«حتى يبدو مُثقفا قال عن نفسه وهو يحتسي قهوة سوداء: أنا مُصاب بالبيبلومانيا! ففَجَعَ أمّه ورَوّع أباه! وكان يستطيع أن يقول: أنا مفتون بالكتب».. فواز اللعبون
إذًا قد لن تكون كاتبًا إن لم تكن القهوة تتغلل في دمك وإن لم يملأ ضجيج المقاهي دماغك. لكن كيف تحوّلت القهوة من مجرد مشروب أسود مرّ إلى رمز ثقافي في حياة الشّعوب، يحرصون على حضورها في بيوتهم ومناسباتهم؟ كيف صنعت القهوة والمقاهي الأدبية أسطورتها في المخيال الجماعي لشعوب؟
في البدء، صاحب اكتشاف القهوة، هذه العشبة السّاحرة، الغموض وتلبست بالألغاز، إذ ليس ثمّة مرجع تاريخي فصل في صدق ما تم نقله عن جذور اكتشافها، فاختفت الحقيقة وآلت إلى أساطير يتداولها الناس. ففي الشّرق تناقل – حيث ولع النّاس بعشق القهوة – عن التّراث الشّفهي الفارسي أن النبي محمد (ص) شعر بالوهن فجأة، ولم يشف إلّا بعد أن أوحى إليه جبريل بأن يحتسي شرابًا يقال أّنه القهوة فتعافى بشكل لافت، بيد أنّ هذه القصة لم تكن متينة إذ نسفها ما ذكره الرحالة الإيطالي وعالم اللاهوت أنتونيو فاوستو الذي يرجع فضل التعرف على عشبه القهوة إلى أحد الأديرة الذي تنبه أن عنزات كلما قضمن ورق أحد الأشجار تبدلت حالاتها إلى انتشاء، فقرر أن يعد شرابّا منها ومن هنا تمّ التعرّف على القهوة.
إلًا أنّ هذا المشروب السّحري، مجهول النّسب قد أثار جدالًا في القرون الأولى من اكتشافه، إذ حرّمه الفقهاء في العالم الاسلامي بحجة أنّه مُذهب للعقل، في حين اعترضت الأكاديميات الطّبية في أوروبا على هذا المشروب «الغريب» لأنه مضّر للعقل والجسد وتطلّب الأمر أزمنة حتى رحبت به. ذكر الجزيري في مؤلفه أن اليمن هو أول مكان ذكرت فيه القهوة ثم ظهرت في أماكن أخرى في بلدان العجم إلّا أن استعمالها تأخر لعصر يبق مجهولا كما بقي السّبب الاول لاستخدامها مجهولا.
كيف انتقلت القهوة من مشروب منبوذ إلى مشروب اكتسح العقول وغمر القلوب خصصت له الأماكن العامة؟ كيف تحوّلت من مشروب يخافه النّاس إلى مشروب مشاع في بلاد المسلمين يركن النبيذ جانبًا، فيتحوّل إلى مشروبهم الأول، هل كانت القهوة مشروبا مخادعا انتصر بها النّاس على معاقرة الخمر؟ تجاوزت القهوة أواخر القرن الخامس عشر فردانية الاستعمال وأضحت مشروب الجماعة. في بلاد المسلمين حرم الفقهاء تناول القهوة وارتياد المقاهي، ذلك أن القهوة مفسدة للعقل والمقاهي مكان لتردي الاخلاق، انتقلت عدوى التحريم إلى مصر فتعرضت المقاهي في القرن الخامس عشر إلى هجوم لاذع وتحول رواد المقاهي إلى منبوذين.
رغم أن فقهاءً أرادوا وضع القهوة في نفس مرتبة المشروب أو الحشائش الباعثة على السّكر إلّا أنها لم تُمنع منعًا تامًا، كون القهوة وإن كان الفقهاء يرون فيها شرابًا ينتشي به العقل، في الحقيقة ليس ثمّة أسهل من إشاعة الأفكار المغلوطة وتفشيها، إذ لم تكن أوروبا بمنأى عما تناوله العرب حول أضرار شرب القهوة، فاحتد السّجال بين الكتّاب الأوروبيين ملازمًا لدخول القهوة إلى البندقية ومرسيليا وباريس ولندن. غير أنه وما إن أقبل الصوفية على القهوة يحتسونها كلّ جمعة وإثنين حتى امتد النقاش حولها وانتهى بعد زمن أين حققت القهوة مجدها بعد أن اقتحمت قصور ملوك اوروبا ومساكن الناس في الإمبراطورية العثمانية.
تكمن متعة احتساء القهوة في صحبة من يُقاسمنا شربها، حين تتناسل الحكايات والأحاديث حول الفناجين، ولأنها كانت شراب الناس الأول ورفيقهم، خصّص لذلك أماكن يتوافدون عليها لشربها وتناقل أحاديث المدن والأحياء، ربما من هنا انتقلت أحاديث الرّصيف إلى المقاهي، يذكر الرحالة الايطالي فيليس فاريري، أنّه حين زار مصر في القرن الخامس عشر وهو الزمن الذي راجت فيه القهوة في القاهرة، رأى باعة متجولين يحملون موقدًا يعدون عليه القهوة ويعرضونها على المارة، كانت البداية في الأسواق، يطوف الباعة بين أصحاب المحالات الذين لا يتمكنون من مغادرة محالاتهم ثم تطوّرت الفكرة إلا أن أصبح للموقد مكانا ولشاربين مجلسًا يجلسون فيه يثرثرون ويحتسون أقداحًا من القهوة، ثم في القرن السادس عشر تنوعّت أشكال الفضاءات التي تقدّم فيها القهوة لعشاقها فكان المكان البدائي قد خصّص لأهل الحيّ والعمال في حين أخذت أماكن أخرى الطابع ريفي وقد وصفها مغامر برتغالي سكن بغداد في القرن السّادس عشر: «كانت القهوة تباع في أماكن عامة مخصصة لها.. فهذا المنزل يقع بالقرب من النّهر ويشتمل على عدد كبير من النوافذ وفيه روقان يشكلان مكانا في غاية الجاذبية».
لم يكن جمال المكان ليستولي على اهتمام الرواد أكثر من القهوة فلم يشترط في المقاهي أن تكون كلها على طراز واحد وبجمال واحد، فمقاهي ضفاف المتوسط لم تكن بذات الجمال الذي وصفت به مقاهي بغداد. إذ كانت أماكن متواضعة كما حدثنا أندريه ريمو عن مقاهي القاهرة: «أن معظم المقاهي هي مبان متواضعة جدا، تقتصر محتوياتها على بعض الحصران والبسط الموضوعة على دكّة على الألواح الخشبية، وهنالك من الطبيعي أقداح من البورسلين أو الخزف وكلّ الأدوات اللازمة لصنع القهوة». أما في سوريا فقد غزت المقاهي الشّوارع بعد أن استولى عليها العثمانيون وامتدت المقاهي في الإمبراطورية العثمانية من ضفاف البسفور الى قرطاجة القديمة تتشابه في شكلها ومن هنا انتشرت القهوة الشرقية تاركة تأثيرها على الثّقافة الإسلامية.
كتب جون تيفنون في ملحق رحلته إلى المشرق: «إنّ كلّ المقاهي في دمشق رائعة، فيها عدد من النّافورات وهي قريبة من الأنهار والأماكن الظليلة والورود والأزهار، تسودها أجواء الطراوة والراحة».
ولدت فكرة المقاهي من المكان الذي خصص لتبادل الأحاديث، فقد كانت المقاهي ذات طابع اجتماعي، تفتح أبوابها لكلّ الوافدين مهما اختلفت مقاماتهم ومستوياتهم واهتماماتهم، إذ كانت الملجأ الأمثل للسّاسة والثوريين وللمثقّفين والكتّاب والشّعراء والموسيقيين فانتشرت أفكار الساسة بلا رقيب وخطّط الثّوار لثوراتهم وصدح الشّعراء بأشعارهم أمام عشاقهم وكتب الصّحافيون مقالاتهم ونسج الروائيون شخوص وأحداث روايتهم وعزف الموسيقيون ألحانهم ووجد العامّة في المقاهي مكانا ملائمًا للتسلية فاجتمعوا يلعبون الشطرنج أو النّرد، اتسع قلب المقهى للجميع فبلور الأدباء فكرة المقاهي الأدبية في العالم بشرقه وغربه وذاع صيت بعض المقاهي بفضل شهرة من تردّدوا عليها، فيما أخذت مقاهٍ أخرى أسماء كتاب مشهورين أمثال فكتور هيغو وماركيز وغيرهم.
نجيب محفوظ.. الروائي الذي ألهمته المقاهي
لن نجد أفضل من الروائي نجيب محفوظ كي يلف بنا شوارع القاهرة ويغوص في المقاهي الأكثر شعبية، التي كان يتردد عليها منذ سنّ مبكرة منفتحًا على عالم من الأسرار والتفاصيل فدأب على التردّد عليها مذهولا بأغوارها ويقول: «بدأت بالتردد على المقهى في سنّ مبكرة نسبيا وذلك بفضل سيد شامة صديقنا في الغورية، كان لدينا مقهى محببا في الدراسة وأخرى في كلّ مكان».
لم يتخل نجيب محفوظ عن ارتياد المقاهي حتى وهو شاب يافع، فتحولت المقاهي التي كان يقصدها رفقة أصدقاء له إلى أماكن تغذي خياله، يستمد منها رسم شخوص رواياته، كما كان الحال مع روايته «زقاق المدق»، ويبدو أن نجيب محفوظ كان يستهويه اكتشاف المقاهي، يصنع من أحاديث روّادها والشّوارع المحيطة بها نصًا روائيًا، في ثلاثيته – بين القصرين، قصر الشوق والسكرية – كان مقهى سي عبدو أهمّ الأماكن التي ذكرها الروائي وفيها التقى بطل روايته برفيقه فؤاد حمزاوي.
داوم محفوظ نجيب سنوات الأربعينيات على التّردد على كازينو أوبرا، المكان الذي تجتمع فيه مجموعة من الكتّاب والمترجمين والناشرين وفيه تنشط وتحتد النقاشات الأدبية، جذب كازينو الأوبرا كتابًا مهمين أمثال لويس عوض وسلامة موسى وشكري عياد، ثمّ تطوّر نشاطهم إلى قراءات عامة سرعان ما انتبه إليها بوليس جمال عبد ناصر الذي عمد إلى كتابة تقارير ترفع للمسؤولين، وتنقل ما كانت تردده نخبة المجتمع القاهري حتى و إن كان فحوى النقاشات يتجاوز مدارك من كلفوا بكتابة التقرير ذاك أن مضمون ما يردد في جلّه حول الأدب والحركات الإصلاحية التي عرفها، بيد أن أكثر المقاهي الأدبية حضورا في ذاكرة الأدب المصري «مقهى الفيشاوي»، الذي كان يقصده نجيب محفوظ باستمرار مستمتعا بنقاشاته وما كان يروى فيه، مستلهمًا منه أحداث رواياته.
كان مقهى عرابي في الستينيات ملجأ نجيب محفوظ مع أصدقائه يحضن حواراتهم الحادة، بين جدران هذا المقهى الشّهيرة في القاهرة شكّل أبطال روايته «الكرنك»(1981)، مستلهما مصائرهم من تفاصيل المقهى وروّاده، في حين كان له كل جمعة لقاء في مقهى الريش حيث يقام هناك المنتدى الأدبي، اعتاد في هذا المقهى على عقد علاقات مع كتّاب جدد إلا أن أغلق المقهى فتحوّل نجيب وأصحابه إلى المقاهي المتناثرة على الأرصفة على ضفاف النّيل.
هكذا كانت المقاهي، المكان الأكثر حضورًا في رواياته، والمكان الذي يتردّد عليه جاعلا منه فضاءً أدبياً، يصنع منه الأفكار والأحداث ومصنعا للنصوص العظيمة.
مقاهي بغداد تأسيس لتقليد أدبي
إن كانت القاهرة قد عرفت المقاهي الأدبية مطلع العشرينيات، فالحال لم يكن كذلك بالنسبة لبغداد، أكثر المدن العربية التي عرفت حركات أدبية وفكرية ونقاشات موسعة أثناء سنوات الأربعينات والخمسينات، إلّا أن مقاهي بغداد رغم التأخر النسبي – تمكّنت في أواخر الأربعينات من تأسيس المقاهي الأدبية –كانت ملاذا للأدباء والشّعراء والشّغوفين بالأدب، ولم تستثن السياسيين، وأضحت مع الوقت جزءاً من الثقافة الاجتماعية للعراق وشكلت مقاومة حقيقية، فالمقاهي الأدبية لم تكن فقط مكانا يعرض فيه الأدباء إنتاجهم، بل كانت فضاء لخلق الأفكار، فارتبطت المقاهي بأبرز الأسماء الأدبية في العراق. يذكر أن مقهى الزهاوي كان المكان الاكثر شهرة ففيه كتب الشاعر والفيلسوف جميل صدقي الزهاوي مقالاته في نقد شعر العقاد ومنه انتقلت نقاشات الرجلين الحادة على صفحات الجرائد، يقبل عليها المصريون والعراقيون بنهم وفي ذات المقهى كان يحتد النقاش بين الزهاوي والرصافي الذي كان ينهي النقاش بالمغادرة إلى مقهى عارف اغا محاطا بتلاميذه ومحبيه.
مقاهي باريس بين البذخ والأدب
لم يكن الشرق وحده قد عرف المقاهي الأدبية ولم يكن الشرق وحده قد حول المقاهي من مجرد أماكن ترتادها الناس لثرثرة إلى أماكن للنقاش والإبداع، فقد صنعت أوروبا لنفسها تقاليدا ثقافية تتعلق بالمقهى والارصفة عموما، في باريس بلغ صيت المقاهي خارج حدود فرنسا، بفضل نوعية الأدباء والكتّاب الذين دأبوا على التردد عليها، والذين اتخذوا منها فضاءات للنقاش، ظهر مصطلح المقاهي الأدبية في فرنسا أول مرة في 1830 ليصف الاجتماعات الثقافية في مقهى «الميراج».
كتب مونتسكيو في «رسائل فارسية»: «ازداد تناول القهوة في باريس، وصار فيها عدد كبير من البيوت العامة التي تقوم بتقديمها وفي بعض منها تتناقل الأخبار وفي بيوت أخرى يلعبون الشطرنج وثمة واحدة من هذه البيوت تعد القهوة فيه بطريقة تمنح المزاج لشاربها أو لنقل بأن ليس هناك من بين الذين يخرجون منها من لا يعتقد بأنه ازداد قيمة عما كان عليه قبل دخوله إليه». تشبه المقاهي الأفيون، فلم تتمكن الطبقة الباريسية من التخلص من سطوة المقاهي فتعاظم التعلق بها وتفاقم دورها، فأولت الطبقة الباريسية اهتماما أكثر لطرازها بما يتماشى مع تطلعات المجتمع الباريسي. يشير لاكروا أن المقاهي كانت مكانا مكرسَا للمناظرات الأدبية بين الشعراء والروائيين ومركزا للمعارضة السياسية مما اضطر البوليس لزرع جواسيسه قصد نقل كلّ ما يروّج داخل المقاهي إلا أن التضييق لم يزد القائمين على المقاهي إلا إصرارا، فتوسّعت المقاهي إلى قاعات للقراءة وازدهر النشر والطباعة بفضل ما كانت توفره الصالات من نقاشات حامية. أولت المقاهي الفرنسية اهتماما بطرازها وجمالها فكانت باذخة البهاء، وازداد عدد المقاهي التي تتخذ من أسماء الأدباء أسماء لها فنذكر مقهى فولتير مثلاً وغيره.
منذ البدء كانت المقاهي وجه المجتمع، نتاج أفكاره وهواجسه، أحلامه ومآلاته، وإن كانت المقاهي لم تعد في الشّرق كما كانت عليه في الماضي إلّا انها لازلت حريصة على شكلها الاجتماعي.
نفحة 2020-02-28
إذًا قد لن تكون كاتبًا إن لم تكن القهوة تتغلل في دمك وإن لم يملأ ضجيج المقاهي دماغك. لكن كيف تحوّلت القهوة من مجرد مشروب أسود مرّ إلى رمز ثقافي في حياة الشّعوب، يحرصون على حضورها في بيوتهم ومناسباتهم؟ كيف صنعت القهوة والمقاهي الأدبية أسطورتها في المخيال الجماعي لشعوب؟
في البدء، صاحب اكتشاف القهوة، هذه العشبة السّاحرة، الغموض وتلبست بالألغاز، إذ ليس ثمّة مرجع تاريخي فصل في صدق ما تم نقله عن جذور اكتشافها، فاختفت الحقيقة وآلت إلى أساطير يتداولها الناس. ففي الشّرق تناقل – حيث ولع النّاس بعشق القهوة – عن التّراث الشّفهي الفارسي أن النبي محمد (ص) شعر بالوهن فجأة، ولم يشف إلّا بعد أن أوحى إليه جبريل بأن يحتسي شرابًا يقال أّنه القهوة فتعافى بشكل لافت، بيد أنّ هذه القصة لم تكن متينة إذ نسفها ما ذكره الرحالة الإيطالي وعالم اللاهوت أنتونيو فاوستو الذي يرجع فضل التعرف على عشبه القهوة إلى أحد الأديرة الذي تنبه أن عنزات كلما قضمن ورق أحد الأشجار تبدلت حالاتها إلى انتشاء، فقرر أن يعد شرابّا منها ومن هنا تمّ التعرّف على القهوة.
إلًا أنّ هذا المشروب السّحري، مجهول النّسب قد أثار جدالًا في القرون الأولى من اكتشافه، إذ حرّمه الفقهاء في العالم الاسلامي بحجة أنّه مُذهب للعقل، في حين اعترضت الأكاديميات الطّبية في أوروبا على هذا المشروب «الغريب» لأنه مضّر للعقل والجسد وتطلّب الأمر أزمنة حتى رحبت به. ذكر الجزيري في مؤلفه أن اليمن هو أول مكان ذكرت فيه القهوة ثم ظهرت في أماكن أخرى في بلدان العجم إلّا أن استعمالها تأخر لعصر يبق مجهولا كما بقي السّبب الاول لاستخدامها مجهولا.
كيف انتقلت القهوة من مشروب منبوذ إلى مشروب اكتسح العقول وغمر القلوب خصصت له الأماكن العامة؟ كيف تحوّلت من مشروب يخافه النّاس إلى مشروب مشاع في بلاد المسلمين يركن النبيذ جانبًا، فيتحوّل إلى مشروبهم الأول، هل كانت القهوة مشروبا مخادعا انتصر بها النّاس على معاقرة الخمر؟ تجاوزت القهوة أواخر القرن الخامس عشر فردانية الاستعمال وأضحت مشروب الجماعة. في بلاد المسلمين حرم الفقهاء تناول القهوة وارتياد المقاهي، ذلك أن القهوة مفسدة للعقل والمقاهي مكان لتردي الاخلاق، انتقلت عدوى التحريم إلى مصر فتعرضت المقاهي في القرن الخامس عشر إلى هجوم لاذع وتحول رواد المقاهي إلى منبوذين.
رغم أن فقهاءً أرادوا وضع القهوة في نفس مرتبة المشروب أو الحشائش الباعثة على السّكر إلّا أنها لم تُمنع منعًا تامًا، كون القهوة وإن كان الفقهاء يرون فيها شرابًا ينتشي به العقل، في الحقيقة ليس ثمّة أسهل من إشاعة الأفكار المغلوطة وتفشيها، إذ لم تكن أوروبا بمنأى عما تناوله العرب حول أضرار شرب القهوة، فاحتد السّجال بين الكتّاب الأوروبيين ملازمًا لدخول القهوة إلى البندقية ومرسيليا وباريس ولندن. غير أنه وما إن أقبل الصوفية على القهوة يحتسونها كلّ جمعة وإثنين حتى امتد النقاش حولها وانتهى بعد زمن أين حققت القهوة مجدها بعد أن اقتحمت قصور ملوك اوروبا ومساكن الناس في الإمبراطورية العثمانية.
تكمن متعة احتساء القهوة في صحبة من يُقاسمنا شربها، حين تتناسل الحكايات والأحاديث حول الفناجين، ولأنها كانت شراب الناس الأول ورفيقهم، خصّص لذلك أماكن يتوافدون عليها لشربها وتناقل أحاديث المدن والأحياء، ربما من هنا انتقلت أحاديث الرّصيف إلى المقاهي، يذكر الرحالة الايطالي فيليس فاريري، أنّه حين زار مصر في القرن الخامس عشر وهو الزمن الذي راجت فيه القهوة في القاهرة، رأى باعة متجولين يحملون موقدًا يعدون عليه القهوة ويعرضونها على المارة، كانت البداية في الأسواق، يطوف الباعة بين أصحاب المحالات الذين لا يتمكنون من مغادرة محالاتهم ثم تطوّرت الفكرة إلا أن أصبح للموقد مكانا ولشاربين مجلسًا يجلسون فيه يثرثرون ويحتسون أقداحًا من القهوة، ثم في القرن السادس عشر تنوعّت أشكال الفضاءات التي تقدّم فيها القهوة لعشاقها فكان المكان البدائي قد خصّص لأهل الحيّ والعمال في حين أخذت أماكن أخرى الطابع ريفي وقد وصفها مغامر برتغالي سكن بغداد في القرن السّادس عشر: «كانت القهوة تباع في أماكن عامة مخصصة لها.. فهذا المنزل يقع بالقرب من النّهر ويشتمل على عدد كبير من النوافذ وفيه روقان يشكلان مكانا في غاية الجاذبية».
لم يكن جمال المكان ليستولي على اهتمام الرواد أكثر من القهوة فلم يشترط في المقاهي أن تكون كلها على طراز واحد وبجمال واحد، فمقاهي ضفاف المتوسط لم تكن بذات الجمال الذي وصفت به مقاهي بغداد. إذ كانت أماكن متواضعة كما حدثنا أندريه ريمو عن مقاهي القاهرة: «أن معظم المقاهي هي مبان متواضعة جدا، تقتصر محتوياتها على بعض الحصران والبسط الموضوعة على دكّة على الألواح الخشبية، وهنالك من الطبيعي أقداح من البورسلين أو الخزف وكلّ الأدوات اللازمة لصنع القهوة». أما في سوريا فقد غزت المقاهي الشّوارع بعد أن استولى عليها العثمانيون وامتدت المقاهي في الإمبراطورية العثمانية من ضفاف البسفور الى قرطاجة القديمة تتشابه في شكلها ومن هنا انتشرت القهوة الشرقية تاركة تأثيرها على الثّقافة الإسلامية.
كتب جون تيفنون في ملحق رحلته إلى المشرق: «إنّ كلّ المقاهي في دمشق رائعة، فيها عدد من النّافورات وهي قريبة من الأنهار والأماكن الظليلة والورود والأزهار، تسودها أجواء الطراوة والراحة».
ولدت فكرة المقاهي من المكان الذي خصص لتبادل الأحاديث، فقد كانت المقاهي ذات طابع اجتماعي، تفتح أبوابها لكلّ الوافدين مهما اختلفت مقاماتهم ومستوياتهم واهتماماتهم، إذ كانت الملجأ الأمثل للسّاسة والثوريين وللمثقّفين والكتّاب والشّعراء والموسيقيين فانتشرت أفكار الساسة بلا رقيب وخطّط الثّوار لثوراتهم وصدح الشّعراء بأشعارهم أمام عشاقهم وكتب الصّحافيون مقالاتهم ونسج الروائيون شخوص وأحداث روايتهم وعزف الموسيقيون ألحانهم ووجد العامّة في المقاهي مكانا ملائمًا للتسلية فاجتمعوا يلعبون الشطرنج أو النّرد، اتسع قلب المقهى للجميع فبلور الأدباء فكرة المقاهي الأدبية في العالم بشرقه وغربه وذاع صيت بعض المقاهي بفضل شهرة من تردّدوا عليها، فيما أخذت مقاهٍ أخرى أسماء كتاب مشهورين أمثال فكتور هيغو وماركيز وغيرهم.
نجيب محفوظ.. الروائي الذي ألهمته المقاهي
لن نجد أفضل من الروائي نجيب محفوظ كي يلف بنا شوارع القاهرة ويغوص في المقاهي الأكثر شعبية، التي كان يتردد عليها منذ سنّ مبكرة منفتحًا على عالم من الأسرار والتفاصيل فدأب على التردّد عليها مذهولا بأغوارها ويقول: «بدأت بالتردد على المقهى في سنّ مبكرة نسبيا وذلك بفضل سيد شامة صديقنا في الغورية، كان لدينا مقهى محببا في الدراسة وأخرى في كلّ مكان».
لم يتخل نجيب محفوظ عن ارتياد المقاهي حتى وهو شاب يافع، فتحولت المقاهي التي كان يقصدها رفقة أصدقاء له إلى أماكن تغذي خياله، يستمد منها رسم شخوص رواياته، كما كان الحال مع روايته «زقاق المدق»، ويبدو أن نجيب محفوظ كان يستهويه اكتشاف المقاهي، يصنع من أحاديث روّادها والشّوارع المحيطة بها نصًا روائيًا، في ثلاثيته – بين القصرين، قصر الشوق والسكرية – كان مقهى سي عبدو أهمّ الأماكن التي ذكرها الروائي وفيها التقى بطل روايته برفيقه فؤاد حمزاوي.
داوم محفوظ نجيب سنوات الأربعينيات على التّردد على كازينو أوبرا، المكان الذي تجتمع فيه مجموعة من الكتّاب والمترجمين والناشرين وفيه تنشط وتحتد النقاشات الأدبية، جذب كازينو الأوبرا كتابًا مهمين أمثال لويس عوض وسلامة موسى وشكري عياد، ثمّ تطوّر نشاطهم إلى قراءات عامة سرعان ما انتبه إليها بوليس جمال عبد ناصر الذي عمد إلى كتابة تقارير ترفع للمسؤولين، وتنقل ما كانت تردده نخبة المجتمع القاهري حتى و إن كان فحوى النقاشات يتجاوز مدارك من كلفوا بكتابة التقرير ذاك أن مضمون ما يردد في جلّه حول الأدب والحركات الإصلاحية التي عرفها، بيد أن أكثر المقاهي الأدبية حضورا في ذاكرة الأدب المصري «مقهى الفيشاوي»، الذي كان يقصده نجيب محفوظ باستمرار مستمتعا بنقاشاته وما كان يروى فيه، مستلهمًا منه أحداث رواياته.
كان مقهى عرابي في الستينيات ملجأ نجيب محفوظ مع أصدقائه يحضن حواراتهم الحادة، بين جدران هذا المقهى الشّهيرة في القاهرة شكّل أبطال روايته «الكرنك»(1981)، مستلهما مصائرهم من تفاصيل المقهى وروّاده، في حين كان له كل جمعة لقاء في مقهى الريش حيث يقام هناك المنتدى الأدبي، اعتاد في هذا المقهى على عقد علاقات مع كتّاب جدد إلا أن أغلق المقهى فتحوّل نجيب وأصحابه إلى المقاهي المتناثرة على الأرصفة على ضفاف النّيل.
هكذا كانت المقاهي، المكان الأكثر حضورًا في رواياته، والمكان الذي يتردّد عليه جاعلا منه فضاءً أدبياً، يصنع منه الأفكار والأحداث ومصنعا للنصوص العظيمة.
مقاهي بغداد تأسيس لتقليد أدبي
إن كانت القاهرة قد عرفت المقاهي الأدبية مطلع العشرينيات، فالحال لم يكن كذلك بالنسبة لبغداد، أكثر المدن العربية التي عرفت حركات أدبية وفكرية ونقاشات موسعة أثناء سنوات الأربعينات والخمسينات، إلّا أن مقاهي بغداد رغم التأخر النسبي – تمكّنت في أواخر الأربعينات من تأسيس المقاهي الأدبية –كانت ملاذا للأدباء والشّعراء والشّغوفين بالأدب، ولم تستثن السياسيين، وأضحت مع الوقت جزءاً من الثقافة الاجتماعية للعراق وشكلت مقاومة حقيقية، فالمقاهي الأدبية لم تكن فقط مكانا يعرض فيه الأدباء إنتاجهم، بل كانت فضاء لخلق الأفكار، فارتبطت المقاهي بأبرز الأسماء الأدبية في العراق. يذكر أن مقهى الزهاوي كان المكان الاكثر شهرة ففيه كتب الشاعر والفيلسوف جميل صدقي الزهاوي مقالاته في نقد شعر العقاد ومنه انتقلت نقاشات الرجلين الحادة على صفحات الجرائد، يقبل عليها المصريون والعراقيون بنهم وفي ذات المقهى كان يحتد النقاش بين الزهاوي والرصافي الذي كان ينهي النقاش بالمغادرة إلى مقهى عارف اغا محاطا بتلاميذه ومحبيه.
مقاهي باريس بين البذخ والأدب
لم يكن الشرق وحده قد عرف المقاهي الأدبية ولم يكن الشرق وحده قد حول المقاهي من مجرد أماكن ترتادها الناس لثرثرة إلى أماكن للنقاش والإبداع، فقد صنعت أوروبا لنفسها تقاليدا ثقافية تتعلق بالمقهى والارصفة عموما، في باريس بلغ صيت المقاهي خارج حدود فرنسا، بفضل نوعية الأدباء والكتّاب الذين دأبوا على التردد عليها، والذين اتخذوا منها فضاءات للنقاش، ظهر مصطلح المقاهي الأدبية في فرنسا أول مرة في 1830 ليصف الاجتماعات الثقافية في مقهى «الميراج».
كتب مونتسكيو في «رسائل فارسية»: «ازداد تناول القهوة في باريس، وصار فيها عدد كبير من البيوت العامة التي تقوم بتقديمها وفي بعض منها تتناقل الأخبار وفي بيوت أخرى يلعبون الشطرنج وثمة واحدة من هذه البيوت تعد القهوة فيه بطريقة تمنح المزاج لشاربها أو لنقل بأن ليس هناك من بين الذين يخرجون منها من لا يعتقد بأنه ازداد قيمة عما كان عليه قبل دخوله إليه». تشبه المقاهي الأفيون، فلم تتمكن الطبقة الباريسية من التخلص من سطوة المقاهي فتعاظم التعلق بها وتفاقم دورها، فأولت الطبقة الباريسية اهتماما أكثر لطرازها بما يتماشى مع تطلعات المجتمع الباريسي. يشير لاكروا أن المقاهي كانت مكانا مكرسَا للمناظرات الأدبية بين الشعراء والروائيين ومركزا للمعارضة السياسية مما اضطر البوليس لزرع جواسيسه قصد نقل كلّ ما يروّج داخل المقاهي إلا أن التضييق لم يزد القائمين على المقاهي إلا إصرارا، فتوسّعت المقاهي إلى قاعات للقراءة وازدهر النشر والطباعة بفضل ما كانت توفره الصالات من نقاشات حامية. أولت المقاهي الفرنسية اهتماما بطرازها وجمالها فكانت باذخة البهاء، وازداد عدد المقاهي التي تتخذ من أسماء الأدباء أسماء لها فنذكر مقهى فولتير مثلاً وغيره.
منذ البدء كانت المقاهي وجه المجتمع، نتاج أفكاره وهواجسه، أحلامه ومآلاته، وإن كانت المقاهي لم تعد في الشّرق كما كانت عليه في الماضي إلّا انها لازلت حريصة على شكلها الاجتماعي.
نفحة 2020-02-28