت ثم أردف ليس عيبا أن يكون لك ذيل صغير خلف الرأس كما للجميع هنا ثم أردف: رحم الله المبجل (وروار) هو الذي هدانا للواقرات وعلمنا كيف نصنع ذلك، قلت وهل جربتم أن تستأصلوا هذا الذيل قال في البداية بعضهم فعل وحال استئصاله جُنّ هذا البعض فعدل الناس هنا عن ذلك وتقبلوا الذيل كأمرٍ واقع ولكن كيف هل الجميع هنا كما قلت ؟ قال نعم الجميع،المعلمون والأطباء والتجار والكسبة وباعة الخضار وأرباب الثقافة والشعراء و المبجلون وكل من عليها هنا في هذا البلد كلنا متشابهون إلا السياسيين وكبار القضاة فإن ذيولهم تصل إلى أقدامهم يستعملونها لجلد بعضهم أحياناً لذا نحن نراك غريبا وما حصل أن رأينا أحداً بلا ذيل ولا واقرة إذ كيف يتدبر أمره، هالني ما سمعت من الرجل ورحت أفكر بهذه المدينة التي لم أشاهدها من قبل ولم أكد أخطو بعيدا حتى لفت انتباهي رجلُ يضع كفيه على أذنيه ويصرخ بألم ثم وقع على الرصيف رافسا الأرض بقدميه وكأنه قد أصيب بالصرع، وفيما هو كذلك هرع إليه بعض أولي الذيول في مؤخرات رؤوسهم وقد أسرعوا بوضع الواقرات على أذنيه وسرعان ما استعاد عافيته واتزانه وبدأ الناس ينتبهون لما حولهم ولما شاهدني الرجال المسعفون وتأكدوا من أنني لا أملك ذيلا في مؤخرة رأسي ولا أضع واقرات السمع هجموا علي فركضتُ هاربا منهم وهم ينادونني ويدعونني لتسليم نفسي للسلطات الصحية لإجراء اللازم قائلين سيؤذيك الرنان عندما يستيقظ سيقتلك الرنان وعند ذاك لا تجد من يساعدك أيها الغريب وأثناء ركضي تعثرت ووقعت من فوق الرصيف العالي، وصرخت ومع صرختي تنبهت إلى أنني قد وقعت من فوق سريري وارتطمت جبهتي بحافة الكتاب القاسية فإذا بها تنتفخ متورمة ووجدت نفسي في غرفتي وأمامي التلفزيون الذي كان يتحدث عن جفاف شديد تتعرض له البلاد وإن الجو لم يعد كما كان وإن الأشجار تموت تباعا بفعل فساد الهواء واختناقه بغازات العوادم.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...