علي حسين - غواية القراءة..

عندما أنقذني الكونت دي مونت كريستو !!
علي حسين


-1-

• هناك من لا يستطيع تخيل العالم بلا طيور، وهناك من لا يتخيل العالم بلا ماء، أما بالنسبة إليّ، فأنا غير قادر على تخيل العالم بلا كتب.
بورخيس

عند سؤال الشاعر الفرنسي بول فاليري حول الحالة المثالية التي يتفرغ فيها للقراءة ..قال هناك فرق بين أن نرى شيئاً ونحن نمسك كتاب ، وبين أن نراه دون ذلك: " مجرد فتحنا لصفحات الكتاب يمكنه أن يمنح أفعالنا رؤيا جديدة " . فاليري يحذرنا من مخاطر القراءة التي لانتتج شيئاً :" أنني لا أبحث في الكتب ، إلا عما يسمح لكتاباتي بأن تفعل شيئاً ما " .
كان المطبخ المكان المناسب الذي يقرأ فيه وليم فوكنر كتبه :" كنت أفضّل أن أبقى في منزلي ، في مطبخي مع كتبي وعائلتي من حولي ، ويداي تلاعبان الأوراق " .كان فوكنر يمضي ساعات طويلة بين القراءة والكتابة أمام طاولة صغيرة أهدتها له أمه ، حيث يستيقظ في الرابعة صباحاً ، ينزل من غرفته الكائنة بالطابق الاول من البيت ، ويجلس الى الطاولة المزدحمة بالكتب والاأوراق ، يحب ارتداء ملابسه الكاملة وهو يقرأ أو يكتب ، يفتح النافذة المطلة على الحديقة ، يبقى لساعات طويلة منغمساً بالقراءة والكتابة . يحرص على الاحتفاظ بخصوصياته ، وعندما حصل على جائزة نوبل عام 1949 وذاعت شهرته ، دفع الصحافة والنقاد ومحبي الأدب الى الذهاب الى منزله أملاً في رؤيته والتعرّف على طقوس الكاتب اليومية ، مما اضطره لأن يبني جدارا عاليا أحاط به منزله من أجل أن يحافظ على حياته الخاصة ، لم يكن يريد لأي أحد أن يزعجه في خلوته . يواصل الكتابة والقراءة :" سأستمر على هذا الحال الى نهاية عمري ، وأتمنى أن اتلاشى من حياة الاخرين وأحُذف من التاريخ ّمن دون أن يترك لي أي أثر ما عدا كتبي " .
كثيرا ما يفاجأ الروائي والمترجم جبرا إبراهيم جبرا ، بسؤال زوار بيته وهم ينظرون الى المكتبة التي انتشرت على الحيطان لتأخذ حيزا كبيرا من البيت : هل قرأت كل هذه الكتب؟، وتكون اجابته التي تعوّد أن يقولها لقد إطلعت عليها كلها .. لم يكن الكتاب بالنسبة لجبرا سوى ضرب من العشق وهو يحفظ مقولة فرنسيس بيكون الشهيرة " بعض الكتب وجد لكيما يذاق ، وبعضها لكيما يبتلع ، والبعض القليل لكيما يمضغ ويهضم " يتذكر جبرا ماقراه عن د.ه. لورنس عندما دخل يوماً الى مكتبة اكسفورد وكانت تحوي مائة الف كتاب وفي ثلاث سنوات من الدراسة تعرف عليها جميعا هذا التعرف بمفهوم جبرا هو أساس الكثير من المعرفة ، وهو الذي يدل القارئ الى الاتجاه الذي عليه أن يسير فيه لطلب المزيد من المعرفة .. لنا ان نتذوق الكتاب اونبتلع بعضه او نمضغه ونهضمه ببطء في كل الأحوال نحن نعيش حالة عشق لاتملها النفس يكتب جبرا في مقال بعنوان عشق من نوع اخر يقول : " كانت تراودني فكرة اشبه بالحلم فكرت في كتابتها منذ اكثر من اربعين سنة ، وهي عن رجل كان يعشق الكتب اشترى بقعة نائية على كتف عال لتلة صخرية ‘ مشرفة على واد كثير التعاريج والشعاب ، وبنى عليها فندقا جميلا يجتذب الناس اولئك الذين يريدون الاختلاء بالطبيعة البعيدة عن ضوضاء المدن طلباً للتعمق في ذواتهم ، مقابل أجور معقولة وكان ذلك جزءاً من خطة وضعها لنفسه . فهو ينفق معظم ربحه في كتب يشتريها بالمئات . وفي بضع سنوات تجمع لديه من المال مايكفيه أخيراً لان يحول الفندق الى صوامع ، رتب فيها الكتب على رفوف لاتنتهي وجعلها داراً مفتوحة لكل من يريد أن يقرأ ويكتب ، شريطة أن ينتهي مايكتب الى مؤلفٍ يزيد من حس الانسان بروعة الوجود " .لم يكتب جبرا قصته تلك فقد كان يدرك آنذاك وهو في أواسط العشرينيات من عمره انها غير معقولة واشبه بالحلم .. لكن الحلم زامله سنوات طويلة حتى استطاع في منتصف الستينيات من القرن الماضي ان يحققه ولو بشكل بسيط ، فالدار التي حلم بها اكتملت ولم يبق غير المكتبة وهي في نظره الجزء الأهم في هذا البيت .. فجبرا الأنسان عاش طفولة ضنكة ونشأ في بيت ليس فيه الابضعة كتب حسب ما جاء بشهادته ، والإدخار انذاك كان صعبا ، فلما سنحت له الفرصة أن يدخل الجامعة في انكلترا كان أول شيء عمله وهو المبتلي بعشق الكتب أن سعى الى شراء الكتب بالجملة ، بالعشرات كما كان يحلم بطل قصته الخيالية وماهي إلاسنوات على الدراسة حتى وجد نفسه محاطا بالكتب من كل مكان ، وهو يتذكر في سني دراسته مصاطب الكتب في مدينة كمبردج وقد تزاحمت عليها كتب نادرة ونفيسة تباع جميعها باسعار زهيدة ، يقف جبرا متأملا هذه المصاطب المليئة بالكتب يقلب هذا ويقتني ذاك وهو أشبه بسارق المعرفة على حد تعبير الناقد الانكليزي وليم هازلت ، سراق المعرفة الذين يطيلون الوقوف أمام اكوام الكتب ليقرأوا بمتعة وتلذذ ، حيث يؤكد هازلت ان " سرقة المعرفة هي السرقة المشروعة الوحيدة في حياة المجتمع " وكان جبرا باعترافه واحداً من هؤلاء السراق حين تختفي النقود من جيبه فلا يجد بديلاً من ان يقف ساعات ليقرأ بمتعة وتلذذ فقرة هنا أو فقرة هناك.
في روايته " إذا في ليلة شتاء" يكتب إيتالو كالفينو إن :" القراءة تعني الاقتراب من شيء في اللحظة التي هو فيها على وشك أن يُخلَق " .
************
• وانت ماتزال صغيرا كن حريصاً على أن تقرأ الكثير من الكتب ، إعط وقتا لهذا أكثر مما تعطي لأي شيء آخر .
الروائية البريطانية زادي سميث
ذات مرة كتب الروائي الاميركي أرسكين كالدويل :" دائما ما تصبح الكتب التي اقرأها جزءاً من تجاربي الشخصية ، وأتخيل انني عشتها " .ولعله يقصد إنه يحاول أن يعيش تلك التجارب التي استمدها من الكتب ، ويتبناها يوما بعد آخر بحيث تصير جزءاً من عالمه الواقعي ومع هذا يظل السؤال ماذا نقرأ؟.
ربما تكون مثلي قد قرأت ذات يوم نصيحة غوستاف فلوبير التي يقول فيها :" لا تقرأ مثل الأطفال، من أجل المتعة، ولا مثل الطموحين، بغرض التعلم. لا، أقرأ كي تعيش " . ولعل معظمنا يبدأ أولى خطواته في القراءة منطلقين من الفضول لمعرفة ماذا تخبيء هذه الصفحات ، وكثير من القراء يؤمنون بمقولة :اقرأ من أجل المعرفة . ينصحنا الفيلسوف ديكارت بإعداد قوائم لتحديد الكتب التي يجب أن نقراها ، كتمرين من تمارين العقل واستكشاف العالم ويكتب هذه النصيحة :" إن قراءة الكتب هي بمثابة محادثة مع أفضل الشخصيات من القرون الماضية " ، كان ديكارت مصاباً بأمراض في الصدر ، وكان الأطباء ينصحونه بإراحة جسمه ، فاجازوا له البقاء في الفراش طويلا ، ما ساعده على الاهتمام بقراءة الأدب الكلاسيكي او كما يخبرنا هو :"لأقوم بجولات فكرية في الماضي السحيق فآخذ بطرف الحوار مع النبلاء الطاعنين في السن" .
تمثل القراءة إحدى أجمل ذكرياتي في الصغر ، وكل شيء بدأ عندي اشيه برحلة ، ذات يوم وانا ابن العاشرة من عمري وفي احدى مناطق بغداد ، اخذتني قدماي الى مكتبة يملكها أحد أقاربي يبيع فيها الكتب والمجلات والصحف ، في ذلك النهار وأنا أتجول بين العناوين وصور الأغلفة الملونة ، اكتشفت إن هذا المكان يمكن أن يصبح كل عالمي .. عندما استرجع كيف قضيت سنوات طويلة من عمري في رفقة الكتب ، أتساءل أحيانا إن كانت هذه الكتب غيرت حياتي ، أم انها سجنتني في عوالم مثالية وخيالية .
كنت وأنا أدخل المكتبة ، التفت باتجاه الرفوف التي تحوي مئات العناوين، وأشعر ان هذه الكتب تنظر ألي وإنها تعرف عني أكثر مما أعرف عنها ، وأحيانا أتخيل ان كل كتاب يخفي داخله عالماً سحرياً لانهاية له ..وفي المكتبة وقع في يدي ذات يوم كتاب مجلد بشكل جميل غني بالرسوم الملونة ومطبوع على ورق من نوعية فاخرة عنوانه " المعرفة " ، فيه الكثير الموضوعات التي لم أكن افهمها ، لكن ذلك لم يكن هدفي ، في واحدة من صفحات المجلد لاحت لي صورة رجل لديه لحية كثة اسمه داروين ، كانت عيناي تتنقل بين صورة الرجل الملتحي وبين سطور الكلمات التي أحاول أن أحل الغازها ووجدت نفسي وأنا ألتهم السطور منشغلاً بسؤال محيّر يطرحه صاحب هذه اللحية البيضاء : من نحن ؟ هل ولدنا أم إننا جئنا نتيجة بذور غُرست في الارض ، أم نتيجة لبيضة مفقوسة أم اننا خرجنا الى من الغرفة ، أم إننا سقطنا من السماء وربما نكون قد عشنا ثم وافتنا المنية أو تلاشينا أو تحطمنا وتكسرنا ؟ لم أجد إجابات لأسئلتي وحين اكتشف صاحب المكتبة حيرتي نصحني بالأبتعاد عن مثل هذه الموضوعات الشائكة ، فأنا ما زلت صغيراً ، وربما في المستقبل استطيع أن أفهم وأعرف أكثر . بعد سنوات اكتشفت ان من السهل طرح هذه الاسئلة ، ومن السهل الإجابة عليها وقرأت إن فيلسوفاً اغريقياً اسمه " طاليس " عاش قبل أكثر من ألفي عام كان يعتقد أن الكتب ولدت بفضل اسئلة البشر ، وظل يردد على تلامذته عبارة شهيرة :" كلما زادت الأسئلة ، كلما تظهر الكتب من تلقاء نفسها " .
يخبرنا صاحب مقبرة الكتب الاسباني كارلوس زافون أن أحد زبائن المكتبة قال له يوما :" لاشيء قادر على التأثير في القارئ أكثر من الكتاب الأول الذي يلمس قلبه حقاً .إذ إن صدى الكلمات التي نظن إننا نسيناها يرافقنا طوال الحياة ، ويشيد في ذاكرتنا منزلاً سنعود إليه عاجلاً ام آجلاً. "
في ذلك الوقت اعتقدت انني أستطيع الحصول على أي كتاب لأن المكتبة لاتبعد عن بيتنا سوى عشرات الأمتار ، ثم إنني وجدت في شخصية صاحب المكتبة محفزاً لي على اختيار ما أريد قراءته ، ولهذا كنت سعيدا حين دلّني ذات يوم ، على سلسلة من الروايات المصورة: وقد جذبني كتاب كان يمتلئ بالرسوم الملونة عنوانه " الكونت دي مونت كريستو " أما مؤلفه فمكتوب اسمه على الغلاف وبالألوان " الروائي المشهور الكسندر دوماس " .
كان هذا أول عهدي بالروايات ، لم اسمع بأسماء الذين يروي الكاتب حكاياتهم ، ولا أعرف معنى " مونت كريستو ، ، وما الذي يمكن أن تنفعني مغامراته ؟ لكن الحكاية استولت على عقلي ، وأتذكر إنني قرأته خلال يومين ، أتمدد على فراشي وأعيد قراءة الصفحة الواحدة أربع أو خمس مرات لأفهم مغزي القصة .
بعد سنوات تعرفت جيدا على صاحب الرواية " الكسندر دوماس الأب " تميزا له عن ابنه حامل الاسم نفسه " الكسندر دوماس الابن " مؤلف الرواية الشهيرة " غادة الكاميليا " . واكتشفت إن هذا المؤلف الذي عاش ثمانية وستين عاماً - ولد في الرابع والعشرين من تموز عام 1802 - كانت له عادات غريبة ، يتباهى بان له أكثر من مئة ابن غير شرعي ، ويؤكد في كل مناسبة انه لن يتزوج ، ويقال انه كان لايرى إلا وهو يتأبط كتاباً ، صاحب مزاج خاص في الكتابة ، ويذكر كاتب سيرته انه كان يكتب قصصه على ورق ازرق ، أما اشعاره فيستخدم لها الورق الاصفر ، ويخصص الورق الوردي لكتابة مقالاته السياسية اللاذعة ، يعاني من مرض الدوار ، لايستطيع القراءة والكتابة وهو جالس على منضدة ،وإنما وهو متمدد على بطنه ،ويضع تحته وسائد عديدة ، وبرغم هذه النزوات ، فقد أصدر اكثر من اربعمائة مجلد ، وكتب للمسرح مئة مسرحية، مُثلت جميعها في زمنه ، وقامت بإداء ادوارها ممثلات معظمهن وقعن في أسر شخصيته المرحة ، ربح من وراء كتبه اكثر من مليون جنيه استرليني ، انفقها جميعها على ملذاته ، وحين حاصرته الديون قررت إحدى المعجبات به ان تشتري ديونه كي لايدخل السجن ، ثم ساومته بين قفص الزواج أو قضبان السجن ، فقرر في النهاية ان يرضخ لطلبها ويتزوجها .
الكونت دي مونت كريستو التي قرأتها ، سحرتني منذ اللحظة الاولى ، ولم ينفع فيما بعد انني اكتشفت انها عمل يتسم بالبساطة وإن احداثها لاتختلف عن اي فيلم عربي بالابيض والاسود مليئة بالمشاهد الميلودرامية والدموع والآهات ، فهي برغم ذلك شغلت النقاد بسبب انها لاقت اقبالا كبيرا في مختلف العصور ، ولاتزال على قائمة الكتب الاكثر مبيعا .
************
تدور أحداث رواية " الكونت دي مونت كريستو " حول البحار إدمون دانتيس، الذي نراه في الصفحات الاولى ، وهو يستعد للزواج ، إلا أن حادث القاء القبض عليه بتهمة مناصرة نابليون ، وايداعه في حصن إيفان الرهيب ، يدمر مخططاته ، وخلال الاثني عشر عاما التي قضاها في الحبس كان يؤمن انه بريء مما نسب إليه من تهم ، وأن سبب سجنه إنما هي مؤامرة حاكها ثلاثة أشخاص ، كان لكل منهم سبب للتخلص منه. الأول فرنان الذي كان ينافسه على خطيبته مرسيدس، والثاني انغلار منافسا له في أعماله ، أما الثالث فكان القاضي فيلفور الذي أيقن منذ اللحظة الاولى ان القضية ستعود عليه بقوائد كثيرة إن هو حكم على إدمون . وخلال سنوات حبسه الطويلة لا تشغله قضية سوى وضع الخطط للهرب من جحيم السجن واثبات براءته والانتقام من الذين ظلموه .
وبفضل مساعدة يقدمها صديقه الأب فاريا الذي يخبره قبل موته بمكان وجود كنز يمثل ثروة هائلة، في جزيرة مونت - كريستو. يتمكن إدمون من الهرب ؟، وبعد مغامرات وأهوال يحصل على الكنز ، فيقرر العودة الى الحياة العامة بهيئة جديدة واسم جديد " الكونت دي مونت كريستو " الثري الذي لا يعرف أحد شيئاً عن حياته الماضية ، ويبدأ بوضع خطه للانتقام مستخدما ثروته الهائلة لتحقيق أهدافه في مطاردة الذين ظلموه . لقد تحول الى قدر يلاحق ضحاياه ، وتمضي الرواية لتخبرنا أن خطة السجين السابق تنجح ، وإنه أخيراً استطاع تحقيق العدالة الغائبة ..ويعود في النهاية ليكشف عن نفسه بعد رحلة عاشها مع اسماء وهمية ومؤامرات كان يخطط لها بالخفاء ، ليلتقي أخيرا بخطيبته مرسيدس ليعلن لها انه لايزال يحبها ويتمنى الارتباط بها .
نشر الكسندر دوماس الأب روايته " الكونت دي مونت كريستو " عام 1844 ، في ذلك العام توفت الفتاة ماري دوبليسيس عن عمر 23 عاما نتيجة الآم شديدة في المعدة لم تمهلها طويلا ، كانت قد أخبرت إحدى صديقاتها انها تشعر دائما بان حياتها ستعود من جديد ، ولم تكن تدري أن هناك مؤلفاً شاباً أراد ان يقلد والده الأديب المشهور فقرر أن يكتب قصة هذه الفتاة التي شغلت البلاط الفرنسي بجمالها ، لينشر عام 1848 روايته " غادة الكاميليا " ، وأصرّ الشاب أن يطلق على نفسه اسم " الكسندر دوماس الابن " . كان الابن أحد الاطفال غير الشرعيين للكاتب الشهير ، الجميع يعامله كفتى منبوذ ، إلا انه كان شديد الاعجاب بشخصية والده ، فاختار أن يسير على نفس الدرب .
اذن هذه هي الرواية ، وفي ذلك الوقت لو طلب مني أن أكتب تعريفاً عن هذه الرواية لاختصرته بعبارة " ممتعة ". في رسالة يبعثها الكاتب الانكليزي مالكولم لاوري الى ناشره يشرح له فيها المغزى من كتابة روايته الشهيرة ( ما تحت البركان ) :" يمكن ببساطة قراءتها على انها قصة ستستفيد منها إن لم تتجاوزها ، ويمكن اعتبارها موسيقى ساخنة ، قصيدة ، أغنية ، مأساة ، كوميديا ، مهزلة ، وهكذا إنها سطحية ، عميقة ، ممتعة ومملة ، على حسب الذوق" .
ممتعة حسب الذوق ، كانت هذه العبارة التي يمكن أن أطلقها على رواية الكسندر دوماس التي أخذني فيها أنا الصبي الذي لايعرف من العالم سوى الشارع المؤدي من البيت الى المدرسة ، الى بلد غريب وبعيد ، وأدخلني عالماً مسحوراً ، وكنت وأنا التهم صفحات الرواية وأتخيل نفسي أدخل الى شوارع باريس التي تدور فيها حكاية السجين إدمون وانني التقي بأناس أشعر بانني قريب منهم ، هكذا قرأت أول رواية مثل طفل يمتلئ دهشةً من عجائب العالم .لم أكن أعرف أن سياسياً مثل لينين كان يصرح لمعارفه بأن روايته المفضلة تظل " الكونت دي مونت كريستو " وإن هذا الكاتب الذي حصد الشهرة والمجد باع ذات يوم كل ما يملك ليشتري بنادق ساهمت في تحرير وتوحيد أيطاليا ، وإنه كان يطلق عليه لقب ملك المسلسلات الروائية التي علمت الشعب الفرنسي قراءة التاريخ من خلال الأدب حتى أن دار النشر التي تولت إصدار أعماله في القرن التاسع عشر ، كتبت على غلاف الطبعة الكاملة " التاريخ " كما يرويه دوماس " .
في الثلاثين من تشرين الأول عام2002 ، وفي باريس ، امتد بساط الى البانثيون "مقبرة العظماء" . وعلى أنغام النشيد القومي الفرنسي ، كان الحرس الرئاسي يسير ببطء ، كانت الآلاف التي وقفت تشارك في المشهد المثير تنثر الزهور عند مرور الموكب الذي يتكون من أعضاء الاكاديمية الفرنسية. وعند اقتراب الموكب من البانثيون انتشر الطلاب وتطلعوا الى المنصة المقامة تحت القبة الكبرى التي جلس عليها اعضاء الحكومة وعلى رأسهم الرئيس جاك شيراك ، الذي كان قد وقع مرسوما جمهوريا لنقل رفات دوماس الأب من قريته في الجنوب الفرنسي الى مقبرة العظماء، ليدفن الى جوار فولتير وروسو وفكتور هيجو .
، وفي رحلته الأخيرة يمر جثمان الاكسندر دوماس بقصر مونت كريستو الذي تحوّل الى متحف ، حيث يمضي ليلة واحدة فيه ، يستعيد مع جدران القصر الأحداث التي صاغها كاتب عاش ومات من أجل الكتابة ومغامرة الحياة.


* عن المدى

تعليقات

قائمة أوسكار وايلد لأسوأ مئة كتاب
 علي حسين

| 2 |


من لا يقرأ يعِش حياة واحدة حتى لو اجتاز السبعين عاماً. أما من يقرأ، فيعيش خمسة آلاف عام. القراءة أبدية أزلية

 أمبرتو إيكو

من بين الكتب التي كنت أقتنيها في سنواتي الأولى، كان هنالك عدد من كتب سلسلة تسمى " أولادنا "، وقد احتوت تلك السلسلة على ملخصات لروايات عالمية مثل رواية جول فيرن من الأرض إلى القمر، وأوليفر تويست لديكنز،، وحصان طروادة، وحي بني يقظان، ورواية ثيربانتس دون كيشوت، وكنت أحرص على اقتناء أعداد السلسلة التي تصل الى المكتبة كل شهر، وكما هي العادة أندمج مع أحداث الرواية وأعيش مع أبطالها أدق التفاصيل. في الغلاف الأخير لكتاب دون كيشوت، وقعت عيناي على عبارة وضعها المترجم عادل غضبان )الفارس الباحث عن العدالة). المرة الأولى التي أسمع بمثل هذه الكلمة )العدالة) ورحت أسأل نفسي : هل العدالة شيء موجود وملوس، يمكن للواحد منا أن يبحث عنه ويحصل عليه؟.
في قراءاتي المتقدمة أكتشفت إن هذا السؤال نفسه حاول فيلسوف عاش عام 427 قبل الميلاد، أسمه إفلاطون أن يناقشه، فقد كان موت أستاذه سقراط بالنسبة له التعبير الأكثر حدة عن التناقض بين القانون والعدالة، فكان أول عمل قام به، أن نشر مرافعة أستاذه عن العدل التي يرد فيها سقراط على أحد تلامذته " تريماخوس " حين كان يقول العدالة ليست سوى براءة سخيفة، وإن القانون مسألة تتعلق بحسن التصرف، إلا أن العدالة بالنسبة الى سقراط ينبغي أن تكون شيئاً من الأشياء التي يجب أن يحبها الإنسان لذاتها، وإن هذه العدالة هي واحدة لاتتجزأ، ونجد افلاطون يقول في كتابه الجمهورية على لسان سقراط :" ألسنا نقول أن ثمة عدالة ملائمة لإنسان بعينه، وأن هناك عدالة آخرى تصلح لمدينة بأسرها، لكنها العدالة أيها السادة تقوم على أداء الإنسان لوظائفه وفقا لتصوره، وهي عدالة مرتبطة بشكل مباشر مع العدالة العامّة ".
ظلت شخصية دون كيشوت تمثل الإنسان الذي تتنازعه الرغبة في تحقيق العدالة والسلام، تلك القيم البسيطة التي كان يرى فيها الاسباني " ميغيل دي ثيربانتس " الحق الطبيعي للإنسان في هذه الحياة، لكنه حق يحتاج الى من يسعى إليه فهو مثل :" النجم البعيد البعيد الذي لا يني الإنسان- الإنسان الحقيقي طبعاً- يحاول الوصول إليه معتبراً إياه حقه الطبيعي ".
يكتب ارنستو ساباتو في كتابه " الكاتب وأشباحه " إن :"القراءة رحلة معرفية ووجدانية في نفس الوقت، ومن واجب الكاتب أن يُعد المسافرين في هذه الرحلة بما يحتاجونه من أدوات، ويعلمهم كيفية قراءة الخرائط وما ينبغي عليهم فعله عندما يضلون الطريق ". كان هدفي من قراءة دون كيشوت هو الإستمتاع، فبالنسبة لي في تلك الايام لم تكن القراءة تعني لي المعرفة، وانما الدهشة من عجائب هذا الفارس النحيل، والمفاجآت التي كان يضعها المؤلف في طريقه، لم أكن أعرف انني أُمسك بكتابٍ عظيم قال عنه ميلان كونديرا إننا بازاء عمل أدبي وضع أسس الأزمنة الحديثة.
وإن فيلسوفا بأهمية كارل ماركس كان مفتونا برواية ثيربانتس هذه وقال لإنجلز ذات يوم :" ربما استطيع أن أحاكي الاسلوب المتميز الذي ابتدعه ثربانتس. نحتاج الى كتب مثل دون كيشوت مليئة بالتناقضات، والفرضيات، والتفسيرات المبهمة، والسخرية غريبة الأطوار، والغرابة النادرة ".
تشير قائمة الكتب التي يَعود ماركس الى قراءتها بين الحين والآخر، الى مؤلفات بلزاك وفرنسيس بيكون، والخطاب لأرسطو وموسوعة تاريخ أوروبا التي وضعها تاسيتُس ودون كيشوت لثيربانتس وكتاب لورانس ستيرن حياة وآراء تريسترام شاندي.
في الخامسة والعشرين من عمري أستطعت أن أرى بوضوح أهمية رواية دون كيشوت، كانت الترجمة التي قرأتها فيما بعد لعبد الرحمن بدوي، وبالطبع مثل معظم القراء، كنت أسرع من صفحة إلى صفحة، وقد استحوذ عليَّ التشويق. لم أكن أشعر بانني أقرأ بدافع المعرفة، كما نقرأ أحياناً العديد من الكتب، بل كنت أقرأ باستمتاع كبير، وكنت أسأل وأنا أتابع أبطال الرواية في مغامراتهم وأحلامهم وحياتهم اليومية : ما معنى العالم؟ الى أي مدى يمكن لنا كافراد أن تمتد أحلامنا. وبينما أتابع الأحداث التي يرويها سيرفانتيس )المغامرات الوهمية، حكايات الحب، البحث عن العدالة، الحلم بحياة آخرى) كنت أشعر أن الاحداث تدور بالقرب مني، وعرفت وأنا التهم صفحات الكتاب معنى الفرح الإنساني، وإرادة الحياة، وقوة الأمل، وحقيقة الحب والعدالة. وكنت أثناء قراءتي الثانية للرواية أفكر بالصبي الذي إلتقط الرواية المصورة ذات يوم بعيد، لكي يضيف كتاباً جديداً الى قائمة قراءاته، وحاولت وأنا أتابع مصائر الأبطال إستعادة ذلك الصبي المتفائل، والذي مايزال يظن أن الكتب تستطيع أن تريه كل شيء.
في كتابها " الهامسون بالكتب " تكشف لنا دونالين ميلر، انه ما من نشاط إنساني آخر أكثر ايجابية على الإنسان ومعرفته بالحياة مثل القراءة، وما من حالة انسانية يعيشها الإنسان أجمل من حالة التعاطف مع مؤلف الكتاب، بعد أن انتهيت من القراءة الثانية لدون كيشوت شعرت بالتعاطف مع ثيربانتس، فقد أثرت بي تفاصيل حياته التي عاشها. واذا ما عدت اليوم بذاكرتي الى الأيام الاولى التي اكتشفت فيها رواية دون كيشوت، أراني أطوف بنظراتي من ورقة الى ورقة آخرى وأنا أقرأ قصة مغامرة دون كيشوت ورفيقه سانشو، وكأني قد أعيش واقعا كان بإمكاني أن ألمحه بمجرد أن أغمض عيني، ولم يهيء لي أي كاتب، باستثناء دستويفسكي هذه المتعة الهائلة في الأدب.
يتأمل اندي ميلر في كتابه الممتع " سنة القراءة الخطيرة " كيف غيّرت القراءة حياته، وكيف أن اسماء هذه الكتب تحولت الى لافتات وضعت في طريق حياته. لافتات كل واحدة منها ترمز الى الشخصية التي كان عليها أثناء قراءة الكتاب.
***

إن ما ينتصر اليوم هو الكسل على السعي، والبطالة على العمل، والرذيلة على الفضيلة، والغرور على الشجاعة

 دون كيشوت

في مقدمة رواية دون كيشوت يكتب المؤلف ميجيل دي ثيربانتس :" أيها القارئ الخالي البال، صدقني، إذا قلت لك إنني وددت أن يكون هذا الكتاب بلين ثمار الفكر أجمل وأبرع كتاب ".
منذ أكثر من أربعمئة عام قرر رجل يعيش في قرية من قرى إقليم لامنشا في اسبانيا. لم يتزوج، نحيف طويل يبلغ من العمر خمسين عاماً اسمه الفونسو كيخادا، أن يكون فارسا واتخذ لنفسه اسما " دون كيشوت دو لامانش"، وبعد أن قرأ الكثير من كتب الفروسية فكر أن يعيد سيرة هؤلاء الفرسان، ومن أجل ان يستعد للمهمة استخرج من ركن خفي في البيت سلاحاً قديما متآكلاً، وأتخذ من قطعة جلد عتيقة درعاً له، واختلس من حلاق القرية طبقا نحاسياً ليصنع منه خوذة، ولكي تكتمل الصورة لا بد أن تكون له امرأة تعشقه، فإتخذ من الفلاحة دولسينا عشيقة في الخيال، هو عاشق لأن :" الفرسان مرغمون على أن يكونوا كذلك "، ثم تذكر إنه لكي يصبح فارساً جولاً ينبغي أن يتخذ له تابعاً، فاستطاع أن يغوي فلاحاً ساذجاً هو سانشو بانثا لكي يكون تابعاً وحاملاً لشعاره، شأن أتباع الفرسان في قصص الفروسية، ويعده أن يجعله حاكماً على إحدى الجزر. يخرج الفارس وتابعه إلى الدنيا العريضة، وأثناء خروجهما تصادفهما أحداث عادية، إلا أن خيال الفارس يحولها الى مغامرات، فالمعركة مع طواحين الهواء تَوهمها حرب ضروس مع الشياطين، والمرأة المسافرة مع أفراد حمايتها، يزين له خياله إنها مخطوفة والواجب يحتم عليه تخليصها، وقطيع الأغنام يتحول الى جيش عظيم، وبعد حوادث عديدة يتعرض لها دون كيشوت لايريد أن يُدرك الحقيقة، إن زمن الفروسية انتهى، فهو يعتقد أن خصومه من السحرة قد أرادوا حرمانه من نصر مؤكد، فقد مسخوا بسحرهم العمالقة الشياطين الى طواحين هواء، والفرسان المحاربين الى أغنام! ومع تكرار المآسي لايريد الفارس أن يتعظ ولا يستمع الى تحذيرات تابعه، ولا إلى نصائح قسيس القرية، ولا لنداءات الحلاق لتستمر حياته على هذا الشكل، ويسقط يوما صريع المرض، ليعلن الطبيب أن لاشفاء له، وتملأ الكآبة نفوس أصدقائه، ويقرر تابعه سانشو أن لايفارق فراش سيده المريض، وفي لحظة من لحظات الصحو يعترف دون كيشوت إن الغشاوة رفعت عن عينيه، وشفي من الجنون الذي أصابه، فهو الآن ليس الفارس الجوال دون كيشوت وإنما عاد الى حقيقته الأولى الونسو كيخاتا، الرجل الطيب كما عرفه أهل قريته، ونراه يقول لصديقه الحلاق :" أيها السيد الحلاق، كم هو أعمى من لايرى من خلال نسيج الغربال "، بعدها يصاب بحالة غيبوبة ليفارق الحياة، لينتهي المؤلف من كتابه عام 1615 وليموت ثيربانتس أيضاً بعد شهور.
على سرير مرضه كان الروائي مارسيل بروست يضع رواية دون كيشوت بالقرب من رأسه يعيد قراءتها بين الحين والآخر يكتب في دفتر يومياته :" لاتوجد في رواية ثيربانتس أي واقعة ليست خيالية.. توجد رواية بلا إلتباس، لم يكتبها ليتكلم عن حياته، بل من أجل أن يوضح لعيون القراء حياتهم هم ".
تخبرنا سيرة المؤلف " ميغيل دي ثيربانتس " انه ولد عام 1547، لم تتح له ظروف عائلته المادية أن يكمل دراسته فالتحق بالجيش يحارب الأتراك، وأن يده اليسرى عطلت عن العمل، وإنه أسر من قبل المغاربة وبقى في السجن خمس سنوات، بعدها يعود الى اسبانيا يعاني من الفقر والاهمال، كتب قصصاً قصيرة ومسرحيات لم تحظ بالاهتمام، بدأ بنشر الجزء الاول من رواية دون كيشوت عام 1908 بعد أن أمضى ثماني سنوات في كتابتها، ثم ظهر الجزء الثاني عام 1615، وفي السنة التالية لنشر الكتاب توفي ثيربانتس في دير للراهبات في مدريد.
في كتابه " الكرامة الانسانية " يكتب ميجل أونامونو إن رواية دون كيشوت :" بمثابة الأنجيل الأسباني الحقيقي، وإن سيدنا دون كيشوت هوالمسيح الحقيقي ".
إن قراءة دون كيشوت متعة لاتنتهي، وإنها مثلما يؤكد الناقد الانكليزي " هارولد بلوم " ستظل أفضل رواية وأول الروايات جميعاً ".
بعد أن أنهيت القراءة الثانية لدون كيشوت أيقنت أن هناك جوانب في نفس كل قارئ لن يعرفها معرفة كاملة إلا حين يتعرف بشكل حقيقي على دون كيشوت وسانشو.
في عام 1937، وقبل سنة من وفاته، كان هوسرل يلقي محاضرة حول ديكارت حين سأله أحد الحضور : كيف يرى جذور الأزمة التي تمر بها أوروبا الآن؟ صمت الفيلسوف الالماني قليلاً، ثم قال لمحدثه : أنصحك أن تقرأ ثيربانتس، ربما تجد الإجابة في ثنايا حوارات دون كيشوت. كان هوسرل قد تحاور من قبل مع تلميذه هيدجر حول الفلسفة والأدب، وكان التلميذ يعتقد إن الفلسفة والعلوم قد نسيا كينونة الانسان، وإن هذه الكينونة انما تم الكشف عنها وإضاءتها بواسطة أربعة قرون من الرواية الأوروبية، منذ أن قرر ثيربانتس أن يخوض المغامرة البشرية.
كيف نحكم على رواية ثيربانتس إذن؟ لنستمع الى دون كيشوت يقول لتابعه :" أصغ يا سانشو، هناك ضربان من الجمال أحدهما يخص الروح والآخر الجسد.أما جمال الروح فيفوق الجسد في معرفة الحشمة، والسلوك، والتربية الصالحة، وسماحة العقل، وكل هذه الفضائل يمكن أن تتجمع في إنسان قبيح ".
***
العام 1886 سألت احدى السيدات الكاتب الأنكليزي أوسكار وايلد وكان يعمل رئيسا لتحرير مجلة " عالم المرأة" عن الكتب التي ينصحها كامرأة بقراءتها فكانت إجابته مقال نشره في المجلة بعنوان " مقدمة في الفن " والطريف إن المقال الشهير الذي وضع فيه وايلد نظريته في الفن والأدب ترجمه الى العربية أحد أشهر أطباء علم النفس في العراق الدكتور علي كمال ونشرته مجلة الرسالة المصرية عام 1942، ومن وصاياه التي تضمنها المقال :" ليس هناك كتاب أخلاقي أوغير اخلاقي.الكتب أما أن تكون كتابة جيدة أو رديئة، وهذا كل شيء.
لا أحد منا يسأل نفسه لماذا يقرأ، فالبعض ربما يقرأ من أجل قضاء الوقت، والبعض يسعى نحو المعرفة، والبعض يفتش في الكتب عن نفسه فيما كثيرون يدفعهم الفضول، وإحدى فوائد القراءة كما يخبرنا جميع الكتاب هي أن نعد أنفسنا للتغيير.. بالنسبة لي لا أعرف لماذا بدأت حكايتي مع الكتب بقراءة الروايات، وخصوصا المليئة منها بالرسوم، مؤكد إنني كنت أبحث عن الحكاية وسحرها، وعرفت من خلالها متعة اقتناء الكتب والتعرف على أصحاب المكتبات وكان واحدا منهم "العم كمر" الذي بدأ حياته يفترش الكتب بجوارجامع الاورفه لي ثم افتتح مكتبة صغيرة اسماها السعدون
في " بسطية " العم كمر عثرت على رواية لم أسمع باسم كاتبها من قبل وانما الفضول تملكني وأنا أشاهد غلافاً ملوناً لكتاب بعنوان " شبح كانترفيل " ترجمة لويس عوض، وكان الكتاب مطبوع في 1968 وعلى صفحة غلافه الأخير قرأت : " هذه الرواية لكاتب انكليزي " أوسكار وايلد " صاحب الرواية الشهيرة صورة دوريان جراي والتي أثارت زوبعة كبيرة أدت الى القاء القبض على مؤلفها وايداعه السجن ".من هو أوسكار وايلد؟ ومن هو لويس عوض وما حكاية دوريان جراي التي ذهبت بصاحبها الى الحبس، سألت صاحب البسطية عن الرواية فقال لي انها غير متوفرة عنده الآن وسيجلبها لي الأسبوع المقبل، أخذت شبح كانترفيل ووضعتها مع كتبي المدرسية على أمل أن ألتقي بصورة دوريان جراي الأسبوع المقبل.
لم تستهويني شبح كانترفيل كانت قصة عن الأشباح ونساء غريبات الأطوار وقصر مسكون بالسحر ومؤامرات لم استطع أن أفهم منها شيئا آنذاك، كنت في شوق لاعرف لماذا سجن أوسكار وايلد وهل للاشباح والسحرة الذين قابلتهم في روايته " شبح كانترفيل " دور في ذلك، لم أفهم أن الكاتب يعد واحداً من ابرز كتاب المسرح الانكليزي، وإنه قدم نظرية خاصة عن الفن، وإن لويس عوض كرس أكثر من عشر سنوات لترجمة عدداً من أعماله الى العربية.لم تكن الأشياء واضحة في ذهني.ولكن ظل سؤال لماذا سجن يطاردني.
***
في ظهيرة يوم ممطر من شهر تشرين الثاني عام 1895، وقف أوسكار وايلد بانتظار القطار الذي ينقله الى السجن، كان قد حكم عليه بالأشغال الشاقة لمدة عامين بتهمة الأفعال الفاضحة، شاهد المارة الكاتب الشهير مكبل اليدين، في السجن تمت مراعاة مكانته فكلف بمهمة مساعد أمين المكتبة، مما أتاح له فرصة نادرة للحديث مع السجناء عن موضوع محبب الى نفسه، وهو القراءة. في الوقت نفسه أخذ يقدم نصائح ممتازة عن الكتب لمن يريد أن يقرأ من السجناء.
التقارير التي كانت تقدم عن وايلد في السجن تقول انه كان منهمكاً في إعادة قراءة الكلاسيكيات المحببة الى نفسه، فقد طلب أن يحصل على سبع كتب أبرزها الكوميديا الالهية لدانتي، ويكتب في رسالة الى شقيق زوجته إن : "الحرمان من الكتب فظيع مثله مثل الحرمان الجسدي في حياة السجن الحديثة، هذا الحرمان الجسدي لا يُقارَن بالحرمان التام من الأدب بالنسبة لشخص كان الأدب له أهم شيء في الحياة، الشيء الذي يمكن من خلاله إدراك الكمال، ومن خلاله وحده يمكن للعقل أن يشعر بأنه حي".
وفي عريضة قدمها الى وزير الداخلية شرح وايلد معاناته من نقص الكتب التي هي اساسية لكي يحافظ الانسان على توازنه العقلي. وقد سمحت له ادارة السجن بقراءة كتابين في الأسبوع، ولكن مكتبة السجن صغيرة جدا، فتم السماح له بادخال كتب جديدة، فطلب روايات غوستاف فلوبير وكتب ارنست رينان، وبعض مؤلفات شكسبير ورواية ثيربانتس " دون كيشوت "، وكتب سبينسر واشعار كيتس ومؤلفات افلاطون ونسخة من الانجيل، ومجلد يضم أعمال من المسرح الاغريقي، ونسخة من ألياذة هوميروس، ويكتب في احدى رسائله إن :" "الكوميديا الإلهية" لدانتي فوق كل الكتب ساعدته على فهم العالم البشع للسجن، لقد قرأت دانتي من قبل كل صفحة فيه، لا المطهر ولا الفردوس كانا يعنياني... ولكن الجحيم! ما الذي يمكنني فعله سوى أن أعجب به؟ الجحيم، ألم نكن ساكنين فيه؟ الجحيم: كان هو السجن".
بعدما قضى العام الأول من مدته، وضع وايلد مقترحات بشأن أفضل الكتب التي على السجناء الاطلاع عليها، وقد قسم قائمته الى ثلاثة اصناف من الكتب.
يضم القسم الاول الكتب الواجب قراءتها ويضع وايلد الكوميديا الالهية والياذة هوميروس ودون كيشوت في المقدمة بعدها رسائل شيشرون وكتاب رحلات مارك بولو ومذكرات سان سيمون ورواية مدام بوفاري وصومعة بارما لستندال.
أما القسم الثاني فيضم الكتب التي تستحق أن تُقرأ مثل مؤلفات افلاطون ودواوين كيتس وكتاب دليل المرأة الذكية لبرنادشو.
الى جانب هذين القسمين يضيف وايلد قسماً ثالثاً وهو يخص الكتب التي يجب ان لاتُقرأ، وهو يقول :" مثل هذه القائمة بالكتب السيئة ضرورة مهمة، خصوصا اننا نعيش عصر يقرأ كثيرا الى حد إنه لم يعد له الوقت ليتعجب ويفكر، ويطالب كل قارئ كتب أن يضع قائمة بأسوأ مئة كتاب ليجنب الشباب فوضى القراءة غير النافعة ".
ساهم أوسكار وايلد الذي عاش حياة قلقة في تجديد شكل الأدب والفن، وكان من أبرز نقاد الفنون، أهتم بالتجربة الفنية وركز على أهمية الفن في مواجهة الإنحطاط الذي يحيط بالعالم المتصل وعلى الزمن المنفصل لحظات والمتصل سنيناً وقروناً.
في روايته صورة دوريان جراي التي نشرها عام 1891. والتي اعتبرت درسا في الفن أكثر من كونها عملاً أدبياً، يروي لنا اوسكار وايلد حكاية الشاب الثري والجميل دوريان جراي، الذي قرر أن يكرس حياته للذة والجمال. وذات يوم، يهديه صديقه الرسام بازيل، لوحة رسمها له، وقد عبّرت بشكل كبير عن جمال شكله وفتنة شبابه. وأمام هذه اللوحة، يحسّ دوريان بغصة وبألم، إذ واتته أفكار عن الزمن الذي يمضي بالإنسان سريعا ويعجل بالشيخوخة، ويتمنى أن يحفظ له الزمن شبابه الدائم وشكله الجميل دون أن تؤثر فيهما عوامل الشيخوخة، وأن تتحول علامات الزمن على اللوحة ليرى كيف سيغير الزمن ملامحه. وتتحقّق له أمنيته، بمعجزة ما، إذ أن اللوحة التي يخبئها دوريان جراي في مكان سري، تحمل عنه كل الرذائل التي يمارسها وتعب السنين وتنعكس على ملامحها أثار الزمن، أما هو فيبقى محافظا على شبابه وجمال شكله. وهكذا يتمكن دوريان جراي أن يعيش حياته كما يريد ينصرف الى ممارسة جميع أنواع الملذات مع صديقه هنري ووتون، الذي يصاب بالدهشة لأن دوريان جراي لايشيخ بينما الزمن والسهر يؤثران على حيوية وصحة ووتون. ودوريان لفرط انصرافه الى حياته يتجاهل النظر الى اللوحة لكنه يتذكرها بعد ان تنتحر خطيبته سيبيل فيجد أن صورته تظهر عليها أول ملامح القسوة، بعد ذلك تبدأ ملامح اللوحة تتغير بتغير سلوكيات دوريان جراي الذي يقرر أن يقتل الرسام بازيل، وتبدأ اللوحة تذكره بالخدعة التي يعيش فيها، وبأنه يعيش حياتين، وتضع له اللوحة أمام ناظريه وجهه الحقيقي، البشع والعجوز والذي لا يعرف عنه الآخرون شيئاً. وإذ تتصاعد مشاعر القلق والرعب والجنون داخل دوريان كلما نظر الى اللوحة أكثر وأكثر، يشعر بأن هذه اللوحة هي حقيقته وليس وجهه الشاب الذي لايشيخ، وينتهي به الأمر الى طعن اللوحة بالسكين راغباً في التخلّص منها، فإذا به يسقط ميتاً وكأنه وجّه الطعنة الى نفسه لينهي حالة الإنفصام التي عاشها.
 
وعلى السرير جلست وقرّرت السفر إلى القمر
 علي حسين

| 3 |


إن الكتب التي تساعدك أكثر هي الكتب التي تجعلك تفكر أكثر.، فالكتاب سفينة من الأفكار، محمل بالحقيقة والجمال.
بابلو نيرودا
كان اندريه جيد يقول لصاحب دار غاليمار للنشر : " هناك ثلاثة أنواع من البشر يدخلون المكتبات، النوع الأول يستمتع بشكل الأغلفة، والثاني يبحث عن ما يشغل وقته الفائض والثالث الذي يتمنى أن لايصل الى نهاية الكتاب "
في السادسة عشرة من عمره وبعد أن أيقن إن مسيرته المدرسية ستنتهي بالفشل، قرر هرمان هيسه أن يعمل بائعا للكتب ليحصل على المال، وأيضاً ليكون قريباً من عالم يعشقه جدا، فهو يتذكر انه خلال فترة صباه كانت مكتبة جدّه المليئة بأمهات الكتب تثير في نفسه السعادة :" قرأت نصف أدب العالم منكبّا على تاريخ الفن واللغات والفلسفة بمثابة من شأنها أن تؤهلني للنجاح في أي جامعة اعتيادية".
كان هيسه قد عمل من قبل ميكانيكياً، لكنه وجد في مهنة بيع الكتب متعة وفائدة أكبر من العجلات والبراغي والمفكات التي اضطهدته، وأثناء عمله أنغمس في قراءة التاريخ :" لاحظت إن في المسائل الروحية تكون الحياة في الحاضر المعاش والأكثر معاصرة غير محتملة تماماً وخالية من أي معنى.ومن الممكن فقط الوصول الى الحياة الروحية بالعودة المستمرة الى ماهو ماض الى التاريخ، الى القديم، الى البدائي ".. ومن أجل العيش مع التاريخ أنتقل من مخزن الكتب الذي يبيع الكتب الحديثة الى مكتبة متخصصة بعرض كل ماهو قديم من كتب ومخطوطات.
في العام 1890 يحدث التحول الكبير في حياته، فقد قرأ خبر وفاة فريدريك نيتشه، لم يكن يعرف شيئا عن الفيلسوف الألماني الكبير، فبحث في المكتبة عن كتبه، آنذاك كان هيرمان هسه مصمماً على أن يجعل الجميع يعترفون به شاعرا، كتب عدداً من القصائد لم تنجح وحين عثر على كتاب نيتشه " هكذا تكلم زرادشت " وجد إن الفيلسوف قد أخذ بيده : " كان الجفاف يحيط بي فأخذ نيتشه بيدي "، هكذا أصبح نيتشه بشاربه الكث ونظراته المجهدة هو الكاتب الذي شغف به ابن الثالثة عشرة، ليكتب في دفتر يومياته : "لقد أعاد نيتشه تقييم كل القيم التي كنا نؤمن بها."
اكتشف هيسه من خلال عمله في المكتبة إن حياته متعلقة بالكتب، وكان يستمتع كثيراً حينما يجد نفسه لوحده مع الكتب :" ها أنا ذا وحدي بمحض إرادتي، وحيد وسعيد بوحدتي مع الكتب "
يخبرنا هسه إننا جميعا في بعض الأحيان نقرأ بسذاجة، نستهلك الكتاب كما نستهلك الطعام، نأكل ونشرب حتى نشبع، وبهذا نتحول الى مجرد متلقين، لاننظر الى الكتاب كندٍ لنا، بل مثلما ينظر الحصان إلى سائقه، أينما يقود الكتاب تجدنا نتبعه، نأخذ الأفكار وكأنها أمر واقع، ويطلب منا أن نواجه قضية القراءة بحرية كاملة، وأن لانتطلع الى التثقيف أو التعليم من خلال الكتب، بل علينا أن نستخدم الكتاب كما يستخدم أي شيء آخر في العالم، القراءة يجب أن تكون مجرد نقطة انطلاق وتحفيز."- داخل المكتبة ترجمة راضي النماصي -
من بين كل الزائرين للمكتبة التي كنت أعمل فيها، أعتقد أن لا أحد منهم يشبه شغف الروائي فؤاد التكرلي بالكتاب.قال لي يوماً أنا أحب الكتب التي تعيش طويلاً مع القارئ، وحين شاهد حيرتي أضاف مبتسماً : " عليك أن تعرف إن للكتب أيضاً حياة مثل الإنسان، فهناك كتب تعيش حياة طويلة وأخرى لها حياة قصيرة، وأشار الى رواية آنا كارنينا الموضوعة على أحد الرفوف : هذا الكتاب استطاع أن يصمد طويلاً أمام متغيرات الزمن لأن تولستوي فيه استطاع أن يغوص في داخل النفس البشرية ".
قلت له : لقد قرأت الحرب والسلام.. إنها تحفة.
قال وهو يتصفح الكتب التي قرر شراءها : " كنت قد قرأت تولستوي ودستويفيسكي في الخمسينيات، لكني شغفت أكثر بتشيخوف.. الغريب قبل أسابيع أعدت قراءة الحرب والسلام فاكتشفت إن تخطيط الرواية عنده غير منظم ولا متسق، قد تجد عشرات الصفحات تنفق في وصف شخصية من الشخصيات وصفاً دقيقاً، في حين أنك لا تجد هذا في آنا كارنينا، فهل هي مثل رواية مدام بوفاري لفلوبير حيث كل شيء منظم بدقة ".
• قبل أيام قرأت رواية لعبة الكريات الزجاجية لهرمان هيسه لكني لم أفهم منها شيئاً قلت اوانا انتظر ان يرشدني للطريقة الصحيحة لفحل الغاز هذه الرواية المعقدة..
وضع الكتب التي كان يتصفحها جانبا: " هل تعرف إن هيرمان هيسه اشتغل في مسائل التحليل النفسي وكان صديقاً لفرويد، ولهذا تراه في معظم رواياته يحلل مشاعر الشخصيات بدقة ومعظم رواياته تعبر عن أزمة الانسان ". ويكمل التكرلي :" رواية " لعبة الكريات الزجاجية " صعبة لأن هرمان هيسه وهو يكتب الرواية أعاد قراءة مئات الكتب عن ثقافة القرون الماضية وأعاد قراءة أعمال نيتشه خصوصا كتابه " مولد التراجيديا، وتفرغ لسماع موسيقى فاجنر واطلع على كتاباته الفلسفية، إنها رواية تتأرجح بين الموسيقى والفلسفة والادب العميق، أوصيك أن تعيد قراءتها ثانية وبهدوء ".
عندما صدرت لعبة الكريات الزجاجية عام 1943 كتب توماس مان رسالة الى هيرمان هيسه بعد ان انتهى من قراءة الرواية :" روايتك هذه كتبت بإسلوب ساحر وعميق تذكرني بأزمة نيتشه وصرخته الأخيرة من اجل انقاذ الروح البشرية "
في كل مرة نعيد فيها قراءة كتاب، نكتشف إننا إزاء كتاب جديد، في قراءاتي التالية للعبة الكريات الزجاجية صادفت عالماً آخر، مثلما اكتشفت فيما بعد أن هناك قراءات كثيرة ومختلفة للرواية من قبل النقاد.لقد قيل أحيانا أن هرمان هسه في اهتمامه المعلن بالموسيقى والفلسفات الشرقية، وفي توكيده على ظاهرة التأمل الروحي، قد عزل نفسه عن التيارات الرئيسية في الأدب الحديث، ورواية " لعبة الكريات الزجاجية " قد أكدت هذه الفكرة، فقد قال العديد من النقاد انهم وجدوا في روايته الاخيرة هذه دعماً جديداً للفكرة القائلة إن مؤلفها فنان عظيم، لكنه في الوقت نفسه فيلسوف يغلف أفكاره باشكال فنية صعبة.
القضايا المطروحة في لعبة الكريات الزجاجية قضايا مثيرة من خلال محاولة وصفه لمنطقة من العالم تعيش في المستقبل عام 2200، حيث نجد جماعة روحية تريد إحياء نهج الطرائق الدينية القديمة، حيث لاوجود للمال والزواج، الشاغل الوحيد هو الفن والعلم الخالص، ونجدهم يضعون نظاما دقيقا، لكل واحد وظيفته : " كلما ارتفع شأن المنصب كلما زاد عمق الارتباط، وكلما عظم شأن الوظيفة كلما اصبح الواجب أشد وأقسى.فلامكان للظلم والاستبداد ".
في هذه المدينة المتخيلة يعيش بطل الرواية " جوزف كنخت " الذي يكتشف معلم الموسيقى مدى ذكائه فيلفت نظر النخبة إليه للإهتمام به وضمه إلى نخبة النجباء من أعضاء مجموعة من العباقرة الذين يدربونهم ويثقفونهم على أمل أن يصبحوا لاحقاً من نحبة المدينة... وجوزف يتلقى ذلك الاهتمام حيث تصبح الموسيقى همه الأساس، إضافة الى تعلّمه ممارسة لعبة الكريات الزجاجية. ولكن بما أن قيادة النخبة، تريد التقارب مع الفاتيكان في عالم الزمن المقبل " 2200 " حيث لم تعد هناك حروب وكوارث متتالية، ولا يوجد في العالم سوى سوى قوتين كبيرتين هما النخبة التي تعيش في هذه المدينة والتي تمثل عند هيسه عالم العقل المطلق والفاتيكان الذي هو عالم الإيمان الروحي، فان مهمة مهمة جوزف ستمون الاتصال بالفاتيكان، بيد أن جوزف يرفض... على رغم تعيينه معلّماً أعلى، لأنه يدرك ذات لحظة أن الجماعة التي انتمى إليها، كما لعبة الكريات الزجاجية نفسها آيلة للفناء والزوال، أما الخلود فهو بالنسبة إليه في مكان آخر تماماً، هناك حيث حكمة التاريخ وقيم العلم : "يكتشف جوزف إن الحياة الحقيقية ليس في عالم القشتالية الجامد الأبدي اللامتغيّر. ومن هنا يأخذ على عاتقه مهمة جديدة من الواضح أن أحداً لم يكلفه بها سوى عقله: مهمة خلط عالم النخبة الذي يمثل النقاء والطهارة الخالصين بالعالم الخارجي حيث الحيوية والحركة "... ولكي يحقق حلمه هذا ، سيكون عليه أن يبدأ من البداية، أي من الاهتمام بتعليم الصغار، وتكون هذه البداية هنا مع أطفال صديق له ينتقل معه للإقامة في الجبل حيث ذات يوم فيما يكون محتفلاً بحريته عبر رقصة فوق بحيرة جليدية هناك يؤديها بدعوة من صديقه الشاب يغرق ويغرق ليختفي تماماً ولا تبقى منه سوى قصائده وأوراقه. ولكن هل كان ذلك الاختفاء نهاية وجوده؟ على الإطلاق حتى وإن كانت الرواية تتوقف ة عند تلك النقطة، فان هسه اراد ان يقول لنا ان الحياة في تطور مستمر
كانت لعبة الكريات الزجاجية أخر رواية يكتبها هسه الذي حصل بعد نشرها بثلاث سنوات عالم 1946 على جائزة نوبل للاداب، ليتفرغ بعدها لهوايته المحببة الرسم، حيث اعتاد سكان الحي الذي فيه بيته أن يشاهدوا كل يوم الرجل الذي كانوا ينعتونه " بالمتمرد " وهو يعتمر قبعة من القش وحقيبته على كتفه حيث كان يحمل معه فرشاة الرسم والاصباغ والألوان وفي يومياته يكتب هسه :" إنني أعيش في وحدة كاملة، ولا أعرف شيئا عن العالم، أقرأ وأرسم كثيراً وأستمع الى الموسيقى التي تساعدني على التأمل ".
************

يعيش القارئ ألف حياة قبل أن يموت. أما ذلك الذي لا يقرأ أبداً فيعيش حياة واحدة فقط.
جورج مارتين
يتذكر رسل مكتبة جدّه التي أثارت اهتمامه لما حوته من كتب في التاريخ والسياسة : "كنت أعرف كل كتاب من كتب المكتبة، وكنت أبحث في أركانها عن ما يثير مخيلتي من التاريخ القديم".
لعل أجمل سني حياتي تلك التي قضيتها أعمل في مكتبة أقاربي كانت السنوات بين عمر الخامسة عشرة والخامسة والعشرين، أبهج أيام العمر بالنسبة لي، وعندما أسترجع اليوم ما كنت أقرأه في تلك السنوات لاتدهشني عدد الكتب بقدر ما تدهشني تنوعها، كان الفضل الأكبر في هذا للمكتبة التي قررت أن أعمل فيها من دون أجر سوى فرصة اقتناء الكتب دون مقابل، سيل منوع بعضها روايات للفتيان ذات الطباعة الأنيقة والملونة، وما كان يؤلفه طه حسين والحكيم وعباس محمود العقاد وسلامة موسى ونجيب محفوظ. وكتب أخرى ما تزال منطبعة في ذهني حتى الآن واحد منها كتاب ممتع اسمه " الفيزياء المسلية " اصدرته دار نشر سوفيتية انذاك وبنسخة عربية، وأتذكر إنني أخذت الكتاب الى البيت، كنت أشعر بالإثارة وأنا اقرأ عن ظواهر نصادفها كل يوم ولكننا لانعرف الإجابة عنها.
متى ندور أسرع حول الشمس، كيف يجب القفز من العربة المتحركة للأمام أم للخلف، أيمكن أن نمسك رصاصة متحركة، كم يزن الجسم عند سقوطه، كيف نعرف البيضة المسلوقة من النيّئة، كيف تنقل الماء بالغربال، هل صحيح إن الجليد لا يذوب في الماء المغلي، لماذا وكيف ينكسر الضوء، هل من السهل كسر قشرة البيضة، وأعجبتني طريقة المؤلف البسيطة في شرح النظريات العلمية المحيرة، وعرفت فيما بعد أن مؤلف " الفيزياء المسليّة " عالم روسي اسمه ياكوف بيريلمان، توفي في عام1942.ولعل من أجمل الحكايات التي قرأتها في كتاب بيرلمان، هي حكاية جول فيرن وروايته الشهيرة " من الأرض إلى القمر " والتي تخيل فيها الروائي الفرنسي إمكانية إرسال بشر إلى سطح القمر عن طريق وضعهم في كبسولة وإطلاقها عبر مدفع إلى القمر!.
وبالطبع فإن من يقرأ رواية صدرت قبل عام اكثر من قرن ونصف، تتحدث عن الصعود للقمر، سيأخذها على محمل الخيال وضروب الجنون والخبل، وسيتعامل معها على أنها رواية طريفة خيالية يسلي بها وقته فحسب!. لكن بيرلمان يأخذها على محمل الجد تماماً!، ويذهب في تفصيل إمكانية تطبيق نظرية جول فيرن عملياً.
يخبرنا أنيس منصور أن العقاد قال له يوماً إن هناك نوعان من الصدمات، واحدة تفتح الرأس، وواحدة تفتح العقل، وهذه الثانية هي التي تحدثها قراءة الكتب، وبعد انتهائي من قراءة " من الارض إلى القمر " كان لابد لي من اتخاذ قرار يجيب على سؤال مهم الى أين يذهب اولئك الذين يملكون شغفاً بالكتب.
في يوم من صيف عام 1839 خيّم جو من القلق على بيت المحامي " بيير فيرن " فقد تغيب الأبن الصغير فجأة عن المنزل، وقالت شقيقته الكبرى إنها شاهدته يخرج في الصباح باتجاه البحر، وصرخت أمه إن هذا الصبي لابد أن يكون قد غرق، وذهب الجميع باتجاه البحر فأخبرهم أحد البحارة انه شاهد الصبي جول يصعد في مركب ليأخذه الى واحدة من البواخر التي ستنطلق الى الهند.
وصرخت الأم : يا ألهي الهند
ويسرع الأب الى المرفأ، وهناك يخبروه إن السفينة قد أبحرت، فيقرر أن يستأجر زورقاً للحاق بها، وقد نجح في الوصول الى ابنه الذي وجده ينظر الى البحر، وحينما عاد جول الى البيت سألته أمه عن سبب هروبه اخبرها إنه كان بصدد السفر الى الهند ليحصل على عقد من المرجان يقدمه هدية لابنة عمه، كانت هذه أول مغامرات الفتى الذي لم يبلغ الثانية عشرة من عمره، كان الجميع يدرك أن لجول تصرفات غريبة، فتتذكر أمه إنه حبس نفسه في غرفته حيث قام بتصنيع جزيرة سماها " جزيرة فيدو " استمد شكلها من قراءته لكتاب الف ليلة وليلة، كان الصبي جول يمتلك خيالاً مدهشاً ولهذا قرر أن يستخدم هذا الخيال في كتابة القصص التي كان يكدسها في غرفته، لم يشأ أن يطلع عليها أحد فقد كانت تلك الكتابات تدور حول امكانية الطيران في الجو او الغوص في اعماق الارض، وهو موضوع استولى على تفكيره آنذاك، ورغم حلمه هذا فإنه لم ينس البحر ومغامرته الاولى فنراه يكتب عام 1855 في يومياته :" أحد الاصدقاء تكرم علي برحلة مجانية الى اسكوتلندا " هكذا استطاع جول فيرن أن يتعرف على البحر أكثر، ويبدأ بتسجيل انطباعاته على الورق يزينها برسومات ملونة، لكنه كان مشغولاً بقصة أخرى حكاية رجل يصل الى افريقيا عن طريق بالون اسماها " قصة بالون " يقرر في عام 1862 أن يعرضها مع مجموعة من القصص القصيرة على أحد الناشرين، ما إن ينتهي الناشر من قراءتها حتى يقول له :" آسف بالرغم مما تحمله هذه القصص من أفكار جديدة إلا إنها مكتوبة بطريقة مفككة " وينصحه بان يركز في كتابة رواية واحدة متماسكة "
ويمر شهر ويعود جول فيرن الى الناشر ومعه رواية عن رحلة حول العالم يقوم بها شخص من خلال بالون. يتصفح الناشر الرواية، ويدرك أخيراً إنه وجد المؤلف الذي يبحث عنه، ويحرر معه على الفورعقداً، يطلب من خلاله أن يزوده جول فيرن بروايتين كل عام مقابل عشرة الآف فرنك عن الكتاب الواحد ولمدة عشرين عاماً، وبعد أسابيع يشاهد المارّة على واجهات المكتبات كتاباً ملوناً بعنوان " خمسة أيام في بالون "، وسارع الآباء الى شراء نسخ لاهدائها الى أبنائهم، وتنفذ الطبعة الاولى، وسرعان ما تترجم رواية جول فيرن الى معظم لغات العالم، بعدها ينشر روايته المثيرة " رحلة الى مركز أعماق الارض "،وفي عام 1864 ينشر روايته الثالثة والمثيرة " من الأرض الى القمر " والتي قيل انه استوحاها من قصة قصيرة لإدغار آلن بو التي يروي فيها القاص الشهير حكاية رجل يقرر السفر الى القمر بواسطة منطاد، إلا أن رواية جول فيرن تختلف في فكرتها حيث بنى الرواية على تصور صنع مدفع عملاق يطلق قذيفة خارج جاذبية الأرض، وقد استعان فيرن بأحد أقاربه وهو عالم رياضيات لضبط الحسابات اللازمة لاطلاق المدفع حيث، ليعرف ما هي السرعة المطلوبة التي تؤدي الى انطلاق القذيفة خارج نطاق الجاذبية الارضية، فنحن امام مجموعة تقرر ارسال ثلاث رجال الى الفضاء من خلال قذيفة يطلقها مدفع عملاق باتجاه القمر، ولم يعلم أحد من القراء ما اذا كان هؤلاء الرجال سيعودون الى الارض أم سيختفون في الفضاء، وكان على القراء أن ينتظروا الإجابة على هذه الاسئلة حتى نشر جول فيرن روايته الرابعة " حول القمر " فقد اخبرنا عن مصير الرجال الثلاثة الذين نجدهم في الرواية الجديدة في حالة من انعدام الوزن ،وهم يدورون حول القمر.
أول مرة رأيت فيها اسم جول فيرن كانت من خلال سلسلة مطبوعات باسم كتابي، وهي كتب بحجم كف اليد الصغيرة يلخص من خلالها مترجمها حلمي مراد أمهات الكتب، أتذكر انني اخذت الكتاب وكان الوقت شتاءً، حيث ذهبت الى السرير تلحفت بالغطاء حتى ذقني، وبدات أقرأ رحلة جول فيرن الى القمر، تخيلت نفسي داخل المدفع العملاق، ثم وأنا أحلّق في الفضاء، وبعد سنوات حين قرأت رواية ه.ج ويلز " أول من وصل الى القمر " كنت أتذكر ذلك الصبي الممدد على السرير، الحالم بالنجوم والسماء، يمسك كتاباً صغيراً يبدو في شكله الخارجي، مجرد رواية مغامرت، لكنه يكتشف إنه يعيش مع كاتب تحفل رواياته بالمفاجآت التي من شأنها أن تلقي السرور في نفس قارئ صغير أدهشته انذاك تلك الرواية التي جعلت كاتبها يحاول أن يحل ألغازاً تدور في أذهاننا جميعاً، وبعد سنوات حين أعيد قراءة " من الأرض الى القمر " أدرك جيداً إن جول فيرن لم يكتب رواية مغامرات، بل حاول ان يقدم للقارئ عملاً فكرياً يلخص إيمان الكاتب بالإنسان وبالفكر الإنساني القائم على سلطة المعرفة، وعلى قدرة الحضارة على أن تقدّم للإنسان، ليس أجوبة نظرية فقط، بل حلولاً عملية أيضاً.
 
مَن الذي لايتمنّى أن يلتقي "الأميرَ الصغير"
 علي حسين

| 4 |

معرفة القراءة، هي أفضل شيء حدث لي في هذه الحياة.
ماريو فارغاس يوسا


كانت فرجينيا وولف تأمل أن تكتب رواية للأطفال شبيهة بما كتبه الفرنسي سانت إكزوبيري في " الأمير الصغير "، في يومياتها تكتب " نحتاج الى كتب تجعل القراءة بالنسبة إلينا متعةً، قبل أن تكون سبيلاً الى المعرفة أو مجالاً لتصحيح آراء الأخرين "، وبعد قراءتها لأعمال سانت إكزوبيري تخبر زوجها أن هذا الكاتب الفرنسي له : " موهبة فياضة في رواية القصة التي يكتبها، تلك الموهبة التي أصبحت أندر المواهب وجوداً بين كتاب القصة في العصر الحديث ".
حين كنت في المدرسة المتوسطة أعطاني مدرس اللغة العربية نسخة مصورة من رواية " الأمير الصغير "، ومثل أي قارئ صغير كنت اعتقد أن هذه هي النسخة الوحيدة من الرواية، في البداية وأنا أقرأ الصفحات الاولى لم أفهم ماذا كان يريد مؤلف القصة، إضافة الى ان هناك الكثير من كتب لم أفهمها في قراءتي الاولى، فقد كنت اقرأ من أجل المتعة فقط، قاطعاً الطريق مع ابطال الروايات عبر الدروب التي يتنقلون فيها، تاركاً نفسي تنساق مع أحداث الرواية.
ظل الآدب يسأل ما هو الإنسان، وجاء نيتشه ليطرح سؤالاً جديداً ماذا يستطيع الانسان؟ وحاول سانت إكزوبيري أن يجمع بين السؤالين ويسأل : ماذا سيصير مصير الانسان؟..فقد سعى إكزوبيري من أول كتاب أصدره بريد الجنوب عام 1926 وحتى كتابه القلعة الذي نشر بعد وفاته عام 1951 مروراً بـأرض البشر والأمير الصغير وطيران الليل، ان لا يتوقف عن تمجيد الإنسان. فالكاتب والميكانيكي والطيار وموظف البريد والهائم في الصحراء، كان في بحثه عن ماهية الإنسان أشبه بصاحب رسالة أخلاقية حاول من خلالها أن يمارس دور المرشد الروحي من خلال كتب لاتزال على قائمة الأعلى مبيعاً في العالم.
تكتب فرجينيا وولف في مقالة بعنوان " كيف نقرأ كتاباً كما يجب " : " من البساطة أن نقول بما أن للكتب تصانيف، فيجب علينا أن ننتقي من كل صنف ما هو مفيد وخليق بأن يمنحنا الجديد. يبقى هناك الذين يسألون عما تعطينا إياه الكتب. غالباً ما نأتي الى الكتب أول مرة ونحن بعقول مقسمة ضبابية، نبحث وقتها عن الرواية التي حدثت في الواقع، وعن الشعر الكاذب، وعن السيرة الذاتية المغرية، وعن كتب التاريخ التي تؤجج كبرياءنا. إذا استطعنا إبعاد كل هذه التصورات المسبقة عندما نقرأ، فإن هذه ستكون بداية مثيرة للإعجاب. لاتُملِ. إذا تراجعت عن ذلك، وأصدرت حكماً مُسبقا في البداية، ستمنع نفسك من الحصول على أي فائدة دسمة مما تقرأه." – داخل المكتبة ترجمة راضي النماصي-
يمكنني أن أتذكر الأنفعالات التي ولّدتها اول الكتب في نفسي، هكذا كتبت فرجينيا وولف في رسالة عام 1918 وجهتها الى قارئة تسألها عن أهمية الكتب في حياة الانسان..اعتادت وولف أن تقرأ في الصالة الخضراء في منزلها الذي اشترته منزل بسيط في إحدى القرى مشيد بالحجر وسط حديقة كبيرة، حيث كان هذا البيت بالنسبة لها ملجأ للهدوء والطمأنينة :" هذا البيت عبارة عن مركب يحملني فوق أمواج القراءة والكتابة المقلقة والمخدرة في آن واحد ".
وفي غمار الحرب إنزوت الكاتبة الانكليزية الشهيرة في ركن من الصالة لتعيد قراءة شكسبير ولتتعرف على أهواء النفس البشرية وهي تواجه الدمار وآلة القتل :" شكسبير يزودنا برؤية واضحة ومخيفة عن الطبيعة البشرية ومصير الإنسان ".
أتذكر أنني قرأت رواية فرجينيا وولف "السيدة دالاواي" في ترجمتها العربية التي قام بها عطا عبد الوهاب في منتصف الثمانينيات، وما زلت أتذكر كيف أنني شعرت بالملل، وأعترف أنني فشلت منذ الصفحات الاولى في التعرف على اسرار هذه الرواية، وفشلت محاولاتي للظهور بأنني قارئ جيد، أمام تلك السيدة التي تريد أن تشعرنا أن للساعات في حياتنا أهمية كبيرة علينا أن نعرف جيدا كيف نقتنص لحظات الفهم والمعرفة فيها. كنت قارئاً كسولاً أو بتعبير أدق قارئاً عادياً مثلما تصفناً فرجينيا وولف في كتابها الممتع "القارئ العادي "، هذا القارئ الذي دائماً ما يبحث عن الأشياء السهلة التي تقدم له بعضاً من المعلومات الضعيفة والبعيدة عن الدقّة. صادفتني السيدة دالاواي وأنا لا أملك خبرة في قراءة الرواية الحديثة. قبلها كنت جربت مع "يوليسيس" جيميس جويس بترجمة الدكتور طه محمود طه. وقد فشلت فشلاً ذريعاً في حل ألغاز الرواية، وعرفت فيما بعد أنني لم أكن الوحيد الذي ناله التعب فقد سألت الكثير من الأصدقاء : هل قرأتم رواية (يوليسيس)؟ كان البعض منهم يضحك وآخرون يقولون : لم يقرأها سوى القليل، ومررت بالتجربة نفسها وأنا أصارع انفعالات ناتالي ساروت في ترجمة فتحي العشري.واكتشفت بعد سنوات أن ساروت وقبلها فرجينيا وولف وقبلهما المعلم جيميس جويس، تخلوا بإرادتهم عن السرد التقليدي وألغوا الشخصية والعقدة والتسلسل الزمني مثلما تعودنا عليه في روايات القرن التاسع عشر، واعتمدوا بديلاً عن ذلك التكرار والملاحظة الدقيقة للأشياء الصغيرة والأحداث اليومية، وسعوا جميعا الى تغييب التسلسل الدرامي للاحداث. هكذا غيّرتني السيدة وولف لأصبح قارئاً يحمل شيئاً من النباهة، كما يقولون..العجيب إن فرجينيا وولف كان لها رأي آخر في جيميس جويس حيث وصفت روايته يوليسيس بانها "كتاب أمي، هجين، كتبه رجل مُحزِن، أناني، لجوج، فظ، ومثير للغثيان".. وفي سيرتها الذاتية التي كتبها ابن اختها كوينتين بيل يخبرنا أن رواية يوليسيس أثارت حفيظة فرجينيا وولف، وحركت فيها نزعة الخوف والحسد والإعجاب في نفس الوقت، فقد كانت تعتقد ان للرواية جوانبها الجمالية، لكنها لاتخلو من الخشونة والسوقيّة، لقد خيل إليها أن كاتباً آخر قد انتزع قلمها من يدها ليحط في جرأة متناهية ما عجزت هي عن التعبير عنه.
************
حين ولدت فرجينيا وولف في الخامس من كانون الثاني 1882، لعائلة ارستقراطية تعيش في ضواحي لندن، ظن الجميع إنها لن تعيش طويلاً فقد كانت ضعيفة البنية، كادت تموت تحت نظر والديها، سترافقها الأمراض طيلة حياتها وتلزمها باتخاذ احتياطات طبية صارمة. هذا المرض تحول مع مرور الزمن الى فرصة لأن تنسحب الى عالمها الداخلي وتتفرغ لكتبها وأوراقها، في التاسعة من عمرها كتبت قصصاً قصيرة، كتمت منذ الصغر حباً محرماً لوالدها، توفيت والدتها وهي في الثالثة عشرة، فأصيبت بنوبات من الهيستريا، كانت تخاف الظلام. توفي والدها بعد عامين آخرين فأصيبت بانهيار عقلي، حاولت الانتحار أكثرمن مرة، اعتقد المقربون منها إن زواجها يمكن أن يداوي آلام غياب الأب، تعرفت الى زوجها ليونارد عن طريق أصدقاء مشتركين. عندما طلب الزواج منها استاءت وكتبت إليه رسالة حادة ينقلها لنا "كوينتين بيل" في سيرة حياتها : "أشعر بالغضب من طلبك، تبدو أجنبياً للغاية، وأنا مضطربة الى درجة تثير الخوف. كما قلت لك بقسوة.، لا أشعر بأي انجذاب جسدي نحوك. مع ذلك يغمرني اهتمامك بي". ونجدها في نفس اليوميات تعترف إنها لم تشعر أبداً بمتعة جسدية مع زوجها، رغم حبها الشديد له.
حار الأطباء في معرفة نوع مرضها وأسبابه، وعزاه عالم النفس جاك لاكان الى الحساسية المفرطة التي لازمتها طوال حياتها والى الخوف من الجنس بعد أن تعرضت للتحرش الجنسي وهي في سنّ السادسة.
في رواية السيدة دالاواي التي أعدت قراءتها من جديد بعد سنوات نجد أنفسنا أمام سيدة تتهيأ للاحتفال بعيد ميلادها، وهو حادث مهم تضطر السيدة دالاواي لان تغرق بسببه في الذكريات التي تزدحم بالأحاسيس والانطباعات والأسرار، ومن خلال "المنولوج" الداخلي نعرف كل شيء عن حقيقة هذه السيدة، ورغم أن الرواية تعرض لنا ثلاثة أزمنة من حياة دالواي، إلا أن أحداثها تدور في يوم واحد هو يوم عيد ميلادها، لكنها تستغرق أيضاً مساحة أخرى عريضة في حياة صاحبتها، مضافاً إليها مساحات زمنية اخرى تمثل علاقتها بالاخرين، وتستخدم وولف حيلة فنية وهي الاستعانة بساعة " بيك بن " الشهيرة التي لاتكف عقاربها عن الدوران بشكل منتظم، بينما الزمن الخاص الذي تنتمي إليه السيدة دالاواي ينبسط وينقبض، يتأخر ويتقدم وكأنه شريط سينمائي حافل باللقطات القريبة والبعيدة والمتوسطة، يتأرجح ما بين الماضي والحاضر، ونرى فرجينيا وولف تأخذ دور المونتير في السينما، فهي تلتقط اللقطات التي تسجلها العدسة ثم تحاول إعادة ترتيبها وتوليفها، لتستقر في النهاية على نسخة العرض النهائية من الفيلم – الرواية، وهكذا نجد أنفسنا أمام روائية تحاول أن تضع الزمن الخارجي جنباً الى جنب مع الزمن الداخلي، فنلاحظ أن السلوك العام لكل من " كلاريسا دالاواي " و" بيتر والش " و" سبييموس سميث " إنما محكوم بالزمن المادي، بينما يسيطر الزمن الداخلي – في نفس الوقت – على كل ما يجري في أذهانهم من صور وذكريات واوهام.
في العام 1927 تنتهي فرجينيا وولف من كتابة روايتها "اورلندو" - صدرت عن دار المدى بترجمة توفيق الأسدي - وتهديها الى إحدى صديقاتها التي جعلتها شخصية متحوّلة تبدأ حياتها فتىً، وتنتهي امرأة. أسرت بكتابتها جيلاً من الكتّاب الذين اعتبروها "منارة الرواية الحديثة "، تناولت في"الأمواج" ست شخصيات تروي حياتها من الطفولة الى الشيخوخة.، يخبرنا ابن شقيقتها، بأن كل رواية كتبتها كانت تثير عندها صداعاً مزمناً وتهيجاً عصبياً وفقداناً للشهية حتى عدّها الاطباء مجنونة، لكنها تغلبت على حالات الكآبة ومضت تعالج نفسها بالانصراف الى الكتابة، ويضيف كوينتين بيل: أن لحظات الاكتئاب كانت تعقبها لحظات الإبداع، وأن بوسع فرجينيا أن تنتفع من أمراضها".
كتبت ثلاث رسائل وداع، قالت في واحدة منهن :"إنني أجنُّ ثانية، وأشعر أنني لا أستطيع مواجهة وقتٍ صعب آخر. لن أشفى هذه المرة. بدأت أسمع أصواتاً ولا استطيع التركيز، لذا سأقوم بما يبدو أفضل ما يمكن فعله... لا أستطيع إفساد حيوات القريبين مني أكثر مما فعلت". رأى زوجها الرسائل الثلاث وركض الى النهر. كان الحذاء الذي ارتدته يعوم، تمنت بطلة رواية " اورلندو " ألا يجدوا جثتها، لكن جثة كاتبة بريطانيا الشهيرة وجدها الأطفال تطفو قرب الجسر، دُفنت في حديقة منزلها ومثلما طلبت في وصيتها بالعبارة الأخيرة من روايتها الأمواج : "عليك ألقي نفسي بلا هزيمة أو استسلام يا موت".
************
أنا أقرأ لكي أبحث عما يلمع..فأنت تقرأ في النص من أجل شيء يضيء أمامك
هارولد بلوم
كتب سانت اكزوبيري الأمير الصغير أثناء اقامته في نيويورك بناء على طلب أحد الناشرين الذي أراد أن ينشر قصة للاطفال ويعرضها في واجهات المكتبات في أعياد الميلاد. كان يجلس في أحد المطاعم عندما رسم صورة لصبي صغير على غطاء المطعم، فاقترح عليه الناشر أن يجعل من صاحب الصورة بطلاً لرواية تكتب للصغار، ورغم أن الرواية كتبت خصيصاً للاطفال، إلا أن معظم النقاد والباحثين في الأدب يعتبرونها رواية لكل الأجيال لما فيها من الافكار العميقة التي تجعلها أشبه بنص فلسفي يقدم فيه مؤلفه أفكاره عن الحياة، لتضاف الى سلسلة من الكتب اتخذت من الحكايات البسيطة موضوعاً لها تقدم من خلال رؤى وأفكار ظلت راسخة في الأذهان مثل "أليس في بلاد العجائب" و"روبنسون كروزو" و"حكايات الأخوين غريم"
كانت الأمير الصغير آخر ما كتبه الفرنسي سانت اكزوبيري المولود عام 1900، والذي ظل طوال عمره لايريد أن يغادر عالم الطفولة : " من أين أنا، أنا من طفولتي." كان زملاؤه في المدرسة يسخرون منه بسبب أحلامه غير الواقعية، عمل طياراً لكنه ظل يعشق الكتابة فنشر عام 1929 أول رواياته بريد الجنوب، بعدها بعامين تنشر له دار غاليمار روايته الثانية " طيران الليل " التي حققت نجاحاً كبيراً، بعدها يقدم " أرض البشر " وكانت آخر اعماله التي نشرت بعد اختفائه كتاب " القلعة " وهو أشبه باليوميات
تعرض سانت إكزوبيري للموت مرتين، الأولى في صحراء ليبيا والثانية في غواتيمالا، واعطته هذه التجارب إحساساً صوفياً بدور الانسان وهو يواجه الخطر، فبالنسبة لإكزوبيري فإن لحظة الميلاد بسيطة ولحظة الكبر بسيطة ولحظة الموت بسيطة مادامت جميع هذه المراحل تصل بالانسان الى نسيج يعمق الأخوّة البشرية. في نهاية روايته " أرض البشر " يلتقي بطل الرواية الذي هو الكاتب نفسه في إحدى محطات القطار بعمال بولنديين يتم ترحيلهم من فرنسا الى بولندا ويرى بين هذه الاكوام البشرية البائسة طفلاً كأنه فاكهة مذهّبة مثلما يصفه : " هذا وجه موسيقي، هذا موزار الطفل، هذه هدية جميلة من الحياة. وان الأمراء الصغار الذين كنا نسمع عنهم في الأساطير لا يختلفون عنه في شيء. فماذا يصبح هذا الطفل لو وجد الرعاية والتثقيف؟ ما يعذبني هو موزار الصريع في كل فرد من هؤلاء الناس.وليس هناك إلا الأرواح التي لو هَبت على الصلصال لاستطاعت أن تخلق الإنسان "
كتب إكزوبيري رواية أرض البشر عام 1939 وبعد أربعة أعوام يكتب الأمير الصغير التي يتناول فيها نقاء الطفولة.. لم يتوقع أن يحقق هذا الكتاب الصغير كل هذا النجاح. فقد كان كل ما يأمله أن يعبر عن بعض الأفكار التي راودته ذات يوم حين تعطلت طائراته في صحراء خالية، في تلك اللحظة التي سيطر عليه الخوف والقلق وهو يحاول أن يصلح عطب الطائرة. يسمع فجأة وسط صمت الصحراء صوتاً طفولياً يقول له : من فضلك أرسم لي خروفاً.. يلتفت في خوف وحذر ليجد أمامه طفلاً له هيئة غريبة ولكن ساحرة. يدور الحوار بين الطيار والطفل الذي يلح عليه أن يرسم له خروفاً فيما الطيار يريد أن يعرف كيف جاء الطفل الى هذه الصحراء.
لقد كان سؤال ماذا نفعل هنا مفتاح رواية الأمير الصغير التي حاول اكزوبيري من خلالها أن يقدم لنا حكاية أشبه بالحلم يرويها طفل صغير
نتعرف من خلاله على القيم الإنسانية التي يجب علينا أن نشيعها على كوكب الأرض. يحاول اكزوبيري في الأمير الصغير أن يلخص
تجربته الحياتية، حيث نراه، في نص يبدو للوهلة الأولى كأنه كتب للصغار، يطرح أسئلة وجودية عميقة وجوهرية، كانت هي الأسئلة السائدة في تلك المرحلة من القرن العشرين، أسئلة إلتفت فيها الفرد إلى داخل ذاته ولا سيما في ضوء الحوادث العاصفة الدامية التي كانت تشهدها تلك السنوات الغريبة من تاريخ القرن العشرين.
الامير الصغير الي يسقط من كوكب صغير يعيش فيه وحيدا، كانت في هذا الكوكب ثلاثة براكين يستخدم اثنين منها في الطبخ، بينما الثالث خامد، وعمله اليومي الذي يقوم به هو تنظيف الكوكب من الاعشاب الضارة. من هنا يكشف الطيلر سر طلب الامير رسم الخروف حتى يخلصه من هذه الاعشاب.
ينشغل الطيار في اصلاح طائرته وهو يجيب على اسئلة الامير الصغير بمنطق الكبار، لكننا امام طفل لايعرف مثل هذا المنطق فنراه ينفجر في وجه الطيارقائلا قد عرف ذات يوم رجلا يقوم بجمع الارقام دائما ويردد ( أنا رجل جاد. أنا رجل جاد ) ولكنه لم يعرف في حياته كيف يتأمل نجما، أويستنشق عبير وردة، أو يحب إنساناً
ويعرف الطيار ان عالم الامير الصغير به وردة هي كل همه الحقيقي، لقد اعجب بها ذات يوم فأجابت بغرور :" أنا فعلا جميلة فقد ولدت مع الشمس " وفي يوم تطلب منه ان يحميها من النمور وهي تعلم انه لاتوجد نمور في الكوكب، ويحتار الامير الصغير امام مطالبها فيقرر الرحيل عن كوكبه، ويخبر الطيار قائلا :" أنني لا أفهم شيئاً على الاطلاق، كان يجب عليَّ ان احكم عليها بناء على الافعال لا ألاقوال.كانت تعطرني وتنير لي، فما كان يجدر بي أن أدرك حنانها وراء خدعها الواهية، فالوردة متناقضة على هذا النحو، ولكني كنت صغيراً جداً حتى اعرف كيف احبها ".
وتدخل الشخصيتان اللتان تنتميان إلى عالمين مختلفين وجيلين متناقضين في مناقشات تتراوح موضوعاتها بين العادي والوجودي. وببراءة الطفل، يخترق الأمير الصغير عمق الذات الإنسانية عبر لغة شفافة يمتزج فيها الواقع بالخيال والحلم بالحقيقة. كلمات الطفل، تبدو أكبر حجماً حتى من الطيار فهو يكشف عن حقائق وأفكار طفولية يراها أهمّ من مشاكل الكبار اليومية، حتى لكأنه يسخر من سذاجة الراشدين الذين يظنون أنّهم الأعلم في كلّ شيء. ولعلّ القصة حصدت ما حصدته من نجاح طوال تلك المدّة حيث ترجمت الى مئات اللغات وبيعت منها اكثر من 150 مليون نسخة، لأنّها نجحت في أن توجد عالماً صادقاً يُعبّر عن أسئلته الكونية الكبرى بأسلوب طريف يدخل قلب القارئ قبل عقله. وبرع سانت إكزوبيري في أن يجعل قارئه، صغيراً كان أم كبيراً، مدهوشاً مرّة تلو الأخرى أمام بساطة هذه الأحداث وعمقها.
يترك لنا سانت إكزوبيري آخر صفحة من روايته خالية تماما، إلا من نجم معلق في السماء، ويقول لنا اذا قمتم بسياحة في الصحراء ـ أرجوكم الا تتعجلوا وانتطروا تحت هذا النجم، فإذا ظهر امير صغير لاتتركوني في كأبتي.. اكتبو لي إنه عاد.
في إحدى رحلاته الجويّة الاستطلاعية عام 1944، يقلع سانت إكزوبيري في منتصف الساعة الثامنة صباحا من يوم 31 تموز، لكنه حتى منتصف النهار لم يكن قد عاد، وتمضي الساعات وطائرته لاتلمح في الاجواء وبناء على شهادة القس هرمان كروت فان طائرته قد اسقطتها الطائرات الالمانية في البحر، ليتذكر العالم مقولته الشهيرة التي كتبها في روايته طيران الليل: "الغرق في وسط المحيط أهون من الغرق في هذه الصحراء".
يكتب اندريه جيد عن الوجه النبيل لسانت إكزوبيري:" حيث الرجولة لم تمسح بل زادت في لطافة ملامحه الطفولية المشرقة " هذه الملامح التي حولت الطيار الشهير الى امير صغير يلوح لنا وهو وهو صاعد ألى السماء :" وعندما سأطير على جهازي الجديد، ستصيح الجماهير : ليحيا انطوان دي سانت إكزوبيري.



* منقول عن موقع جريدة المدى
 
غواية القراءة: ومن الذي لايريد أن يستعيد طفولته؟!
علي حسين

| 5 |

نحن نتذكر حياتنا أقل بقليل مما نتذكر رواية قرأناها ذات مرة.
شوبنهور

كان من عادتي وأنا صغير في السن إذا سمعت أسم شخص لا أعرف عنه شيئا، أن أبحث عنه في رفوف الكتب، أو أسأل أحد رواد المكتبة عنه، في ذلك الحين وقعت في يدي مجلة إسمها المختار وفيها موضوعا عن كاتب إسمه مارك توين كتبه ديل كارينجي، من هو مارك توين؟ كانت هذه المرة الأولى التي أسمع فيها بهذا الاسم، أما كارينجي فسبق لي أن تعرفت عليه من خلال كتابه الشهير " دع القلق وابدأ الحياة".
لكي يجد المرء مكانه في هذا العالم الذي يحيط به، ومن أجل أن يتعلم العيش والعمل فيه فإنه يتوجب عليه أولاً بأول التعرف عليه. هذه هي العبارة التي ماتزال في ذهني من كتاب كارينجي " دع القلق وأبدأ الحياة ".
يقول كارنيجي سل نفسك؟ ثم هيئ نفسك لقبول أسوأ الإجابات ثم اشرع في إنقاذ ما يمكن إنقاذه. وبعبارة اخرى إن السؤال هو الذي يجعلك تعيش حياتك بإطمئنان، وهكذا فإن فيلسوفا مثل أبيقور يصف الأسئلة بانها : " طبابة النفس، وانها تهدف في نهاية المطاف الى افهامنا بانه يجب ألا نخشى المجهول :".
اثناء تصفحي لأعداد قديمة من مجلة الرسالة، وهي مجلة ثقافية كان يصدرها في منتصف القرن الماضي أحمد حسن الزيات، عثرت على مجموعة مقالات بعنوان " حديقة أبيقور"، كانت هذه المقالات هي ترجمة لفصول من كتاب للاديب الفرنسي أناتول فرانس. لماذا الحديقة بدلاً من الفلسفة سألت نفسي، وتبين لي فيما بعد إن الفيلسوف اليوناني أبيقور كان قد اشترى بميراث له من ابيه قطعة ارض أنشأ عليها مدرسة أحاطها بحديقة كبيرة تضم مختلف الزهور، وكان يعتقد أن هناك علاقة بين الجمال والمعرفة :" ليس ما هو أشرف للانسان أن يزاول الفلسفة والزهور تحيط به ".
كان أبيقور المولود عام 341 ق.م، في احدى الجزر اليونانية، قد أهتم بالفلسفة منذ ان كان في العاشرة من عمره، وسافر الى مدينة كولوفون لدخول احدى المدارس الفلسفية، لكنه بعد سنوات قليلة أدرك عدم قدرته على الموافقة على الكثير من اراء اساتذته، فقرر بعد أن بلغ العشرين من عمره أن يؤسس فلسفته الخاصة به، وقيل إنه ألف عشرات الكتب في جميع المجالات، عن الحب والطبيعة البشرية والعدالة والقانون، وما يميز فلسفة أبيقور تأكيده على أهمية السؤال :" منطق وجذر كل خير هو لذة السؤال : " أذ الفلسفة على نحو ملائم ليست سوى دليلاً على البحث عن اجابات للاسئلة التي نطرحها. وإضافة للسؤال كان أبيقور مهتماً بنشر مفهوم اللذة الحسية : " اللذة هي غاية الحياة السعيدة ". بعد عودته الى أثينا شرع أبيقور بترتيبات لأنشاء مدرسة غريبة، جمع فيها معظم أصدقائه :" من بين جميع الأشياء التي تمنحها الحكمة لتساعد المرء على عيش حياة كاملة مليئة بالسعادة، يعتبر امتلاك الاصدقاء أعظمها على الاطلاق " وكانت مدرسة أبيقور اشبه بمنزل عائلي كبير، من دون إحساس بالضيق، ليس هناك سوى الصداقة والتعاطف.
يخبرنا أبيقور اننا لن نكون موجودين، مالم يكن ثمة أحد يرى إننا موجودون، وما نقوله لامعنى له ما لم يسمعه أحد.
في كتابة " حديقة أبيقور" يكتب أناتول فرانس إن " الكتب شكلت هاجساً لي طوال حياتي، وكنت اجد في الكتب ما لاأجده في عالم الواقع من أشياء مضت وانطوت فلا تعود أشياء متوقفة نتخيلها ولاندركها على التحديد ".
كان برنادشو يقول إن أعظم ثورات شبابه، هي لحظة قراءة أعمال هنريك أبسن : " كنت في الخامسة عشر حين وقع في يدي مجلد لأعمال النرويجي أبسن، حتى ذلك الحين كان كل الذين أعرفهم قد تعودوا أن يحطوا من شأن المسرحية،إنها لاتهتم اهتماماً حقيقياً بمصائر البشر، وعندما أنتهيت من قراءة أبسن أعلنت إن هذه المسرحيات يمكن أن تعلم الناس أفضل مما تستطيعه الجامعات ". حلم أبسن في بداية حياته أن يصبح رساماً بسبب أفتتانه بألالوان، غير أنه أتخذ بسرعة شديدة القرار بأن يصبح مؤلفاً مسرحياً. يقول برنادشو :" كان قرارا مدهشاً، أن تنصت الى العالم ساعياً الدخول الى قلبه ".
بعد أن قرأت رواية توم سوير لمارك توين، تبينت للمرة الاولى إن ثمة أفكاراً هائلة يمكن أن تغير حياة الإنسان. وان إحساساً جديداً قد نشأ عندي بشكل ما خلال قراءتي لمثل هذه الروايات، ولا شك إن اكتشافي في ذلك الوقت لطه حسين وتوفيق الحكيم قد لعب دوره أيضاً، انني استطيع أن أتذكر اللحظات الاولى التي بدأت فيها بالشعور بنوع من عاطفة الحب.كان ذلك بفضل رواية عودة الروح لتوفيق الحكيم. كنت آنذاك في الثانية عشرة من عمري، وما زلت أتذكر ذلك الشعور حين كنت أتابع لهفة بطل الرواية الصغير محسن الذي سمع ذات يوم صوت فتاة : " كان نذيراً أو بشيراً بإعلان الاشتباك في الحب ".
************
هناك مؤلفون يظلون في ماضينا رغم إنهم يعلموننا أشياء كثيرة عن الحياة، ورغم اننا نقرأهم بحب وشغف، فإذا رجعنا لهم بعد سنوات، فليس لأنهم مايزالون يتحدثون إلينا وانما بدافع الحنين، متعة العودة الى الزمن الذي قرأناهم فيه لأول مرة
أورهان باموق
يخبرنا مارك توين إنه استطاع أن يجمع أكثر من خمسة عشر ألف كتاب في منزله الضخم الذي بناه عام 1874، والذي أطلق عليه اسم " القصر الملكي "، كان مارك توين أنذاك في قمة شهرته، ويقال انه كان يمتلك ذاكرة حادة، وكان شغفه بالقراءة يعزله أياماً وأسابيع عن الناس، جمع في مكتبته الكثير كتب التاريخ والسيرة والفنون والروايات، ويظل تشارلز ديكنز أكثر الكتاب تأثيراً عليه، يكتب لأحد الاصدقاء :" الجلوس الى المكتب يعني إعادة التمعن بما كتبه تشارلز ديكنز، إنها روايات تبعث الحماسة في نفسي " ويعترف في يومياته إن الكاتب الانكليزي الشهير كان صاحب الفضل عليه في كتابة روايته الشهيرة توم سوير.
عندما بلغ مارك توين الاربعين من عمره، شعر إن قطار الكتابة يوشك أن يفوته، فقرر أن يكتب رواية عن مغامراته وهو صبي :" سأكتب حكايتي، حتى أبرهن للعالم إن لدي موهبة قوية ومتميزة "، كان يكتب وسط فوضى عجيبة، كتب وأوراق وجرائد وأعقاب سجائر.كلها متناثرة على المكتب كما على الارض.كان يمنع منعاً باتاً كلياً دخول أحد الى المكتب سوى زوجته ليفي. لم يكن أحد من أفراد عائلته يجرؤ على طرق باب غرفته، وكانوا ينفخون في بوق لمناداته عند الضرورة. وفي الأيام الحارة كان يترك باب الغرفة مفتوحاً ويثبت أوراقه بالحجارة، ويكتب بلا توقف حتى عند الأعاصير، مرتدياً ملابس خفيفة مصنوعة من القطن. بعد العشاء يقرأ ما كتبه خلال اليوم على أفراد عائلته. كان يحب الحصول على جمهور ودائما يكسب موافقتهم، يشتغل على كتب عدة في نفس الوقت، إلا أن حنينه الى مرحلة الطفولة وضفاف نهر المسيسبي وقرية أجداده، يطفو على سطح الذاكرة، ومن هذا الحنين قرر أن يضع الكتب الخمس الأخرى جانباً، ويبدأ في كتابة الصفحات الاولى من رواية توم سوير، أراد أن ينقل خلالها أجواء الحقول الكبيرة والطبيعة الهادئة التي رافقت طفولته.نجح مارك توين في وصف ذلك المنظر ونقله بكل تفاصيله التي استوحاها من ذكريات طفولته. يكتب في دفتر يومياته نوعاً من الوصايا للكاتب الذي يريد أن يعيد صياغة جزء من حياته على شكل رواية ممتعة " : أبدأ بأية لحظة من لحظات حياتك وتجوّل كما يروق لك في تفاصيلها طولاً وعرضاً من دون أن تأبه بأي تتابع زمني منطقيّ. ثم لا تحكي إلا عما يثير اهتمامك في لحظة الكتابة نفسها. فهذا الذي يثير اهتمامك هو المهم مهما كان من شأن أهميته بالنسبة الى لحظته التاريخية التي حدث فيها. ثم في اللحظة التي يلوح لك فيها إنه قد فقد أهميته، سارع بالإبتعاد عنه للتكلم عن أشياء جديدة تلوح أهميتها أمام عينيك ولو في شكل مباغت".
كان مارك توين يؤمن أن كتابة رواية عن حياته لاتحتاج الى استحضار اشخاص استثنائيين، أو الى مفاخر أو مآثر أو سرد حوادث تفوق المألوف :" إن مشوار الحياة لأفراد عاديين يوفر للكاتب مادة تكفيه لايقاظ الفضول والحفاظ على أهتمام القارئ وحرصه ".
يكتب أرنست همنغواي :" اذا استثنينا موبي ديك. فليس هناك كاتب اميركي عومل بمثل هذا الأهتمام من قبل النقاد كما حدث لمارك توين، فهم يلفتون الإنتباه الى النقد الاجتماعي والسخرية والوحشة في كتاب توم سوير، ويشيرون الى لغته المباشرة، دون التواء والعادية في بساطة ".
يروي مارك توين في توم سوير حكاية طفل بعمر أثني عشر عاماً، نشأ قبل قيام الحرب الأهلية الأميركية، على ضفاف نهر المسسبي، وقد اختار مارك توين هذا المكان حيث أنه نشأ فيه وأثر في شخصيته، عاش الطف
ل في مدينة خيالية سماها توين " سانت بيتسبورك ".يعيش مع عمته بولي، وهي امرأة متقلبة المزاج، كبيرة في العمر، متسلطة تفرض آراءها على الجميع متى ما سنحت لها الفرصة، لذا قد فرضت شخصيتها على توم وأخويه، وبالتالي رفض توم تسلطها، فهو ثائر لا يرضخ ولا يتذلل، وعشق توم سوير طفلة تعيش معهم في نفس البلدة، جميلة الوجه، وكانت قد انتقلت مع عائلتها إلى بلدتهم مؤخراً.نلحظ في الرواية ان توم سوير لا يخطط للعيش الطويل في البلدة، بل كان يريد الهرب منها بالاتفاق مع صديقه الذي يدعى هاكلبري، وكانوا يريدون أن يصبحوا قراصنة بحرية، ويدخلوا هذا المجال عن طريق سرقة أي قارب، والغوص في أعماق البحر، وبدأوا في تنفيذ خطتهم، والتي أوصلتهما إلى مغامرة أكبر وأخطر، حول جريمة قتل، فعلها مجرم كبير وخطير، ليدخلوا رغماً عنهم ضمن أحداث القضية. عدّ الكتاب عند صدوره أكبر هجاء للفساد السياسي المتفشي آنذاك فقد استخدم مارك توين الهجاء ليبين كم إن الناس ملتزمون بالقانون، فيما هم يعانون من ظلم بعض الأحكام المسبقة والمجحفة.
إن الشخصيات في توم سوير تعتمد بشكل أساسي على اصدقاء الكاتب وتجاربه في مرحلة صباه، حيث يخبرنا فيما بعد: "عندما كنا نتظاهر برسم صورة للحياة، كنت أقيد نفسي بالحياة التي أنا على دراية بها".
كان اسمه الحقيقي " صامويل كليمنس" ولد في تشرين الثاني عام 1835، تسلسله السادس بين سبعة ابناء ولدوا لمحامي حاول أن يجرب حظه في التجارة فحاصرته الديون مما إضطره أن يتنقل بعائلته الكبيرة للبحث عن عمل جديد، ليستقر أخيراً في مدينة هانبيال التي تقع على الضفة الغربية لنهر الميسسيبي، وقد رمز لها مارك توين في روايته توم سوير بـ "السينت بطرسبرج"، وبالرغم من أن الحياة في تلك المدينة كانت صعبة، فقد كانت طفولة صاموييل سعيدة جداً، توفي والده و هو في سن الثانية عشرة، و كان عليه العمل مع أخيه الأكبر في أعمال الطباعة، و لم تكن تلك المهنة محببة لصبي يحب الحركة و المرح، و لكنه شعر بسعادة غامرة عندما أنتقل للعمل من الطباعة إلى قيادة البواخر على نهر الميسسيبي، و كان عملاً شاقاً و لكنه مهم، وتضع الحرب الأهلية الأمريكية بين الشمال و الجنوب حداً فاصلا لطموحات الفتى ليصبح بحاراً.
انتقل بعدها للعمل كمراسل لصحيفة محلية، وبدأ يكتب الحكايات الفكاهية تحت اسم مستعار "دبليو إبيمينوداس ادراسكاس بلاب". لقد أحب بشكل خاص كتابة الاشياء التي تظهر الفكاهة او الضحك على قادة المدينة، لاسيما اولئك الذين كانوا أقوياء جداً، في العام 1869 اصدر كتابه الاول و كان بعنوان " أبرياء في الخارج "، ليقرر استخدام اسم الشهرة التي عرف به وهو "مارك توين".
************
لماذا نكتب؟ ولمن نكتب؟ سوف يجيب مارك توين، من أن القارئ يرغب في أن يجد كتباً تساعده على التغيير كثيرا :" أظن اننا في البلدان المتكلمة بالانكليزية لانزال نتغير على طريقة شكسبير، أما أنا فأريد أن اتبع طريق ثيرفانتس الذي تساعدنا قراءته في تعلم كيفية الإنصات للآخرين، ويعلمنا أيضا كيف نتحدث الى أنفسنا أكثر من الحديث مع الاخرين ".ولدى سؤال مارك توين لماذا نقرأ؟ يدلنا بان القراءة العميقة والمستمرة هي وحدها التي تقيم وتعزز الذات المستقلة يكتب في يومياته : مافائدة الإنسان اذا كان لايجد نفسه ".
في أواخر عام 1860 اشترى مارك توين من إحدى المكتبات نسخة من كتاب جديد ألفه عالم الطبيعة تشارلز داروين.قرأ مارك توين الكتاب بإهتمام وكتب في دفتر يومياته :" كنت أتمنى أن يعكف السيد داروين على دراسة خصائص الأنسان وميوله.. فحتماً سيجد النتيجة فاجعة وستضطره الى احتمال سحب تأييده لارتقاء الانسان من الحيوانات السفلى، وسيهجرها حتما لمصلحة نظرية أصح وأحدث يمكن أن تسمى انحدار الانسان من الحيوانات العليا ".
في العام 1905 صدر مارك توين كتابه " ما الإنسان " وفي مقدمة الكتاب يخبرنا إنه فكر في تاليف هذا الكتاب منذ أكثر من أربعين عاماً، :" هي أفكار كنت أعمد الى اخفائها مع الاحتفاظ بها كعقائد شخصية، ولماذا لم أصرح بها لأنني كنت أخشى نقد الناس.. وكنت أتصور انني لا اقدر على احتمال ذلك النقد ".
في واحدة من مقالات الكتاب والتي بعنوان " الجنس البشري الملعون " يخبرنا مارك توين إنه يرد على نظرية تشارلز داروين باسلوب العلم التجريبي، ومن طرائف المقالة المقارنة التي يضعها توين بين الانسان والحيوان، ففي فقرة عنوانها " الديك أرقى من الانسان، والقطط افضل أخلاقاً" يصر مارك توين على أن التجارب اقنعته بان الإنسان هو الحيوان الوحيد الذي يحمل في صدره الضغن والأذى وينطوي عليهما وينتظر حتى تتاح له الفرصة ليأخذ بثأره..بينما الحيوانات العليا لاتعرف الانتقام، ويضرب توين مثلا بالديوك التي يقول انها تتخذ لها حريماً، ولكن بموافقة المحظيات ورضاهن انفسهن، وليس في هذا العمل خطأ بحق أحد، أما الرجال فهم على حد تعبير مارك توين يقتنون الحريم بالقوة الوحشية والقوانين الجائرة التي لم يكن للجنس الآخر يد في وضعها. أما القطط فيرى توين إنها واسعة الذمم الأخلاقية ولكنها لاتعي ذلك.أما الانسان فقد تحدر من القطط وأخذ عنها إنحلالها الأخلاقي وترك اللاوعي وهو الميزة الرائعة التي تبرر لاأخلاقية القطط : ان القطط بريئة والانسان غير بريء . لنجد مارك توين يعلن ان " الدناءة والهمجية صفات خاصة بالانسان وهو الذي اخترعها "
كان كتاب تشارلز داروين قد صدر في تشرين الأول عام 1859، وكان مؤلفه قلقاً حول عدد النسخ التي يمكن أن تباع، فقد أقنع شقيقته ان تقرضه مبلغاً من المال سيعيده إليها بعد ثلاثة اشهر. صاحب المطبعة التي طبعت الكتاب، كان يسخر من المؤلف الذي يريد أن يثبت للناس أنهم سلالة من القردة، كان ينظر إليه ويشير للعامل : "يبدو إن السيد داروين يطيل النظر الى المرآة طويلا، ليثبت نظريته". لكن المفاجأة كانت بانتظار الجميع، فـ "1250 " نسخة نفدت في الأسبوع الأول، وكان باعة الكتب يلحّون على صاحب المطبعة ان يعيد الكرّة ويطبع نسخاً جديدة. في السنة الأولى يعاد طبع الكتاب ثلاث مرات، ويتجاوزعدد النسخ التي بيعت منه العشرة آلاف، البعض يبحث عن الكتاب ليرضي تطلعه المعرفي، وآخرون لإرضاء فضولهم والجواب على سؤال يشغلهم: هل نحن حقا سلالة من القرود المتطورة؟
لكن الكتاب في الواقع لم يكن سوى فرضيّة علميّة يطرحها المؤلف للنقاش. وضعها داروين بعد ملاحظات وبحوث ورحلات وقراءات دامت أكثر من عشرين سنة، أراد من خلالها إيجاد السبل للإجابة على سؤال لطالما حيّر العلماء حول الحلقة المفقودة في عملية التطور المعقدة التي تمت عبر ملايين السنين.
وكان الأساس الذي بنى داروين عليه فرضيته العلمية، يتعلق برصد التغيرات التي طرأت على النباتات والحيوانات الأليفة، لا سيما منها تلك التي يتحكم بها الإنسان. ويقارن داروين ذلك، أي الفروقات في الأنواع الناتجة عن "الانتخاب الصناعي"، بالتغيرات الحاصلة في الطبيعة من دون تدخل الإنسان، أي الناتجة عن "الانتخاب الطبيعي" ليخلص إلى أنه :" حيثما هناك حياة، ثمة تغير وتطور مستمران ناتجان أساساً من الصراع من أجل البقاء "
مابين عام 1875 و1894كان مارك توين في أوج شهرته وغناه، وكان دخله يصل الى مائة ألف دولار سنويا لكنه وبسبب مغامراته المالية تعرض للإفلاس، ولاحقه سوء الحظ بسبب وفاة ابنته وزوجته، ليعيش " أبو الأدب الأميركي"، كما لقّبه وليم فوكنر، مكتئباً راودته فكرة الانتحار، تركت هذه المصائب آثاراً كبيرة على نفسيته، حيث كان يشعر بغضب على هذا العالم الذي لم يتركه يعيش مثل صبي في حرية لانهائية ومتعة..فاضطر أن يعتزل العالم ليبني في الريف بيتاً يعيش فيه مع ابنته، يكتب في آخر صفحة من يومياته " إن السعادة والحب والشهرة والثروة ليست إلا قناعاً خفيفاً لحقيقة الإنسان المستترة خلفه، وهي الألم، والحزن، والخزي، والفقر ليودع العالم في صيف 1910 بعد أن اعترف به باعتباره " الأب الشرعي للادب الاميركي " لكنه يكتب في وصيته:" انني لأموت وقلبي يطفح حقداً، وكراهية لكل ما هو موجود ".
 
الأوهام الضائعة من فلوبير إلى سارتر
 علي حسين

| 6 |


إن القراءة الذكية تنقذ الإنسان من كل شيء، حتى من نفسه، كما أننا نقرأ لمواجهة الموت، والوقت الذي نقضيه في القراءة، مثل وقت الحب، يطيل وقت الحياة.
دانيال بيناك
في رسالة وجهها الروائي غوستاف فلوبير الى أحد القراء يكتب فيها : عمري الآن ثلاثة وخمسون عاماً، جعلت من الأدب شيئاً لاينفصل عن حياتي، على الرغم من كل العوائق التي واجهتني، كنت أقول لنفسي.. فلوبير كاتب ولاشيء سوى هذا، فتجارب الحياة والمرض والحب والقراءة آلت الى شيء واحد هو الكتابة.. والتي من أول شروطها أن لايصاب القارئ بالملل ".
يخبرنا أميل زولا ، أن فلوبير كان يطرح السؤال الدائم على أصدقائه من الكتاب : كيف يمكن أن تحافظ على انتباه القارئ، وما هي المتعة التي ستقدمها له؟ وبعده بأكثر من مئة عام يكتب أمبرتو إيكو في كتابه " اعترافات روائي ناشيء " هذه النصيحة للكتاب :" عليك أن تتمكن من جعل متعة القراءة متساوية مع الوقت الذي نمضيه في القراءة ".
يكتب خطيب الثورة الفرنسية ميرابو في يومياته تعليقاً على الاعمال الروائية التي كتبها جان جاك روسو :" من ميزات الروائيين إنهم يخلقون شخصيات تقتل شخصيات التاريخ، والسبب في ذلك أن المؤرخين يكتفون بالحديث عن أشباح، أما الروائيون فيخلقون أشخاصا من لحم ودم ".
في واحدة من محاضراته يقترح أمبرتو ايكو على طلبته الدرس التالي :" بما إننا نعرف أن آنا كارنينا هي شخصية من الخيال، ولا وجود لها في العالم إلا في ذهن كاتبها تولستوي، لماذا اذاً نبكي على مآساتها أو على الأقل لماذا نتأثر بذلك؟.
يجيب صاحب اسم الوردة ، أن هناك بالتأكيد الكثير من القراء الذين لايذرفون دمعة واحدة على مصير سكارليت أوهار في ذهب مع الريح، ولكنهم يتأثرون لمصير آنا كارنينا، ويضيف إيكو :" لقد حاولت أن أفسر للطلبة بان القدرة على انتزاع دموع قارئ ما لا تعود فقط إلى الميزات التي تتوفر عليها الشخصية التخيلية ، بل أيضاً الى العادات الثقافية للقراء، او الى العلاقة القائمة بين القارئ والكتاب ".
معظم الكتاب يواجههم سؤال مهم هو : كيفية المحافظة على انتباه القارئ. كان ميشيل فوكو قد واجه مثل هذا السؤال ، وهو يلاحظ أن الجميع يقول : إن كتب الفلسفة مملة، ويكتب ذات يوم :" علينا أن نقدم للقارئ كتاب يحمل في ثناياه الكثير من التشويق والمتعة ".
كان ميشيل فوكو آنذاك يريد أن يقدم تحليلاً فلسفياً لمفهوم العقاب في العصر الحديث، ولكي يشد إنتباهنا نحن القراء قرر أن يبدأ كتابه " المراقبة والمعاقبة "، بطريقة روائية فقدم لنا مشهدا تصويرياً لعملية تنفيذ حكم الإعدام عام 1757 على روبرت فرانسوا ديمي، الذي حاول إغتيال لويس الخامس عشر. يبدأ فوكو بوصف تصويري حي لتعذيب شخص وإعدامه: " لقد استخدموا كماشة ساخنة ومتوهجة في تمزيق جسده وكانوا يصبون الزيت المغلي فوق الجروح كما ربطوا ذراعيه وقدميه في رقبة حصانين، ثم تركوا لهما فرصة الجري بأقصى سرعتهما لتمزيقه وعندما لم تنجح تلك المحاولة البشعة قاموا بتقطيع ذراعيه وقدميه بضربات على قدميه بصورة متوالية " في كتابه الممتع " السير فوق الماء " يخبرنا الاميركي ديريك جنسن إنه عندما قرأ هذا المشهد الافتتاحي في كتاب فوكو " المراقبة والمعاقبة " أعتبر الأمر في البداية فظيعاً وشنيعاً ووصفه بالمشين ، كيف يمكن لفيلسوف يريد أن يقدم تحليلاً علمياً لمفهوم العقوبة أن يسعى الى اللعب بمشاعر القراء، ويضيف جنسن :" لكنه في النهاية جعلني اقرأ الكتاب، وكنت اثناء القراءة أتوقع المزيد من المشاهد، لكني في النهاية لم أحصل على شيء ، بل حصلت على مئات الصفحات من الفلسفة الجادة " ..ويضيف :" هل شعرت بان الكاتب خدعني، يجيب بالتأكيد لا، اذا كانت الفلسفة مملة لأصبح الكتاب خدعة رخيصة لكن الفلسفة علم مثير للانتباه ويحمل في ثناياه كثيرا من التشويق والمتعة، لقد نجح الكتاب تقريباً وأستطيع القول بانها لم تكن خدعة رخيصة".
يصف لنا غوستاف فلوبير مشهد اللقاء الأول بين شارل بوفاري وإيما التي ستصبح فيما بعد مدام بوفاري بهذا المشهد المثير :" وجلست الفتاة الى المائدة مع شارل، وجرى الحديث عن المريض أولاً – ثم عن الجو وموجات البرد القارس، والذئاب التي تعدو خلال الحقول في الليل، كانت الفتاة ترتجف اثناء تناول الطعام لفرط رطوبة الصالة، مما كشف قليلاً عن شفتيها المكتنزتين اللتين اعتادت أن تعظهما في أوقات الصمت.
وكانت رقبتها تظهر خلال ياقة مزدوجة، وظفيرتاها السوداوان الناعمتان تبدوان – لفرط نعومتهما، قطعة واحدة، تنشق الى شعبتين عند الرأس بخط مستقيم ينبع استدارة الرأس، ثم تعود الشعبتان الى الالتقاء خلف الرأس في كعكة سميكة تنحدر منها خصلتان نحو الصدغ، لاتكاد أذنا الفتاة تبينان خلالهما،أما وجنتا الفتاة فكانتا متوردتين، وكانت ثمة عوينة في إطار من الصدف تتدلى من زرين في صدارها ".
يكتب أمبرتو ايكو ان القارئ الذي يسحره هذا الوصف للفتاة " إيما " سيتأثر حين يكتشف إنها بعد أن اصبحت مدام بوفاري ستنتهي حياتها بشرب السم .
كان تولستوي قد قرأ مدام بوفاري وقد نشرت متسلسلة، ونتعرف من يومياته أن موضوع الخيانة قد شغل باله منذ زمن طويل، لكنه يجد أن الكاتب الفرنسي كان قاسياً مع بطلته فقد طاردها بمشاعر متجمدة ومتواصلة بلا رحمة، ويتساءل تولستوي لماذا أصر فلوبير على أن تحيا مدام بوفاري حياة خالية وهمية، ونجد تولستوي برغم إعجابه الشديد بالرواية فأنه يأخذ على المؤلف محاولته أن يعكس الكثير من طباعه على " ايما بوفاري ".
************
كلما كان الكتاب مكتوباً بشكل جيد، شعرت بأنه بالغ القصر.
جين أوستين
كنت في الخامسة عشرة من عمري حين خاطرت ذات يوم واشتريت نسخة من رواية " مدام بوفاري " كانت النسخة تتكون من مئتي صفحة وعلى غلافها صورة مرسومة بالالوان لإمرأة جميلة جداً تقرب ملامحها من الممثلة الشهيرة بريجيت باردو ، وخلفها يقف شاب جميل يبدو أصغر منها عمراً، ولازلت أتذكر العبارة التي خطت على الغلاف " مدام بوفاري.. الزوجة الخائنة ".اخذت الكتاب وأخفيته عن الانظار، فمثل هكذا كتب ربما تسبب لي مشكلة.. لكنني قررت ان اقرأ الكتاب وأعرف لماذا خانت هذه الزوجة؟
لم أجد في مقدمة الكتاب التي كتبها الناشر سوى معلومات قصيرة عن المؤلف.." ولد جوستياف فلوبير – هكذا كتب اسمه - في مدينة روان في فرنسا عام 1821 وكان والده طبيبا.اعترف له بالزعامة الأدبية وبالامارة على فرسان البيان في عصره وقصته " مدام بوفاري الزوجة الخائنة " أعظم قصة لاقت رواجاً في اللسان الفرنسي.. نشرت للمرة الأولى في احدى المجلات وقدم المؤلف والناشر للمحاكمة لما فيها من أدب مكشوف، وقد قامت أصول القصة على حوادث الحياة نفسها، فكان المؤلف نفسه طرفاً فيها.. إنها قصة من الحياة كتبها أعظم كتاب البيان الفرنسيين ووضع فيها حسه وأعصابه وودّ والألم يصهر نفسه لو إنه كان غنيا ليشتري كل الطبعات ويحرقها ". كنت ألتهم صفحات الكتاب وأُمني النفس بحكاية مثيرة مثلما وعدني الناشر " أدب مكشوف "، لكن ما أن وصلت الى منتصف الكتاب حتى خاب أملي.. وقلت مع نفسي يجب أن أثق بالناشر حتى أتمكن من الانتهاء من الرواية.
إليكم ملخص الرواية كما فهمتها في القراءة الاولى.كان هناك طبيب أسمه شارل بوفاري قادته الصدفة لأن يعالج رجلاً كبيراً في السن، وفي بيت هذا المريض سيعثر على زوجة المستقبل إنها " إيما " وفي الوقت الذي تعرف فيه على إيما كان هو طبيباً معروفاً في المدينة الصغيرة، وشاباً ذكياً، وكانت الفتاة تعيش في عالم من الخيال صنعه لها شعراء وأدباء الرومانسية،عالم كله كتب وحكايات وأشعار وأحلام، كانت إيما تحلم بان تحب، وأن تتزوج الرجل الذي تحبه، وعندما إلتقت بالطبيب شارل بوفاري أيقنت إنه فتى أحلامها فتزوجته لتصبح مدام بوفاري، لكن الزواج خيب أملها لا أشعار ولا خيال ولاحديث عن القمر، فهي تجد نفسها كل يوم نائمة الى جوار رجل أنهكه العمل، كانت كل يوم تجلس الى جوار النافذة تنتظره، تتعطر وترتدي أجمل الملابس، وما أن تراه حتى تركض بإتجاه، أما هو فقد كان يذهب باتجاه السرير ليأخذ قسطاً من الراحة، لتعود لتجلس تتذكر روايات الحب التي قرأتها، والحلم بالفارس العاشق الذي يدخل عليها وبيده باقة حمراء من الزهور.
ونجدها تردد حين تكون لوحدها تنتظر : "يا إلهي لماذا تزوجت؟ "، وتحاول أن تتخيل حياتها مع الزوج الذي تخيلته، رجلاً وسيماً وفطناً ومتميزاً وجذاباً ، وتسأل نفسها ما العمل؟ هل سيدوم هذا الحال الى الأبد، كانت تتوق الى الحياة المرحة ، تبحث عن الحب، عن رجل يختطفها ويطير بها بعيداً، لقد قررت أن تفتح الباب المظلم، ففي مقابل احتقارها للحياة الرتيبة التي تعيشها مع شارل بوفاري ، نظرت في المرآة الى جمالها وأيقنت أن بإمكانها ان تحوِّل أحلام اليقظة الى واقع، قررت ان تكتشف عالماً اكثر إثارة يحقق لها وجودها. بدأت تبالغ في إنفاق الأموال على الألبسة والحفلات دون أن يعلم زوجها، وسرعان ما تراكمت عليها الديون، وبعد أن تفقد الرغبة في الملابس والحفلات، تقرر أن تقيم علاقات حب مع رجال آخرين . في البداية كان العشيق جاراً لها يدعى لويس كامبيون، ثم عامل المزرعة، ثم كاتب العدل،. ويكتب فلوبير في الرواية :" لقد بدأت تعيد الى ذهنها بطلات الروايات التي قرأتها، وبدأ هذا الفيلق من النساء العاشقات يغرد في رأسها".
أهملت زوجها وابنتها الصغيرة وأقاربها وجيرانها، لكنها في النهاية بدأت تشعر بالملل، كل هؤلاء العشاق بدوا لها أيضاً مخيبون للآمال، وأخيراً في فجر السادس من آذار عام 1848 بدأت المشاكل تحاصرها : زوجها أفلس، العشاق تبخروا، تقرر أن تتناول جرعة مميتة من الزرنيخ لنتهي حياة بلا طعم ولا أمل.
كان فلوبير يكتب ببطء وإتقان شديدين، ست صفحات في الأسبوع، قال لأمه : " يالها من مهنة صعبة مهنة الكتابة، القلم أشبه بمجذاف ثقيل "، ظل يعمل سبع ساعات في اليوم على مدى أكثر من خمس سنوات، درس خلالها كل ما يتعلق بالروايات الرومانسية، وحاول دراسة تأثير مادة الزرنيخ على وظائف الجسم، ومن حين لآخر كانت الكتابة تصيبه بالمرض :"عندما كنت أصف تسمم إيما بوفاري كنت أحس بطعم الزرنيخ في فمي، وقد عرّضني ذلك الى آلام في المعدة وسوء في الهضم رافقني طوال حياتي. ويكتب الى صديقة : " لقد توقفت عن الكتابة لا أستطيع مغالبة دموعي"، ولم يكتف بمشاهداته وقراءاته لمعظم الروايات التي صدرت في عصره ، بل ذهب يبحث عن قصص مشابهة لحكاية مدام بوفاري، وفي الدوائر الرسمية ومراكز الشرطة أطلع على التقرير التالي : " يوم السادس من اذار 1848 انتحرت في قرية ري نورمانديا، سيدة في السادسة والعشرين من عمرها بتعاطي كمية كبيرة من الزرنيخ ". في النهاية يجد نفسه قد كتب " كانت ثمة ظاهرة غريبة، فبينما كان " شارل بوفاري " يفكر باستمرار في " إيما " أخذ ينساها، واشتد به الاسى إذ شعر أن هذا الطيف يغيب عن ذاكرته رغم كل الجهود التي كان يبذلها للاحتفاظ به ".
************
بعد سنوات اتيحت لي الفرصة أن ألتقي بالناقد والعلامة علي جواد الطاهر، كان موعده لزيارة المكتبة التي أعمل فيها مساء كل اربعاء، يدخل المكتبة باناقته التي تنم عن روحه الشبابية وابتسامته التي لاتفارقه وسؤاله الدائم : هل وصلت كتب جديدة بالفرنسية؟ كان الراحل الطاهر قد حصل على الدكتوراه من السوربون ، وعلى مدرجات الجامعة كان يحتفظ بنصيحة استاذه محمد مهدي البصير في أن يغترف أولاً من تجربة الغرب في الأدب واللغة، ولهذا نراه يكتب :" إني لم أطمح من الدراسة في فرنسا إلا من أجل الإلمام بادب آخر عالمي " .وذات يوم تجرأت وانا اشاهده منهمكاً في قراءة عناوين الكتب لأسأله عن رأيه بالادب الفرنسي ، إلتفت إلي وعلى وجهه إبتسامته المعهودة : هذا سؤال طويل وعريض، هل تعرف إن عمر الادب الفرنسي من عمر الحضارة الاوروبية. صَمتُ ولم أكن أدري بماذا أُجيب، وعندما شاهد حيرتي اقترب مني وهو يقول : عندما عشت في باريس خمسة أعوام وكم شهر ، كنت مثلك أعتقد أنني أستطيع أن أتعرف على معظم ما كتبه ادباء فرنسا، لكنني عدت وأنا لم اقرأ سوى عشرات الكتب.
قلت له : أنا قرأت فلوبير وستندال وبلزاك وموبسان ورحت أعدد،
قاطعني قائلا : هل قرأت حقاً فلوبير؟
قلت : نعم حكاية الزوجة الخائنة؟
وابتسم عميد النقد العراقي : الزوجة الخائنة، تعني مدام بوفاري
قلت وأنا اعتقد إنني استطعت أن أثير اهتمام الناقد الكبير : نعم هي مدام بوفاري .
وراح الطاهر يشرح لي ما فات على هاوي قراة مثلي : لقد ولد فلوبير شغوفاً بالادب، لكنه يمتاز عن معظم أدباء عصره بانه كان دقيق الملاحظة، دائما ما ينصح الأدباء بان يروا جيداً، وأن ينظروا الى كل ما يريدون التعبير عنه نظرة طويلة وبانتباه ليكتشفوا فيها صورة جديدة لم يروها من قبل ولم يكتب عنها أحد "، بعدها يكمل الطاهر : هل تدري أن فلوبير عندما أراد ان ينهي حياة مدام بوفاري بالسم، أخذ يقرأ عن السموم وتأثيراتها، وكان يذهب كل صباح الى أحد المختبرات ليسمع حديثاً عن أخطر أنواع السموم، وكان يدوّن العديد من الملاحظات، وكان أحياناً يمضي يوماً او يومين في كتابة سطر واحد ولهذا أمضى في كتابة مدام بوفاري أكثر من ستة أعوام ".
ثم أخبرني الطاهر انه ما من رواية أثارت جدلاً مثلما أثارته رواية مدام بوفاري التي كتبت عنها عشرات المؤلفات ، وكان أبرزها حسب قول الطاهر ما كتبه الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر في كتاب تجاوزت صفحاته ال 3000 صفحة ".
في مقدمة كتابه عن فلوبير والذي ترجمت بعض فصوله الى العربية يخبرنا سارتر أن هناك عددا من الأسباب دفعته الى أن يكتب عن فلوبير، أول هذه الاسباب إن قلة فقط من الشخصيات في تاريخ الأدب، تركت وراءها كل هذا الكم الذي تركه فلوبير من معلومات وتفسيرات تتعلق بأدبه. ثانياً يقول سارتر ان فلوبير يمثل النقيض التام لتصوّري الشخصي عن الأدب، حيث أنه لا يكفّ عن إعلان تنزّهه التام عن كل إلتزام. وثالثاً وأخيراً، كون دراستي لفلوبير تمثّل بالنسبة إليّ استكمالاً لما طرحته في واحد من أوائل كتبي، وهو كتاب " التخيل "
متى بدأ المشروع يخبرنا سارتر ان صاحب فكرة الكتاب كان الفيلسوف الماركسي روجيه غارودي الذي اقترح ان يتشارك مع سارتر على كتابة سيرة فلوبير ، غارودي يكتب من وجهة نظر ماركسية وسارتر يبدي وجهة النظر الوجودية وبدأ سارتر يكتب الجزء الخاص به ويبداه بالعبارة التالية :" ماذا نعرف عن فلوبير بعد كل هذا الزمن الطويل؟إنه اكثر مما نتخيل،هناك الكثير من الوثائق والادلة والشواهد التي تحتاج الى غربلتها،وتفحص الاراء المتناقضة عن فلوبير والفرضيات المشكوك فيها والاستنتاجات المتسرعة" ،وبعد مئات الصفحات وتخلي غارودي عن المشروع يكتشف سارتر انه في ورطة حقيقية ، فهو يريد ان يبدي وجهة نظر وجودية في فلوبير ، لكنه يميل في العديد من الفصول الى استخدام المنهج الماركسي في تحليل الخلفية الاجتماعية لفلوبير،وفي فصول اخرى يستعين بمنهج فرويد لدراسة شخصية فلوبير التي وصفها بالمتناقظة ،وهكذا نجد ان كتابة دراسة عن فلوبير تاخذ من سارتر اكثر من سبع سنوات من حياته.
ولكن لماذا فلوبير؟ يخبرنا سارتر إنه قد تأثر في طفولته بفلوبير وغوته وانهم سمموا طفولته بنزعاتهم التشاؤمية،ونراه يحاول ان يعمل مقارنة بين طفولته وطفولة فلوبير، ،كلا الكاتبين نشأ في عائلة بورجوازية تقليدية تمارس الفضيلة دون أن تؤمن بها،كان سارتر قد تعود على شكوى جدته من جهة الأم التي كانت تكررها حين بلغت السبعين من العمر من زوجها الاناني ،وكيف كانت حياتهما مليئة بالحقد والضغينة،او رواية جده من جهة الأب عن اكتشافه في اليوم الثاني لزواجه ان عائلة زوجته التي كان يظنها ثرية كانت في حقيقة الامر قد أصابها الافلاس،ومنذ تلك اللحظة لم يكلم زوجته أبداً،ولا يتبادل معها سوى الاشارات إذا أراد منها شيئاً،وعاشا على هذا الحال لأكثر من اربعين سنة، ويخبرنا سارتر عاشا في جو من العلاقات العائلية تسوده النزاعات الانانية والمشاكل،وكان جد سارتر كثيراً ما يذكره بوالد فلوبير،أما جدة سارتر فقد كانت تشبه الى حد كبير مدام بوفاري بطلة رواية غوستاف فلوبير الشهيرة.
ان الطفل – سارتر - الذي رحل والده قبل عام ، كان موته " أكبر ضربة حظ. لم يكن عليّ أن أنساه " . هكذا يخبرنا في كتابه الكلمات ، والذي فيه ايضا لاينسى ان يسخر من فرويد ومقولته الشهيرة من ان الطفولة تقرر مصير الفرد ، فقد كان طفلا خجولاً ، وكانت امه تُصر على ان تلبسه ثياب البنات ، لكنه تعلق بجده : ” انه صاحب التأثير الاكبر على نشأتي".
نجد سارتر في دراسته يصر على اعتبار فلوبير نموذجا للرجل الذي اد\ار ظهره لعصره وكتب عن عالم حكم فيه بالاعدام على معنى المسؤولية والالتزام . وتمسك فيه بحرية زائفة . لانه وحسب تعبير سارتر لاحرية بغير مسؤولية .. وقد اختار فلوبير حسب تعبير سارتر الحرية ، وهو يريد في كتابه الضخم " فلوبير ابله العائلة " ان يثبت ان مؤلف مدام بوفاري لم يكن يمتلك القدرة الكافية ليكون مسؤولا عن افعاله.



* عن جريدة المدى
 
النهاية قد تبرر الوسيلة مادام هناك ما يبرر النهاية
 علي حسين

7

بحثت عن الطمأنينة في كل مكان، فلم أجدها إلا بالجلوس في ركن منزوٍ وفي يدي كتاب.
توماس دي كيمبيس
مثل كثير من الناس كانت هناك كتب أدين لها بالفضل ، لأنها غيرت مسار حياتي ، عندما كنت في الثالثة عشرة من عمري أتسمت طبيعتي بالخجل ، وكنت أعاني من صعوبة التعرف على أصدقاء جدد ، ونادراً ما أتحدث مع أحد ، ولا أفعل ذلك إلا بصعوبة ، وتشاء الصدف أن يقع بيدي كتاب صغير الحجم مطبوع على ورق أسمر مثل معظم الكتب التي تسمى " شعبية " عنوانه " كيف تكسب الاصدقاء وتؤثر في الناس " للاميركي ديل كارنيجي ، في تلك الأيام كان الكتاب يعد الاكثر مبيعاً ، حتى أن العديد من دور النشر تعيد طباعته باستمرار ، وكنت وأنا الصبي الصغير أسأل بيني وبين نفسي : هل يمكن لكتاب أن يجعل لك الكثير من الأصدقاء ؟ وحين سألت قريبي صاحب المكتبة ذات يوم عن الكتاب ، قال لي بلهجة ساخرة : هذه كتب بلا منفعة ، هدفها المال ، لم اقتنع بالحجة التي ساقها ، فكيف يمكن أن أقاوم كتاباً يمهد لي الطريق لأن يصبح لي أصدقاء وأوثر فيهم .
كانت أول نصيحة تعلمتها من مؤلف الكتاب " ديل كارنيجي " إنني اشتريت دفتر ملاحظات لأسجل به ما اشاهده كل يوم وما يمر بي من مواقف وما أقرأه في الكتب .، إذ يخبرنا كارينجي انه لكي تعيش حياتك بشكل حقيقي عليك ان تهتم بالآخرين . ينبغي أن تصغي اليهم وأن تكون سخياً في محبتك لهم . ويطلب منا أن نكون صادقين .نقرأ في سيرة ديل كارنيجي إنه ابن لمزارع فقير ، وكانت أمه تطمح أن يصبح إبنها كاهناً .كان اسمه الحقيقي ديل كارناجوي ، لكنه غير نطق اسمه : " كنت أريد تحسين حظوظي في الحياة " عمل وهو طالب كلية بائعاً جولاً ، وكان يقطع المسافات الطويلة على قدميه ليبيع الصابون ومنظفات المنازل ، وبعد أن أكمل كليته قرر أن يدرس الفنون الدرامية لكي يصبح ممثلا ، إلا ان مسيرته الفنية انتهت في دور صغير بمسرحية لاقت فشلاً كبيراً ، بعدها عمل بائعاً للسيارات المستعملة ، وفي هذا الوقت قرر أن يكتب عن الطريقة المثلى لكسب ود الناس ، فاستأجر غرفة صغيرة لإقامة دورات عن كيفية التأثير في الآخرين وكان يردد مقولة الفيلسوف الاميركي أيمرسون :" إفعل الشيء الذي تخاف أن تفعله ، وسيصبح موت الخوف عندئذ أمراً مؤكداً بصورة مطلقة " . يبدأ كتاب كيف تكسب الاصدقاء وتؤثر في الناس ، بفصل طريف ومثير اسمه " إذا اردت جمع العسل لاتبدأ بحرق خلايا النحل " وهذه الفكرة يرجعها كارنيجي الى الرئيس الاميركي بنيامين فرانكلين الذي قال لمواطنيه في احدى خطبه :" عزمت على أن لا أتكلم بالسوء عن أي إنسان مهما كان " ، ومثلما يخبرنا ديل كارنيجي إن فكرة فولتير كانت تتلخص في أن " اي أبله يمكن أن ينتقد ويدين ويشكو . لكن لكي يكون المرء متفهما ، فان الأمر يقتضي شخصية متسامحة قوية وضبطاً للنفس " ويتبع هذه الفكرة بصفحات نابضة بالحيوية تعود الى الفيلسوف البريطاني توماس كارليل :" إن الرجل العظيم يظهر عظمته في الطريقة التي يعامل بها البسطاء " ..ويستخدم كارنيجي أمثلة من حياة مفكرين وفلاسفة كانوا يتصرفون بالطريقة التي يجب أن يتصرف بها الانسان ، لقد صرح وليم جيميس ذات يوم بان " أعمق مبدأ للطبيعة البشرية هي التلهف على أن تكون محل تقدير " ويسمي كارنيجي الاسلوب هذا بالاسلوب السقراطي ويصف الفيلسوف اليوناني سقراط بانه " فتى عجوز لامع " ، ويثني على سقراط لقدرته على إقناع الآخرين ، ويحاول كارنيجي الإستفادة من إسلوب سقراط في توجيه الأسئلة واستخراج المعرفة منها ، فقد كان سقراط يحاول أن يقدم لمستمعيه طريقة بسيطة تمكنهم من تمييز ما هو صحيح بانفسهم ، كان سقراط يصر أن بامكان أي شخص يملك عقلاً فضولياً أو سعي الى التدقيق في المعتقدات السائدة أن يبدأ محادثة مع شخص آخر في أحد شوارع المدينة بحيث يصل الى فكرة خلاقة .. ويخبرنا ديل كارنيجي إنه من الممكن التوصل الى تفاهم مع الآخرين دون الإغراق في التفلسف .
كان من عادة سقراط ان يبدأ اسئلته بالافصاح عن جهلة العميق بالموضوع ، حتى يجذب الآخر الى حلبة للمناقشة ، ويحول بصره الى الصعوبة الحقيقية في الموضوع ثم يدخل الى عمق الموضوع ، وكذا كان يشجع الآخرين على سلوك درب الفلسفة دون حاجة الى كرسي المعلم ، ومن دون أن يعطي النصائح والأوامر، فقد كانت براعته تتمثل في قدرته على ان يجعل المحاور يصل بنفسه الى الحقيقة .وقد رأى سقراط إن الفضائل تعتبر تجليات لجوهر واحد هو المعرفة التي تعادل الفضيلة ، وإذا كان الشخص يجب أن يعلن انه لايمكن ان يلم بكل جوانب الحقيقة وانه يستحيل أن يحيط بكل جوانب العلم ، فإن الفضيلة تشير الى وعي الانسان ، ومن ثم يتوجب عليه أن يسلك درب البحث المتواصل عن المعرفة ، وهذا هو جوهر الفضيلة: "أن الفضيلة ما هي إلا دعوى دائبة لإعمال العقل."
كان سقراط يقول: "لا أعرف سوى شيء واحد وهو أني لا أعرف شيئا ." فالفلسفة لا تتقدم إلا عن طريق تبني منهج الشك والبحث الدائم.
إن الفلسفة تبدأ عندما يبدأ الانسان يتعلم الشك، خصوصاً الشك في المعتقدات التي يحبها، والعقائد والبديهيات أو الحقائق المقررة التي يؤمن بها ويقدسها. ولهذا قال سقراط: "إعرف نفسك".وهي العبارة التي حاول كارينجي ان يعيد صياغتها فقد كان يعتقد إن المرء يتعين عليه أن يؤمن بقدراته ، لكي يجعل الآخرين يثقون بهذه القدرات .
في يومياته التي نشرت بعد وفاته يخبرنا ديل كارنيجي إن ثلاثة أشخاص لعبوا دورا كبيرا في بناء شخصيته ابراهام لنكولن وغاندي والكاتب الاميركي هيرمان ميلفيل :" كتاب موبي ديك لميلفيل لايمكن أن يخرج إلا من عبقرية خارقة ، إنه سفينة صوفية أبحرت بها ، عميقة بشكل لايدرك ، من منا لم يمر بتجربة إسماعيل ، من منا لم يكمن عبدا لرغباته ونزواته " .
يقدم أمبرتو إيكو نصيحة للكتاب : " عليك أن تشكل القارئ الذي تريده لكل قصة تكتبها".. وقد اكتشفت أنا بعد سنوات إن بعض الكتب أعادت تشكيل حياتي بصورة أفضل .. ويخبرنا ايكو انه في صباه اطلع على بعض كتب ديل كارنيجي ورغم انه وجدها بسيطة وساذجة أحيانا ، إلا إنها ألهمته بافكار كثيرة خصوصاً ان مؤلفها استطاع ان يقوم بسياحة جميلة في أفكار الفلاسفة الاخلاقيين .
يقول أفلاطون إن أغلب الناس ليسوا مرتاحين فقط لجهلهم وإنما يغضبون بشدة ممن يشير إليه. يكتب ديل كارنيجي في إحدى وصاياه إن " الامر سيكون جيداً لو تحدثت مع الآخرين عن الأشياء التي لا تعرفها " .
************
أيها الكتاب إنك لتكذب، الحق أيتها الكتب أنه عليك أن تعرفي حدّك، أنتِ تعطينا الكلمات والحقائق العارية. ولكن، نحن نملؤها بالأفكار.
هرمان ملفل
كيف أَصبحتَ كاتباً ؟ يجيب وليام فوكنر على هذا السؤال بعبارة قصيرة : عندما قرأت موبي ديك.
كان فوكنر في السابعة والعشرين من عمره عام 1924 ، يمارس عدداً من الأعمال من اجل توفير قليل من المال ، وحين قرر أن يكتب ذات يوم رواية ، عرضها على صديقه الروائي شيرود اندرسن ، وبعد ثلاثة أسابيع اخبره اندرسن انه سيعقد معه صفقة تجارية وسيمنحه اربعمائة دولار عن كل رواية يكتبها ، يستغرب فوكنر من صديقه الذي سيمنحه كل هذه الاموال لمجرد انه سيجلس اربع ساعات في اليوم وراء الآلة الكاتبة.
لكنه بعد نشر روايته الثانية البعوض يدرك إن المال لوحده لايصنع كاتباً يردد فوكنر دائما إن " موبي ديك " هي الرواية التي كان يتمنى أن يكون كاتبها ويصرح :" إن نهاية آهاب – الشخصية الرئيسية في موبي ديك – صارت نوعاً من الجلجلة ( مثارا للاحزان ) بالنسبة لقلب غارق في الحطام وعاجز عن الحركة والتحول " .
في الخامسة عشرة من عمري قرأت موبي ديك للمرة الاولى بنسخة صغيرة صادرة عن سلسلة كتابي ، وبين عملي في المكتبة وذهابي الى المدرسة ، واصلت قراءة المزيد من الصفحات ، وكنت أتلهف لمعرفة ماذا سيحل لآهاب وسفينته واين ستنتهي رحلة البحث عن الحوت الذي يريد اهاب الثأر منه ، وماذا سيفعل البحار المتجول اسماعيل . وفي البيت كنت أنزوي جانباً ، لقد وقعت في حب الرواية ، وعشت اياماً وأنا أقرأ عن اناس يعيشون في مكان آخر وزمن بعيد .
"سترون أيها القراء ، إن هذا الحفار النقاب ، إن تلك الأرضة النفاذة التي اسميها مساعد الخازن المساعد ، قد تغلغل في أقبية المكتبات وسراديبها الطويلة ، ملتقطاً الاشارات المتناثرة الى الحيتان ايّان وجودها ، من كتب دينية أو دنيوية . لذلك ليس عليكم أن تأخذوا هذا الخليط من الأقوال وتعدوه في جميع الاحوال كتاباً موثوقاً معتمداً" . هكذا يكتب ملفل في الصفحات الاولى من روايته ، وبالتأكيد إن هذا الخليط من الأقوال سينتج لنا كتاباً عظيماً يقول عنه الروائي نجيب محفوظ :" هناك أعمال عزيزة على نفسي كنت أقرأها مرتين وثلاثة مثل موبي ديك".
هل يمكن تعريف موبي ديك ، يكتب (هارولد بلوم) في كتابه " لماذا نقرأ" إن " موبي ديك تمثل النموذج الروائي للعظمة الأميركية ، من أجل انجاز رفيع وعميق ، وعلى الرغم من أن ملفل مدين بالكثير لشكسبير ، فإن موبي ديك هي عمل أصيل لصورة فذة ، هي كتابنا القومي عن سفر يونان وسفر أيوب " . ورغم هذه الأهمية الكبيرة لرواية موبي ديك فإنها لم تحظى بالاهتمام عند صدورها عام 1851 ، حيث وصفت بانها مزيج من الفشل ، كان ملفل في الثانية والثلاثين عندما صدرت موبي ديك يعيش مع زوجته وابنه في إحدى المزارع. وبعد مرور أربعين عاماً على صدورها لم يستطع الناشر بيع نسخ الطبعة الاولى التي بلغت ثلاثة الآف نسخة ، وتكرر الأمر مع روايته الأخرى " الجزر الوحشية " التي نشرت عام 1854 ، ومع روايته الثالثة البحار الوسيم ، وبسبب فشل رواياته قرر أن يتجه لكتابة الشعر ، ولم يحظ بالنجاح أيضاً ، فوجد نفسه يعيش في إحباط متواصل لتنهار حياته ، حيث تتوالى عليه الأزمات ، وليجبره الفقر على قبول وظيفة في دائرة الكمارك. وعندما توفى عام 1891 كان مجرد كاتب منسي لايتذكره أحد . فقد تطلب الأمر أكثر من قرن لكي تأخذ الرواية مكانتها الحقيقية وتصبح واحدة من أهم كلاسيكيات الادب العالمي وليعاد نشرها في طبعات كثيرة وتترجم الى أكثر من 60 لغة .
تبدأ رواية موبي ديك بـ"فصل في الاشتقاق "، وهي افتتاحية متميزة شاعت كأنها قول مأثور. يخبرنا ملفل إنها من إعداد معلم مسلول ، ونتبين إن المؤلف يحاول ان يثير القارئ منذ الصفحات الاولى.
بعدها نتعرف على البحار إسماعيل، الذي يريد أن يجرب حظه في إحدى سفن صيد الحيتان. لذلك يسافر من مانهاتن في نيويورك إلى ماساشوسيتس، ويصل في الليل إلى فندق في نيو بيدفورد. لكنه لا يجد سريراً فيضطر إلى النوم في سرير مشترك مع رجل غريب.
ينفر إسماعيل من ذلك الرجل الفظ، الذي يغطي الوشم جسمه، واسمه كيكيغ. ويعمل صياداً للحيتان بالرمح. غير إنه سرعان ما يرتاح له حين يراه طيباً ومرحاً. يتفق معه على السفر إلى نانتوكيت، مركز تجارة الحيتان، للبحث عن عمل. وهناك يوقع الاثنان على عقدين بالعمل في السفينة بيكود التي يقودها القبطان الغامض والشهير آهاب.
تبحر السفينة صباح يوم عيد الميلاد ، ويشعر إسماعيل بالقلق، عندما يشاهد قبل الإبحار بوقت قصير، قارباً يقف إلى جانب السفينة ويصعد منه رجال لم يستطع تمييزهم بسبب الضباب ثم لا يظهر أثر لهم! يتعرف الصيادون والبحارة على الكابتن الأول، ستاربك.. والثاني: ستاب.. والثالث: فلاسك. لكن القبطان آهاب لا يظهر للتعارف!
وعندما تدخل السفينة المياه الحارة، يظهر آهاب ويجمع البحارة ويحثهم بخطاب مثير، على تحقيق هدف الرحلة، وهو اصطياد الحوت الأبيض: موبي ديك، لأنه برأيه، الشر المتجسد ويجب تخليص الناس من شره.
تدور السفينة بيكود حول أفريقيا وتدخل مياه المحيط الهادي وتصادف سفناً أخرى لصيد الحيتان، فيستفسر آهاب باستمرار عن موبي ديك. وينهيه العراف غابريل في السفينة جيرابوم عن مطاردة موبي ديك. ويحذره من الموت الذي ينتظر كل من يحاول قتله.
بعدها تقابل بيكود سفينة صيد الحيتان الإنكليزية صموئيل اندرباي، ويخبر قبطانها بومر آهاب بأنه شاهد موبي ديك وحاول اصطياده فخسر ذراع يده اليمنى.. بعد ذلك تقترب بيكود من خط الاستواء وتقابل السفينتين راشيل وديلايت، والاثنتان واجهتا موبي ديك.
أخيراً يلمح آهاب الحوت، فتنزل قوارب الصيد وترميه بالرماح. يصيبه بعضها ، لكن الحوت لا يستسلم. تستمر المعركة ثلاثة أيام. وعندما تأتي اللحظة المناسبة ليرميه آهاب بالرمح المميت، يلتف حبل الرمح حول رقبته ويجره إلى الموت. ويحاول ستاربك إنقاذ بقية الصيادين.
ويعترض موبي ديك بالسفينة، ويحدث فجوة فيها، فتغرق وتُغرق معها بقية القوارب. يموت الجميع ما عدا إسماعيل .
هكذا يذهب القارئ في رحلة استكشاف للنفس البشرية. فالسفينة بيكود تبحر في أعماق المحيط ، ونحن القراء نبحر في أعماق أبطالها ، وإذ يقدم لنا ملفل صراع الثقافات بين البحارة وعاداتهم وتقاليدهم المختلفة ، فإنه انما يضع شخصياته في صراع مثلث: صراع مع الطبيعة وصراع مع الذات وصراع مع الإنسان. ثم يدفعها إلى التأمل في الإنسان والوجود والإيمان والخير والشر.
************
ما ذاك الرجل المضرج بالدم
مكبث لشكسبير
إن البحث عن الثأر وانتظار المصير المجهول التي اتسمت بها حكاية موبي ديك ، نجدها قريبة الشبه بمسرحية شكسبير الشهيرة مكبث حيث استعان هرمان ملفل بالتكنيك المسرحي الشكسبيري. واستخدم الرموز والاستعارات بكثافة، وعرضها بأسلوب يشد القارئ ويتركه في حالة تأمل عميق.
القانون الخفي الذي يحكم رواية ملفل هو القانون نفسه الذي يحكم مسرحيات شكسبير. يتنبأ البارسي للقبطان آهاب إن القنب قاتلة. يفسر آهاب النبوءة خطأ: يقول إن القنب يعني انه سيموت مشنوقاً، فيزداد جرأة في عرض البحر. لكنه يموت بحبل الرمح الذي يلتف على عنقه بينما يقذف النصل في جسم موبي ديك. يحدث الأمر نفسه مع مكبث؟ تتنبأ العرافات الثلاث إنه لن يقتل إلا حين تتحرك الغابات، فلا يتخيل في جنونه لحظة ان جيشاً مموهاً بالشجر قد يزحف على قلعته مثل غابة تتحرك!
يحضر "مكبث" في "موبي ديك" أكثر من مرة. هناك مشهد يكاد فيه أحد الضباط أن يقتل آهاب. ذلك يذكرنا بمكبث حين يقدم على قتل الملك. لكن الضابط يتراجع اذ يسمع آهاب يدمدم في المنام اسم الحوت موبي ديك الذي التهم ساقه عند ساحل اليابان حيث ما زال يطوف في مناماته.
لعل المقارنة بين شخصيتي آهاب وماكبث، تكشف لنا ما يدور من الصراعات بين أهواء النفس البشرية ونوازع الثأر .في موبي ديك يدور الصراع داخل نفس البحار آهاب ما يخلق لديه ذلك التوتر والتردد ، فيما نجد إن ما يحرك ماكبث ليس تردده أو أية صراعات داخلية. ما يحركه هو نزعة الشر التي إذ تدفع الإنسان الى القتل وإلى التعطش الى الدم.
إذ يقول ماكبث: " لقد خطوت في الدم بعيداً، فحتى لو لم أخض المزيد لكان النكوص مرهقاً كما المضيّ" . ونجد آهاب يقول في موبي ديك : " انا آت اليك بالشمس ، ضعوا النير فوق اعناق الامواج الاتية ، اجعلوها عربة مردفة ، ها انا اسوق البحر".
لم يعد في إمكان ماكبث أن يتراجع. ليس لأن الأقدار فرضت ذلك عليه، بل لأن تلك هي شيمة الرجال وآهاب لا يفوته ان يقول لبحارة سفينته انه لن يجرؤ على التراجع في مواجهة الحوت الابيض .
يكتب سومرست موم :" يمكن قراءة موبي ديك بأهتمام بالغ ، دون النظر الى ما تحمله أو مالاتحمله من مجازات ، ولااستطيع ان أكرر مرات ومرات ان رواية موبي ديك لاتقرأ للتعليم والتربية ، ولكن للمتعة والتسلية العقلية ، واذا وجدت انك لاتحصل منها على هذه المتعة ، فالاجدر بك الا تقراها على الاطلاق . .ترى هل كان برنادشو على حق حين قال ذات يوم :" منذ أن تعلم الإنسان الكتابة، لم يكتب مثل هذه الرواية ".
 
ما الذي يجعل هؤلاء مختلفين عنّا ؟!
 علــي حســـين

8

تتم كتابة الكتب من أجل تأكيد وحدة البشر وبالتالي الدفاع عن أنفسنا أمام الوجه الآخر القاسي للوجود: الزوال والنسيان.

ستيفان ريفايج

لم أكن أعرف معنى هذه العبارة التي وضعها صاحب المكتبة في إطار أنيق فوق رأسه، ولا أعرف شيئا عن صاحبها"المتنبي".وكنت أحاول أن استوضح معنى"وخير جليس في الزمان كتاب"، ومن هو هذا المتنبي الذي قال هذه الأبيـــات:
أعَزُّ مَكانٍ في الدُّنَى سَرْجُ سابحٍ
وَخَيرُ جَليسٍ في الزّمانِ كِتابُ

وعرفت بعد ذلك ومتأخراً إن المقصود بهذه الأبيات هو الشاعر نفسه الذي لم أفهم آنذاك لماذا يُعظم نفسه ويجلها بهذا الشكل :
وَإنّي لنَجْمٌ تَهْتَدي صُحبَتي بِهِ إذا حالَ مِنْ دونِ النّجومِ سَحَابُ

لن أنسى أول كتاب قرأته عن المتنبي، ليس كتاباً لطه حسين ولا لمحمود شاكر و لا العقاد، فآنذاك لم أكن أسمع بواحد من هؤلاء، والذي لفت نظري في الكتاب هو غلافه الذي كان عبارة عن لوحة ملونة لرجل يرتدي الغترة البيضاء والعقال وتبدو ملامح وجهه صارمة، كان الكتاب بعنوان"المتنبي شاعر العرب"وصدر ضمن سلسلة بعنوان"الناجحون"وقد وضع القائمون على السلسلة عبارة تلخص الغاية من أصدر مثل هذا الكتب :"إنّ النجاح يجرّ النجاح، فتعرّف إذاً إلى الناجحين يسهل عليك تحقيق النجاح".وفتحت الكتاب وقرأت ووجدتني أواصل القراءة وبلغت النهاية في يوم واحد.. ووجدتني أمام أمر عجيب، فالمتنبي الذي يقول لنا ناشروا الكتاب إنه أحد الناجحين لم ينجح في حياته، لم يتزوج المرأة التي أحبها، ولم يحصل على الراحة والاستقرار، ومات في النهاية مقتولاً.. فأين هو النجاح؟.
بعد سنوات حصلت على نسخة من ديوان المتنبي، وكانت نسخة قديمة صادرة عن لجنة التاليف والترجمة، وقد حققها وشرحها عبد الوهاب عزام وهو باحث ومفكر مصري قدَّم طائفةً متنوِّعةً من الأبحاث في الأدب والتاريخ والتصوف. وأصدر في الثلاثينيات واحداً من أجمل كتبه بعنوان"ذكرى ابي الطيب المتنبي"، في ذلك الوقت وانا اتتبع خطوات المتنبي كنت أشعر أن نوعا من القلق الممتع بدأ يساورني، إذ رحت أدرك إنني متورط في مغامرة مختلفة عن المغامرات التي عرفتها من خلال الكتب. واكتشفت وأنا أتابع قراءة ما كتب عن المتنبي، إن الأعمال الادبية العظيمة تستلزم حكايات غير عادية حولها، فقد نسجت سيراً سحرية حول المتنبي الإنسان والشاعر والتي استمرت حتى بعد موته. يكتب البرتو مانغويل إن الاعمال الاستثنائية في الأدب أو الفن تسبغ على أصحابها مسحة من القوة والسحر والغموض، فلايزال اليونانيون يعتقدون أن هوميروس الذي كَتب الالياذة والاوديسة، لايمكن أن يكون من البشر.يخبرنا الايطالي جيوفاني بوكاتشو مؤلف الكتاب المذهل"الديكاميرون"إن أبناء شاعر ايطاليا الكبير دانتي :"شعروا بالحنق لأن الرب لم يعط والدهم دانتي وقتاً اضافياً ليمكل عمله الشعري الكوميديا الإلهية،وفي إحدى الليالي رأى أصغر أبناء دانتي والده يقترب منه في الحلم مرتدياً عباءة بيضاء، فبادره الأبن سائلا هل كان مايزال حياً؟ ليجيبه دانتي بأنه حي، انما في الحياة الحقيقية وليس في عالمنا. عند ذاك، سأله اأبن هل كان قد أتم الكوميديا الالهية، لتأتي الإجابة بـ (نعم لقد اتممتها).بعد ذلك أصطحب دانتي ابنه الى غرفة نومه القديمة حيث وضع يده على تجويف مغطى بحصيرة على الحائط وقال (هنا ما كنت تبحث عنه طويلاً) وعندما استيقظ الأبن هرع واحضر أحد تلامذة دانتي ليكتشفا معاً وجود ذلك المكان الذي احتوى على أوراق قديمة، تبين فيما بعد إنها الاناشيد الاخيرة من الكوميديا الالهية والتي قيل أن أبياتها الأخيرة.
يكتب دانيال بناك في كتابه"متعة القراءة"إن القراء العاديين لايحفلون كثيراً بالضوابط الرسمية للتحقيب الزمني، فهم عادة ما يرتبون تسلسل قراءاتهم ومحاوراتهم في ضوء العصور والحدود الثقافية. ومثلما كنت أنا الشاب أحاول أن اختصر الحقب الزمنية للتقرب من المتنبي الذي كان يبحث عن المجد والرفعة والمغامرات حتى إن صديقه ابو الفتح عثمان بن جني يرثي بقصيدة جاء فيها
فاذهب عليك المجد ما قلقت
خوض الركائب بالاكوار والشُعب.

يخبرنا كُتاب سيرة دانتي اليجيري ان مذنباً ظهر في سماء مدينة فلورنسا ليله السابع من آب عام 1264،وقد اعتبر سكان فلورنسا ظهور هذا المذنب دلالة على مجيء إنسان عظيم، وبعد شهور قليلة وفي أيار من عام 1265 ولد طفل للسنيور اليجبرو اسماه دورانتي، والذي اختصر الى دانتي. كان طفلاً بائساً، فقد والدته وهو في الخامسة عشرة من عمره وتوفي والده بعدها سنوات قليلة، كانت ملامح وجهه تضفي عليه مسحة من الحزن، في صباه تعرف على فتاة جميلة اسمها بياتريس ابنة أحد أثرياء فلورنسا، كان كلما ينظر اليها يظن إنها ليست من سكان هذا الكوكب، بل هي ملاك هبط من السماء، وتشاء الظروف أن تغيب بياتريس سنوات لتظهر من جديد، يكتب دانتي في يومياته :"كانت سائرة عبر الشارع، وفجأة لفت ناظريها الى البقعة التي كنت واقفاً عليها وأنا على أشد ما أكون من الارتباك والحياء، وفي أدب جم لا تمحي سمته، تلطفت عليّ بابتسامة محتشمة".
هكذا كانت بداية قصة الحب.كان دانتي يعرف أن حبه لبياتريس لا أمل منه، فقد كان قصير القامة، مقوس الأنف، تبدو على وجهه ملامج التعب، والأكثر من هذا كان فقيراً ومغموراً، ويتذكر كيف كانت الفتيات يسخرن من تقاطيع وجهه وخجله.. لكن ذات يوم يقرر أن يجعل من حبه لبياتريس التي ماتت بعد زواجها من أحد الاثرياء، دافعاً لأن يكتب ملحمته الشهيرة"الكوميديا الإلهية".
يؤكد الكثير من الدارسين لحياة أبي الطيب المتنبي أنه هام عشقاً بخولة أخت سيف الدولة الحمداني، وأن هناك الكثير من القصائد التي بث من خلالها هذا الحب :
كَتَمْتُ حُبّكِ حتى منكِ تكرمَةً
ثمّ اسْتَوَى فيهِ إسراري وإعْلاني
***********

إن قراءة الكتب الجيدة هي بمثابة محادثة مع أفضل الشخصيات من القرون الماضية.

ديكارت

كل قارئ يطرح أسئلة بهدف إثارة النقاش، وكنت مثل طفل أسأل بعض الاساتذة من رواد المكتبة عن أبي الطيب المتنبي، وذات يوم في منتصف السبعينيات كنت جالساً في المكتبة وفي يدي نسخة من ديوان المتنبي، أجيب على استفسارات زبائن المكتبة، عندما اقترب مني الدكتور جلال الخياط، وكان آنذاك استاذاً جامعياً لامعاً ينشر في الصحف والمجلات مقالات عن الشعر والأدب الحديث، وحين لمح ديوان المتنبي في يدي ابتسم وقال لي وهو يشجعني
- تقرأ المتنبي إذن
• اخذت اتمتم بعبارات غير مفهومة، لكتنني في النهاية قلت باضطراب : نعم أقرأ في ديوانه رغم انني لا أفهم الكثير من الأبيات.
بدت على ملامح وجهه ابتسامة مشفوعة بالحنان وهو يقول
- لا بأس كلنا بدأنا هكذا مع الأيام ستفهم أكثر بعد أن تقرأ ما كتب عن المتنبي وقبل أن ينهي محاورته معي سألته سؤالاً كان يشغل بالي ترى لماذا أطلق أبي الطيب على نفسه لقب المتنبي
نظر إلي، ثم قال : هل لديكم في المكتبة كتاب نشوار المحاضرة للتنوخي
قلت نعم إنه بثمانية أجزاء وبتحقيق عبود الشالجي
ذهبت باتجاه الرف الذي يضم الكتاب فأشار الخياط الى الجزء الرابع من الكتاب فسحبته لأسلمه إليه، فتح صفحات الكتاب وأخذ يقرأ : يقول التنوخي :"كان يتردد في نفسي أن اسأل أبا الطيب المتنبي عن تنبيه والسبب فيه، وهل ذلك أسم وقع عليه على سبيل اللقب، وقلت له ذات يوم أريد أن أسالك عن شيء في نفسي منذ سنين، وكنت أستحي خطابك فيه من كثرة من كان يحضرك ببغداد، وقد خلونا الآن، ولابد أن أسالك فيه، وكان بين يدي جزء من شعره فيه كتاب شعر ابي الطيب المتنبي
فقال وهل تريد أن تسألني عن سبب هذا؟! وجعل يده فوق الكتابة التي هي المتنبي، فقلت : نعم. فقال هنا شيء كان في الحداثة أوجبته صبابة، فما رأيت تلميحاً ألطف من هذا"
بعد أن وضع الكتاب في مكانه، إلتفت اليّ الدكتور جلال الخياط وهو يقول : إن رواية التنوخي تقترح علينا عدة خيارات حول سبب لقب المتنبي أولاً، فهو قد يكون لقباً بسيطاً كما ذكر التنوخي، أو يكون كما قال ابن جني وهو من أصدقاء المتنبي المقربين وكان قد أخبره انه حصل على لقبه هذا بسبب بيت من اوائل شعره : أنا في أمة تداركها الله غريب كصالح في ثمود". والمتنبي هنا يريد أن يقول لنا إنه مثل النبي صالح الذي لم يكن مقبولاً في قومه.
العام 1937 يصدر الدكتور طه حسين كتابه"مع المتنبي"ونجده منذ الصفحات الاولى يبدي عدم إعجابه بالشاعر، كان طه حسين يقضي إجازته الصيفية في فرنسا عام 1936 وبالقرب من جبال الألب قرر ان يكتب عن المتنبي رغم أنه :"ليس المتنبي من أحبْ الشعراء إلي، ولعله بعيد كل البعد عن أن يبلغ من نفسي منزلة الحب و الإيثار، ولقد أتى عليّ حين من الدهر لم يكن يخطر ببالي إني ساعتني بالمتنبي أو أطيل صحبته"ونعرف ان طه حسين في ذلك الوقت قرأ كتاب المستشرق الفرنسي ريجيس بلاشير"ابو الطيب المتنبي – دراسة في التاريخ الأدبي"والذي صدر عام 1935، وقد ترجم الكتاب الى العربية من قبل الدكتور ابراهيم الكيلاني وصدر عام 1975. ونجد طه حسين بعد أن ينتهي من قراءة كتاب بلاشير يقرر ان يدخل في السجال عن المتنبي :"لم أجد بأساً في أن أقطع على نفسي لذة الحياة في فرنسا بين هذه الربى الجميلة وفي هذا الجو الحلو، لم أجد بأساً بأن أثقل على نفسي اثناء هذا كله بالتحدث إلى المتنبي والتحدث عنه".
ولم يكتف طه حسين بالحديث عن طمع المتنبي واستغراقه في المديح وإنما وصل به الأمر أن يكتب إن المتنبي خدع نفسه كما خدع المحيطين به فيقول :"والذي أريد أن أصل إليه من هذا الحديث الطويل، هو أن المتنبي قد ظن بنفسه غير ما كان عليه، وما أكثر ما يخدع الناس عن أنفسهم، ولكن الغريب إن المتنبي لم يخدع نفسه وحدها وإنما خدع معها كثير من الناس، فظنوا به الفلسفة وهو ليس من الفلسفة في شيء وظنوا به الحرية والكرامة، وليس هو من هذا كله بشيء، وإنما هو رجل من أهل زمانه لم يتميز منهم بأخلاقه، وإنما أمتاز منهم بلسانه".
ويذهب طه حسين الى نقطة أبعد حين يشكك بنسب المتنبي فهو يقول :"مولد المتنبى كان شاذاً، والمتنبى أدرك هذا الشذوذ وتأثر به فى سيرته كلها"، ويستند عميد الأدب العربى فى رأيه على أنه إذا قرأت ديوان أبى الطيب مستأنياً متمهلاً لا تجد فيه ذكراً لأبيه، وإنك تجده لم يمدحه ولم يفخر به، ولم يرثه ولم يظهر الحزن عليه حين مات، وهذا كافٍ فى تشكيك العلماء في نسبه، وهو كافٍ في اليقين بأن «المتنبى» لم يعرف أباه.
وقد أثار هذا الرأي العديد من الباحثين، وكان واحد منهم تلميذاً لطه حسين، وهو محمود محمد شاكر الذي كان قد أصدر عام 1936 كتابه عن المتنبي ولم يكن آنذاك معروفاً بين النقاد والادباء، ويخبرنا شاكر إنه ألف كتاب المتنبي بتكليف من مجلة المقتطف التي أرادت الاحتفال بألفية الشاعر، وقد صدرت المجلة آنذاك وهي لاتحمل في صفحاتها سوى كتاب المتنبي لمحمود شاكر مع تقديم من رئيس التحرير يقول فيه :"هذا العدد من المقتطف يختلف عن كل عدد صادر منذ سنتين إلى يومنا هذا، فهو في موضوع واحد ولكاتب واحد"
وفي الكتاب يحاول شاكر أن يبحث عن أصل المتنبي فيخبرنا بأنه شريف علوي وليس ابن سقاء في الكوفة كما تقول معظم المصادر، وإنه أي المتنبي تعلم مع الأشراف في مكاتب العلم.
عندما صدر كتاب طه حسين عن المتنبي عام 1937، قرر محمود شاكر أن يواجه استاذه فكتب عدة مقالات تحولت فيما بعد الى كتاب ضخم بعنوان"المتنبي.. في الطريق الى ثقافتنا"، ونجد شاكر يتعجب مما يذكره طه حسين متسائلا:"أيكون لزاما على كل شاعر أن يمدح أباه، وأن يفخر به، وأن يرثيه، فإن لم يفعل الشاعر ذلك فهو شاعر لا يعرف أباه؟، إنى أجد من الشعراء من فخر بأبيه، وأجد منهم كثيراً لا يعد كثرة من لم يفخر بأبيه ولا ذكره في شعره، أفكل هؤلاء لم يكن يعرف أباه، ولا يثبت نسبه لضعفه وخسته؟".
ثم يخبرنا شاكر في مقدمة كتابه الجديد إنه"عاش مع المتنبي زمناً وكتب عنه كتاباً متواضعا في 170 صفحة نشره المقتطف"عام 1936"فمن حق المتنبي علي أن أقرأ ما كتب عنه الدكتور طه وغير الدكتور طه، وكما أنه من حق نفسي عليّ أن أضع التاريخ في موضعه الذي أرخته به معدة الفلك".
وفي كتابه يناقش محمود شاكر قضية النبوة التي ألصقت بالمتنبي، فيخبرنا أن الشاعر لم يدع النبوة كما زعموا. بل اعتبر أن هذه النبوة هي مما افتعل افتعالاً وأقحم في خلال الأخبار التي ذكر فيها أنه أدعى نسبه العلوي.
*******

أمامي نسخة من كتاب"الكوميديا الالهية"لدانتي قام بترجمته الدكتور حسن عثمان الذي يخبرنا إنه كرس أكثر من 25 عاماً من حياته لدراسة دانتي وترجمة ملحمته، وكيف إنه سافر الى إيطاليا وانكلترا وامريكا ليبحث في مكتباها عما كتب عن شاعر ايطاليا الكبير، ونكتشف مع حسن عثمان ان الكلمات كانت سلاح دانتي لانجاز رحلته من الجحيم الى الفردوس. يكتب الشاعر الانكليزي ت إس إليوت:"إن العالم الحديث منقسم بين دانتي وشكسبير، وليس ثمة ثالث بينهما". وكنت مثل اي قارئ مبتدئ أتوهم إن قراءة الكوميديا الالهية عمل سهل اشبه بقراءة إلياذة هوميروس او إنياذة فيرجل، فاذا بي أجد نفسي أمام عمل أدبي ضخم به اشارات للآداب الكلاسيكية وعلم اللاهوت في العصور الوسطى والشؤون السياسية الإيطالية والكثير من القضايا الأدبية التي ما يزال الباحثون يتجادلون يختلفون حولها. فنحن أمام قصيدة ملحميّة تتألف من 14 ألف سطر شعري تقريبًا تصف رحلة دانتي بين الجحيم والمطهر والفردوس. تبدأ القصّة باستيقاظ دانتي من نوم عميق وهو تائه في غابة مظلمة. وبعد عدة محاولات فاشلة في الهروب يلتقي دانتي بالشاعر فيرجيل، الذي بدوره يخبر دانتي بأنّ الطريق الوحيدة للخروج هي بالعبور من مركز الأرض مرورًا بالجحيم. فيقود فيرجيل دانتي عبر الجحيم فيشاهد فيها مشاهد مرعبة من العذاب ويلتقي فيها بالعديد من الشخصيات التي ذُكرت في الكتاب المقدس والآداب الكلاسيكية. وتنتهي الرحلة في الجحيم بلقاء مع إبليس ثم يهربان من هناك وينتقلان إلى المطهر. يصعد الإثنان جبل المطهر ويلتقيان بأولئك الذين ينتظرون الذهاب إلى الفردوس في رحلة تطهرهم. وهنا أيضا يلتقي دانتي بشخصيات حقيقية وخيالية كلّ منها له حكاية يخبرها. وقرب ذورة جبل المطهر يغيّر دانتي مرشده في الرحلة ويتابع نحو الفردوس وصولًا إلى رؤية الرب.
كتب دانتي الكوميديا الإلهية وهو في المنفى بعيداً عن مدينته المحبوبة فلورنسا. ولذا نجد موضوعي المنفى والخلاص يتكرران كثيراً في الملحمة. كما يظهر العديد من أصدقاء دانتي السياسيين في القصيدة في أجزائها المختلفة. أما شخصية بياتريس التي ظهرت في القصيدة فهي شخصية الفتاة التي احبها في الصغر وعشقها في فترة الشباب وقد ماتت وكان عمرها 24 عامًا لتظهر في الملحمة في قصيدته ممثّلة لكل ما هو خيّر وجليل.
وتعد الكوميديا الالهية، من نواح عديدة، قصيدة حب تمتدح جمال بياتريس الأخلاقي، وقدرتها على الوصول بدانتي إلى رؤية الخير الأعظم، إذ إنها تقوده، في رحلته حتى يلتقي بأرواح المباركين. ويقف دانتي في بهجة ونشوة، ويتفهم في ختام ذلك كله، الحقيقة النهائية للحياة، وما يعنيه الكون.
كتب دانتي الكوميديا الالهية تعويضاً عن حياته التي عانى فيها الشقاء، فهذا الانسان المطارد، الممقوت، خلق عالماً رحب به وصادقه ولرفع من شأنه، وأدخله عالم العظماء، مثله مثل ابي الطيب المتنبي الذي هزم وقتل في عالم الملوك والامراء والحساد، لكنه انتصر في عالم الفكر والشعر.
بعد وفاة المتنبي بخمسين عاماً قرر ابو العلاء المعري أن يجمع شعره ويشرحه في ديوان ضخم أسماه"معجز أحمد"، وبعد خمسمائة عام من وفاة دانتي زار الشاعر بايرون قبره ليركع أمام الضريح ويبكي.
 
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...