كان اسحاق ابراهيم قلادة طالبا في السنة الثانية أو ربما الثالثة في مدرسة طنطا الثانوية, في الوقت الذي صرت فيه أنا طالبا بالسنة الأولي بمعهد المعلمين العام في مدينة دمنهور في العام الثاني والخمسين بعد التسعمائة والألف. عمري آنذاك أربعة عشر عاما وعمر اسحاق دون العشرين بقليل. كنا أبناء حي واحد تمركز فيه إخوتنا المسيحيون الذين كانوا نعم الجيران, يتمتعون باحترام الكافة, يتميزون بحسن المودة, ويشتهرون بالصدق والأمانة في كل تعاملاتهم. إبراهيم أفندي قلادة كان واحدا من أعيانهم. لم أكن أعرف شغلته بالضبط, هل كان يملك أرضا زراعية يفلحها ناس آخرون بالإيجار أو بالأجر؟ وهل كان تاجرا للمحاصيل والأقطان؟ أو موظفا في المديرية؟ كل هذا جائز, إنما هو علي الدوام نظيف الملبس كواحد من أعيان البلدة: الجلباب الصوف في الشتاء, والبوبلين صيفا, والطربوش في جميع الفصول. كانت قامته إلي القصر أميل, نحيف البدن في صلابة, جارم الأطراف والملامح, يتغضن وجهه بأخاديد لينة تمنح وجهه عراقة وغني ومهابة. حكيما كان في كلامه القليل الموجز, الصادر عن تأمل سابق علي القول, فردوده وتعليقاته أو تعقيباته دائما مفحمة غير قابلة للجاجة إلا أنها لطيفة مهذبة اللفظ قاطعة العبارة سمحة اللهجة والاشارة. يجلس مقصيا علي ناصية حارتهم الملتحمة بشارع داير الناحية أو علي مصطبة دكان المعلم رزق الله الخياط يستمع إلي الراديو في شغف, أو إلي المتحدثين من حوله, فلا يتدخل في حديث إلا حديث السياسة باعتباره مشاعا وعاما, أو يدخن السجائر اللف سارحا في ملكوت الله. قد رزقه الله ثلاثة أبناء ذكور, أكبرهم كان موظفا مرموقا في إحدي المدن البعيدة لم أعد أذكر اسمها ولا اسمه. الابن الثاني قيما أذكر اسمه أنيس وكان آنئذ علي وشك التخرج في احدي كليات جامعة الاسكندرية لعلها الزراعة أو ربما التجارة. إسحاق هو ابنه الثالث والأخير. لم يكن طويلا كأخويه, كذلك لم يكن قصيرا قزعة, ممتلئ الجسد في شكل نحافة خادعة, رأسه أقرب إلي صلع مبكر, أو هكذا تخدع جبهته الكبيرة المدورة. أبرز ما في وجهه عينان صقريتان, فيهما اتساع غير عادي لكنه غير ملحوظ للوهلة الأولي إذ أن البريق المشع منهما بقوة البصر والذكاء يخطف عين الرائي فيتوه في عمقهما متتبعا الحركة الناشطة لييلتين سوداوتين كأنهما ظل لزورقين بعيدين في حيد من خليج, تعلو بهما الأمواج وتهبط, فيغرقان في زبد البياض لوهلة خاطفة ثم تظهران, في اقتراب وابتعاد. إذا حدق في شخص أربكه وأشعره بأنه ربما يسخر منه أو ربما شاهد عريه الداخلي. هوايته التي اشتهر بها بيننا هي الصيد بالنبلة, حيث كان بارعا في صيد العصافير من فوق الشجر أو علي شواشي حطب الأسطح أو حتي وهي طائرة. دقته في النشان مساوية لسرعته في الإطلاق فلا تخيب أبدا, يثبت الحصاة أو الزلطة الصغيرة في مرقدها الجلدي, ويشد الخيطين المطاطين المربوطين في قبضة من سلك مبروم متين علي شكل مضرب الكرة البنج بونج, يشد علي آخر ما في الخيطين من مرونة وتمدد, فيما يده اليسري ممسكة بعرقد الحصاة, في لمح بالبصر يفلت الحصاة, فيرتد الخيطان بسرعة ينتج عنها قوة دفع تحيل الحصاة إلي رصاصة تندك في جناح اليمامة أو تحت إبط الهدهد أو في رأس القبرة فتهوي إلي الأرض تفرفر, فيلحق بها قبل أن ترتطم بالأرض وتموت. في ذلك الحين كانت المذاكرة علي شواطئ القنوات ووسط الحقول وتحت الأشجار قد أصبحت عادة شائعة بين طلاب بلدتنا الذين كثروا في عهد الثورة بصورة ملحوظة ومفرحة. وكنا نلتقي اسحاق وفي جيبيه شيئان: النبلة والكتاب, يصطاد أو يقرأ. ذات تمشية علي إحدي القنوات المتاخمة كنت أمشي وعيناي مركزتان علي كتاب مفتوح بين يدي. فإذا بي ألتقي اسحاق جالسا تحت جميزة وارفة فوق ساقيه عتيقة يسمونها كباس المعلم عبده. والمعلم عبده هذا أحد المسيحيين الأثرياء وصاحب هذه الأرض المترامية الأطراف. النبلة كانت في حجره, قد التهي عنها مستغرقا في القراءة, منفعلا بما يقرأ, لدرجة أن وجهه قد ضوعف حجمه حيث نشطت كل عضلة فيه, فامتلأت تقاطيع وجهه بالدم وازداد بريق عينيه تألقا. عندئذ انتابني شعور بالغبطة, تمنيت أن أعيش لحظة استغراق كتلك, بكل هذا التركيز, ثم تطورت الأمنية إلي رغبة ملحة في قراءة هذا الكتاب علي وجه التحديد لعلني أكتشف فيه ما يتكشفه إسحاق واستمتع هكذا مثله. مساء الخير ياإسحاق. هو الذي شجعني علي اقتحامه إذ ما كاد ظلي يزحف نحوه حتي رفع رأسه وأضاءت وجهه ابتسامة عريضة شجعتني علي التقدم ومصافحته ثم الجلوس بجواره علي مدار الساقية, وهو تلك المصطبة الدائريةالعريضة التي تدور فوقها البهيمة المعلقة في شعبة الساقية, قلت له: اراك مستغرقا ومستمتعا, فالكتاب إذن ليس من الكتب المدرسية بالتأكيد, كان الكتاب مطويا علي اصبعه السبابة المدسوسة بين الصفحات عند الصفحة التي كان يقرأ فيها, وكان غلافه ملفوفا بورق السوليفان الأحمر القاني, وهو كتاب من القطع الصغير الذي يمكن دسه في الجيب بسهولة, قال اسحاق بنفس الاستمتاع الذي كان يقرأ به: هذا هو العدد الجديد من سلسلة جديدة اسمها كتابي يصدرها ويحررها أديب مشهور اسمه حلمي مراد, تصدر شهريا, وفي كل عدد ينشر تلخيصات وافية لأهم وأحدث الكتب العالمية الشهيرة في الأدب في الفن في العلم في التاريخ, وأشهر وأهم كتب التراث العربي النادرة, وقصص وروايات قصيرة, ومسرحيات ورحلات ودراسات ومقالات في النقد وحوارات مع شخصيات ذات شأن وهكذا وهكذا, ثم أضاف: أنا مواظب علي اقتنائه كل شهر وثمنه عشرة قروش, ولكي يشبع فضولي قدمه لي لأتفرج عليه, فأمسكته من حيث كان اصبعه الفاصل بين الصفحات, استأذنته في فك طيات الورق السوليفان الأحمر القاتم, فإذا الغلاف الاصلي في غاية الروعة والجمال, عليه لوحة بالألوان السخنة, عبارة عن جسد لامرأة فاتنة لرسام هولندي شهير, وتحتها تنويه عن وجود دراسة عنه داخل العدد, الطباعة فاخرة, جلد سميك وورق ناعم, ورسوم وصور فوتوغرافية, ما كل هذا الجمال؟ كتاب في حجم كف اليد يحوي كل هذه المواد, مأدبة ثقافية مشبعة ليس يعيبها سوي ان العشرة القروش تكاد تكون نصف المصروف الذي أتقاضاه من أبي طوال شهر بأكمله في مدينة تبيع كل شيء حتي الماء والهواء. فلما استطرد اسحاق متحدثا عن الكتب والمجلات الأدبية التي تصدر في مصر ويواظب هو علي شرائها أو استعارتها اتضح لي ان هناك عالما بأكمله ليس عندي اية فكرة عنه: كتابي, الكتاب الذهبي, الغد, الرسالة الجديدة, كتب للجميع, اقرأ, مجلة الأدب, مجلة قصتي.. الخ. وكان الأدباء الذين عرفتهم هم طه حسين وتوفيق الحكيم وعباس العقاد والمازني ومحمود تيمور وعلي الجارم ومحمد فريد ابو حديد وعبد الرحمن الخميسي, وكنت قد تلقيت نصيحة مهمة من كل من الشيخ محمد زيدان عسر والشيخ عبد الفتاح جابر الذي لم يكمل هو الآخر تعليمه الأزهري, بأني إذا أردت ان أكون كاتبا وأديبا بحق فلابد أن أقرأ مقدمة ابن خلدون وكتاب الأمالي لأبي علي القالي وكتاب البيان والتبيين للجاحظ, وكتاب أدب الكاتب لابن قتيبة, ومن حسن الحظ ان وجدت هذه الكتب كلها في مكتبة ابن عمي الشيخ علي محمد عكاشة, فكان أبي يستعيرها منه علي اسمه ثم يتركها في متناول يدي, مبديا استعداده, لان يشرح لي ما يغمض علي من المفردات والجمل المركبة, مقدما لي نصيحة لاأزال اشكره عليها الي اليوم اذ انني لم اتوقف عن العمل بها حتي الآن, تلك هي ان احتفظ بكشكول ادون فيه ملخصات ما اقرؤه, وانقل بخط يدي ما يستهويني من طرائف وملح وأبيات شعر تصلح للاستشهاد بها وتضمينها أي خطاب يعن لي فيما بعد. حدثت اسحاق عن هذا, وسألته إن كان هو الآخر يفعل ما أفعل, فقال: لا, ثم ابتسم ابتسامة شعرت انها ربما تسخر مني, أو ربما أوهمني بريق عينيه النفاذ بهذا, لكنه سرعان ما استدرك قائلا ان الطريقة التي اتبعها في القراءة مهمة أي نعم بل هي مهمة جدا جدا ولكن الأهم منها هو التحاور مع الأدب المعاصر ابن اليوم والساعة!.. وحدثني عن كتاب محدثين لم أكن سمعت عنهم أو قرأت لهم شيئا, لم يعلق بذهني منهم سوي اسم الدكتور مصطفي محمود الذي أطنب في الحديث عنه بفخر باعتباره من مدينة طنطا, وكان يبدو كأنه علي علم بتفاصيل حياته من كونه متخصصا في طب الأمراض الصدرية ويفهم في الفلسفة والي ذلك يعزف علي آلة القانون أو ربما آلة العود ولا مانع لديه من المشاركة مع فرقة موسيقية في إحياء أحد الأفراح. من يومذاك أصبح اسحاق من أقرب الناس الي بين طلاب بلدتنا أصبحت أحب مجالسته والتمشية معه, والاستماع اليه, والإفضاء له بكل ما يدور في ذهني من أفكار.
خيري شلبي
خيري شلبي