يضم التراث القومي العربي عنصرين أساسيين متكاملين لا يغني أحدهما عن الآخر: التراث المادي ممثلا في المساجد والقلاع والحصون والمدارس والمشافي والأسبلة، وغيرها من المقتنيات الفنية ويبقى شاهدا ملموسا على منجزات الحضارة العربية، وما أسهمت به في مختلف العصور الإسلامية في تقدم الحضارة الإنسانية.
ويتمثل العنصر الثاني في التراث الثقافي الذي أبدعه أسلافنا، درسا أو تأليفا، في مجالات الفكر والعلم والأدب، وتحمله آلاف المخطوطات العربية القابعة في المكتبات، على امتداد العالم؛طبعت أو لما تزل مخطوطة، في مكتبات عامة، معروفة ومفهرسة، أو في مكتبات خاصة، نعرف الكثير منها، ولكننا نجهل الكثير أيضا.وهذا التراث المادي، وربما كانت حاجته إلى هذه أكثر، لأنه أكثر تعرضا للتلف والهلاك والضياع.
في التراث العربي المكتوب تتجلى حضارتنا واضحة، هذه التي تضرب بجذورها في أعماق التاريخ، كانت في البدء حضارات شتى، ثم انصهرت جميعها، عبر القرون، في الحضارة الإسلامية، التي جمعت شمل هذه الأمة وجنبتها الفرقة والضياع.
وفي هذا التراث تلتقي القضية المثارة الآن: الأصالة والمعاصرة بشقيها.
فالوجه الأول: وهو الأصالة، يتمثل جليا واضحا في تراثنا المكتوب، ونملك منه قدرا هائلا استقر في عشرات الآلاف من المخطوطات، موزعة في حواضر المدن الإسلامية كلها، لا نستثنى منها مدينة كبيرة، رغم ما اندثر من هذه المخطوطات نتيجة الفتن والاضطرابات والحروب، خلال الغزوين المغولي والصليبي، وما أحدثاه من تدمير في مكتبات العراق والشام، وما سببته الفتن خلال عصر الطوائف في الأندلس، أو ما أحرقه الإسبان غداة انتصارهم النهائي في نهاية القرن الخامس عشر الميلادي إلى جانب ما سرق أو نهب من أعداد ضخمة، وانتهى به المطاف في المكتبات والمتاحف الأوربية بخاصة.
وأما المعاصرة، وهي الوجه الثاني، فتتمثل في أننا يجب أن نصل إلى هذا التراث الضخم بكل ما استجد في عصرنا الحديث من أجهزة ومناهج، تصويرا وبحثا وتحقيقا ونشرا، حتى نزيل عنها غبار النسيان، ونردها إلى صورتها الأصيلة، ونجعل منها موضعا للدراسة الجادة، فتصبح جسرا إلى الحاضر، وتربط بين ماض مجيد، ومستقبل نأمل أن يكون زاهرا، وتصبح سجلا للتطور الفكري والثقافي وحصاد مئات السنين من المعرفة الجادة المتعمقة، وأن نبعث الحياة في القوة الكامنة فيها، لتكون لنا مرشدا وهاديا.
أول ما يجب أن يسترعى اهتمامنا في المخطوطات التي نملكها، عامة وخاصة، أنها في حاجة قصوى إلى مزيد من الصيانة والحفظ السليم، وأن يرمم علميا ما وهن منها، لأن المخطوطات حساسة بطبيعتها، ويؤثر عليها مرور الأيام تأثيرا سيئا فيعرضها للتلف، ولعوامل ضارة متعددة، تعمل منفردة أو مجتمعة، وتربط بالتفاعلات التي تحدث بين مادة المخطوطات والبيئة المحيطة بها، ويبدو ذلك واضحا حين تكون ظروف تخزينها أو عرضها غير ملائمة لطبيعتها، كعدم توفر درجة الحرارة الصالحة للحفظ، وعدم التحكم في الرطوبة والإضاءة غير المناسبة، وعدم تجديد الهواء، وتحليل الغازات، وكلها تترك أثرها في مادة المخطوط نفسه فتظهر فيه البقع، وتتحلل الأحبار.
وقد يتعرض المخطوط لعوامل حيوية شديدة الخطر، تنجم عن تأثير الجراثيم والفطريات والحشرات.وكل هذه العوامل أوجد لها العلم الحديث علاجا، ووسائل مقاومة، علينا أن نتابعها في مصادرها، وأن نأخذ بها.
وهناك عوامل وليدة الإهمال والتقصير في التناول والعرض، والتعامل مع المخطوطات، يمكن القضاء عليها أو التخفيف منها، بتنمية الوعي بأهمية المخطوط وضرورة المحافظة عليه.
إن ترميم المخطوطات عندنا لا يزال يجرى بطريقة قديمة، على حين أن هذا الجانب العملي المهم تقدم كثيرا عند غيرنا، فهو عندهم يرعى طبيعة المخطوط ونوعيته، وخصائص الحالة المطلوب ترميمها، وتوفير معالجة خاصة للمخطوطات المزخرفة والمذهبة وذات التصاوير الملونة، ويحرص على ألا يمس الترميم خصائص المخطوط.وهو أمر لن نتوصل إليه إلا عن طريق توفير الخبراء المتميزين، من ذوي الخبرة الواسعة، والتجربة التطبيقية، وإيفاد العاملين في هذا المجال في بعثات لتلقى الدراسات العلمية الحديثة، والتدريب العملي المثمر، إلى جانب إقامة معامل حديثة، تستخدم طرائق التكنولوجيا المتقدمة.
ذلك فيما يتصل بالحفظ والصون والرعاية، وهي خطوة أولى يجب أن تتبعها خطوات:
الأولى: الحاجة إلى التسجيل والفهرسة لما عندنا على نحو عصري، لن ما نملكه من مخطوطات أكثر، دون تسجيل علمي أو فهرسة أو جدولة أو تصنيف يسمح بالتعرف عليه والتعامل معه، وبهذا نيسر للعلماء البحث في محتويات هذه المخطوطات أو تحقيقها، والقليل المفهرس يتم بطريقة لما تستخدم أجهزة المعلومات المتطورة في الرصد والوصف والإعارة وتقديم المعلومة، إلا في بعض المكتبات الحديثة جدا، والتي لا تتضمن شيئا يذكر من المخطوطات.
وبهذه المناسبة أذكر بأن القوانين الدولية، والاتفاقيات العلمية، كاتفاقية منظمة اليونسكو لعام 1970تشترط لاسترداد التراث المنهوب أن يكون مسجلا في وطنه تسجيلا يوضح معالمه، ليكون بمنزلة مستند قائم بملكية التراث المنهوب أو المهرب، ومن ثم يجب فهرسة كافة المخطوطات العربية عامة وخاصة، فهرسة تعتمد على التكنولوجيا الحديثة، تسمح عند الحاجة بتقديم بيانات كاملة عن المخطوطات، تشمل اسم مؤلف المخطوط واسم ناسخه، وعنوان المخطوط واللغة المستخدمة، وأسلوب الخط، ونوع الحبر، وطريقة المسطرة وكيفية الاستهلال والخاتمة، وتاريخ النسخ إن وجد، بجانب الأوصاف الأخرى التي يلزم تسجيلها والتعريف بها.
الثانية: تطوير الاهتمام بالمخطوط، فالطريقة المتبعة عندنا تكاد تنحصر في تصويرها على الميكروفيلم مقاس 35م. في نسخ سلبية أو موجبة، يستخدمها الباحثون مستعينين بآلات قراءة المصغرات، وبما أن الأفلام لها عمر افتراضي محدود، وتحتاج إلى الحفظ في درجات حرارة ورطوبة ملائمة، وإلى رعاية خاصة عند تداولها والتعامل معها، فقد أدى ذلك إلى فساد وتلف الكثير من هذه الأفلام، التي لا تتوافر الآن إلا في أماكن محدودة، لأن معظم المكتبات التي لديها مخطوطات ليس لديها نسخ لها سلبية أو موجبة.
وأطمح أن نصل إلى طريقة الأقراص المليزرة وغيرها من الطرق المشابهة، والتي تسمح لنا بالتعرف على المخطوط على أكمل وجه، ولا تحتاج إلى أماكن متسعة للحفظ، ويمكن أن تستخدم بدل المخطوطة الأصلية عند الدراسة والتحقيق، مما يحفظها من التلف.
الثالثة: تصوير المخطوطات الموجودة في مكتبات العالم عن طريق رسمي، وتيسير سبل الحصول عليها للباحث العربي، لأن وصول الباحثين العرب إليها بصفتهم الشخصية فوق طاقتهم أحيانا ومرهق أحيانا أخرى، ومستحيل في بعض الحالات، على أن تتضمن المعاهدات الثقافية المتبادلة بين البلاد العربية والدول الأجنبية المختلفة مواد تنص على تيسير هذا التبادل.ولا أود أن أفيض في الحديث عن مخطوطاتنا الموزعة عبر جهات الدنيا الأربع، ويكفي أن أشير إلى أن مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي التي أنشأها في لندن الأستاذ أحمد زكى يماني قامت بعمل مسح شامل للفهارس التي عرضت للمخطوط الإسلامي، المكتوب بالحرف العربي، منشورا وغير منشور، قام على تصنيفه جماعة من العلماء العارفين، ظهر منه، جزءان كبيران، تضمنا وصفا لفهارس هذه المخطوطات في ست وستين دولة، ثم قال الناشرون إن وصف فهارس ليبيا وموريتانيا والفلبين، سوف يتضمنه الجزء الثالث.
الرابعة: هناك مسئولية كبرى تجاه ما وصلنا من مخطوطات لا تقل أهمية عن صيانتها والترجمة لها وتصويرها، وهي العمل على تحقيق هذه المخطوطات ونشرها، لأن ذلك هو الثمرة الحقيقة لكل ما سبق.ويقتضى ذلك توفير المتخصص القادر الكفء، عن طريق إعداد كوادر متمرسة متمكنة من العلوم المتخصصة المرتبطة بالتحقيق، كعلم الخطوط القديمة، وأشكال الخطوط العربية وهي كثير، وبعضها معقد فنيا، ومعرفة تاريخها، والتمكن من الثقافة العربية والحضارة الإسلامية، والوعي بطريقة صناعة المخطوطات في العصور المختلفة، والبيئات المتنوعة، والإلمام بعصر المؤلف سياسيا واجتماعيا وثقافيا، وبسيرته الذاتية، حياتيا وفكريا، وبلغة العصر وأسلوب المؤلف، وأن يكون المحقق قادرا على تقديم المخطوط وتصنيف مادته، وإضافة ما يحتاجه المخطوط من علامات وترقيم، وضبط الأسماء والمصطلحات، والتعريف بالأعلام الواردة فيه، وشرح الألفاظ الغريبة، أو ذات الدلالات الخاصة في الهامش.وكل ذلك يتطلب مواهب خاصة وقدرات عالية، ومعرفة واسعة، وتدريبا خاصا، وتفانيا مخلصا.
ويدخل في هذا النطاق أن تهتم الجامعات بأمر المخطوطات في الدراسات العليا، تعريفا وبحثا وتحقيقا، وأن تشجع وزارات الثقافة، أو من يتولى أمرها، على عقد المؤتمرات والحلقات الدراسية، والندوات التدريبية المتعلقة بها، وأن تجعل هذه الكتب المحققة في تناول الراغبين من القراء تواجدا وأسعارا، وأن تعيد طباعة ما حقق ونفدت طباعته.وأن تستصدر كل دولة عربية من القوانين ما يحمى تراثها الثقافي، بما فيه المخطوطات، وهو ما تضمنه في مصر القانون رقم 117 لسنه 1983، الخاص بحماية الآثار، إذ نصت المادة الأولى منه على ما يلي:
"يعتبر أثرا كل عقار أو منقول أنتجته الحضارات المختلفة، أو أحدثته الفنون والعلوم والآداب والأديان من عصر ما قبل التاريخ، وخلال العصور التاريخية المتعاقبة، حتى ما قبل مئة عام، متى كان له قيمة أو أهمية أثرية أو تاريخية باعتباره مظهرا من مظاهر الحضارات المختلفة التي قامت على أرض مصر، أو كانت لها صلة تاريخية بها". وتنص المادة 41 من هذا القانون على معاقبة من يقوم على تهريب أثر إلى خارج الجمهورية، أو كمشترك في ذلك بالأشغال الشاقة المؤقتة وبغرامة لا تقل عن خمسة آلاف جنية، ولا تزيد على خمسين ألف جنيه. كما تعاقب المادة 42 من ذلك القانون بالسجن مدة لا تقل عن خمس سنوات ولا تزيد على سبع سنوات، وبغرامة لا تقل عن ثلاثة آلاف جنيه، ولا تزيد على خمسين ألف جنيه على كل من سرق أثرا أو جزءا من أثر مملوك للدولة، أو قام بإخفائه، أو اشترك في شيء من ذلك. ويحكم في المادتين السابقتين بمصادرة الأثر محل الجريمة، وكذلك الأجهزة والأدوات والآلات والسيارات المستخدمة في الجريمة لصالح الهيئة.
وتبقى الخطوة الأخيرة:
نحن أمة واحدة، ذات حكومات متعددة، تملك تراثا واحدا، ومن ثم يتطلب الأمر قيام جهة واحدة على مستوى العالم العربي كله تنسق وتوجه وتعاون، ومعهد المخطوطات العربية في جامعة الدول العربية أهل لهذه الرسالة، وأنشئ لهذا الغرض.
لقد أصدرت جامعة الدول العربية قرارا بإنشاء المعهد في 4 إبريل 1946، وأن تكون مهمته جمع فهارس المخطوطات العربية، وتوحيدها في فهرس عام للمحافظة عليها، كما قرر مجلس الجامعة في عام 1955 توصية الحكومات العربية بتسجيل ما لديها من مخطوطات تسجيلا علميا دقيقا وشاملا، مع وضع فهرس شامل لجميع مصادر التراث العربي والإسلامي، واضطلع بتصوير كثير من المخطوطات العربية التي في كثير من المكتبات الأوروبية والعربية، وكانت مجلته نافذة مضيئة وهادية على حركة المخطوطات العربية في العالم كله، عربيا وأجنبيا، وأدى مهمته في كفاءة عالية، بالقدر الذي سمحت به إمكاناته وحداثة عمره، وكان الأمل فيه كبيرا.
ولكن الأحداث السياسية التي لفت حياة الأمة العربية في الثلاثين عاما الأخيرة، وشغلت جامعة الدول العربية نفسها حينا، وأدت إلى اختلاف الرأي أحيانا، ألقت بظلها على حركة المعهد، في وقت يشهد فيه العالم تفجر المعرفة، وتقدم التكنولوجيا المذهل، فلم يستطع اللحاق بكل ذلك، لم ييأس ولم يتوقف، ولكن حركته أبطأت في وقت كان يجب فيه أن تسرع، في عالم يلهث وثبا إلى الأمام، وأن توظف الآلة التي تختصر الزمن.
والآن، نحن نحتفل باليوبيل الذهبي للمعهد، أملنا كبير في أن يتجاوز الحاضر إلى مستقبل أرحب وأزهر، فيؤكد بدوره ورسالته وحدتنا الثقافية، التي هي طريقنا إلى توحيد الوجدان العربي، وحين يتحقق وجداننا تتحقق وحدتنا الشاملة، تحت أية راية قانونية كانت.
والدعوة موجهة إلى كل مؤسساتنا الرسمية والشعبية، محليا وقوميا، أن تبذل كل ما في وسعها لدعم المهد بمختلف الوسائل المادية والأدبية، وننتهز الفرصة لنذكر بالشكر والتقدير والعرفان صفوة العلماء العرب الذين عملوا في المعهد جنودا مجهولين على امتداد نصف قرن من الزمان منذ إنشائه، حتى يومنا، وخلفهم الذي يضطلع بالرسالة نفسها، وأن يكتب الله لهم التوفيق في مهمتهم السامية النبيلة.
ويتمثل العنصر الثاني في التراث الثقافي الذي أبدعه أسلافنا، درسا أو تأليفا، في مجالات الفكر والعلم والأدب، وتحمله آلاف المخطوطات العربية القابعة في المكتبات، على امتداد العالم؛طبعت أو لما تزل مخطوطة، في مكتبات عامة، معروفة ومفهرسة، أو في مكتبات خاصة، نعرف الكثير منها، ولكننا نجهل الكثير أيضا.وهذا التراث المادي، وربما كانت حاجته إلى هذه أكثر، لأنه أكثر تعرضا للتلف والهلاك والضياع.
في التراث العربي المكتوب تتجلى حضارتنا واضحة، هذه التي تضرب بجذورها في أعماق التاريخ، كانت في البدء حضارات شتى، ثم انصهرت جميعها، عبر القرون، في الحضارة الإسلامية، التي جمعت شمل هذه الأمة وجنبتها الفرقة والضياع.
وفي هذا التراث تلتقي القضية المثارة الآن: الأصالة والمعاصرة بشقيها.
فالوجه الأول: وهو الأصالة، يتمثل جليا واضحا في تراثنا المكتوب، ونملك منه قدرا هائلا استقر في عشرات الآلاف من المخطوطات، موزعة في حواضر المدن الإسلامية كلها، لا نستثنى منها مدينة كبيرة، رغم ما اندثر من هذه المخطوطات نتيجة الفتن والاضطرابات والحروب، خلال الغزوين المغولي والصليبي، وما أحدثاه من تدمير في مكتبات العراق والشام، وما سببته الفتن خلال عصر الطوائف في الأندلس، أو ما أحرقه الإسبان غداة انتصارهم النهائي في نهاية القرن الخامس عشر الميلادي إلى جانب ما سرق أو نهب من أعداد ضخمة، وانتهى به المطاف في المكتبات والمتاحف الأوربية بخاصة.
وأما المعاصرة، وهي الوجه الثاني، فتتمثل في أننا يجب أن نصل إلى هذا التراث الضخم بكل ما استجد في عصرنا الحديث من أجهزة ومناهج، تصويرا وبحثا وتحقيقا ونشرا، حتى نزيل عنها غبار النسيان، ونردها إلى صورتها الأصيلة، ونجعل منها موضعا للدراسة الجادة، فتصبح جسرا إلى الحاضر، وتربط بين ماض مجيد، ومستقبل نأمل أن يكون زاهرا، وتصبح سجلا للتطور الفكري والثقافي وحصاد مئات السنين من المعرفة الجادة المتعمقة، وأن نبعث الحياة في القوة الكامنة فيها، لتكون لنا مرشدا وهاديا.
أول ما يجب أن يسترعى اهتمامنا في المخطوطات التي نملكها، عامة وخاصة، أنها في حاجة قصوى إلى مزيد من الصيانة والحفظ السليم، وأن يرمم علميا ما وهن منها، لأن المخطوطات حساسة بطبيعتها، ويؤثر عليها مرور الأيام تأثيرا سيئا فيعرضها للتلف، ولعوامل ضارة متعددة، تعمل منفردة أو مجتمعة، وتربط بالتفاعلات التي تحدث بين مادة المخطوطات والبيئة المحيطة بها، ويبدو ذلك واضحا حين تكون ظروف تخزينها أو عرضها غير ملائمة لطبيعتها، كعدم توفر درجة الحرارة الصالحة للحفظ، وعدم التحكم في الرطوبة والإضاءة غير المناسبة، وعدم تجديد الهواء، وتحليل الغازات، وكلها تترك أثرها في مادة المخطوط نفسه فتظهر فيه البقع، وتتحلل الأحبار.
وقد يتعرض المخطوط لعوامل حيوية شديدة الخطر، تنجم عن تأثير الجراثيم والفطريات والحشرات.وكل هذه العوامل أوجد لها العلم الحديث علاجا، ووسائل مقاومة، علينا أن نتابعها في مصادرها، وأن نأخذ بها.
وهناك عوامل وليدة الإهمال والتقصير في التناول والعرض، والتعامل مع المخطوطات، يمكن القضاء عليها أو التخفيف منها، بتنمية الوعي بأهمية المخطوط وضرورة المحافظة عليه.
إن ترميم المخطوطات عندنا لا يزال يجرى بطريقة قديمة، على حين أن هذا الجانب العملي المهم تقدم كثيرا عند غيرنا، فهو عندهم يرعى طبيعة المخطوط ونوعيته، وخصائص الحالة المطلوب ترميمها، وتوفير معالجة خاصة للمخطوطات المزخرفة والمذهبة وذات التصاوير الملونة، ويحرص على ألا يمس الترميم خصائص المخطوط.وهو أمر لن نتوصل إليه إلا عن طريق توفير الخبراء المتميزين، من ذوي الخبرة الواسعة، والتجربة التطبيقية، وإيفاد العاملين في هذا المجال في بعثات لتلقى الدراسات العلمية الحديثة، والتدريب العملي المثمر، إلى جانب إقامة معامل حديثة، تستخدم طرائق التكنولوجيا المتقدمة.
ذلك فيما يتصل بالحفظ والصون والرعاية، وهي خطوة أولى يجب أن تتبعها خطوات:
الأولى: الحاجة إلى التسجيل والفهرسة لما عندنا على نحو عصري، لن ما نملكه من مخطوطات أكثر، دون تسجيل علمي أو فهرسة أو جدولة أو تصنيف يسمح بالتعرف عليه والتعامل معه، وبهذا نيسر للعلماء البحث في محتويات هذه المخطوطات أو تحقيقها، والقليل المفهرس يتم بطريقة لما تستخدم أجهزة المعلومات المتطورة في الرصد والوصف والإعارة وتقديم المعلومة، إلا في بعض المكتبات الحديثة جدا، والتي لا تتضمن شيئا يذكر من المخطوطات.
وبهذه المناسبة أذكر بأن القوانين الدولية، والاتفاقيات العلمية، كاتفاقية منظمة اليونسكو لعام 1970تشترط لاسترداد التراث المنهوب أن يكون مسجلا في وطنه تسجيلا يوضح معالمه، ليكون بمنزلة مستند قائم بملكية التراث المنهوب أو المهرب، ومن ثم يجب فهرسة كافة المخطوطات العربية عامة وخاصة، فهرسة تعتمد على التكنولوجيا الحديثة، تسمح عند الحاجة بتقديم بيانات كاملة عن المخطوطات، تشمل اسم مؤلف المخطوط واسم ناسخه، وعنوان المخطوط واللغة المستخدمة، وأسلوب الخط، ونوع الحبر، وطريقة المسطرة وكيفية الاستهلال والخاتمة، وتاريخ النسخ إن وجد، بجانب الأوصاف الأخرى التي يلزم تسجيلها والتعريف بها.
الثانية: تطوير الاهتمام بالمخطوط، فالطريقة المتبعة عندنا تكاد تنحصر في تصويرها على الميكروفيلم مقاس 35م. في نسخ سلبية أو موجبة، يستخدمها الباحثون مستعينين بآلات قراءة المصغرات، وبما أن الأفلام لها عمر افتراضي محدود، وتحتاج إلى الحفظ في درجات حرارة ورطوبة ملائمة، وإلى رعاية خاصة عند تداولها والتعامل معها، فقد أدى ذلك إلى فساد وتلف الكثير من هذه الأفلام، التي لا تتوافر الآن إلا في أماكن محدودة، لأن معظم المكتبات التي لديها مخطوطات ليس لديها نسخ لها سلبية أو موجبة.
وأطمح أن نصل إلى طريقة الأقراص المليزرة وغيرها من الطرق المشابهة، والتي تسمح لنا بالتعرف على المخطوط على أكمل وجه، ولا تحتاج إلى أماكن متسعة للحفظ، ويمكن أن تستخدم بدل المخطوطة الأصلية عند الدراسة والتحقيق، مما يحفظها من التلف.
الثالثة: تصوير المخطوطات الموجودة في مكتبات العالم عن طريق رسمي، وتيسير سبل الحصول عليها للباحث العربي، لأن وصول الباحثين العرب إليها بصفتهم الشخصية فوق طاقتهم أحيانا ومرهق أحيانا أخرى، ومستحيل في بعض الحالات، على أن تتضمن المعاهدات الثقافية المتبادلة بين البلاد العربية والدول الأجنبية المختلفة مواد تنص على تيسير هذا التبادل.ولا أود أن أفيض في الحديث عن مخطوطاتنا الموزعة عبر جهات الدنيا الأربع، ويكفي أن أشير إلى أن مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي التي أنشأها في لندن الأستاذ أحمد زكى يماني قامت بعمل مسح شامل للفهارس التي عرضت للمخطوط الإسلامي، المكتوب بالحرف العربي، منشورا وغير منشور، قام على تصنيفه جماعة من العلماء العارفين، ظهر منه، جزءان كبيران، تضمنا وصفا لفهارس هذه المخطوطات في ست وستين دولة، ثم قال الناشرون إن وصف فهارس ليبيا وموريتانيا والفلبين، سوف يتضمنه الجزء الثالث.
الرابعة: هناك مسئولية كبرى تجاه ما وصلنا من مخطوطات لا تقل أهمية عن صيانتها والترجمة لها وتصويرها، وهي العمل على تحقيق هذه المخطوطات ونشرها، لأن ذلك هو الثمرة الحقيقة لكل ما سبق.ويقتضى ذلك توفير المتخصص القادر الكفء، عن طريق إعداد كوادر متمرسة متمكنة من العلوم المتخصصة المرتبطة بالتحقيق، كعلم الخطوط القديمة، وأشكال الخطوط العربية وهي كثير، وبعضها معقد فنيا، ومعرفة تاريخها، والتمكن من الثقافة العربية والحضارة الإسلامية، والوعي بطريقة صناعة المخطوطات في العصور المختلفة، والبيئات المتنوعة، والإلمام بعصر المؤلف سياسيا واجتماعيا وثقافيا، وبسيرته الذاتية، حياتيا وفكريا، وبلغة العصر وأسلوب المؤلف، وأن يكون المحقق قادرا على تقديم المخطوط وتصنيف مادته، وإضافة ما يحتاجه المخطوط من علامات وترقيم، وضبط الأسماء والمصطلحات، والتعريف بالأعلام الواردة فيه، وشرح الألفاظ الغريبة، أو ذات الدلالات الخاصة في الهامش.وكل ذلك يتطلب مواهب خاصة وقدرات عالية، ومعرفة واسعة، وتدريبا خاصا، وتفانيا مخلصا.
ويدخل في هذا النطاق أن تهتم الجامعات بأمر المخطوطات في الدراسات العليا، تعريفا وبحثا وتحقيقا، وأن تشجع وزارات الثقافة، أو من يتولى أمرها، على عقد المؤتمرات والحلقات الدراسية، والندوات التدريبية المتعلقة بها، وأن تجعل هذه الكتب المحققة في تناول الراغبين من القراء تواجدا وأسعارا، وأن تعيد طباعة ما حقق ونفدت طباعته.وأن تستصدر كل دولة عربية من القوانين ما يحمى تراثها الثقافي، بما فيه المخطوطات، وهو ما تضمنه في مصر القانون رقم 117 لسنه 1983، الخاص بحماية الآثار، إذ نصت المادة الأولى منه على ما يلي:
"يعتبر أثرا كل عقار أو منقول أنتجته الحضارات المختلفة، أو أحدثته الفنون والعلوم والآداب والأديان من عصر ما قبل التاريخ، وخلال العصور التاريخية المتعاقبة، حتى ما قبل مئة عام، متى كان له قيمة أو أهمية أثرية أو تاريخية باعتباره مظهرا من مظاهر الحضارات المختلفة التي قامت على أرض مصر، أو كانت لها صلة تاريخية بها". وتنص المادة 41 من هذا القانون على معاقبة من يقوم على تهريب أثر إلى خارج الجمهورية، أو كمشترك في ذلك بالأشغال الشاقة المؤقتة وبغرامة لا تقل عن خمسة آلاف جنية، ولا تزيد على خمسين ألف جنيه. كما تعاقب المادة 42 من ذلك القانون بالسجن مدة لا تقل عن خمس سنوات ولا تزيد على سبع سنوات، وبغرامة لا تقل عن ثلاثة آلاف جنيه، ولا تزيد على خمسين ألف جنيه على كل من سرق أثرا أو جزءا من أثر مملوك للدولة، أو قام بإخفائه، أو اشترك في شيء من ذلك. ويحكم في المادتين السابقتين بمصادرة الأثر محل الجريمة، وكذلك الأجهزة والأدوات والآلات والسيارات المستخدمة في الجريمة لصالح الهيئة.
وتبقى الخطوة الأخيرة:
نحن أمة واحدة، ذات حكومات متعددة، تملك تراثا واحدا، ومن ثم يتطلب الأمر قيام جهة واحدة على مستوى العالم العربي كله تنسق وتوجه وتعاون، ومعهد المخطوطات العربية في جامعة الدول العربية أهل لهذه الرسالة، وأنشئ لهذا الغرض.
لقد أصدرت جامعة الدول العربية قرارا بإنشاء المعهد في 4 إبريل 1946، وأن تكون مهمته جمع فهارس المخطوطات العربية، وتوحيدها في فهرس عام للمحافظة عليها، كما قرر مجلس الجامعة في عام 1955 توصية الحكومات العربية بتسجيل ما لديها من مخطوطات تسجيلا علميا دقيقا وشاملا، مع وضع فهرس شامل لجميع مصادر التراث العربي والإسلامي، واضطلع بتصوير كثير من المخطوطات العربية التي في كثير من المكتبات الأوروبية والعربية، وكانت مجلته نافذة مضيئة وهادية على حركة المخطوطات العربية في العالم كله، عربيا وأجنبيا، وأدى مهمته في كفاءة عالية، بالقدر الذي سمحت به إمكاناته وحداثة عمره، وكان الأمل فيه كبيرا.
ولكن الأحداث السياسية التي لفت حياة الأمة العربية في الثلاثين عاما الأخيرة، وشغلت جامعة الدول العربية نفسها حينا، وأدت إلى اختلاف الرأي أحيانا، ألقت بظلها على حركة المعهد، في وقت يشهد فيه العالم تفجر المعرفة، وتقدم التكنولوجيا المذهل، فلم يستطع اللحاق بكل ذلك، لم ييأس ولم يتوقف، ولكن حركته أبطأت في وقت كان يجب فيه أن تسرع، في عالم يلهث وثبا إلى الأمام، وأن توظف الآلة التي تختصر الزمن.
والآن، نحن نحتفل باليوبيل الذهبي للمعهد، أملنا كبير في أن يتجاوز الحاضر إلى مستقبل أرحب وأزهر، فيؤكد بدوره ورسالته وحدتنا الثقافية، التي هي طريقنا إلى توحيد الوجدان العربي، وحين يتحقق وجداننا تتحقق وحدتنا الشاملة، تحت أية راية قانونية كانت.
والدعوة موجهة إلى كل مؤسساتنا الرسمية والشعبية، محليا وقوميا، أن تبذل كل ما في وسعها لدعم المهد بمختلف الوسائل المادية والأدبية، وننتهز الفرصة لنذكر بالشكر والتقدير والعرفان صفوة العلماء العرب الذين عملوا في المعهد جنودا مجهولين على امتداد نصف قرن من الزمان منذ إنشائه، حتى يومنا، وخلفهم الذي يضطلع بالرسالة نفسها، وأن يكتب الله لهم التوفيق في مهمتهم السامية النبيلة.