رءوف جنيدي - قطار الذل.. قصة قصيرة

فوق أكتاف الأبوة الحانية وبين أحضان الطهر والعفاف وعلى ضفاف نهر الأمومة الزاخر بالحنان . شبت وترعرعت شيماء الابنة الكبرى وشقيقتها الصغرى لأسرة ميسورة الحال تسكن حياً راقياً بإحدى المدن الساحلية . ولأب وهب حياته لابنتيه اللتين كانتا كقطتين تعيشان بين طيات حنانه . وتتقافزان فى دلال وجمال فوق سنوات عمره التى ما مر منها عام إلا وحفتهما أيامه ولياليه بأغطية الحب ورداءات الذكريات الجميلة .

ولم لا : وقد أوجد الله فى بيته شمساً وقمراً غير التى نعرفها . فلا شيماء ينبغى لها أن تدرك أختها الا بكل الحب والإخلاص .. ولا ليلهم سابق نهارهم إلا بأرق وأجمل الأحلام . وكل فى فلك يسبحون حول أم يكاد حنانها يضىء ولو لم تمسسه نار الخوف على بناتها وحرارة شوقها دوماً فى أن ترى بناتها زهرتين لا ينفد عبيرهما . ولا يتبدد مع الأيام رحيقهما . فراحت الأم تظهرهما كفراشتين مزدانتين دوماً بأبهى أجنحة الرقة وأحلاها . حتى بدت الفتاتان كأنهما عينة من حوريات العين . وعربوناً من الله وجد فى الأرض مقدماً لمن أراد أن يتم الاستقامة ....

تخرجت شيماء فى كلية مرموقة . اكتمل نصاب العروس فيها . اكتمل طرح الأنوثة على عودها . استدار الوجه بدراً . انطلق الشعر كأشعة شمس ذهبية يسافر معربداً فوق الخدود كلما غدا النسيم أو راح . احمرت الوجنتان كثمار رويت بماء فرات . هدأت أمواج بحر العيون لمن أراد أن يبحر . انحسر الخصر نحافةً حاملاً بكل اقتدار ماجادت به يد الله التى خلقت فأحسنت . وفى أى صورة ما شاء ركبت . فتبارك الله أحسن الخالقين . حتى بدت شيماء ممشوقة القوام . باسقة لها طلع نضيد . وكأنها نخلة مريم كلما هززت بجزعها تساقط عليك من الرقة والدلال رطباً جنيًا . ولكن هيهات هيهات فليس هكذا تورد الإبل . ولا هكذا تقطف الثمار . فالبيت له بابه وللبيت أب لا تورد فتاياته إلا عبر شعائر الله التى يعرفها الرجل جيداً . صحيح هؤلاء بناته هن أطهر لكم . ولكن على سنة الله ورسوله .

مكثت شيماء كعذراء داخل بيت أبيها وكأنه محرابها الحريري . مكثت غير بعيد من شباب كثر يتمنون ارتقاء سلم وجدانها . بعد أن باتت شيماء بجمالها الطاغى وأنوثتها الساحرة . سيمفونية صامتة يتردد صداها مكتوماً داخل صدور الشباب عزفاً على أوتار الأمل ونقراً على دفوف رضاها . وبعد أن ارتسمت ملامح عنترة على وجه كل شاب وباتت شيماء هى عبلاهم جميعاً .. تلك الحسناء التى إن أطلت من شرفة منزلها . ألقت بفائض أنوثتها على رؤوس العابرات فازددن سحراً وجمالاً . والتى إن سارت كان وقع قدميها على الأرض كنقر العصى على أبواب قلوب تواقة أجفلها الإعياء وطول الأمل . و كحبات مطر تنقر نوافذ الساهرين وعيونهم معلقة ببابها فى ليالٍ شتويةٍ طويلة السهد.

تمر الأيام ويزداد شيئاً فشيئاً اتساق العقل والجسد . أينعت ثمار الأنوثة على أغصانها وحان وقت قطافها . تقدم لها الكثيرون على اختلاف مشاربهم وكل يحدوه الأمل فى نيل رضاها . نعم طرقوا جميعاً باب بيتها إلا أنه لم يطرق أى منهم باب قلبها إلا أحمد . ذلك الشاب الذى تعلو وجهه قسمات الرجولة والجدية . والتى أحست فيه بفارس الأحلام . إلا أن أباها ما رآه كذلك حتى إن كان فارس أحلامها، إلا أن الوالد لم ير حصانه الذى سيحملها عليه . بعد أن علم من حديثه معه أنه مسافر لإحدى الدول الخليجية سعياً وراء الرزق واتماماً لتكاليف الزواج . وبالفعل وخلال شهرين شاغل فيها أحمد قلبها وشغله . سافر الشاب عبر رحلة بحرية الى حيث غايته بعد أن كان آملاً أن يسافر وحول إصبعه دبلة محفور عليها اسمها . إلا أن إرادة الله وقلق الوالد حالا دون ذلك ...

تمر الأعوام وترفض شيماء كل من يتقدم لها مبدية لوالديها فى كل مرة أعذاراً . وحده قلبها الذى يعرفها . بعد أن حفظت العهد وباتت متمنيةً عودة الغائب الذى سكن وجدانها على الرحب والسعة من أول مرة . فهذا حديث فؤادها . وما كذب الفؤاد ما رأى . فقلب الأنثى فهو بصيرتها التى تتحسس بها ما لا تراه العيون . وتلتقط بها ما لا تلقتطه الأذان . عاشت شيماء فى بيت والدها جسداً وفى بلد الحبيب روحاً . هامت مشاعرها على وجهها حيرة وترقباً . بات أحمد هو ساكن الروح والوجدان . بات تحت الجفون وبين طيات الملابس . بات يتمثل ًلها بشراً سوياً فوق حوائط غرفتها وبين صفحات كتبها . بات عند أطراف وسادتها يحادثها .

يسامرها كل ليلة حتى أطراف النهار مودعاً جفوناً أسدلت على أمل اللقاء . وعيوناً قرحها السهر وطول الانتظار ....... رويداً رويداً ينفرط عقد العمر من بين أصابع الزمن . تتقافز السنون خلف شيماء كركامات تمر من فوقها سيارة مسرعة . سنوات تتساقط من فوق جسدها الغض كثمار أعطبها زمن ضنين . وأيام شحيحة العطاء . تاركةً خلفها ندبات حسرة ومرارة على من رحل . عله يأتى يوماً يلملم من خلفها ما بعثرته عجلات الزمن الطائشة من زهرات العمر ووردات الشباب ..

بدأت تدب فى البيت الهادئ خطوات القلق . بدا التوتر والخوف على وجه الأبوين . راحت الأم تلاحق مشاعر شيماء المسافرة عبر بحار الشوق الى حيث يقيم الفارس . بدأت تحاصر شيماء فتتفلت منها علها تناجى حبيبها ليلاً : ماذا تفعل ؟ ولكن لا جواب . انهارت معاقل شيماء . تهدمت قلاعها . ألقت بكل أسلحة الزود عن حبيب . هى فقط التى خبأته خلف سواتر قلبها . قابع تحت أسنة رماحها . استسلمت شيماء أمام هجمات الأهل وتحت حصار الأم . وهروباً من مقولة صار دويها أشبه بدوى الرعد على أذن الفتاة ( حتى لا يفوتك قطار الزواج ) ....... مرت أيام وتقدم لخطبتها شاب اعتمد على احتمال تساهل الأبوين فى مثل هذه الحالات . وأنه لن يخضع لفحوصات دقيقة مثل التى كان سيخضع لها فيما لو تقدم فى وقت سابق . الأمر الذى قد يعزز من فرص الموافقة عليه الآن وليس قبل وهو ما تم بالفعل . حيث وافق الأبوان وما كان من شيماء إلا أن ألقت له بفتات من مشاعرها . وبالقدر الذى تقتضيه زيجة لم يشارك فيها القلب ولم تشهد عليها الجوارح . فقد تم كل شىء فى غيبة الروح والأحاسيس . فما هو إلا انتقال جسد خالى المشاعر من فراش الى فراش.

انتقلت شيماء ضمن قطع الأثاث الى رجل ما سكنت إليه وما سكن إليها . علها تجد عنده القدر اليسير من المودة والرحمة . صحيح أن الزواج تم على سنة الله ورسوله . إلا أنه لم يتم على سنة القلوب وما تهوى الأنفس . قضت شيماء شهورها الأولى مراعيةً فى الله حق زوجها .. مرت الأيام وسرعان ما تبددت نسمات الوفاق بينهما ليحل محلها ريح عاصف تضرب أركان البيت لتطيح بدعائمه الهشة التى لم تعد قادرة على حمل زيجة أثقلها الضيق والضجر . بدأ الشقاق يدب بينهما . تطاول عليها الزوج كثيرا بالسب . وبالضرب أحياناً حتى أدمى شفتيها التى كان يتمنى لو ابتسمت فى وجهه يوماً . كان يتعمد اهانتها أمام ضيوفه متفاخراً . وكأنه ينتقم لنفسه من أيام عزها وقت أن كان صعلوكاً لا يجرؤ حتى على المرور أسفل شرفتها . ولكنه الزمن وإلحاح الأبوين ......... أسابيع وشعرت شيماء بنبت جنينها يتحرك فى أحشائها . حارت شيماء بين فرح وقلق . بين تفاؤل ويأس . ابن قد يحيى فيها الأمل فى الحياة عوضاً عن كل ما فات . وشعور خفى قلق . فقد يتربى الإبن بعيداً عن أبيه . ولكن الزمن لم يمهلها فرحتها ولا حتى قلقها . ففى إحدى مرات الشجار دفعها زوجها لتسقط على الأرض فاقدة وعيها وجنينها الذى مات ليحسم لأمه أمر حيرتها ..

أياماً عصيبة قضتها شيماء على فراش الإعياء الروحى والجسدى بأحد المستشفيات . بعد أن أفرغها الأطباء من مضمونها . من محتواها . صارت شيماء غلافاً كان براقاًً لكتاب انفضت صفحاته بين أصابع الغلظة والجفاء . صارت قشرة هشة لثمرة نخر قلبها سوس الأيام السود . وليالٍ حالكات لا تقتات إلا على المشاعر والأحاسيس ..... وما أن تعافت شيماء حتى راحت تبحث عن حريتها فى ساحات المحاكم وفوق منصات القضاء . التى انطلق من فوق إحداها حكم عادل بتطليقها من زوجها لما لحق بها من أضرار نفسية وجسدية ...... وعادت شيماء الى بيت أبيها خالية الوفاض والحياض . عادت تحمل بين طيات وجدانها رفات ابن لم تشارك حتى فى وداعه . عادت تحمل بين جنبيها نفساً مهيضة الروح كسيرة الخاطر . عادت تحمل أطلال مشاعر وبقايا وجدان . عادت تحمل على عودها بعضاً من ثمار ذابلة أعطبتها يد الغدر وأصابع الخسة . عادت تحمل أشلاء أنوثة أغتصبت . وجوارح انتهكت . ما فرطت فيهاً إلا تنفيذاً لتعاليم الله .

قبعت شيماء داخل غرفتها فى بيت أبيها ملازمةً فراشها . تناجى كل ليلة خيالات ارتسمت على سقف غرفتها أو هكذا كانت تراها . كوشة . زفاف . زينات . زغاريد . ورود تنهال عليها وهى فى ثوب زفافها الأبيض تسير بزهو ودلال متأبطة ذراع أحمد ذلك الشاب الذى رفضه أبوها فرحل تاركا ًلها من الشوق والحنين ما يكفى انتظاره العمر كله ..... حرصت أسرة شيماء أن تقضى الليل فى غرفتها ترويحاً عنها ولتسليتها بإشراكها معهم أطراف الحديث فى أمور الأسرة . وفى تلك الليلة بينما هى مستلقيةً فى فراشها متكئةً للخلف قليلاً . سمعت أمها تعاتب أختها الصغرى إذ رفضت هى الأخرى عريساً كان قد تقدم لها منذ أيام : بحجة (ألا يفوتها قطار الزواج) . وهنا انتفضت شيماء واعتدلت فى جلستها فى الفراش وصرخت صرخة مدوية أصمت أذان الجميع : فليمض قطار الزواج يا أمى الى غير رجعة .. ليته مر من دونى ... ليته مر من دونى .. ونامت شيماء ليلتها حزينة مهيضة الروح إلا من صورة أحمد التى لم تفارقها هذه الليلة . لتستيقظ فى الصباح متجهة الى شاطئ البحر . عسى أن يلوح شراعه فى بحر عينيها . لتناجيه بصوت مسموع .... أحمد :
ياريت تعود ...

الفجر لسة بيبتسم بين دمعتين ....... عود
الفرح ممكن ينقسم على شفتين ...... عود
الوهم فات والذكريات قالتلى حبك بالوجود .... ياريت تعود
عمرى اللى راح .... سماح سماح
ياحب أكبر من الجراح ....... ياريت تعود.

غادرت شيماء الشاطئ الى بيت أبيها تردد قول الله : بسم الله الرحمن الرحيم . (فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرًا كثيرًا ) . عادت وكلها أمل : إن بعد العسر يسرًا . عادت وهى على يقين أن الخير الكثير قد يكون فى عودة أحمد الذى حتماً سيعود . ليحملها بين ذراعيه الى قطار المودة والرحمة . بدلاً مما لاقته من عذاب وهوان فى رحلتها يوم أن استقلت .......... قطار الذل.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...