في رأس رَجُلِنا الماشي فِكر وانشغال، وفي عوده انحناء خفيف. أمامه مباشرة يخطو واحد آخر، لا يختلف كثيرا في الأناقة البسيطة والمشي بإيقاع منتظم يمكن قياس خطواته بدقة. الاثنان في قلب شارع تُطوِّقه دائما لافتات قماشية للمرشحين في أي شيء، ويفترشه منذ الأزل باعة كل شيء. يأخذون منه الثُلثين، ويتركون الثلث لكل ما يمر علي الأرض من إنسان وحيوان وآلة. ينظر رجُلنا للحقيبة المتمايلة في يد الآخَر: لونها بُني محروق، وفي حجم مجلة من القطع المتوسط. لها يد في أعلاها، رآها صاحبنا أُذن كلب من فصيلة عليا. الحزام المتدلي، والذي مكانه علي الكتف في وقت آخر، كان يلتف ويتلوي حول جسدها. هل صُنع من أجلها أم من أجل رقبة وبرية وثيرة لكلب آخر؟ الطريقة نفسها التي تنام بها اليد وثنية الحزام في يد الرجل تُنبئ بحالة فكّر فيها علي هذا النحو: جسدها ملفوف ومستسلم، يكاد يسيل بالكريمة الدسمة. حتي بهاء الفضة المتلألئة في القفل ودائرته الرقمية السحرية.. ذلك البهاء فيه غواية القطف والتلذذ بتقشير الوردة ورقة ورقة للوصول إلي المخبوء. تحت القفل جيب طويل ربما للموبايل، يصنع تقوسا خفيفا علي البطن. يمكن هكذا أخذها في الحضن بسهولة وتمريغ الوجه في دسامة الجلد الطري.
ظهرها ناعم، مسّته يد فنان.
هكذا فكَّر صاحبنا حين نقل الرجل حقيبته لليد الأخري، فبان الظهر مشدودا ولامعا في شمس الظهيرة. تلك اللمعة التي تخلق وهجا دوّارا بدوام النظر. كل شيء في العينين يتواري ويهرب ولا يتبقي إلا الشك. ماذا يري؟ وهل يري؟ هل الأمر بين الرؤية واللارؤية؟ جسد الحقيبة موجود وغير موجود. رجُلنا غائب وحاضر. الرجلان ماشيان بالفعل وفي تمام التوازي. لا تنتهي الحالة إلا بحاجز. شيء ما، طفل أو دراجة أو توكتوك، يقطع الخط، يعترض سير الأشعة المُوجّهَة من عينين مخطوفتين لحقيبة بُنية جميلة. والآن، يتغير إيقاع خطواته قليلا، ميلة الجسد و اختلاجات متذبذبة في الرأس. ثمّ، لمحة خاطفة خارجة عن كل الحسابات، لمحة تبعها عَدْو مسعور. نعم خطف صاحبنا الحقيبة وجري، هو الذي لم يكن لصا في يوم من الأيام. يجري بكل القوة المخزونة خلف وقار تاريخي. عيناه بوابتان مفتوحتان علي أشياء حارقة تتخبط علي حدود الحدقة، مغسولة بماء حامض لكنه منعش. يسمع أنفاسه الرامحة، وقلقلة الأرجل من ورائه في الشوارع الجانبية الملتوية. مرتان أو ثلاثة وصلته الكلمة الذابحة: حرامي! كأنه علي ظهر فرس جامح، حتي هدأ كل شيء تدريجيا. انتظمت الخطوات وتباطأت دقات القلب. عادت لموسيقتها المألوفة، ولكن بنغمة أحسّها مختلفة. مسح جبينه براحة إحدي يديه، فيما الأخري تتعلق بها حقيبة في لون الشيكولاتة. يلتفت للوراء ويري خيطا سائلا ممتدا من الكريمة البُنيّة سَخيّة القوام.
كانت لحظات حميمة كما تَمنّي. دار حول الحقيبة عشرات المرات. نظر من زوايا أتاحت له التدقيق الشامل في الجسد. كل مرة يُشعل الولاعة ويقترب من الحواف. هو يعرف أنه جلد طبيعي لن تطاله النار، لكن ما المانع في اختبار يجلب المتعة. تلك اللسعات لخيوط هشة ناتئة قليلا تتلوي كما فراشة تحترق أجنحتها بالنور. إضاءات للمسام عن قرب، رؤية تلك التجعيدات الخفيفة جدا مثل بصمة الأصابع. سيكور يده ويُقرّب النار الصغيرة. يوزع النظر بين جلده وجلدها. ما أقرب الشبه! بعدها سيسمح للظلام أن يسود، يُمعِن في ارتشافات أنفه لعمق الرائحة. يفكر في هذه الدسامة. لحظات صمت ويُعاود مرة أخري. هذه المرة تكون الارتشافة هامسة، مارّة من الجوار. الرائحة تختلف وتتحول. لكن ما هي؟ التحديد غائم. رغم الدباغة وجودة الصناعة، هناك نفَس يسري. من قلب العينين المغمضتين في الظلام تري المشاهد: بقرة حلوة تتغندر علي شاطئ، عنزة سوداء مرقطة بالأبيض وتتدلي أذناها علي جانبي رأسها الصغير. موكب لكائنات عديدة بعضها غير مسمي وغير متشكل في هيئة معلومة. يتذكر رؤيتها الأولي وكيف أنها ذكرته بكلب جميل. يغمض عينيه بشدة.
(إنها جسد توشك الحياة أن تدخله).
ملمس ورائحة وأنفاس. لا. ربما أعلي من ذلك. أعلي جدا.
(روح؟)
روح كامنة فيها لا تفني. فكرة الروح هي الأخري ستأخذ حيزا، حتي مع بزوغ الفكرة المؤجلة دائما: الفتح والدخول والتجول.
يومها كانت الطقوس يصاحبها ارتجاف. تقديم وتأخير. أصابع تدير الدائرة السحرية للأرقام، وفي الداخل شغف بهذه المحاولات. شغف بأن تنجح، وشغف بأن تفشل وتستمر مرة تلو أخري. أي حالة هذه! وكيف يبقي أحد مشطورا وغائبا ومستمرا بإرادته؟ إنه يريد ولا يريد. يفكر أن ذلك الحضور الفارق الذي يحسه إزاء الكيان المغلق، سيتلاشي مع الفتح. نعم الفتح غواية وأي غواية. تُنادي وتُلح، تركبك وتحل في الأصابع المجنونة بتوليف الأرقام للوصول إلي التَكّّة المعدنية. محاولات ومحاولات مُتعبة وباعثة علي ركل ذلك الكيان الجلدي كله. إلي أن طقت الشرارة في صُدفة عزيزة: ينفصل العاشق والمعشوق، ويتمّ الدخول.
يلزمه الكثير جدا ليخوض التجربة. يحتاج ما يشبه هذه المستحيلات الثلاثة: تبتل قديس وسكينة بوذي واطمئنان شيخ. في البداية سارع بافتداء نفسه، وأعاد كل المحتويات التي كانت في الحقيبة لصاحبها: عدة أوراق وجواز سفر، موبايل كبير الحجم، نقود قليلة. لكن تلك النوتة الصغيرة العذراء، هي فقط التي نامت في يده. سيكون هو أول المخربشين علي بتلات أوراقها البيضاء. أنيقة وفي حجم الكف. يؤطرها، في الجنب، سلك لولبي مذهب ورهيف. صار يعتقد أن الأناقة ذتلك الكلمة التي بحث عنها طويلا- موجودة ومتمثلة في الحقيبة والنوتة. الأناقة مفتاح الدخول لعالم لم يخلق بعد، عالم من الجِلد والورق الأبيض. ستكون النوتة في محيط البصر دائما، علي ذلك الكومودينو الجميل. والحقيبة ستحتفظ بحظوتها علي الكرسي الجلدي ذي المسند العالي. إنها في المكان نفسه الذي لم يُغيره لزمن طويل، وببساطة تنازل عنه. من تلك اللحظة، وهي هناك بجلالها، مغلقة كانت أو مفتوحة. وفي التجربة الخارقة كانت علي الدوام مُشرعة، ومُهيأة لاستقبال كل هائم أثيري.
الاستعداد كان بالصوم. يعرف أن ذلك هو السبيل الوحيد لما ينتويه. طالما أحبَّ الصوم ورأي فيه خلاصة الوجود. بلا طعام أو شراب، يصبح كل شيء حلوا ومرغوبا في هذا العالم. هذه الخفة التي يصير إليها، العقل الهائم الدائخ في العوالم، الجسد المهمل والمؤجل لحين. الحالة تصل لتفردها في السويعات الفاصلة بين العصر والمغرب. ينام علي الكنبة في مواجهة الحقيبة. يُقرّب الكرسي لتصبح في عينيه تماما. في اليوم الأول، لم ينم عقله.. أتعبه جدا ذلك الطواف المُرهِق عبر قراءة أزمان وأمكنة. فهذا رجل عبقري مجنون فكّر في وزن الروح، أراد أن يجعلها مادة، ضمن كل شيء في مطلع القرن الماضي. ببساطة كان يضع إنسانا يحتضر علي ميزان دقيق، ثم يُسجل الوزن قبل وبعد الوفاة، والفارق سيكون هو وزن الروح خالصة! فعلا كان الوزن ينقص بمعدل كذا وعشرين جراما كل مرة. عبيط، ربما حدثت تغيرات فسيولوجية بعد الموت، مثل توقف الدورة الدموية أو ما شابه، وهذا قد يفسر النقص الطفيف في الوزن. ثم كيف تكون الأرواح كلها في وزن واحد؟ هل تتساوي روح "هتلر" مع روح "غاندي" مثلا؟ وكيف هو وزن أرواح أهل الموسيقي؟ إنه تخريف أن يفكر ذلك الرجل في ميزان واحد لكل تلك الأرواح. مع إغماض العينين قليلا، والغياب، سيكون المشهد ماثلا له: هذه روح في ثِقل فيل، وتلك تحبو كالسلحفاة، وثالثة تنتفض انتفاضات هلامية لأخطبوط. علي البعد تُهفهف روح بجناحي فراشة.. هل هو بذلك قد رأي؟ الأمر لا يتعدي تمثيلات في المطلق. علي الأقل هذا ما يستطيعه. في زمن غائم البُعد، سبقه ذلك الإمبراطور الألماني الممسوس بالفكرة. في فعل لا إنساني، بني جدرانا خانقة ورمي فيها المحبوسين من أعدائه. عند اللحظة الفارقة، لحظة انسلال الأثير من الجسد، يأمر بفتح ثقب صغير في الجدار، ليري الروح وهي تصعد. ها هو.. وسط حراسه وصولجانه، يدقق حتي تغيم عيناه. يُغير مكانه لزنزانة ثانية وثقب ثان. لا يَملّ. يُعنّف الحراس: أين هي؟ بعد ذلك بعدة قرون، يضعون كاميرات خاصة تعمل بالأشعة تحت الحمراء، يضعونها في غرفة عمليات شخص مُحتضر، لالتقاط أي أثير غريب عابر. لكن كل ذلك لا يساوي شيئا أمام مَن رأي بنفسه كل شيء. الرجل الميت الذي رجع حيا من جديد. أحياه المسيح بعد أربعة أيام من موته. إنها مدة كفيلة بتمكن الموت من الجسد. مات الرجل وخرجت روحه، ثم رُدت له. رآها تخرج ورآها تعود. فكيف، بالله يا "إليعازر"، لم تخبرنا بما حدث؟ كل ما في الأمر أنك عدت للحياة صامتا شاحبا لا تذكر شيئا، وتركتنا نستشهد بمعجزتك متغافلين عن معجزة المعجزات: أن تخرج الروح أمام العين ثم تعود في ذات الجسد، قبل أن يحدث ذلك للجميع في النهاية العظمي يوم البعث. كان بإمكانك أن تفض السر وتتكلم ولو قليلا. كيف هي لحظة خروجها؟ ثقيلة، خفيفة، شفافة، معتمة، تحبو، تجري، تتقافز؟ وخلال الأيام الأربعة، كيف كان الوقت؟ طويل، متباطئ، مجرد لمحة من نوم وصحو؟ جسدك يمشي بين الناس مرة أخري. بم تُحس؟ ذاكرة مطموسة؟ عقل متعب وعاجز، بل ربما عاطل؟ لو كنتُ في زمنك لاستوقفتك وسألتك وما تركتك أبدا...
يغيب طيف "إليعازر". يُحس نفسه أخفّ كثيرا. يفكر أن الروح تخرج من كل أجزاء الجسد، لا يمكن أن يحتمل خروجها مكان واحد مثل الفم أو غيره. هو الآن مُستسلم لتنميل خفيف، مظلة طيفية تشفط علي مهل. الجسد كله منزلق بهدوء. التنميل في طريقه للتجمع أعلي البطن. يتغير الإيقاع ويصعد شيئا فشيئا. هناك بقعة تشغي فوق الصدر، وتوشك أن تأخذ شيئا وتصعد. من العبث التفكير الآن في تحريك اليدين أو الرجلين. ينفتح الفم في اختلاجات منتفضة. نقطة التجمع تبين في الغيم. تشبه شبكة صياد مضمومة علي الخواء. كانت فوق الرقبة بقليل. يراها في غشاوة، ضباب، شبورة. المعجزة أن الأصابع تتحرك، تلمس الجلد، تمتد، تتسلل لقلب الحقيبة المفتوح. أي إرادة جاءت بالقوة الآن، وبيد واحدة، يد التقطت الحقيبة وقلبتها منكفئة فوق الفمّ. يرتعش الكيان كله. شيء ما يتخبط محبوسا في الحقيبة، يترجرج يريد أن يطير. قبضتا اليد تجمدتا علي وضع الإغلاق.. شدّ وجذب، ذبذبات متضاربة، انتفاضات جسد محموم، حقيبة تعلو وتهبط، رأس مغلق الفم رغم الحاجة القاهرة لبصقة عنيفة. مجاهدات لا تُحتمل لبلع الريق الضاغط. يتوسل ويبتهل بلا صوت: أَخرِجْني من التجربة.
سترون رجُلنا يمشي متأبطا حقيبته البُنيّة، بلا أي دافع للتلفت، أو التنقيب في مفردات شوارع لا تتغير. لن يُكلّف نفسه مشقة التدقيق في وجوه وأماكن غير أليفة. فقط يُخرج النوتة الصغيرة الأنيقة ويُسجّل ما يطوف.
ظهرها ناعم، مسّته يد فنان.
هكذا فكَّر صاحبنا حين نقل الرجل حقيبته لليد الأخري، فبان الظهر مشدودا ولامعا في شمس الظهيرة. تلك اللمعة التي تخلق وهجا دوّارا بدوام النظر. كل شيء في العينين يتواري ويهرب ولا يتبقي إلا الشك. ماذا يري؟ وهل يري؟ هل الأمر بين الرؤية واللارؤية؟ جسد الحقيبة موجود وغير موجود. رجُلنا غائب وحاضر. الرجلان ماشيان بالفعل وفي تمام التوازي. لا تنتهي الحالة إلا بحاجز. شيء ما، طفل أو دراجة أو توكتوك، يقطع الخط، يعترض سير الأشعة المُوجّهَة من عينين مخطوفتين لحقيبة بُنية جميلة. والآن، يتغير إيقاع خطواته قليلا، ميلة الجسد و اختلاجات متذبذبة في الرأس. ثمّ، لمحة خاطفة خارجة عن كل الحسابات، لمحة تبعها عَدْو مسعور. نعم خطف صاحبنا الحقيبة وجري، هو الذي لم يكن لصا في يوم من الأيام. يجري بكل القوة المخزونة خلف وقار تاريخي. عيناه بوابتان مفتوحتان علي أشياء حارقة تتخبط علي حدود الحدقة، مغسولة بماء حامض لكنه منعش. يسمع أنفاسه الرامحة، وقلقلة الأرجل من ورائه في الشوارع الجانبية الملتوية. مرتان أو ثلاثة وصلته الكلمة الذابحة: حرامي! كأنه علي ظهر فرس جامح، حتي هدأ كل شيء تدريجيا. انتظمت الخطوات وتباطأت دقات القلب. عادت لموسيقتها المألوفة، ولكن بنغمة أحسّها مختلفة. مسح جبينه براحة إحدي يديه، فيما الأخري تتعلق بها حقيبة في لون الشيكولاتة. يلتفت للوراء ويري خيطا سائلا ممتدا من الكريمة البُنيّة سَخيّة القوام.
كانت لحظات حميمة كما تَمنّي. دار حول الحقيبة عشرات المرات. نظر من زوايا أتاحت له التدقيق الشامل في الجسد. كل مرة يُشعل الولاعة ويقترب من الحواف. هو يعرف أنه جلد طبيعي لن تطاله النار، لكن ما المانع في اختبار يجلب المتعة. تلك اللسعات لخيوط هشة ناتئة قليلا تتلوي كما فراشة تحترق أجنحتها بالنور. إضاءات للمسام عن قرب، رؤية تلك التجعيدات الخفيفة جدا مثل بصمة الأصابع. سيكور يده ويُقرّب النار الصغيرة. يوزع النظر بين جلده وجلدها. ما أقرب الشبه! بعدها سيسمح للظلام أن يسود، يُمعِن في ارتشافات أنفه لعمق الرائحة. يفكر في هذه الدسامة. لحظات صمت ويُعاود مرة أخري. هذه المرة تكون الارتشافة هامسة، مارّة من الجوار. الرائحة تختلف وتتحول. لكن ما هي؟ التحديد غائم. رغم الدباغة وجودة الصناعة، هناك نفَس يسري. من قلب العينين المغمضتين في الظلام تري المشاهد: بقرة حلوة تتغندر علي شاطئ، عنزة سوداء مرقطة بالأبيض وتتدلي أذناها علي جانبي رأسها الصغير. موكب لكائنات عديدة بعضها غير مسمي وغير متشكل في هيئة معلومة. يتذكر رؤيتها الأولي وكيف أنها ذكرته بكلب جميل. يغمض عينيه بشدة.
(إنها جسد توشك الحياة أن تدخله).
ملمس ورائحة وأنفاس. لا. ربما أعلي من ذلك. أعلي جدا.
(روح؟)
روح كامنة فيها لا تفني. فكرة الروح هي الأخري ستأخذ حيزا، حتي مع بزوغ الفكرة المؤجلة دائما: الفتح والدخول والتجول.
يومها كانت الطقوس يصاحبها ارتجاف. تقديم وتأخير. أصابع تدير الدائرة السحرية للأرقام، وفي الداخل شغف بهذه المحاولات. شغف بأن تنجح، وشغف بأن تفشل وتستمر مرة تلو أخري. أي حالة هذه! وكيف يبقي أحد مشطورا وغائبا ومستمرا بإرادته؟ إنه يريد ولا يريد. يفكر أن ذلك الحضور الفارق الذي يحسه إزاء الكيان المغلق، سيتلاشي مع الفتح. نعم الفتح غواية وأي غواية. تُنادي وتُلح، تركبك وتحل في الأصابع المجنونة بتوليف الأرقام للوصول إلي التَكّّة المعدنية. محاولات ومحاولات مُتعبة وباعثة علي ركل ذلك الكيان الجلدي كله. إلي أن طقت الشرارة في صُدفة عزيزة: ينفصل العاشق والمعشوق، ويتمّ الدخول.
يلزمه الكثير جدا ليخوض التجربة. يحتاج ما يشبه هذه المستحيلات الثلاثة: تبتل قديس وسكينة بوذي واطمئنان شيخ. في البداية سارع بافتداء نفسه، وأعاد كل المحتويات التي كانت في الحقيبة لصاحبها: عدة أوراق وجواز سفر، موبايل كبير الحجم، نقود قليلة. لكن تلك النوتة الصغيرة العذراء، هي فقط التي نامت في يده. سيكون هو أول المخربشين علي بتلات أوراقها البيضاء. أنيقة وفي حجم الكف. يؤطرها، في الجنب، سلك لولبي مذهب ورهيف. صار يعتقد أن الأناقة ذتلك الكلمة التي بحث عنها طويلا- موجودة ومتمثلة في الحقيبة والنوتة. الأناقة مفتاح الدخول لعالم لم يخلق بعد، عالم من الجِلد والورق الأبيض. ستكون النوتة في محيط البصر دائما، علي ذلك الكومودينو الجميل. والحقيبة ستحتفظ بحظوتها علي الكرسي الجلدي ذي المسند العالي. إنها في المكان نفسه الذي لم يُغيره لزمن طويل، وببساطة تنازل عنه. من تلك اللحظة، وهي هناك بجلالها، مغلقة كانت أو مفتوحة. وفي التجربة الخارقة كانت علي الدوام مُشرعة، ومُهيأة لاستقبال كل هائم أثيري.
الاستعداد كان بالصوم. يعرف أن ذلك هو السبيل الوحيد لما ينتويه. طالما أحبَّ الصوم ورأي فيه خلاصة الوجود. بلا طعام أو شراب، يصبح كل شيء حلوا ومرغوبا في هذا العالم. هذه الخفة التي يصير إليها، العقل الهائم الدائخ في العوالم، الجسد المهمل والمؤجل لحين. الحالة تصل لتفردها في السويعات الفاصلة بين العصر والمغرب. ينام علي الكنبة في مواجهة الحقيبة. يُقرّب الكرسي لتصبح في عينيه تماما. في اليوم الأول، لم ينم عقله.. أتعبه جدا ذلك الطواف المُرهِق عبر قراءة أزمان وأمكنة. فهذا رجل عبقري مجنون فكّر في وزن الروح، أراد أن يجعلها مادة، ضمن كل شيء في مطلع القرن الماضي. ببساطة كان يضع إنسانا يحتضر علي ميزان دقيق، ثم يُسجل الوزن قبل وبعد الوفاة، والفارق سيكون هو وزن الروح خالصة! فعلا كان الوزن ينقص بمعدل كذا وعشرين جراما كل مرة. عبيط، ربما حدثت تغيرات فسيولوجية بعد الموت، مثل توقف الدورة الدموية أو ما شابه، وهذا قد يفسر النقص الطفيف في الوزن. ثم كيف تكون الأرواح كلها في وزن واحد؟ هل تتساوي روح "هتلر" مع روح "غاندي" مثلا؟ وكيف هو وزن أرواح أهل الموسيقي؟ إنه تخريف أن يفكر ذلك الرجل في ميزان واحد لكل تلك الأرواح. مع إغماض العينين قليلا، والغياب، سيكون المشهد ماثلا له: هذه روح في ثِقل فيل، وتلك تحبو كالسلحفاة، وثالثة تنتفض انتفاضات هلامية لأخطبوط. علي البعد تُهفهف روح بجناحي فراشة.. هل هو بذلك قد رأي؟ الأمر لا يتعدي تمثيلات في المطلق. علي الأقل هذا ما يستطيعه. في زمن غائم البُعد، سبقه ذلك الإمبراطور الألماني الممسوس بالفكرة. في فعل لا إنساني، بني جدرانا خانقة ورمي فيها المحبوسين من أعدائه. عند اللحظة الفارقة، لحظة انسلال الأثير من الجسد، يأمر بفتح ثقب صغير في الجدار، ليري الروح وهي تصعد. ها هو.. وسط حراسه وصولجانه، يدقق حتي تغيم عيناه. يُغير مكانه لزنزانة ثانية وثقب ثان. لا يَملّ. يُعنّف الحراس: أين هي؟ بعد ذلك بعدة قرون، يضعون كاميرات خاصة تعمل بالأشعة تحت الحمراء، يضعونها في غرفة عمليات شخص مُحتضر، لالتقاط أي أثير غريب عابر. لكن كل ذلك لا يساوي شيئا أمام مَن رأي بنفسه كل شيء. الرجل الميت الذي رجع حيا من جديد. أحياه المسيح بعد أربعة أيام من موته. إنها مدة كفيلة بتمكن الموت من الجسد. مات الرجل وخرجت روحه، ثم رُدت له. رآها تخرج ورآها تعود. فكيف، بالله يا "إليعازر"، لم تخبرنا بما حدث؟ كل ما في الأمر أنك عدت للحياة صامتا شاحبا لا تذكر شيئا، وتركتنا نستشهد بمعجزتك متغافلين عن معجزة المعجزات: أن تخرج الروح أمام العين ثم تعود في ذات الجسد، قبل أن يحدث ذلك للجميع في النهاية العظمي يوم البعث. كان بإمكانك أن تفض السر وتتكلم ولو قليلا. كيف هي لحظة خروجها؟ ثقيلة، خفيفة، شفافة، معتمة، تحبو، تجري، تتقافز؟ وخلال الأيام الأربعة، كيف كان الوقت؟ طويل، متباطئ، مجرد لمحة من نوم وصحو؟ جسدك يمشي بين الناس مرة أخري. بم تُحس؟ ذاكرة مطموسة؟ عقل متعب وعاجز، بل ربما عاطل؟ لو كنتُ في زمنك لاستوقفتك وسألتك وما تركتك أبدا...
يغيب طيف "إليعازر". يُحس نفسه أخفّ كثيرا. يفكر أن الروح تخرج من كل أجزاء الجسد، لا يمكن أن يحتمل خروجها مكان واحد مثل الفم أو غيره. هو الآن مُستسلم لتنميل خفيف، مظلة طيفية تشفط علي مهل. الجسد كله منزلق بهدوء. التنميل في طريقه للتجمع أعلي البطن. يتغير الإيقاع ويصعد شيئا فشيئا. هناك بقعة تشغي فوق الصدر، وتوشك أن تأخذ شيئا وتصعد. من العبث التفكير الآن في تحريك اليدين أو الرجلين. ينفتح الفم في اختلاجات منتفضة. نقطة التجمع تبين في الغيم. تشبه شبكة صياد مضمومة علي الخواء. كانت فوق الرقبة بقليل. يراها في غشاوة، ضباب، شبورة. المعجزة أن الأصابع تتحرك، تلمس الجلد، تمتد، تتسلل لقلب الحقيبة المفتوح. أي إرادة جاءت بالقوة الآن، وبيد واحدة، يد التقطت الحقيبة وقلبتها منكفئة فوق الفمّ. يرتعش الكيان كله. شيء ما يتخبط محبوسا في الحقيبة، يترجرج يريد أن يطير. قبضتا اليد تجمدتا علي وضع الإغلاق.. شدّ وجذب، ذبذبات متضاربة، انتفاضات جسد محموم، حقيبة تعلو وتهبط، رأس مغلق الفم رغم الحاجة القاهرة لبصقة عنيفة. مجاهدات لا تُحتمل لبلع الريق الضاغط. يتوسل ويبتهل بلا صوت: أَخرِجْني من التجربة.
سترون رجُلنا يمشي متأبطا حقيبته البُنيّة، بلا أي دافع للتلفت، أو التنقيب في مفردات شوارع لا تتغير. لن يُكلّف نفسه مشقة التدقيق في وجوه وأماكن غير أليفة. فقط يُخرج النوتة الصغيرة الأنيقة ويُسجّل ما يطوف.