منذ تلك الحادثة، غدت يارا فتاة مختلفة، تغدق على قلبها ألوانا من القسوة لم تألفها هي ولم يعتدها قلبها، تنبعث من روحها أنفاس اليأس، وتسّاقط من فؤادها وريقات الفرح. هي تفرد وقتها كلّه، اليوم، تتصفّح ذكريات للحظات كانت رديفا للحياة، فتبتسم أحيانا وتملأ الدّمعات حرّى مقلتيها أخرى. التقته ذات صدفة. ليلتها، ركظت متّجهة صوب حاسوبها تتصفّح ما كتبه أصدقاؤها على الفيسبوك من شعراء وفنانين لا يعرفونها ولكنّهم عرفوا الطريق إلى ذائقتها المسكونة بعشق الفنون على اختلافها. وحينها، وردتها رسالة من صديق أضافته حديثا:”أحبّك”. ارتبكت في البداية ثمّ شعرت بموجة غضب تكتنفها وكان ذلك شأنها حينما يحاول أحدهم التّعبير عن شعور خاصّ تجاهها. وشرعت فعلا في كتابة رسالة تأنيب لهذا الذي لا تعرف عنه شيئا سوى أنّه عازف كمان عراقي لا غير. بيد أنّ الشّاب اعتذر في الإبّان وقال إنّه كان يوجّه رسالته إلى أخته المسافرة منذ زمن. في تلك اللحظة، لم تدر يارا هل إنّ الذي أمسى يغضبها رسالة الحبّ المقتضبة أم كلمات الاعتذار. بعضهم يظلّون السنين الطّوال يلقون على مسامع القلب كلمات الهوى إلاّ أنّ الفؤاد يبقى أصمّ. وبعضهم، كلمة واحدة منهم كافية لتستحيل رصاصة الرّحمة تخترق جدار القلب وتستقرّ هناك تشيّد لها قصورا. قبلت اعتذاره في لطف شديد، وكان شيء مّا في قلبها يرفض بتعنّت أن ينتهي الحديث بينهما بهذه الطّريقة. ظلّت دقائق تتصفّح صوره، وتمعن فيها النّظر. آآه!!!!! كلّ ما فيه يأسرها، أسرّت إلى نفسها. وإذ به يبعث برسالة أخرى:” أنت ذات جمال استثنائي، ساحر، يا غجريّة!!!!” ثمّ قال لها في لهجته العراقيّة الجميلة:” فديتك أنا، واعذريني إذا كنت قد أزعجتك”. لم تدر بم تجيبه، وبقيت تسائل نفسها:” هل يتوجّب عليها الآن أن تتجاهل كلماته القليلة التي قدّت من فتنة؟ أم هل عليها أن تفصح عمّا سكن قلبها منذ تصفّحت صوره.؟؟ لم هي حائرة وخجلة هكذا؟؟” البعض وجودهم كاف ليعصف بقلوبنا المكابرة ويشعل فيها نوعا من الحرائق لم تألفه. قرّرت ألاّ تجيبه وقتها. وأغلقت، على عجل، حاسوبها وأسرعت إلى سريرها. قرأت قصار سور القرآن الكريم علّ النّوم يجد سبيله إليها. بيد أنّ قلبها ظلّ يردّد تلك الكلمات القليلة التي أغدقها ذاك الغريب عليها. هل أخطات لأنّها كانت تشيّد الأسوار تحوط بها قلبها من عبث الرّجال؟؟؟ أتراها لم تنبته إلى روحها الظّمأى لكلمات الحبّ؟ كانت يارا تقول دوما إنّها تؤمن بالحبّ بله تقدّسه غير أنّها لا تؤمن بالرّجل العربيّ، ذاك الذي لا يرى في المرأة سوى جسد يصبّ عليه جام رغباته ثمّ ما يلبث أن يشيح عنها ويتجاهله بعد أن يشبع نهم ذلك الوحش الذي يسكنه عندما تستبدّ به الغريزة . وكانت ترى أنّ أغلب الزّيجات إنّما هي اغتصاب فضيع لروح المرأة وإزهاق مقيت لجسدها وهو لا يعدو أن يكون محض رياء اجتماعي. وكانت دائما تقول ضاحكة:” سامحك الله يا جبران!هههه كنت دوما أستاذي الأثير الذي جعلني فخورة بأنوثتي أقارع بها صلف الذّكورة وكبرياءها الزّائف، ضنينة بها على من تقتله الرّغبة في افتراش جسدي وهو لا يدري أنّ الجسد- الجثّة لا يمنح دفء حقيقيّا والرّوح باردة ميّتة قد أفناها وهو يقبل عليها بأنانيّة ذكوريّة مقيتة. ” طالت نجواها لنفسها، وهي تصارع رغبة صبيانيّة في فتح حاسوبها من جديد. وسرعان ما تهاوت مقاومتها، فأصغت إلى وشوشة القلب وهمسه.” آسف ربّما أكون قد أزعجتك” كانت هذه كلماته التي بعثها إليها. ومن دون أن تفكّر، أرسلت إليه تخبره بأنّه أبدا لم يزعجها وبأنّ كلماته لا تضاهيها في الجمال كما العذوبة والرّقّة أيّ كلمات. فأجابها :”تسلمي يا عمري! فديت روحك الحلوة أنا” منذ تلك الليلة اشتعلت حرائق العشق في قلبها لذلك الذي كان منذ ساعات غريبا واستحال بسحر الكلمة وفتنة الجسد رفيقا للرّوح. صارت يارا تقضي نهارها في العمل وحلم جميل يطبع كلّ لحظاتها. لاحظ الجميع شرود نظرتها تناجي طيفه، ابتسامتها التي تلوح على ثغرها كلّما أزهرت في روحها ذكراه. فتسرّ إلى بعض صديقاتها المقرّبات بأنّها أصبحت الآن فقط على قيد الفرح والأمل والحياة. تعود يارا إلى بيتها الصّغير، فتقاسمها فرحتها كلّ أركانه، تصيخ إلى أغاني السيدة وردة وعبد الحليم في انتظار موعد لقائها اليوميّ به. البعض وحدهم أهل للحظات الجنون و”مجد” كان سيّد الجنون وحينما يطلّ من بين كلماته تستقلّ حروفه غيمة تسكب على قلبها مطر الأمل في حياة لطالما نسجت مخيّلتها صورتها. فاجأها ذات يوم يطلب رقم هاتفها فلم تمانع. وأرسل إليها:” تهفو روحي إلى سماع صوتك فاغفري لنفسي طيشها ونزقها وعنفوان الحلم فيها”. ظلّت دقائق تدور في أرجاء الغرفة وجسدها ينتفض فرحا وخجلا ووجلا من أن يخذلها صوتها. قال لها” أهلين هلا والله كيفك شخبارك ترى إذا أكلّمك عراقي ما راح تفتهمين عليّ ولا شيء” . أجابته والكلمات تختنق في حلقها:” الحمد لله لاباس” . ضحك وقد استشعر نبرة الخجل في صوتها” لاباس ههههه صوتك أعذب من همس كماني يا قلب قلبي”. لم يخذلها صوته ولا صوتها وكلف كلاهما بالآخر أكثر. وبعدها بأيّام قلائل أخبرها بأنّها ليلتها سوف تلبّي رغبته بأن يراها حتّى يزرع صورتها على أديم الروح وبوح الكمان. خفّت إلى فستانها الأسود الذي اقتنته من قبل، غير أنّها لم تجرؤ على ارتدائه لأنّها كانت تأبى أن يستيقظ فيها صوت الأنثى أو أن توقظ في الذّكور رغباتهم التي تأنف أن تكون ضحيّة مسكينة لنظراتها المفترسة. لبست فستانها الأسود القصير، وأرخت شعرها على كتفيها يداعب أجفان الشّوق لديها. وعند الثّالثة صباحا كان موعدها معه. قال لها وهو يقرأ وجهها المغمور بمسحة خجل لا يخطئها قلبه المفتون بها:” اااه خطيرة أنت يا “يارا” كم من الجمال حجبت عن ناظريّ كلّ هذا الوقت يا مشاكسة هههههه”. أمّا هي فظلّت تتأمّل جسده الباسق مثل نخيل العراق،غير أنّها ما فتئت تتأمّل في نهم عينية المشربتين بمسحة شجن عميقة تحاكي وجع وطنه. وودّت لحظتها لو كان الحاسوب أرحم بقلبيهما فمحا كلّ المسافات التي تفصل خفقة قلبه عن نبض قلبها، وتمنّت للحظة أن تقبل على جبينه تقبّله وتقتنص من تغره قبلة تختصر عشقا وتكفيها زادا لحلم بأسره. اتّفق كلاهما على أن يكون الياسمين رمزا لعشقهما. وقد حنا كلاهما على هذه الشّجيرة يسقيها بنبع صافع من الحبّ الصّادق الذي خلا من ألوان الزّيف والطّمع والخديعة، حتّى أنّها نسيت أن تسأله عن ظروف حياته وهو في بلد قلّما صافح الفرح أو عرف الأمان سبيله إليه. وأخلف وعده “مجد” يومها. وظلّت تبعث له الرّسالة تلو الرّسالة وهو صامت لا يفترّ ثغره عن حرف ولا يهمس بكلمة. عيل صبرها، واختنق قلبها بالهواجس. إلى أن حلّ ذلك اليوم الذي قرأت فيه على صفحته أنّ حبيبها قد توفّي بعد صراع مرير مع مرض ألمّ به جرّاء تلوّث المياه بما أهدته الحروب لبلاده من صنوف القنابل والأسلحة الغبيّة. لم يصدّق قلبها النّبأ وهل يصدّق قلب العاشق هكذا خبر؟!!! أسرعت إلى الهاتف وانتظرت أن يجيبها :”هلا والله بحبّي”، بيد أنّ من أجابها كانت أخته التي تلت على مدامع القلب نعي حبّ ورفيق وصانع حلم لمّا يكتمل. ما الفرح سوى تلك اللّحظات التي كانت تقتسمها بعدالة الحبّ مع “مجد”. ما الحياة غير أنّات الشّوق وهي تنصت من بعيد إلى جسده المشوق حبّا إلى احتضان جسدها ينثر على خريطته كلمات تتوّج أنوثتها فخرا. ورحل “مجد” وظلّت هي تحنو على الذّكرى تسقيها حتّى لا تذبل مع عصف الأيّام، ولا صوت يعلو في قلبها على وشوشات كمانه وهو يعزف على أوتار قلبها المشدودة إلى ذاك الذي يتأبّطه. هي تذكر يوما أنّها قالت له إنّها تغار من الكمان لأنّه يحتضنه بكلّ ذلك الرّفق والولع بينما نصيبها منه بضع كلمات مكلومة موجوعة. رحل “مجد” وبعض الرّاحلين مثله يأخذون معهم حينما يغادرون نسغ الحياة وبراعم فرح يزعم انّه قد يأتي ولا يفعل .
* نقلا عن موقع الجسرة
* نقلا عن موقع الجسرة