لا أجد تفسيراً لطرده من الديوانية حتى هذه اللحظة ؟!
ذلك اليتيم الذي نهره بفظاظة ابن عمه عجيل صديقي القديم دون سببٍ واضح أمامنا مباشرة .. خِطار كثيرون حضروا تلك الوليمة الباذخة التي أقامها والد عجيل بمناسبة حصوله وأفراد أسرته على الجنسية الكويتية أخيراً بعد معاناة طويلة عاشوها كبدون بين ظهرانينا؛ أبوه نحر خمسة قعدان بنفسه دفعةً واحدة في براحة المضخة احتفالاً بالحدث الكبير الذي سيغير مسار حياتهم نحو الأفضل بلا شك بين ليلةٍ وضحاها.
الضيوف يملأون المكان بِغترهم البيضاء, وبِعقلهم السوداء الغليظة المائلة, يباركون مبتسمين وسط فرحة أهل الدار المسرورين.
منظر الفتى الباكي بصمت وهو يخرج مهاناً أشعل في قلبي نيران الفضول؛ لحقته بلا شعور شارداً, محاولاً مسح دمعته الثكلى .. أواسيه, باحثاً عن الحقيقة .. عرفت أن اسمه أحمد وهو ابن عم عجيل المتوفي منذ سنين عدة .. كان في التاسعة من يتمه .. حزنه, ولم يجد مبرراً هو الآخر مثلي لتلك المازوخية البغيضة التي أمعنت بنفوري وإياه من عجيل حيث قررنا ترك منزل عمه مغادرين بكرامة الصغار إلى البقالة القريبة لشراء أي شيء نأكله .. نشربه .. بخردة نقودنا القليلة؛ فقط من أجل أن ينسينا غداءهم المسرف بشراهة في ذل الآخرين من الأقربين والمقربين و.. و ..
دعاني أحمد البدون جنسية إلى بيتهم ونحن في طريق العودة بعد أن تسكعنا بأقدامنا العارية لأكثر من ثلاث ساعات في دواعيس منطقتنا الغارقة بالطين وقتها وحالفاً بأغلظ الإيمان بضرورة تلبيتي لرغبته بقضاء أطول وقت ممتع واللعب معه في حوش منزلهم الواسع الذي يتوسطه فرن تنور والدته الخالة هلالة, والمعروفة بجودة خبزها خاصة حينما تزينه بحبات السمسم وتقدمه بالمجان كهدايا سخية في مواسم الشتاء الباردة إلى جاراتها اللاتي تحب ومن بينهن والدتي التي تثني بِنَهَم على طبخها دائماً شاكرة كرمها المشهود كأرملة عصامية شمالية صابرة ولم تُحنِها الريح يوماً مثل نخلة باسقة.
ولجنا البيت باحثين عن المتعة الصبيانية البريئة ولكن صوت المطربة العراقية وحيدة خليل الحزين والخارج بقوة من المُسَجل الموجود في المطبخ يلفه بمرارة العناد, والصبر .. كلمات أغنيتها المتفطرة ألماً .. دمعاً .. شجناً .. مصحوبة بشيلات يالله .. يالله ..يالله ..
أحزِن حزِن مِعدان وأرجي العصابة
ثم ألزَم العباس وبهالطَلابة
قلبي هَيِم .. قلبي هَمِل ..
لَقابل المِعدان وأشرَب لِبنهم
تِرضون وما تِرضون روحي بِذنهم
يالعَيِروني بيك قوم لهَلَك روح
إنخ العُمومَة وِياك وإترِس شِليلَك
قلبي هَيِم .. قلبي هَمِل ..
لم يكن أحمد ووالداه من أصول عراقية مطلقاً وحسب معرفتي التي استنتجتها حول الموضوع لاحقاً بالتأكيد؛ حيث كان يكرر على مسمعي حينها مفنداً بسبب ودون سبب ومصراً على تذكيري بجذوره الشمالية السعودية بين كل جملة وجملة, ومعدداً لي أسماء أقاربه الكثيرين من الدرجة الثالثة والرابعة والذين ما زالوا يقيمون الآن بمدينة حفر الباطن ويعيشون كمواطنين هناك .. وقد تزوج أبوه أمه في بادية الكويت منذ أكثر من أربعين سنة, كما أن لهجته البدوية تبدو مثل لهجتنا تماماً ولا تخلاطها مفردات دخيلة بالطبع.
يقول أحمد فاتحاً الباب على مصراعيه للحكايا التي تولد بألم شمالاً وجنوباً من رحم الأحزان التي لا تعرف جنسية أو هوية أ و طائفة أو دين أو .. أو :
والدتي مغرمة حد الهوس بهذه الأغنية لتلك الفنانة الريفية واشترت كاسيتاتها من أحد محلات التسجيلات الموجودة بسوق السلاح في المباركية حيث تذكرها بحنين إلى الفترة التي عاشتها بطفولتها المبكرة مرافقة لأخوالها بعد طلاق والدتها والتي قضتها وإياهم كبدو رحل متنقلين بحلالهم وسط ربوع الصحراء المتاخمة لحدود بلادنا الشمالية بين جبل سنام ومدينة صفوان العراقية, وكانت والدتي قد أنهت تعليمها الإبتدائي بإحدى مدارس الزبير للبنات قبل أن ترتبط بوالدي - رحمه الله - والذي كان يكبرها بعقدين كاملين وهي بسن يافعة وصغيرة جداً ربما لا تتجاوز الاثنتي عشرة تقريباً .. لقد كان والدي يعاملها بدلال الأب أكثر من علاقته بها كزوج وهو من يدفع بالنهاية قيمة تلك الأشرطة المغناة للمطربة العراقية وحيدة خليل والتي لا تضم سوى أغنيتها التي تعشقها ( أحزِن حِزِن مِعدان ) ولكن مكررة ومعاد تسجيلها كلما انتهت لتبدأ من جديد مرة بعد مرة, وحتى في آخر أيامه التي شهدت التزاماً دينياً غير معهود من أبي وإقباله على المسجد بحرصٍ شديد لأداء الصلاة بوقتها؛ كان رحمه الله لا يعارضها بشيء تختاره رغم توقفها عن الاستماع للغناء فترة طويلة واستبداله بصوت القرآن الكريم الذي كان ينطلق بأرجاء منزلنا عالياً كعلاج روحي يطرد الشياطين بناءً على نصيحة قيمة من شيخٍ جليل منذ أن وقعت أختي العنود أسيرة حالة نفسية مرضية سيئة كادت تتسبب بإقدامها على محاولة انتحار قاتلة أمامنا جميعاً لولا لطف الله وإنقاذها باللحظات الأخيرة فور طلاقها من زوجها الكويتي قريبنا الذي أخذ طفليها التوأمين المولودين حديثاً, ورفض طلب مشاهدتها لهما إثر خلافٍ عائلي بسيط يحدث بين كل الأسر ناهيك عن حق الحضانة الذي كسبه بحكم المحكمة, ولم نجد المال الكافي للمحامي الذي هددنا صراحة بتخليه عنا في حال عدم توفير المبلغ المتفق عليه حسب العقد المبرم بينه ووالدي الراحل في المدة المحددة.
يضيف أحمد وشهيته مفتوحة للحديث وكأن لا أحد سمعه قبلي يتكلم قط ..
أختي حسنة تستعد للزواج غداً من شخص بدون وهي سعيدة أو تحاول تصنع رسم الابتسامة على وجهها خارجياً بمهارة على الأقل, فهي شاطرة وذكية ومتفوقة بدراستها الثانوية وحصلت على نسبة عالية بالتسعينات وعلمي إلا أن حزنها كبير على عدم قبولها في أي كلية من الكليات ولو حتى الأدبية بجامعة الكويت لأنها فقط من فئة البدون .. فمكتوب عليها أن تعيش بدون وتتزوج من بدون وتنجب أولاداً وبناتاً بدون مثلها ومثله ومثلنا ومثل كثيرين هنا وهناك, فمبروك لها وله ولهم, فلا توثيق لعقد زواج ولا شهادة ميلاد ولا تسجيل بالمدارس, ولا بطاقة هوية, ولا رخصة قيادة، ولا وظيفة, ولا عمل, ولا راتب, ولا مال, ولا طبيب, ولا علاج, ولا مستوصف, ولا مستشفى, ولا حياة, ولا موت!
تكفى طلبتك لا تردني, بكرة عرس أختي, احضر معانا وخلنا نحرس باب الحريم هنيه, ترى كلنا فرحانين .. تكفى قول تم؟!
غادرت وحيداً بسرعة ودموعي الغزيرة تسبقني إلى البيت .. أسأل أهلي عن حِزن المعدان الذي سمعته اليوم, وشاهدته في منزل صديقي الجديد أحمد البدون .. أمي وأبي لا يعرفانه, وجدتي كذلك, وحده جدي يعرف المعدان ولكنه لا يعرف حزنهم .. دلفت غرفتي بتعب الساهر الحيران, أبحث عن إجابة لسؤالي, أجوس حوائطها الميتة بحثاً عن حزن المعدان, أفتش عليه تحت الكمبل في الفِراش, وفوق المخدة .. أرمي بجسدي المثقل بالبكاء وبالألم وبالحزن .. حزني وحزنهم, حزن المعدان, وحزن الجيران وبالحرمان و .. و .. متوسداً الأحلام والكوابيس المتطايرة في كل مكان وزمان, وبكرة العرس .. عروس وعريس, وليلة خميس .. الفرح .. الأمل .. لبست ثياباً ناصعة البياض ، نظيفة وجميلة.. أخرجتها من الكبت لأول مرة؛ كان اشتراها أبي لي من سوق الصباح بالفحيحيل كمستلزمات للعيد القريب .. ولبيت الدعوة وحضرت من أجل عيون صديقي أحمد البدون الباكية, الشاكية, والمتوسلة بشبق البارحة .. ولنحرس الليلة بمرجلة الأولاد باب الحريم جذلين كالمعاريس بعد أن انتقم مسروراً برد اعتباره طارداً ابن عمه عجيل والذي لاذ مدحوراً بصمتٍ مرير أمامنا .. يجر أذيال الخيبة, مطأطأً رأسه الصغيروالحقير .. فيما النساء يرفعن أصواتهن المتعالية بفرحِ كبير داخل الحوش المزدان بإضاءات ملونة لامعة بين الظلام, مرددات بحبور أغنيات فرائحية بدوية جميلة .. وذاكرات أسماء الحاضرات المحتفلات, ومحلقات بوناسة نحو الفضاء البعيد السعيد بألحانٍ لم يعد يشوبها حزن أغنية الخالة هلالة التي كنت قد سمعتها بالأمس .. أحزِن حِزِن مِعدان!
يا غزالٍ بأقصى البيت
خِدتِه مثل الهلال
وإن بايعوني شريت
بالمواشي والحلال
وهلالة والعنود ومنيفة ونشمية.
ذلك اليتيم الذي نهره بفظاظة ابن عمه عجيل صديقي القديم دون سببٍ واضح أمامنا مباشرة .. خِطار كثيرون حضروا تلك الوليمة الباذخة التي أقامها والد عجيل بمناسبة حصوله وأفراد أسرته على الجنسية الكويتية أخيراً بعد معاناة طويلة عاشوها كبدون بين ظهرانينا؛ أبوه نحر خمسة قعدان بنفسه دفعةً واحدة في براحة المضخة احتفالاً بالحدث الكبير الذي سيغير مسار حياتهم نحو الأفضل بلا شك بين ليلةٍ وضحاها.
الضيوف يملأون المكان بِغترهم البيضاء, وبِعقلهم السوداء الغليظة المائلة, يباركون مبتسمين وسط فرحة أهل الدار المسرورين.
منظر الفتى الباكي بصمت وهو يخرج مهاناً أشعل في قلبي نيران الفضول؛ لحقته بلا شعور شارداً, محاولاً مسح دمعته الثكلى .. أواسيه, باحثاً عن الحقيقة .. عرفت أن اسمه أحمد وهو ابن عم عجيل المتوفي منذ سنين عدة .. كان في التاسعة من يتمه .. حزنه, ولم يجد مبرراً هو الآخر مثلي لتلك المازوخية البغيضة التي أمعنت بنفوري وإياه من عجيل حيث قررنا ترك منزل عمه مغادرين بكرامة الصغار إلى البقالة القريبة لشراء أي شيء نأكله .. نشربه .. بخردة نقودنا القليلة؛ فقط من أجل أن ينسينا غداءهم المسرف بشراهة في ذل الآخرين من الأقربين والمقربين و.. و ..
دعاني أحمد البدون جنسية إلى بيتهم ونحن في طريق العودة بعد أن تسكعنا بأقدامنا العارية لأكثر من ثلاث ساعات في دواعيس منطقتنا الغارقة بالطين وقتها وحالفاً بأغلظ الإيمان بضرورة تلبيتي لرغبته بقضاء أطول وقت ممتع واللعب معه في حوش منزلهم الواسع الذي يتوسطه فرن تنور والدته الخالة هلالة, والمعروفة بجودة خبزها خاصة حينما تزينه بحبات السمسم وتقدمه بالمجان كهدايا سخية في مواسم الشتاء الباردة إلى جاراتها اللاتي تحب ومن بينهن والدتي التي تثني بِنَهَم على طبخها دائماً شاكرة كرمها المشهود كأرملة عصامية شمالية صابرة ولم تُحنِها الريح يوماً مثل نخلة باسقة.
ولجنا البيت باحثين عن المتعة الصبيانية البريئة ولكن صوت المطربة العراقية وحيدة خليل الحزين والخارج بقوة من المُسَجل الموجود في المطبخ يلفه بمرارة العناد, والصبر .. كلمات أغنيتها المتفطرة ألماً .. دمعاً .. شجناً .. مصحوبة بشيلات يالله .. يالله ..يالله ..
أحزِن حزِن مِعدان وأرجي العصابة
ثم ألزَم العباس وبهالطَلابة
قلبي هَيِم .. قلبي هَمِل ..
لَقابل المِعدان وأشرَب لِبنهم
تِرضون وما تِرضون روحي بِذنهم
يالعَيِروني بيك قوم لهَلَك روح
إنخ العُمومَة وِياك وإترِس شِليلَك
قلبي هَيِم .. قلبي هَمِل ..
لم يكن أحمد ووالداه من أصول عراقية مطلقاً وحسب معرفتي التي استنتجتها حول الموضوع لاحقاً بالتأكيد؛ حيث كان يكرر على مسمعي حينها مفنداً بسبب ودون سبب ومصراً على تذكيري بجذوره الشمالية السعودية بين كل جملة وجملة, ومعدداً لي أسماء أقاربه الكثيرين من الدرجة الثالثة والرابعة والذين ما زالوا يقيمون الآن بمدينة حفر الباطن ويعيشون كمواطنين هناك .. وقد تزوج أبوه أمه في بادية الكويت منذ أكثر من أربعين سنة, كما أن لهجته البدوية تبدو مثل لهجتنا تماماً ولا تخلاطها مفردات دخيلة بالطبع.
يقول أحمد فاتحاً الباب على مصراعيه للحكايا التي تولد بألم شمالاً وجنوباً من رحم الأحزان التي لا تعرف جنسية أو هوية أ و طائفة أو دين أو .. أو :
والدتي مغرمة حد الهوس بهذه الأغنية لتلك الفنانة الريفية واشترت كاسيتاتها من أحد محلات التسجيلات الموجودة بسوق السلاح في المباركية حيث تذكرها بحنين إلى الفترة التي عاشتها بطفولتها المبكرة مرافقة لأخوالها بعد طلاق والدتها والتي قضتها وإياهم كبدو رحل متنقلين بحلالهم وسط ربوع الصحراء المتاخمة لحدود بلادنا الشمالية بين جبل سنام ومدينة صفوان العراقية, وكانت والدتي قد أنهت تعليمها الإبتدائي بإحدى مدارس الزبير للبنات قبل أن ترتبط بوالدي - رحمه الله - والذي كان يكبرها بعقدين كاملين وهي بسن يافعة وصغيرة جداً ربما لا تتجاوز الاثنتي عشرة تقريباً .. لقد كان والدي يعاملها بدلال الأب أكثر من علاقته بها كزوج وهو من يدفع بالنهاية قيمة تلك الأشرطة المغناة للمطربة العراقية وحيدة خليل والتي لا تضم سوى أغنيتها التي تعشقها ( أحزِن حِزِن مِعدان ) ولكن مكررة ومعاد تسجيلها كلما انتهت لتبدأ من جديد مرة بعد مرة, وحتى في آخر أيامه التي شهدت التزاماً دينياً غير معهود من أبي وإقباله على المسجد بحرصٍ شديد لأداء الصلاة بوقتها؛ كان رحمه الله لا يعارضها بشيء تختاره رغم توقفها عن الاستماع للغناء فترة طويلة واستبداله بصوت القرآن الكريم الذي كان ينطلق بأرجاء منزلنا عالياً كعلاج روحي يطرد الشياطين بناءً على نصيحة قيمة من شيخٍ جليل منذ أن وقعت أختي العنود أسيرة حالة نفسية مرضية سيئة كادت تتسبب بإقدامها على محاولة انتحار قاتلة أمامنا جميعاً لولا لطف الله وإنقاذها باللحظات الأخيرة فور طلاقها من زوجها الكويتي قريبنا الذي أخذ طفليها التوأمين المولودين حديثاً, ورفض طلب مشاهدتها لهما إثر خلافٍ عائلي بسيط يحدث بين كل الأسر ناهيك عن حق الحضانة الذي كسبه بحكم المحكمة, ولم نجد المال الكافي للمحامي الذي هددنا صراحة بتخليه عنا في حال عدم توفير المبلغ المتفق عليه حسب العقد المبرم بينه ووالدي الراحل في المدة المحددة.
يضيف أحمد وشهيته مفتوحة للحديث وكأن لا أحد سمعه قبلي يتكلم قط ..
أختي حسنة تستعد للزواج غداً من شخص بدون وهي سعيدة أو تحاول تصنع رسم الابتسامة على وجهها خارجياً بمهارة على الأقل, فهي شاطرة وذكية ومتفوقة بدراستها الثانوية وحصلت على نسبة عالية بالتسعينات وعلمي إلا أن حزنها كبير على عدم قبولها في أي كلية من الكليات ولو حتى الأدبية بجامعة الكويت لأنها فقط من فئة البدون .. فمكتوب عليها أن تعيش بدون وتتزوج من بدون وتنجب أولاداً وبناتاً بدون مثلها ومثله ومثلنا ومثل كثيرين هنا وهناك, فمبروك لها وله ولهم, فلا توثيق لعقد زواج ولا شهادة ميلاد ولا تسجيل بالمدارس, ولا بطاقة هوية, ولا رخصة قيادة، ولا وظيفة, ولا عمل, ولا راتب, ولا مال, ولا طبيب, ولا علاج, ولا مستوصف, ولا مستشفى, ولا حياة, ولا موت!
تكفى طلبتك لا تردني, بكرة عرس أختي, احضر معانا وخلنا نحرس باب الحريم هنيه, ترى كلنا فرحانين .. تكفى قول تم؟!
غادرت وحيداً بسرعة ودموعي الغزيرة تسبقني إلى البيت .. أسأل أهلي عن حِزن المعدان الذي سمعته اليوم, وشاهدته في منزل صديقي الجديد أحمد البدون .. أمي وأبي لا يعرفانه, وجدتي كذلك, وحده جدي يعرف المعدان ولكنه لا يعرف حزنهم .. دلفت غرفتي بتعب الساهر الحيران, أبحث عن إجابة لسؤالي, أجوس حوائطها الميتة بحثاً عن حزن المعدان, أفتش عليه تحت الكمبل في الفِراش, وفوق المخدة .. أرمي بجسدي المثقل بالبكاء وبالألم وبالحزن .. حزني وحزنهم, حزن المعدان, وحزن الجيران وبالحرمان و .. و .. متوسداً الأحلام والكوابيس المتطايرة في كل مكان وزمان, وبكرة العرس .. عروس وعريس, وليلة خميس .. الفرح .. الأمل .. لبست ثياباً ناصعة البياض ، نظيفة وجميلة.. أخرجتها من الكبت لأول مرة؛ كان اشتراها أبي لي من سوق الصباح بالفحيحيل كمستلزمات للعيد القريب .. ولبيت الدعوة وحضرت من أجل عيون صديقي أحمد البدون الباكية, الشاكية, والمتوسلة بشبق البارحة .. ولنحرس الليلة بمرجلة الأولاد باب الحريم جذلين كالمعاريس بعد أن انتقم مسروراً برد اعتباره طارداً ابن عمه عجيل والذي لاذ مدحوراً بصمتٍ مرير أمامنا .. يجر أذيال الخيبة, مطأطأً رأسه الصغيروالحقير .. فيما النساء يرفعن أصواتهن المتعالية بفرحِ كبير داخل الحوش المزدان بإضاءات ملونة لامعة بين الظلام, مرددات بحبور أغنيات فرائحية بدوية جميلة .. وذاكرات أسماء الحاضرات المحتفلات, ومحلقات بوناسة نحو الفضاء البعيد السعيد بألحانٍ لم يعد يشوبها حزن أغنية الخالة هلالة التي كنت قد سمعتها بالأمس .. أحزِن حِزِن مِعدان!
يا غزالٍ بأقصى البيت
خِدتِه مثل الهلال
وإن بايعوني شريت
بالمواشي والحلال
وهلالة والعنود ومنيفة ونشمية.