قدر كبير لم يبق منه السخام ولو ملمح ذكرى لبياض قديم .. حبات من باميا عارية طافية بلا لحم .. باحة دائرية مطوقة مخنوقة بفنادق بائسة شاحبة، زبائنها مخلوقات شائهة من قرى جبلية بعيدة ومن بيوت طينية وصحارى رمل وخيمات شعر ومن دروب رطبة معتمة لمستنقعات موبوءة، ومن خدم وصبيان محال التجار والدكاكين المصفوفة، من غالبية من بطون مخسوفة بتواريخ جوع ابدي قديم .. مرقة صفراء باهتة، فان اقترب العصر وشحّ القدر، مُدَّت له فوهة من خرطوم ماء حنفية عامة ليعاود بركته وامتلاءه .. مرقتها ما عرفت زيتا رقراقا بحمرة مسيل من ماء الطماطه .. وما كان ذلك من أحلام البطون الممسوحة .. تكفيهم رطوبة منقوع خبز شهي بحبتين وثلاثة واكثر من بامية شهية .. طيلة عمر ما سمعت الا مرة واحدة اعتراض بطران على حكاية مندلق الماء من الخرطوم .. ما كان من أهل المكان، عابرا كان وما بدا عليه انه يطفيء جوعا بماعون حمديه .. حمديه ما ردت عليه .. كانت ابدا انيسة هادئة مسالمة، وهي عرفت ان مثل هذا الوجه بحنكه المعوج وقتامة وجهه لن يمر من امام قدرها، وان حدث ان خاب ظنها وكرر الزيارة فستمتنع ان شكا واعترض ان يلمس ماعونا وستبعد مغرفتها عن فم القدر فتحرمه من خيراته المباركة ... الصحون المعدنية الصدئة بحجومها المتساوية والقدر الاسود الكبير بمرقته الفائرة وحبات الباميا المتقافزة المتراقصة والمغرفة الخشبية الطويلة واقراص الخبز هي ما كانت عينا حمدية تتتابعان عليه , وما وقفت او تأملت وجوه واشكال وازياء محبي طعامها .. كلهم عندها سواء .. كل هولاء منحتهم جنسية واحدة لا اسم لها ولا لون , دلالتها عندها فقط هذا التشابه الغريب الموحد بحالة وفجيعة جوع تكشفها لها وجوهم المصفرّة وبطونهم الغائرة المخسوفة وخمول ونظرات حيرة تائهة موجعة واليمة ...
مغرفتان من مرق وحبات معدودة مفردة من الباميا , حتى زبانها من اهل باب الطوب الدائميين المقربين لها ما زادت حصتهم عن المقسوم لهم .. اما العابرون في ملامح واسماء ولغات مختلفة فالقسمة عندها عادلة تقررها المغرفة دون تحيز ... وهي عطوفة وحنونة , كثيرا ما سمحت لشيخ عجوز او معوّق متعب بعد ان انتفخت بطنه من سيل المرقة وحرائق الشمس وغلبه اجهاد مضن وتعب وجمود ان سقته ماء مثلجا من قنينة كبيرة خاصة بها , وان رأت ان حالته قد اثقلت , سمحت له ان يضطجع على فرشة مهترئة في ظل وفيء شجرة التوت الحامية لموقعها وقدرها .. يستريع وقد تغلبه نومة تطول فلا تنزعج منها ( ام الصبر ) _ وكما يكنونها _ وهي الحنونة الساكنة كنقطة ماء صافية .. ما عرفت الغضب في حياتها وما هاجت حتى لو انقلب قدرها وضاعت المرقة ممرغة في التراب وتاهت حبيبات الباميا في ثنايا الرمل وماء الساقية النتنة .. غلب عليها اسم ( حمدية أم الباميا ) , وكسبت تسميات اخرى كرّمها بها اهل باب الطوب وزقاق سكنها ومن الطاعمين .. ( ام الحنّية ) .. حنان تلك المرأة كان ميزة لها .. كانت سريعة التأثر لاي عارض ضار ومؤذ يلحق اهل الزقاق وحتى على غرباء لا تعرفهم .. ابدا تحتفظ بدمعة في العين لمن هرستهم الحياة وطحنتهم وخذلتهم وغدرتهم , ولكل حائر مع دنياه الرديه _ كما تنطقها _ حتى حازت على لقب مضاف ( ام دميعة ) .. وحتى عندما تفيض بها حالة فرح لسعادة اخرين ..
الشمس تغلي ورمل الرحبة يغلي وقير الطريق الجانبي الضيق يغلي وكاد ان يصبح مسيلا .. ودماغ حمدية غليان ملتهب ، بسمتها و احمرار وجهها و بأقتراب من غضب جنوني غامر هي التي ما عرفت الا نادرا _ ملامح وتراسيم انفعالات غاضبة .. ما كان يخفف عنها هو دار السينما الاليفة لروحها .. اشبعت فرحها بإسماعيل ياسين كانت مطمننة لمشاهدة فلمه الأخير بصحبة شكوكو وماري منيب .. جنونها أسماعيل ياسين وحركات شفتيه وفمه الكبير .. تتذكر جيدا ان اضعف فلم له كان يتجاوز في عروضه الأسبوع والاسبوعين , وطالما امتد لأسابيع , فلماذا اغتالوا فلمه الأخير .. عرض واحد هو الأول والأخير في عصرية تأخر فيها فراغ القدر .. لو انتبهت وعرفت لسكبت تلك الباميا اللعينة على رؤوس الأكلين وأفرغت قدرها وسارعت لموعد أسماعيل ياسين .. ملعونون .. تجاوزتها متعة جديدة .. لماذا فعلوا ذلك ؟ عرض واحد ! لماذا ؟ وهي العفيفة النظيفة نقية اللسان أنزلقت منها شتيمة ملوثة ( هتك الله أعراضهم ) وسرعان ما أختنقت بندمها وتسرعها .. ظلت صامتة واجمة وكأنها أهدرت وأضاعت سعادات عمر بكامله ...
وذلك الحبيب , رغم أنها أحيانا تبدو غير راضية عليه وبحركات فمه البايخة خاصة عندما يكثر من أهتزاز وتدوير شفتيه الغليظتين لمرات عديدة متجاوزا حد المعقول رغم كل سخرياته .. مع ذلك فهو الأثير لديها ابدا والممتع لروحها , وهو من ينسيها بلطفه وأنسه وقفشاته ومكائده المكشوفة المفضوحة عذابات ما تعانيه من لهب شمس كاوية وبخار باميا مغلية ورذاذ نتانة الساقية المكشوفة القريبة ومن نثار رمل يجرح العينين تثيره قوائم أحصنة وكدش وبغال وحمير هرمة عجفاء لحمالين قساة هائجين بجنون السرعة وكأنهم في حلبة طراد .. وهي مع قرفها في أحيان قليلة من صخب و فوض السوق , فقد كانت مهنتها مؤنسة ممتعة نظرها بتلاوين أزياء النساء المزركشة المنقوشة بالزهر من القادمات من قرى الجبال البعيدة اللاتي ما كنّ يتحملن البقاء حبيسات مخنوقات في غرف الفنادق الفقيرة الوخمة الساخنة وهن معروقات اذ لا يحصلن من المراوح السقفية المترنحة الا على تهييج هواء ساخن ثقيل تحمرّ منه العيون وتنفر النفوس , فيجبرن أزواجهن على التجول للتفرج على محال الأسواق المتداخلة المزدحمة مع حزن وحيرة عجز قدرتهن على شراء ما يحلو لهن ويشتهينه فالكثير الكثير على رخصه غال بقرارات أزواجهن , ويأتي البديل عندما يقتربن منها , وقبل ان يعبرنها يلوح لهن القدر المهيب ببخاره ورائحة مخفياته فيدفعن بأزواجهن وبغنج الأقتراب من القدر الأسطوري الأسود ومصفوفات الصحون المعدنية البيض ليسكتن نهمهن في طعام مثير جاهز وقرب شجرة ظليلة .. وكانت حمدية تنحاز لجنسها في مزيد من الثريد مستمتعة بلألاء ألوان ملابسهن الصارخة البهيجة وبما يتجملن به من حلي كثيرة متنوعة وان كانت رخيصة , وهي ما رأت يوما ذهبية تلمع على عنق أو ساعد من كل أمثالهن الا في حالات نادرة ..
ما كانت حمدية تخشى ابدا مزاحمة باعة الطعام في محميتها , فهي بسعر العشرين فلسا قد ضمنت قدوم الأرجل والوجوه والأفواه وشهوة العيون والروائح والبطون اليها .. فقط هو ( سيد جكومي ) .. وهي كانت مرة واحدة عندما أجتاحها شي من غضب وهي تسمع صوته صارخا بوجه بدوي ( غالي .. غالي ) .. ! أهي الثلاثون فلسا غالية من كل هذا الزقنبوت من الكباب مع كاسة شربت وطرشي وبصل وخبز مسمسم وطماطه .. أكلك ليس عندي .. أسرع وأركض برجليك لقدرها , وأملا كرشك من ماء زبالة حمدية , فزبالتها أرخص وهي بعشرين فلسا ولن تلامس منخريك ابدا رائحة لحم .. محلي ليس لأمثالك .. صعق الجائع الغريب وعادر مسرعا مهانا بعار الذل والخجل .. غادر الخائب أشهر دكان للكباب رغم ان كثيرين ممن تورطوا وأكلوا عنده شكوا ان رائحة زنخة كانت تفح من الاسياخ ومع لهب النار فيعافها الأنف والفم واللسان قبل ان تتدحرج غير كاملة المضغ للأسفل , وان شهرة جكومي ما جاءت من طيب الكباب بل أزدهت وأزدهرت من الثلاثين فلسا ليس غير .. ما أستطاعت الصبر على ما لحق بباميتها الذهبية من اهانة , فهاجت في روحها كل سلوكيات بعض نساء الأزقة الضيّقة العميقة الموبوءة من السفيهات الخبيرات بكل فنون الشتائم المحرقة مع ما يرافقها من إيماءات وحركات أيد و أوجه وسيقان وبطون وأصابع وبأشارات منفعلة معيبة مخجلة حتى أنهن لا ينتبهن لعري فاضح قد يكشف منهن الصدر أو الساقين وبهدير ون صواعق بذيئة قد تصحبها بصقات متلاحقة ... أحتمل جكومي حرائق حمدية , أطفا منقله مسرعا , أغلق باب دكانه .. وأختفى في زحام الأرجل و الرؤوس المغادرة .. هدأت قليلا عندما أحست ان غريمها أخذ يترنح من هول ما سمعه ويسمعه جمع كبير من أهل المكان والعابرين مما جعله يكاد ان يصاب بالأغماء والسقوط فترفقت به وسكتت نادمة , فما فعلته بتعريته وفضح مأكله الوسخ ظل حديث السوق لأيام ... عاشقة السينما المصرية .. هي والأخرى الأرمنية مغرمة الأفلام الأجنبية .. كانتا وجهين معروفين دائميين لرواد سينما ذلك الزمان .. حمدية النظيفة عصرا ومساء بعد ان أستحمت وبملبس وقور غالبا ما يميل للسواد تجلس في مدرج الأربعين فلسا في أدوار العصر والمغرب فقط تنتظر بترقب وشغف ما سيؤنس روحها وقلبها من قصص وحكايات مثيرة وان كانت ساذجة في غالبيتها ولكن المؤنسة لكثير من الناس لمعالجاتها الأجتماعية و فكاهاتها ولطائف مقالبها المسلية لجمهور ذلك الزمان .. أمية كانت لا تعرف ما سيفاجئها من أفلام الأسبوع القادمة , رفيقها سهيل سهل لها الأمر بصوته الصاخب الحاد وباللافتة الخشبية العريضة يرفع مساندها بيديه الحجريتين الكبيرتين يجول بها في شوارع المدينة وساحاتها مغريا الناظرين بملونات صور الممثلين ضامنا لسيده صاحب السينما أعدادا من المتلهفين المنتظرين بشوق أسما لفلم جديد .. الأرمنية أصغر عمرا من حمدية .. ربما هي في الأربعين أو اكثر .. كانت قارئة .. عرفها جمهور السينما ولسنين طويلة .. سمراء جميلة مكشوفة الرأس بشعر قصير .. عيناها خضراوان .. هادئة ساكنة صامته .. أبدا معها كتاب .. غالبا بلغة أرمنية أو أنكليزية .. مستقرها في مدرج السبعين فلسا .. تحضر قبل العرض بنصف ساعة أو اكثر ، تمسح المكان والشاشة ومن حضر مبكرا بنظرات سريعة .. تضع نظارتها وتتيه في الكتاب .. فلما ترفع نظرها .. يبدو عليها أنها منتشيه بما تقرا .. ومع بدء العرض وأولى أشارات الإظلام تهجر نظارتها وتدسها في حقيبة جلدية صغيرة و تنتظر بلهفة فلمها الأجنبي ، ما شوهدت في أي عرض _ الأ نادرا _ لفلم عربي .. عشقها العروض المأخوذة عن روايات أجنبية شهيرة زهت بها خمسينيات القرى الماضي .. في فترة الأستراحة تعود لكتابها .. ما لاحظه جمهور ذلك الزمان أنها قلما كانت تكمل فلما .. فهي تنهض قبل النهاية بدقائق قليلة مجتازة عتمة القاعة لباب الخروج ولضوء الشارع وعندما تغادر كانت اذناها تلتقط مقاطع سريعة من موسيقى سمفونية عالمية دأبت دور السينما على أذاعتها قبل العرض بوقت قليل محسوب وكذا بعده ... موسيقى الروح بمقاطع قصيرة من ( شهرزاد ) و ( عايدة ) و ( حلاق أشبيلية ) ومن مستوحيات روح الشرق .. موسيقى لذيذة منعشة تنقل العقل والقلب لشرق ماض بعيد بعيد ..
سهيل أليف حمدية قارئة صور اللوحة البهية دون كلمات وملتقطة مواعيد العروض من تأتأة وفأفأة فمه الواضحة عندها .. كان حاملا لوجه عنتر وصلابته .. كان أنسانا هادئا وديعا موصوفا ظلما ببصمة جنون , وهو مع قوته ما ألحق أذى بأحد وتحمّل لسنين .. وهو ان غفر للصغار عبثهم الذي ما رأى فيه غير مزاح وشيطنة , فقد تحمل وما كان يشقيه غير أذى الحمقى والكبار من العقلاء , ما رد على أحد وما رفع يده حتى مع أقسى حالات نزق الأشرار من محبي ومدمني ألحاق الضرر بالاخرين قولا وفعلا .. حتى كانت تلك الواقعة التي لم تنسها المدينة رغم مرور عمر من السنين عليها .. أحب سهيل ليالي
ـ ( الكب ) ساهرا مع نسمات وأضواء دجلة وبريق النجوم معزولا في طرف المكان على تخت خشبي متكسر , متأملا
بِصَمته الأزلي جمال هندسيات مصفوفات أكوام الرقي والبطيخ مندهشا مسحورا بقدرة البائعين وفنونهم في طرائق تجميعها بأكوام دائرية مدهشة وكمثلثات ومربعات ملتمعة بأضواء اللوكسات المشعة .. صورة الحادثة قد تبدو عنده غائمة الان .. فجأة تحرّش به سائق من مجموعة .. يغسلون سياراتهم بالمياه الضحلة على حافات النهر العميق .. يتسامرون ويشربون ويدخنون .. هذا الواحد صرخ بسهيل : أنت .. أنت
شيبوب ماذا تفعل هنا ؟ من دلك على هذا المكان .. هذا المكان ( مال أوادم ) , ما الذي يجمعك بهم ؟ مكانك وقبرك ومزبلتك في شارع حلب بصرخاتك الجنونية الهائجة عن أفلام ممثلوها قوادون وغانيات وعاهرات .؟. ألا تستحي وأنت تمدحهم وتمدح الفلم وتكذب على الناس .. أنت سافل .. قم وول من هنا .. وكرر أكثر من مرة :
هذا المكان أستراحة للأوادم وليس للحمير .. ما تأثر سهيل بكلمة مما سمعه ولم يلتفت حتى اليه .. كرر السائق قذاراته بلؤم وخسة .. ما رف لسهيل جفن مما عزّز رأي السامعين بأنه مجنون بليد وربما حتى أطرش ومع كل هذا العواء بألوان الشتائم وحتى بهتك عرض الأم .. وظل سهيل جامدا مذهولا كصخرة .. ترك سائق سيارة أخر ومساعده سيارته وأنضما بلسانين قذرين بشتائم طالت حتى أعراض الاخوات .. بحركاتهم الماجنه ومقذوفات جديدة من ألسنة وسخة جعلت منه ومن صمته أضحوكة وتسلية لليل للبائعين والمشترين وساهري ( الكب ) ومن المستريحين من سباحة ليلية مرهقة ومن صيادي اسماك .. ما تحركت ولا تململت أو أهتزت قليلا صخرة سهيل , لكن تلك الصفعة المفاجئة الغادرة _ بغفلة من سهيل _ وقد جاءته الضربة من الخلف ومن سائق أعور قميء على رقبته أحس بأذاها ولؤمها وحيوانيتها ألما حادا كجمرة نار تجاوز رقبته مسمما روحه وكل جسده .. مرت عليه لحظات وكأنه أنفصل بها عن عالم الوجود .. ثم حصل الهلع المفاجي الذي لون كل الوجوه برعب أنتظار حالة موت قاس .. ذلك الوديع أجترح برده بعد وعي الضربة حديثا للمدينة طال لسنين ... معروف ان سواق ذلك الزمن _ وبخصوصية بعض سواق باب الطوب العاملين على خطوط سير لأطراف المدينة و أحيائها الحديثة .. كانوا من القوة والشراسة والبطش ما يسحق ويدمر ويتلف أية قوة فردية وحيناً كانوا يتجرأون بعدوانية فاتكة على قبيلة من شرطة ...
حتى النساء المقهورات في عمق ظلمة الأزقة الكئيبة - ومنهن عجائز - كن يخرجن مسرعات حاسرات حافيات لدعم عدوانيات أزواجهن أو أخوانهن من النساء و دون ان يسألن عن سبب المشاجرات ومن كان فيها البادي لرسوخ علمهن ان السواق - وهذا ما تعاملوا وألفوه منذ سنين - هم دائما البادئون بالشر ولأتفه الأسباب وحتى دون الحاجة لأختلاق وتوفير أي سبب يحفز لمشاجرة تتسع لمعركة.. يخرجن كنذير صاعق صارخات متهتكات بألسنة من خراء قاذفة مندفعة بشتائم حارقة كلبؤات هائجة ...
وعندما يبلغ بهن الغضب مدياته الجامحة يرفعن ثيابهن ملمومة باتجاه الرأس كأنهن سينزعنها ويتحررن منها .. مطبطبات يضربن بأيديهن منحدر البطون مع دعوات هاتكة للعرض ومصحوبة ببصقات متلاحقة ..
عندها لا يجد منكود الحظ _ وغالبا ما يكون غريبا أو مجرد عابر _ الذي ربما تورط معهن بكلمة غير ان ينقذ نفسه هاربا بقفزات كنغر ملاحق من وحش دموي
ولكي يحرر جسده و كرامته من ضربات نعال بعد ان أصابه رجالهن بكدمات جارحة وتركوه لهن ليكملن أستحمامه وزفافه ...
سهيل معروف بجسده القوي المتماسك المتصلب وبيديه الكبيرتين الخشنتين ككلابتين .. هل الجنون شكل أستحالة مضافة حققت ما فعله سهيل .. لا أحد يصدق ان ذلك المسكين الساهم القانع بصمته ومبيته في دار السينما وبمصباحه ينير درب السائرين في ظلام الفلم وبمتعته بأفلام مجانيه وجولات شوارع أعلانية .. قد أستحال ملتهبا بشعلة من غضب مخيف وثأر لصفعة مفاجئة قاسية ظالمة مستهترة غادرة أحرقت روحه وعينيه قبل رقبته .. وساد خوف لطريقته العنيفة الماكرة .. خوف كبير وهلع تسرب حتى لنفوس سواق أخرين أخذتهم الرجفة من رده وفعله الصادم وما كانوا قد تورطوا بشتيمة ضده وخشوا ان يلتبس عليه الأمر فيتوهمهم من شاتميه لذا فقد نأوا بوجوههم عنه مختبئين بعتمة الماء وراء هياكل سياراتهم المغسولة .. ما حصل لسهيل ربما نسيه بعد ساعات قليلة , وما وعى حجم ما ألحقت كلابتا يديه ونطحات رأسه الثقيلة ورفسات ودفسات رجليه وبحذائه الشتوي السميك كبسطال من كدمات وجروح كادت ان تجعل أحدهم ينفق .. وحفرت على وجه الأعور أخدودا وشرخا طريا جديدا مضافا لشرخين شاحبين قديمين ..
هياج مخيف أكتسح عقله وروحه وجسده .. أستحالت ضرباته مطارق وسكاكين أنهكت جسدي الشقيين النتنين ببقع مدماة .. ضربات رأسه ويديه ورجليه بدت تؤدي طقوسا انتقامية خارقة للاعب ومهرج سيرك من مهمومي ومغدوري الحياة وبدا أيضا وكأنه دور منتقم تعيس مخذول مجروح الروح في مسرحية غضب , يسعى بضربات متلاحقة ليمحو أثر الضربة الغادرة المفاجئة القاسية التي طالت رقبته ...
تلك الواقعة ظلت تهتز في النفوس والأذهان وما تبخر رعبها من الفاعلين رغم مرور سنين , فاذا صدف أن مر أحد المعتدين في شارع حلب ولمح ظل سهيل , فان رجليه تطيران به لأقرب زقاق أو مخبأ خشية أن تلتقط وتستذكر عينا سهيل وجها عدوانيا كريها أحرق روحه وحرمه من متعة صحبة الكب ودجلة وعذوبة مساءات الأصياف , والأكثر خشية أن يتلمس ويستذكر سهيل وجع ومهانة تلك الضربة ...
بعد نومةٍ لذيذةٍ طالت بسهيل حتى ضحى اليوم التالي وهو مما لم يحصل لسهيل الا نادرا .. هل تراءى ما حدث له كمشاهد عنيفة قاتلة مما تثيره وتفرحه أفلام الكاوبوي , لكن ما أحزن سهيل أنه سيحرم نفسه من جمال وسحر أضواء دجلة والكب وبمتعه الليلية بعد تعب نهارات طويلة صائفة .. هل هو وعي داخلي قد حسم أمر الحرمان من مكان جميل طالما هو موبوء بمثل أولئك الأشرار .. أهو وعي لا يدركه العقلاء وخصيصة من أسرار المجانين وغوامض دواخلهم ؟ هل هو قرار عقل أو جنون ؟ أيمكن مزج الأثنين معا مما أوحى لسهيل بقرار نهائي للحرمان ولإنسان مستور رغم خساراته وحرمانه .. بعدها لم يشاهَد سهيل ولأصياف سنين متجاوزا الجسر العتيق للقاء النهر والرمل وساحل دجلة والأضواء وأكوام الرقي ومقهى الرمل للرجل الفقير بتختين خشبيين وأقداح شاي وسطل ماء بارد يطفي لهب عطاش تموز رغم أن الوقت ليل .. ومر العمر .. مات صاحب السينما فيتّم سهيل .. هُدمت بعده الدار .. شاخ سهيل وبدا لكل ناظر يائسا حزينا مخذولا ضعيف البنية مصفرا .. ضاعت أو اهترأت لوحة الأعلانات الخشبية رفيقة عمره المحببة رغم أنها كانت ثقيلة على يديه صعبة الموازنة وهو يديرها يمينا ويسارا والى الأمام لتصافح العيون والأشواق ... لجأ لشارع حلب فكان له المبتدى والمنتهي .. لم يستجد أحدا وما تسوّل , فقد وفر له عارفوه ومحبوه ومتذكرو تلك السنين البهيجة وبأقل القليل من حاجاته مما عاونه على المطاولة والبقاء والأستمرار لسنوات اكثر .. ما كلفتهم أدامه حياته شيئا , وما أحتاروا في تدبير عيشه , ما صرفوا كلاما كثيرا في معالجة أمره فأتفاق الصمت في دواخلهم الرحيمة وجد حلا سريعا كريما لمعاناته فنأوا به عن الموت جوعا بعد أن عرفوا له أستحقاقه أن يظل حيا وان بحياة شحيحة .. تآلفوا في إنقاذه مستثارين
بوحدانيته عاريا في خضم ومضطرب الحياة .. ملمومين على أنفسهم بمحبته وصمته ووداعته وقناعته أن تظل دكات شارع حلب مقاعد له نهارا ورحبات مداخل الفنادق مأوى للياليه ..
مرت سنون .. تهاوت أعمار .. ما رضي الأكرمون أن يظل سهيل جليس نهارات طويلة حرا وبردا على مقاعد حجرية .. إستأنسوا معهم قلب صاحب مقهى صغيرة مخبوءة في خانق زقاق .. أن يسمح لسهيل بدف مقهاه وان يحتسي شايه ويبيت فيه ..
وأن الا يكلفه بحر الصيف الا برش المقهى وترطيب واجهته الرملية بالماء .. طابت أيام سهيل وبدا مسرورا .. ومع حالات سروره ظل معانقا لطبيعة صمته وصفناته الطويلة .. شاخ وغمر البياض رأسه مظللا تراسيم محفورة وتجاعيد في سمرة وجهه .. نحل كثيرا فبدا بوزن طفل أو خروف .. طالت ساعات صمته وتخللتها لفترات أبتسامات مضيئة .. أهي تذكارات تهش على خاطره فيبتسم لها .. هل هو وجه صاحب السينما وقد نسى حتى ملامحه الأليفة ؟ هل هي اللافتة الخشبية تبشر بفلم جديد ضاحك ؟ هل هي ظلمة القاعة أم الأنوار الكاشفة القوية بعد أنهاء العروض ؟ هل هي حيرته مع الأرمنية وأستغرابه من كتابها ونظارتها وعدم صرف كلمة منها له ولغيره ؟ هل هو وجع الصفعة وقد صارت ذكرى غير أليمه بعد أن برئت من جرح الروح ؟ أهو ما كانت تتراقص به قطته الجميلة بلون القطن وبعينين براقتين وهو يتخمها بلذيذ الطعام والحلوى في مهجعه الأرضي المعزول بزاوية من مبنى السينما ؟ أهي قفشات أسماعيل ياسين مصحوبة بتعليقات مازحة ومرّة عن شفتيه البلهاوين ؟ أهي تلك الكلمات الناعمة من حمدية وهي تناغيه في اكثر من خلوة ؟ أم أن رائحة الباميا أهاجت منخريه ومعدته وشهواته ولذائذه من جديد ؟ هل كان بقدرته أن يستذكر أيامه ومن عمر مضى فيفرح بها أو يشقى ؟ أم هي مجرد تهويمات عقلية مختلطة متخلخلة أشبه ما تكون بمضطربات تيه في شبكة مغلقة من ظلمة وعي ولا وعي ؟.. وتظل الأسئلة حائرة تترى ....
الكب : سوق فصلية صيفية أشتهرت بها موصل الخمسينيات , وكانت تقام على منبسط من أرض رمل وحصى على شاطي دجلة وتنشط فيها الحركة عصرا وفي المساءات لا يباع فيها غير الرقي والبطيخ , وهي تقع على الجهة اليمنى من الجسر الحديدي العتيق للقادم من الجانب الأيسر من المدينة وبمواجهة ما كان يسمى بحديقة غازي ( الشعب حاليا ) ...
- عن بيت الموصل
مغرفتان من مرق وحبات معدودة مفردة من الباميا , حتى زبانها من اهل باب الطوب الدائميين المقربين لها ما زادت حصتهم عن المقسوم لهم .. اما العابرون في ملامح واسماء ولغات مختلفة فالقسمة عندها عادلة تقررها المغرفة دون تحيز ... وهي عطوفة وحنونة , كثيرا ما سمحت لشيخ عجوز او معوّق متعب بعد ان انتفخت بطنه من سيل المرقة وحرائق الشمس وغلبه اجهاد مضن وتعب وجمود ان سقته ماء مثلجا من قنينة كبيرة خاصة بها , وان رأت ان حالته قد اثقلت , سمحت له ان يضطجع على فرشة مهترئة في ظل وفيء شجرة التوت الحامية لموقعها وقدرها .. يستريع وقد تغلبه نومة تطول فلا تنزعج منها ( ام الصبر ) _ وكما يكنونها _ وهي الحنونة الساكنة كنقطة ماء صافية .. ما عرفت الغضب في حياتها وما هاجت حتى لو انقلب قدرها وضاعت المرقة ممرغة في التراب وتاهت حبيبات الباميا في ثنايا الرمل وماء الساقية النتنة .. غلب عليها اسم ( حمدية أم الباميا ) , وكسبت تسميات اخرى كرّمها بها اهل باب الطوب وزقاق سكنها ومن الطاعمين .. ( ام الحنّية ) .. حنان تلك المرأة كان ميزة لها .. كانت سريعة التأثر لاي عارض ضار ومؤذ يلحق اهل الزقاق وحتى على غرباء لا تعرفهم .. ابدا تحتفظ بدمعة في العين لمن هرستهم الحياة وطحنتهم وخذلتهم وغدرتهم , ولكل حائر مع دنياه الرديه _ كما تنطقها _ حتى حازت على لقب مضاف ( ام دميعة ) .. وحتى عندما تفيض بها حالة فرح لسعادة اخرين ..
الشمس تغلي ورمل الرحبة يغلي وقير الطريق الجانبي الضيق يغلي وكاد ان يصبح مسيلا .. ودماغ حمدية غليان ملتهب ، بسمتها و احمرار وجهها و بأقتراب من غضب جنوني غامر هي التي ما عرفت الا نادرا _ ملامح وتراسيم انفعالات غاضبة .. ما كان يخفف عنها هو دار السينما الاليفة لروحها .. اشبعت فرحها بإسماعيل ياسين كانت مطمننة لمشاهدة فلمه الأخير بصحبة شكوكو وماري منيب .. جنونها أسماعيل ياسين وحركات شفتيه وفمه الكبير .. تتذكر جيدا ان اضعف فلم له كان يتجاوز في عروضه الأسبوع والاسبوعين , وطالما امتد لأسابيع , فلماذا اغتالوا فلمه الأخير .. عرض واحد هو الأول والأخير في عصرية تأخر فيها فراغ القدر .. لو انتبهت وعرفت لسكبت تلك الباميا اللعينة على رؤوس الأكلين وأفرغت قدرها وسارعت لموعد أسماعيل ياسين .. ملعونون .. تجاوزتها متعة جديدة .. لماذا فعلوا ذلك ؟ عرض واحد ! لماذا ؟ وهي العفيفة النظيفة نقية اللسان أنزلقت منها شتيمة ملوثة ( هتك الله أعراضهم ) وسرعان ما أختنقت بندمها وتسرعها .. ظلت صامتة واجمة وكأنها أهدرت وأضاعت سعادات عمر بكامله ...
وذلك الحبيب , رغم أنها أحيانا تبدو غير راضية عليه وبحركات فمه البايخة خاصة عندما يكثر من أهتزاز وتدوير شفتيه الغليظتين لمرات عديدة متجاوزا حد المعقول رغم كل سخرياته .. مع ذلك فهو الأثير لديها ابدا والممتع لروحها , وهو من ينسيها بلطفه وأنسه وقفشاته ومكائده المكشوفة المفضوحة عذابات ما تعانيه من لهب شمس كاوية وبخار باميا مغلية ورذاذ نتانة الساقية المكشوفة القريبة ومن نثار رمل يجرح العينين تثيره قوائم أحصنة وكدش وبغال وحمير هرمة عجفاء لحمالين قساة هائجين بجنون السرعة وكأنهم في حلبة طراد .. وهي مع قرفها في أحيان قليلة من صخب و فوض السوق , فقد كانت مهنتها مؤنسة ممتعة نظرها بتلاوين أزياء النساء المزركشة المنقوشة بالزهر من القادمات من قرى الجبال البعيدة اللاتي ما كنّ يتحملن البقاء حبيسات مخنوقات في غرف الفنادق الفقيرة الوخمة الساخنة وهن معروقات اذ لا يحصلن من المراوح السقفية المترنحة الا على تهييج هواء ساخن ثقيل تحمرّ منه العيون وتنفر النفوس , فيجبرن أزواجهن على التجول للتفرج على محال الأسواق المتداخلة المزدحمة مع حزن وحيرة عجز قدرتهن على شراء ما يحلو لهن ويشتهينه فالكثير الكثير على رخصه غال بقرارات أزواجهن , ويأتي البديل عندما يقتربن منها , وقبل ان يعبرنها يلوح لهن القدر المهيب ببخاره ورائحة مخفياته فيدفعن بأزواجهن وبغنج الأقتراب من القدر الأسطوري الأسود ومصفوفات الصحون المعدنية البيض ليسكتن نهمهن في طعام مثير جاهز وقرب شجرة ظليلة .. وكانت حمدية تنحاز لجنسها في مزيد من الثريد مستمتعة بلألاء ألوان ملابسهن الصارخة البهيجة وبما يتجملن به من حلي كثيرة متنوعة وان كانت رخيصة , وهي ما رأت يوما ذهبية تلمع على عنق أو ساعد من كل أمثالهن الا في حالات نادرة ..
ما كانت حمدية تخشى ابدا مزاحمة باعة الطعام في محميتها , فهي بسعر العشرين فلسا قد ضمنت قدوم الأرجل والوجوه والأفواه وشهوة العيون والروائح والبطون اليها .. فقط هو ( سيد جكومي ) .. وهي كانت مرة واحدة عندما أجتاحها شي من غضب وهي تسمع صوته صارخا بوجه بدوي ( غالي .. غالي ) .. ! أهي الثلاثون فلسا غالية من كل هذا الزقنبوت من الكباب مع كاسة شربت وطرشي وبصل وخبز مسمسم وطماطه .. أكلك ليس عندي .. أسرع وأركض برجليك لقدرها , وأملا كرشك من ماء زبالة حمدية , فزبالتها أرخص وهي بعشرين فلسا ولن تلامس منخريك ابدا رائحة لحم .. محلي ليس لأمثالك .. صعق الجائع الغريب وعادر مسرعا مهانا بعار الذل والخجل .. غادر الخائب أشهر دكان للكباب رغم ان كثيرين ممن تورطوا وأكلوا عنده شكوا ان رائحة زنخة كانت تفح من الاسياخ ومع لهب النار فيعافها الأنف والفم واللسان قبل ان تتدحرج غير كاملة المضغ للأسفل , وان شهرة جكومي ما جاءت من طيب الكباب بل أزدهت وأزدهرت من الثلاثين فلسا ليس غير .. ما أستطاعت الصبر على ما لحق بباميتها الذهبية من اهانة , فهاجت في روحها كل سلوكيات بعض نساء الأزقة الضيّقة العميقة الموبوءة من السفيهات الخبيرات بكل فنون الشتائم المحرقة مع ما يرافقها من إيماءات وحركات أيد و أوجه وسيقان وبطون وأصابع وبأشارات منفعلة معيبة مخجلة حتى أنهن لا ينتبهن لعري فاضح قد يكشف منهن الصدر أو الساقين وبهدير ون صواعق بذيئة قد تصحبها بصقات متلاحقة ... أحتمل جكومي حرائق حمدية , أطفا منقله مسرعا , أغلق باب دكانه .. وأختفى في زحام الأرجل و الرؤوس المغادرة .. هدأت قليلا عندما أحست ان غريمها أخذ يترنح من هول ما سمعه ويسمعه جمع كبير من أهل المكان والعابرين مما جعله يكاد ان يصاب بالأغماء والسقوط فترفقت به وسكتت نادمة , فما فعلته بتعريته وفضح مأكله الوسخ ظل حديث السوق لأيام ... عاشقة السينما المصرية .. هي والأخرى الأرمنية مغرمة الأفلام الأجنبية .. كانتا وجهين معروفين دائميين لرواد سينما ذلك الزمان .. حمدية النظيفة عصرا ومساء بعد ان أستحمت وبملبس وقور غالبا ما يميل للسواد تجلس في مدرج الأربعين فلسا في أدوار العصر والمغرب فقط تنتظر بترقب وشغف ما سيؤنس روحها وقلبها من قصص وحكايات مثيرة وان كانت ساذجة في غالبيتها ولكن المؤنسة لكثير من الناس لمعالجاتها الأجتماعية و فكاهاتها ولطائف مقالبها المسلية لجمهور ذلك الزمان .. أمية كانت لا تعرف ما سيفاجئها من أفلام الأسبوع القادمة , رفيقها سهيل سهل لها الأمر بصوته الصاخب الحاد وباللافتة الخشبية العريضة يرفع مساندها بيديه الحجريتين الكبيرتين يجول بها في شوارع المدينة وساحاتها مغريا الناظرين بملونات صور الممثلين ضامنا لسيده صاحب السينما أعدادا من المتلهفين المنتظرين بشوق أسما لفلم جديد .. الأرمنية أصغر عمرا من حمدية .. ربما هي في الأربعين أو اكثر .. كانت قارئة .. عرفها جمهور السينما ولسنين طويلة .. سمراء جميلة مكشوفة الرأس بشعر قصير .. عيناها خضراوان .. هادئة ساكنة صامته .. أبدا معها كتاب .. غالبا بلغة أرمنية أو أنكليزية .. مستقرها في مدرج السبعين فلسا .. تحضر قبل العرض بنصف ساعة أو اكثر ، تمسح المكان والشاشة ومن حضر مبكرا بنظرات سريعة .. تضع نظارتها وتتيه في الكتاب .. فلما ترفع نظرها .. يبدو عليها أنها منتشيه بما تقرا .. ومع بدء العرض وأولى أشارات الإظلام تهجر نظارتها وتدسها في حقيبة جلدية صغيرة و تنتظر بلهفة فلمها الأجنبي ، ما شوهدت في أي عرض _ الأ نادرا _ لفلم عربي .. عشقها العروض المأخوذة عن روايات أجنبية شهيرة زهت بها خمسينيات القرى الماضي .. في فترة الأستراحة تعود لكتابها .. ما لاحظه جمهور ذلك الزمان أنها قلما كانت تكمل فلما .. فهي تنهض قبل النهاية بدقائق قليلة مجتازة عتمة القاعة لباب الخروج ولضوء الشارع وعندما تغادر كانت اذناها تلتقط مقاطع سريعة من موسيقى سمفونية عالمية دأبت دور السينما على أذاعتها قبل العرض بوقت قليل محسوب وكذا بعده ... موسيقى الروح بمقاطع قصيرة من ( شهرزاد ) و ( عايدة ) و ( حلاق أشبيلية ) ومن مستوحيات روح الشرق .. موسيقى لذيذة منعشة تنقل العقل والقلب لشرق ماض بعيد بعيد ..
سهيل أليف حمدية قارئة صور اللوحة البهية دون كلمات وملتقطة مواعيد العروض من تأتأة وفأفأة فمه الواضحة عندها .. كان حاملا لوجه عنتر وصلابته .. كان أنسانا هادئا وديعا موصوفا ظلما ببصمة جنون , وهو مع قوته ما ألحق أذى بأحد وتحمّل لسنين .. وهو ان غفر للصغار عبثهم الذي ما رأى فيه غير مزاح وشيطنة , فقد تحمل وما كان يشقيه غير أذى الحمقى والكبار من العقلاء , ما رد على أحد وما رفع يده حتى مع أقسى حالات نزق الأشرار من محبي ومدمني ألحاق الضرر بالاخرين قولا وفعلا .. حتى كانت تلك الواقعة التي لم تنسها المدينة رغم مرور عمر من السنين عليها .. أحب سهيل ليالي
ـ ( الكب ) ساهرا مع نسمات وأضواء دجلة وبريق النجوم معزولا في طرف المكان على تخت خشبي متكسر , متأملا
بِصَمته الأزلي جمال هندسيات مصفوفات أكوام الرقي والبطيخ مندهشا مسحورا بقدرة البائعين وفنونهم في طرائق تجميعها بأكوام دائرية مدهشة وكمثلثات ومربعات ملتمعة بأضواء اللوكسات المشعة .. صورة الحادثة قد تبدو عنده غائمة الان .. فجأة تحرّش به سائق من مجموعة .. يغسلون سياراتهم بالمياه الضحلة على حافات النهر العميق .. يتسامرون ويشربون ويدخنون .. هذا الواحد صرخ بسهيل : أنت .. أنت
شيبوب ماذا تفعل هنا ؟ من دلك على هذا المكان .. هذا المكان ( مال أوادم ) , ما الذي يجمعك بهم ؟ مكانك وقبرك ومزبلتك في شارع حلب بصرخاتك الجنونية الهائجة عن أفلام ممثلوها قوادون وغانيات وعاهرات .؟. ألا تستحي وأنت تمدحهم وتمدح الفلم وتكذب على الناس .. أنت سافل .. قم وول من هنا .. وكرر أكثر من مرة :
هذا المكان أستراحة للأوادم وليس للحمير .. ما تأثر سهيل بكلمة مما سمعه ولم يلتفت حتى اليه .. كرر السائق قذاراته بلؤم وخسة .. ما رف لسهيل جفن مما عزّز رأي السامعين بأنه مجنون بليد وربما حتى أطرش ومع كل هذا العواء بألوان الشتائم وحتى بهتك عرض الأم .. وظل سهيل جامدا مذهولا كصخرة .. ترك سائق سيارة أخر ومساعده سيارته وأنضما بلسانين قذرين بشتائم طالت حتى أعراض الاخوات .. بحركاتهم الماجنه ومقذوفات جديدة من ألسنة وسخة جعلت منه ومن صمته أضحوكة وتسلية لليل للبائعين والمشترين وساهري ( الكب ) ومن المستريحين من سباحة ليلية مرهقة ومن صيادي اسماك .. ما تحركت ولا تململت أو أهتزت قليلا صخرة سهيل , لكن تلك الصفعة المفاجئة الغادرة _ بغفلة من سهيل _ وقد جاءته الضربة من الخلف ومن سائق أعور قميء على رقبته أحس بأذاها ولؤمها وحيوانيتها ألما حادا كجمرة نار تجاوز رقبته مسمما روحه وكل جسده .. مرت عليه لحظات وكأنه أنفصل بها عن عالم الوجود .. ثم حصل الهلع المفاجي الذي لون كل الوجوه برعب أنتظار حالة موت قاس .. ذلك الوديع أجترح برده بعد وعي الضربة حديثا للمدينة طال لسنين ... معروف ان سواق ذلك الزمن _ وبخصوصية بعض سواق باب الطوب العاملين على خطوط سير لأطراف المدينة و أحيائها الحديثة .. كانوا من القوة والشراسة والبطش ما يسحق ويدمر ويتلف أية قوة فردية وحيناً كانوا يتجرأون بعدوانية فاتكة على قبيلة من شرطة ...
حتى النساء المقهورات في عمق ظلمة الأزقة الكئيبة - ومنهن عجائز - كن يخرجن مسرعات حاسرات حافيات لدعم عدوانيات أزواجهن أو أخوانهن من النساء و دون ان يسألن عن سبب المشاجرات ومن كان فيها البادي لرسوخ علمهن ان السواق - وهذا ما تعاملوا وألفوه منذ سنين - هم دائما البادئون بالشر ولأتفه الأسباب وحتى دون الحاجة لأختلاق وتوفير أي سبب يحفز لمشاجرة تتسع لمعركة.. يخرجن كنذير صاعق صارخات متهتكات بألسنة من خراء قاذفة مندفعة بشتائم حارقة كلبؤات هائجة ...
وعندما يبلغ بهن الغضب مدياته الجامحة يرفعن ثيابهن ملمومة باتجاه الرأس كأنهن سينزعنها ويتحررن منها .. مطبطبات يضربن بأيديهن منحدر البطون مع دعوات هاتكة للعرض ومصحوبة ببصقات متلاحقة ..
عندها لا يجد منكود الحظ _ وغالبا ما يكون غريبا أو مجرد عابر _ الذي ربما تورط معهن بكلمة غير ان ينقذ نفسه هاربا بقفزات كنغر ملاحق من وحش دموي
ولكي يحرر جسده و كرامته من ضربات نعال بعد ان أصابه رجالهن بكدمات جارحة وتركوه لهن ليكملن أستحمامه وزفافه ...
سهيل معروف بجسده القوي المتماسك المتصلب وبيديه الكبيرتين الخشنتين ككلابتين .. هل الجنون شكل أستحالة مضافة حققت ما فعله سهيل .. لا أحد يصدق ان ذلك المسكين الساهم القانع بصمته ومبيته في دار السينما وبمصباحه ينير درب السائرين في ظلام الفلم وبمتعته بأفلام مجانيه وجولات شوارع أعلانية .. قد أستحال ملتهبا بشعلة من غضب مخيف وثأر لصفعة مفاجئة قاسية ظالمة مستهترة غادرة أحرقت روحه وعينيه قبل رقبته .. وساد خوف لطريقته العنيفة الماكرة .. خوف كبير وهلع تسرب حتى لنفوس سواق أخرين أخذتهم الرجفة من رده وفعله الصادم وما كانوا قد تورطوا بشتيمة ضده وخشوا ان يلتبس عليه الأمر فيتوهمهم من شاتميه لذا فقد نأوا بوجوههم عنه مختبئين بعتمة الماء وراء هياكل سياراتهم المغسولة .. ما حصل لسهيل ربما نسيه بعد ساعات قليلة , وما وعى حجم ما ألحقت كلابتا يديه ونطحات رأسه الثقيلة ورفسات ودفسات رجليه وبحذائه الشتوي السميك كبسطال من كدمات وجروح كادت ان تجعل أحدهم ينفق .. وحفرت على وجه الأعور أخدودا وشرخا طريا جديدا مضافا لشرخين شاحبين قديمين ..
هياج مخيف أكتسح عقله وروحه وجسده .. أستحالت ضرباته مطارق وسكاكين أنهكت جسدي الشقيين النتنين ببقع مدماة .. ضربات رأسه ويديه ورجليه بدت تؤدي طقوسا انتقامية خارقة للاعب ومهرج سيرك من مهمومي ومغدوري الحياة وبدا أيضا وكأنه دور منتقم تعيس مخذول مجروح الروح في مسرحية غضب , يسعى بضربات متلاحقة ليمحو أثر الضربة الغادرة المفاجئة القاسية التي طالت رقبته ...
تلك الواقعة ظلت تهتز في النفوس والأذهان وما تبخر رعبها من الفاعلين رغم مرور سنين , فاذا صدف أن مر أحد المعتدين في شارع حلب ولمح ظل سهيل , فان رجليه تطيران به لأقرب زقاق أو مخبأ خشية أن تلتقط وتستذكر عينا سهيل وجها عدوانيا كريها أحرق روحه وحرمه من متعة صحبة الكب ودجلة وعذوبة مساءات الأصياف , والأكثر خشية أن يتلمس ويستذكر سهيل وجع ومهانة تلك الضربة ...
بعد نومةٍ لذيذةٍ طالت بسهيل حتى ضحى اليوم التالي وهو مما لم يحصل لسهيل الا نادرا .. هل تراءى ما حدث له كمشاهد عنيفة قاتلة مما تثيره وتفرحه أفلام الكاوبوي , لكن ما أحزن سهيل أنه سيحرم نفسه من جمال وسحر أضواء دجلة والكب وبمتعه الليلية بعد تعب نهارات طويلة صائفة .. هل هو وعي داخلي قد حسم أمر الحرمان من مكان جميل طالما هو موبوء بمثل أولئك الأشرار .. أهو وعي لا يدركه العقلاء وخصيصة من أسرار المجانين وغوامض دواخلهم ؟ هل هو قرار عقل أو جنون ؟ أيمكن مزج الأثنين معا مما أوحى لسهيل بقرار نهائي للحرمان ولإنسان مستور رغم خساراته وحرمانه .. بعدها لم يشاهَد سهيل ولأصياف سنين متجاوزا الجسر العتيق للقاء النهر والرمل وساحل دجلة والأضواء وأكوام الرقي ومقهى الرمل للرجل الفقير بتختين خشبيين وأقداح شاي وسطل ماء بارد يطفي لهب عطاش تموز رغم أن الوقت ليل .. ومر العمر .. مات صاحب السينما فيتّم سهيل .. هُدمت بعده الدار .. شاخ سهيل وبدا لكل ناظر يائسا حزينا مخذولا ضعيف البنية مصفرا .. ضاعت أو اهترأت لوحة الأعلانات الخشبية رفيقة عمره المحببة رغم أنها كانت ثقيلة على يديه صعبة الموازنة وهو يديرها يمينا ويسارا والى الأمام لتصافح العيون والأشواق ... لجأ لشارع حلب فكان له المبتدى والمنتهي .. لم يستجد أحدا وما تسوّل , فقد وفر له عارفوه ومحبوه ومتذكرو تلك السنين البهيجة وبأقل القليل من حاجاته مما عاونه على المطاولة والبقاء والأستمرار لسنوات اكثر .. ما كلفتهم أدامه حياته شيئا , وما أحتاروا في تدبير عيشه , ما صرفوا كلاما كثيرا في معالجة أمره فأتفاق الصمت في دواخلهم الرحيمة وجد حلا سريعا كريما لمعاناته فنأوا به عن الموت جوعا بعد أن عرفوا له أستحقاقه أن يظل حيا وان بحياة شحيحة .. تآلفوا في إنقاذه مستثارين
بوحدانيته عاريا في خضم ومضطرب الحياة .. ملمومين على أنفسهم بمحبته وصمته ووداعته وقناعته أن تظل دكات شارع حلب مقاعد له نهارا ورحبات مداخل الفنادق مأوى للياليه ..
مرت سنون .. تهاوت أعمار .. ما رضي الأكرمون أن يظل سهيل جليس نهارات طويلة حرا وبردا على مقاعد حجرية .. إستأنسوا معهم قلب صاحب مقهى صغيرة مخبوءة في خانق زقاق .. أن يسمح لسهيل بدف مقهاه وان يحتسي شايه ويبيت فيه ..
وأن الا يكلفه بحر الصيف الا برش المقهى وترطيب واجهته الرملية بالماء .. طابت أيام سهيل وبدا مسرورا .. ومع حالات سروره ظل معانقا لطبيعة صمته وصفناته الطويلة .. شاخ وغمر البياض رأسه مظللا تراسيم محفورة وتجاعيد في سمرة وجهه .. نحل كثيرا فبدا بوزن طفل أو خروف .. طالت ساعات صمته وتخللتها لفترات أبتسامات مضيئة .. أهي تذكارات تهش على خاطره فيبتسم لها .. هل هو وجه صاحب السينما وقد نسى حتى ملامحه الأليفة ؟ هل هي اللافتة الخشبية تبشر بفلم جديد ضاحك ؟ هل هي ظلمة القاعة أم الأنوار الكاشفة القوية بعد أنهاء العروض ؟ هل هي حيرته مع الأرمنية وأستغرابه من كتابها ونظارتها وعدم صرف كلمة منها له ولغيره ؟ هل هو وجع الصفعة وقد صارت ذكرى غير أليمه بعد أن برئت من جرح الروح ؟ أهو ما كانت تتراقص به قطته الجميلة بلون القطن وبعينين براقتين وهو يتخمها بلذيذ الطعام والحلوى في مهجعه الأرضي المعزول بزاوية من مبنى السينما ؟ أهي قفشات أسماعيل ياسين مصحوبة بتعليقات مازحة ومرّة عن شفتيه البلهاوين ؟ أهي تلك الكلمات الناعمة من حمدية وهي تناغيه في اكثر من خلوة ؟ أم أن رائحة الباميا أهاجت منخريه ومعدته وشهواته ولذائذه من جديد ؟ هل كان بقدرته أن يستذكر أيامه ومن عمر مضى فيفرح بها أو يشقى ؟ أم هي مجرد تهويمات عقلية مختلطة متخلخلة أشبه ما تكون بمضطربات تيه في شبكة مغلقة من ظلمة وعي ولا وعي ؟.. وتظل الأسئلة حائرة تترى ....
الكب : سوق فصلية صيفية أشتهرت بها موصل الخمسينيات , وكانت تقام على منبسط من أرض رمل وحصى على شاطي دجلة وتنشط فيها الحركة عصرا وفي المساءات لا يباع فيها غير الرقي والبطيخ , وهي تقع على الجهة اليمنى من الجسر الحديدي العتيق للقادم من الجانب الأيسر من المدينة وبمواجهة ما كان يسمى بحديقة غازي ( الشعب حاليا ) ...
- عن بيت الموصل