أسمى أنطوان بافلوفيتش تشيخوف.. وأنا عندكم وفي كتبكم تشيخوف أو تشيكوف أو جيكوف، وأهل بلدي ينادونني جخوفا.. ولدت سنة 1860 وأنتهيت في 1904، لم أنته في كتبكم وعيونكم وحنان محبتكم.. أنتم تعيشون وقد تجاوزتم القرن العشرين، وأنا ما زلت أليفاً بينكم ليس فقط في قصصي بل مع مسرحياتي التي أنتشت بلغتكم الجميلة وكثير كثير من لغات أهل الأرض وفي مسارح وأضواء المدن الكبيرة وحتى في بعض البلدات الصغيرة.. أستأنستم (بالخال فانيا) و (بيستان الكرز) و (النورس) و (الأخوات الثلاثة) و (أغنية التم) و (الدب) وأخريات.. لم أنته، متواصلاً معكم ومع أحزانكم المعمّرة ومع قليل من أيام سعاداتكم بفرح الحياة... قد تأسون لموتي مبكراً، وهل يموت من رسخت حكايته عن الحوذي المنكوب وحديث الحصان في ضمائر كل شعوب الأرض.. هذه الحكاية وشكوى الحزين –في الأقل- هي عمر طويل لي ربّما سيمتد لقرون، وهذا يكفيني تعويضاً ومسّرة.. كتبت عشرات من القصص وقد نسيت وقائع وشخوص وأزمنة كثير منها، لكن ما رسخ في ضميري هو ذلك الحوذي المهزول وقد صار الكل جدراناً صمّاء عمياء لسماع كلمات من عذابه فلم يجد غير حصانه، صبّ في أذنيه نشيج حزنه.. كان الحصان ذاهلاً وهو يحدّق في صاحبه بعينين حائرتين، لم يضجر ويتأفف من دفق شقائه وهو يروي له بتفصيل موت ولده الصغير.. هي لم تكن محنتي وحتى محنة ذلك الحوذي.. هي هذا الموقف المشوّه عندما تعمي العيون وتنغلق الآذان حتى عن سماع خبر موت طفل.. عندها وحتماً فأن مثل هذه الحالة المأساوية ستودي وتقود البشرية لكوارث بشعة، وهذا ما نسمعه الآن من طيور الحياة وهي تنقل بصراخ وحيناً بهمس أن الطفولة ما عاد أحد يتنغّم ببراءة وجودها وكلماتها بعد أن انتهت أو انهوها موتاً وقتلاً وجوعاً وعرياً وحفاء وتشرداً، وما عاد أحد يتحسس ولو بضآلة أو يجد فيما يحصل لها عاراً...ـ
عانيت كثيراً ولكن كل معاناتي ما شكلت شيئاً مع بؤس وحرمان غوركي.. في الأقل أنا كنت طبيباً، وعملي رغم صعوباته مع ظروف الفقر والقهر وقرى الجليد البائسة المعزولة والناس اليائسين.. مهنتي ضمنت لي عيشي، أما غوركي فما كان يأمن لتوفير خبز يومه..ـ
غوغول كانت أحواله مطمئنة وكذا تورجنيف, تولستوي هو الوحيد بيننا، كان أشبه بأمبراطور وصاحب أقطاعية وقصر ريفي وسط مزرعة بهيجة، أقطاعيته وجدت لها متسعاً في روحه وضميره فلم يتردد في تحرير فلاحيه من العبودية وتوفير ظروف إنسانية لمعيشتهم وهذا ما أهاج جنون وكراهية زوجته.. كانت متكبرة مغرورة وقد احتقرت كل من دونها من البشر وحتى زوجها النبيل وقد رأت فيه مغفلاً أضاع كل شيء بلحظة من قرار لم يتراجع عنه.. تنازل لهم عن الأرض وكانت بكراً معطاءً وبكل خيراتها وأرباحها.. ما سلم يوماً من اداناتها وبلغة من شتائم مرذولة.. هي هي في موقفها الصلف الراسخ وحتى لو كان زوجها، حتى لو كان تولستوي.. هذه كانت لعنة القدر والزمن على تولستوي.. كان يشكو لي منقبض الروح: الملعونة الجاهلة بقدر ما كانت تأنس بروائح الطعام المثيرة والعصائر المثلجة وهوس الرقص في قاعات الضوء المغلقة حتى بعد أن تقدم بها العمر، فقد كانت تشمئز من رائحة كتبي وأوراقي ومكتبتي وكثيراً ما رددت أمام الحضور من ضيوفنا أنها بقدر ما تتباهى بكل غرف القصر، فأنها تشعر بحرج وخجل عندما يرغب الضيوف للاطلاع عليها، فما كانت غرفة تولستوي عندها غير قمامة.. بسبب فوضى تولستوي وتهكمه على مبالغات نظافتها وحياتها النظامية المتشددة لحد الكراهية،.. وهو لم يكن تعنيه كل غرف القصر الباذخة وأيوانه وقاعته.. هو كان يريد فقط أن تتركه حراً مع غرفته وكم كان يكره مكنسة الخادمات وهي تقترب بنثار الغبار من كتبه وأوراقه الساحرة.. وهي ما كانت ترى في سهراته الليلية الطويلة في غرفته الأنيسة غير عبث وقلة عقل وضياع عمر...ـ
هي أحبته بجنون في البداية وتألفت معه كأقطاعي مترف وبمنزلة اجتماعية مثيرة، لكنها عندما انكشفت لها حكاية الأديب تغيرت وأنهار كل شيء..ـ
نهاية ذلك الصوفي الحكيم مبدع (الحرب والسلام) و (أنّا كارنينا) و (الحاج مراد) مع تلك الحمقاء كانت متوقعة وبأسى وترقب من الجميع، فما حصل له لم يكن مفاجأة بعد أن اختنقت روحه بعقم أفكارها وإرادتها المطوقة الهاتكة لسلامة أمنه الأدبي وهدوء النفس ليتواصل أكثر مع منجزاته الأدبية والفكرية التي كان العالم كله ينتظر جديدها.. لكن عناد وشراسة المرأة العدوانية عطلت فيه كل أمل ومع الشيخوخة الواهنة والعجز وتعب العمر.. تلك المخلوقة الشائهة صوفيا بيرز وهذا هو أسمها ما كان لأحد أن يسمع به لولا اقترانه بأسم تولستوي.. بلغ الضجر والقرف بتولستوي نهايته الأليمة.. ففي ليلة ضبابية ثلجية كئيبة.. سرحت قدماه في عمق الغابة.. خرج وهو يحمل أسرار موجعاته فما كان يريد لأحد أن ينتبه لغيابه.. بعد أن أجتاز الغابة المظلمة تاه في دروب الثلج الصخرية المقفرة ليجدوه بعد طيلة طويلة ونهار بعدها متجمداً بحدود قرية ستابو، كومة من جسد مضيء بالثلج بملبسه الصوفي السميك وحذائه المطاطي ذي العنق الطويل وقريب منه قبعته الملوثة بالطين.. قبعة اللباد التي ما نفعته بشيء ومع عصاه المثلومة.. انتهى تولستوي وصار تاريخاً وذاكرة وذكرى، أما غوركي وأنا معه فقد تكفل بنا السلّ وكما حصل لشاعركم.. أنا تكفل السل بنهايتي المسرعة، وغوركي تأخر بعدي لسنين.. جهدي الجسدي لم يكن شيئاً مقارنةً بتعب غوركي المضني.. عمل حمالاً وحارساً وكادحاً في حصاد القمح. كل ذلك تحمله، ولكن ما لن ينساه سنيّ أكتوائه فرّاناً في وهج النار ولساعات طويلة، كان وهو يواجه شعلة اللهب الغاضبة وقد تعرى من قميصه يتأمل نثار الثلج والبرد في طريق العابرين، كان يؤمل أن يخفف أحساسه بمرأى الثلج لفح النار على وجهه وكان أملاً مخادعاً مقهوراً لسطوة واقعه في فرن ملتهب.. غوركي كان صديق عمري بوفائه ومحبته لي وتقدير كتاباتي.. رغم مشغولياته بمهنه المؤذية له كأديب ومع أنهماكي في مهنتي وجولاتي كطبيب في القرى وعلى دراجتي، فقد كنا نلتقي في ليالي سامرة نخلق مسبباتها.. رغم صرامة وجه غوركي وكبر هيكله الجسدي فقد كنت أرى فيه قلب طفل وحنان إنسان وديع.. غوركي يشعر أبداً وكأنه هو المسؤول عما يقع للآخرين من ظلم، فيسعى لدفع الظلم ولو احتجاجاً وإدانة وكتابه... وعندما كان يستذكر تولستوي، فقد كان يطيب له التركيز على تولستوي كمصلح اجتماعي ثائر أكثر مما يتوقف عند ابداعه الأدبي رغم إعجابه الكبير.. أرى دموعه وهو في حالة حزن ثقيل عندما يتذكر قرار تولستوي بتحرير عبيد الأرض ويقول لي: لقد سبق تولستوي كل أوربا وأمريكا وقوانينها الداعية لتحرير العبيد والاعتراف بآدميتهم.. تولستوي كان كائناً سياسياً قبل أن يكون أديباً...ـ
دوستويفسكي كان أكثر رعباً من الحياة، لذا فقد كشفها وفضحها وعرّاها وخلخل أسرارها وخفاياها الدفينة، وكان أميل منا لمعالجات سايكولوجية لشخوصه من مرضى النفس وحتى من الأصحاء، وبعكس غوركي ما كان يأبه للسياسة والإصلاح رغم أنه كان يستشرف لروسيا العملاقة بتنوع جغرافيتها وبناسها الصابرين أملاً عمّقته ثقة مطلقة بالإنسان الروسي.. ورغم كرهه للسياسة وبشكلها المباشر فقد تورّط أو ورّطوه بتهمة مشاركته في مؤامرة لاغتيال القيصر أوصلته لقرار السلطة بأعدامه رمياً بالرصاص وكادت طلقات الحرس أن تمزّق رأسه وجسده لولا قرار سريع ومفاجئ بتبديل الحكم بالنفي لسهوب سيبيريا الجليدية القاحلة عبر مسيرة حاشدة بالآلام وليعمل هناك مع جموع من السجناء من ذوي الأحكام القاسية الثقيلة ومع العبيد لسنوات في أعمال السخرة من الحفر ونقل الحجارة ورصف الطرق بلقيمات تكاد تسد وتسكت غائلة الجوع وبدعوى أن ما يفعلونه معهم هو لإصلاحهم.. الكاتب الكبير الغامض صاحب (الجريمة والعقاب) و (الأخوة كرامازوف) كان يريد ويسعى ويحلم بإصلاح المجتمع فقهروه بليالي سيبيريا المضيئة بالثلج لإصلاح ما رأوه أعوجاجاً فيه...ـ
تحمل ما تحمل بصبر نبيّ وإرادة سحرية عنيدة ومع مشاهد الموت وقد بدت له مألوفة في هذا المكان.. وكانت النتيجة ثمرات كاوية موجعة من الوصف الإنساني.. أهداها لتتملاها البشرية المقبلة في كل أرض الدنيا...ـ
كان تولستوي واقعياً وأكثر واقعية منه غوغول.. مقولة: (كلنا خرجنا من معطف غوغول) كانت ذروة أعجاب وحباً ولم تكن حكماً نقدياً فرغم حميمية وإنسانية وثراء اللغة عند غوغول فلا أحد يخرج من معطف أحد ولكل معطفه الخاص حتى مع التقاء وتشابه الأساليب ووجهات النظر للأدب والحياة.. لا بصمة تتطابق وتشبه أخرى وأن بدا ذلك ظاهرياً في عوالم القول والحكي والابداع.. ومسار دستويفسكي كان عمق النفس البشرية ومضطرباتها.. ونقل لي طائركم.. طائر الحياة لطائر المقابر والموتى أن تسميات وتوصيفات كثيرة سّودت كثيراً من المقالات والبحوث.. واقعية، واقعية أشتراكية، اجتماعية، نقدية، ومعها غرائبيات واقعيات السحر والأساطير والخرافات والأحلام.. ما كنا نعنى بشؤون النقد كثيراً وما عرف زمننا هوسكم بمبالغات التنظير وخفاياه ومنزلقاته وبنيوتاته وتفكيكاته واغتيال المؤلف وصولاً لموته، وما انشغلنا بحكايات الحداثة وما بعدها وما بعد بعدها.. كنا نكتب فقط وبطموح وأمل أن تصل لعقول الناس وأرواحهم وأن تحقق صداها وبما يخفف عنهم ثقل الحياة وكوابيسها المرعبة وفي عموم أرض روسيا الشاسعة الكئيبة يومذاك.. أنا كتبت ومسار قلمي حدّد لي قيمة الإنسان على هذه الأرض.. كتاباتي ومسرحي كان مضمونها هذه القيمة والتي بدونها يبدو لي الأدب كله مساراً أجوف بتزويقات وتلاوين لفظية برّاقة لا غير.. أنا وليو ومعنا فيدور ومكسيم وتورجنيف ربما رأينا في مسألة تحقيق العدالة الإنسانية حلماً خائباً ومنذ بدء الخليقة، وكل الدلائل كانت ترشدنا أن حلم البشرية هذا لن يجد موطئاً وموطناً في أيّ مكان وحتى انطفاء الأرض ومن عليها..ـ
هذا ما جعلنا نؤثر الواقعية ونلتصق بها أيماناً وقناعة منا ألا شيء يولد من فراغ وحتى المتخيل فهو من مكنوز الذاكرة وكل مخفيات هذه الذاكرة كانت في الأصل واقعيات وحتى الأساطير والسحر والخرافات نمت بجذور من رواء واقعي وأن بدت غير منطقية بغرائبياتها ولا معقوليتها.. مكسيم كان أكثر شوقاً وقلقاً هو من كان متحمساً لتحقيق هذا الحلم منتظراً ثورة من جموع الناس.. وقيل أن ما تمناه من ثورة قد فاجأ الجميع كصاعقة ماحقة لكل أطر ومفاصل روسيا المريضة المشلولة، ولكن ماذا عن العدل؟! ينقل لنا الموتى الجدد مخبرين أجسادنا المفتتة كنثار رمل وتراب قبورنا أن ما حلم به غوركي ظل حلماً خادعاً مخفياً وما تحسس له من أثر في الناس رغم هيجانها وفرحها بالثورة، ثم ازدحمت الأخبار وضجت بعد سنين وسنين أن الثورة الحلم التي هزج لها في كل كتاباته وفي كتابه الأثير (الأم) أندحرت وغابت.. ضاعت وكأنها كانت تحمل دودة نخرها ومن بدايات أيامها الأولى وأكمل آخرون بعد عقود ضياعها النهائي... وتوالدت أخبار الطير أن حتى غوركي في نهاية حياته ورغم أن متاعب فقر ماضيه وكدحه كانت قد أنتهت مع سعادات السلطة الجديدة وقد وفرتها له هدية من الثورة لكاتب الشعب، فأن قلقاً حول مسألة الحرية والكتابة ورغم تطرفه في بدايات الثورة كرئيس لاتحاد أدباء روسيا وبعد أن كان مندفعاً لحصر الحرية لفئة أدباء الكادحين وعزل من لا يكرس كل ما يكتبه ويقوله لشريحة العمال وفقراء الريف وقد بلغ به الأمر وعصبة معه وبمباركة من رأس الثورة وعقلها الآمر الناهي أن تجرأوا ووصموا من قال أو فعل بغير ذلك بخيانة روسيا مع العودة لمثل قرارات القيصر وأشد قسوة بنفي المعارضين والمعاندين لسهوب سيبيريا ليوجهوهم فيها لتربية تطهرهم من رجس البرجوازية وعفونتها.. وهذا ما حصل بعدنا لروح روسيا وضميرها (باسترناك) وقد أذلّوه وأهانوه وأجبروه على رفض (نوبل) لخداع الناس انه خان روسيا – وهم كانوا خونتها – لدرجة أوصلته لحالات كآبات مرّة – وكما روت زوجته بعد موته – الشاعر الكبير والقصصي الروائي الساحر بأسلوبياته وترانيم شعره جمد قلمه وصار خارج الزمن وخارج الحياة بعد أن طعنوه في وطنيته وحب روسيا... لماذا فعلوا ذلك؟!ـ
نسي غوركي أو تجاهل وهو في حماسيات البدايات أن هواجس الأدباء تطلب أبداً حرية القول المطلق والكشوفات الباهرة ولا تطمئن للصوت الواحد الوحيد الذي ترى فيه اذلالاً.. أراحني الطائر وهو يزف لي بشرى الحرية التي عانقت روح غوركي رغم شيخوخته المتعبة وبقناعته وأن جاءت متأخرة أنه وكل الأدب الروسي كان خاسراً بموت الحرية بدعاوى الحفاظ على مكتسبات الثورة من الانحراف.. وهذا الأدب حتى مع كل تراثه القيصري، ألم يكن خزيناً من لؤلؤ الكلام وجمالياته الإنسانية ومكسباً كبيراً كان على الثورة والثوار احتضانه؟!ـ
يقولون أن العمر محطات، أن أحلى وأدفأ محطة في حياتي كانت مع بدايات عملي في المستشفى طبيباً ومهنة الطب لا تحتاج فقط لخبرات طبية ومهارات، بل ولضرورات قوة جسدية وتحمل للتعب والسهر، وأنا كنت نحيلاً مهزولاً ظهرت عليّ أولى بوادر المرض الفاتك الذي نحر آلافاً من الفلاحين وفقراء الريف والبلدات الصغيرة.. يومها ما كان كثيراً من الدواء متوفراً مع خلو مساحات كبيرة من القرى يسكنها بشر من أي مركز صحي ومع عدم وجود سيارات أسعاف إلا بعدد محدود وفي مراكز العاصمة والمدن الكبيرة مع قلة عدد الأطباء وكوادر التمريض.. كنت سعيداً في مستشفاي وقد صار سكناً لي.. خصّصوا لي غرفة نوم واستراحة تقديراً لجهودي في معايشة المرضى وسماع شكاواهم ومعالجتهم.. بعد جهد نهار لعشر ساعات وأكثر –وأنا الطبيب الوحيد مع ممرضة عجوز، ألجأ لغرفتي ليس للنوم بل لمتعة القراءة التي لم تكتمل يوماً أبداً مع أيّ كتاب .. ينعق جهاز اللاسلكي أن مريضاً أو مريضة على وشك الموت.. أرمي كتابي وأتوقف عن تناول طعامي لأهرع لدراجتي الأثيرة رغم قدمها وكل عيوبها.. بل أتجاوز الكيلومترات العشرة والعشرين مع ظلمة وبرد وثلج الطرق الريفية الموحلة.. ما خذلتني أبداً، لكنها في الأشهر الأخيرة صارت عذاباً لي ومحنة لمرضاي إذ صارت تحرن لعطب يعقبه عطب والحكاية لا تنتهي.. ورغم أن صديقي ديميتري مصلح الدراجات قد يئس من حالتها وطالما نصحني برميها في كومة القمامة خلف المستشفى وشراء جديدة أو واحدة بنصف عمر. أنا ظللت متمترساً في عنادي وفياً لدراجتي غير مستعد للتضحية بها ولها معي ذكريات الطرق البعيدة والجليد وأنين المرضى.. وديمتري هذا ماهر في عمله وما كذب عليّ من قبل، ولكنه وفي المرة الأخيرة ويبدو أن انزعاجه منها بلغ مداه.. ديمتري ما عاد صادقاً معي.. هو قال لي: لم تعد دراجة، أنا خلقت لك منها صقراً حديدياً، فطرْ به ولا تتردد أو تتأخر.. صقره الحديدي ما أن تجاوز مشارف موسكو في دروب الثلج والطين لكيلومترات خمسة حتى غاصت مخالبه في الثلج، وما أن أعاقته حجارة قميئة ناتئة حتى كان قد أنحنى معوجّاً معانداً أن تدور عجلته وبعد أن فرغ مطاطها من أي أثر لهواء، وتشابكت أسلاك إطاره الأمامي لتشبه كومة غزل متداخلة..ـ
ديمتري بخل على صقره بلاصق جيد من الصمغ أو هو اقتصد منه مما جعل الإطار يفنجر لمجرد ملامسة بسيطة من حجارة.. لم فعلت ذلك يا ديمتري وتركتني وحيداً طائراً مع عطب المنفاخ وظلمة الليل والبرد وقلق إنتظار مريضتي اليائسة, لا أدري من الذي تعب أخيراً؟ أهو ديمتري الخائب أم دراجتي وقد أنهكتها أمراضها المتوالدة؟ حرنت معاندة أن تدرج على أيّ طريق حتى لو كان صالحاً وكما هو حال دراجات الآخرين.. هو فقط وضع عقله وكل مواهبه في ابتكار منبه صارخ لها.. هو يعرف حبي للصمت وخشيتي وكراهيتي لخدش أذان الآخرين وإرباك مسيرهم الهادئ...ـ
بوقه السفيه لم يكتف بإزعاج حفاة القرى من السائرين على دربي، بل هو أخاف حتى فزّاعات الحقول وغربانها وحتى الصقور والنسور المغرورة بقسوتها وبطشها، وهذا ما سبب لي غالباً وأنا مضطر لتنبيه شيخ عابر أو عجوز متهالكة قد تكون عمياء لا تميز بين وسط الطريق وجانبيه.. وهو كان قد اخترع وصنع لي منبهاً من كرة مطاطية كبيرة تكفي لزعيق عشر دراجات وكأنه يعوض لها هشاشتها وتفكك مفاصلها وعدم ثباتها، عندما كنت اضطر –في حالات قليلة- للتنبيه كنت أرى المارة وقد أصابهم الرعب واضطربت أرجلهم وحتى أيديهم مع صفرة الخوف على وجوههم وكأنهم طيور مرعوبة بهاجس نسر خرافي يقترب كاسحاً وسيلتقطها بمخالبه ومنقاره..ـ
في غرفتي الأليفة في مستشفاي الفقيرة كتبت غالبية كبيرة من قصصي وأقصوصاتي وكانت تلك السنين ثرية بنشرياتي القصصية كتباً ومنثورات عديدة في صحف ومجلات موسكو والمقاطعات.. وعند تكاثر فيض نتاجي القصصي وتجاوزت قليلاً في عمري الصغير، تولدت لدي رغبات كبيرة للمسرح.. يومها كنت قد غادرت غرفتي الأثيرة لأعيش في سكن مستقل.. توهج عشقي وحبي الكبير للمسرح ولياليه وعروضه وبعد أن استأنس عشاق المسرح بـ (الخال فانيا) و (بستان الكرز) حتى غلب توصيفي عند كثيرين بأنني النجم المضيء في مسارح موسكو.. سارت حياتنا في البداية رخية هانئة.. ما تدخلت في عملي وقناعاتي، ولم أفرض عليها أمراً وحتى لدور في مسرحية، لكنها وبعد أن غمر صورتها ومسرحياتها ضوء مشع متلألئ من نجاحات متلاحقة متسارعة، صارت تتحسس من أسمي إذ ظل الناس ومشاهدو مسرحها عندما يرون الإشارة لها فيقولون:ـ
هي زوجة تشيخوف.. قلّما ذكروها بالأسم.. زوجة تشيخوف.. زوجة تشيخوف.. عبقرية تشيخوف ومهاراته المسرحية.. هي صنيع ذلك.. وذلك ما آذى روحها وأتعبها حتى قاربت أن تكرهني، بل أقول: أنها كرهتني.. هي النجمة الأولى والضوء الساطع فمن هو تشيخوف.. وبدأ الشرخ ضئيلاً مع اولكا.. أتسع أتسع وتهلهل وتراكم نسيجه ممزقاً خرقاً متناثرة غير قابلة للتجميع وكان ما كان وضاعت مني نجمتي المضيئة مما نحر في عقلي وجسدي وأنهك رئتي أكثر وحرمني من راحة الهدوء، أحال ليلي سهراً وأرقاً، جفف قلمي وبسكون القلم ورقدته الأخيرة وقد صار موتاً، قبل أن يجيء أمر السماء بالموتة الأبدية...ـ
حلوتي الشقراء نجمة موسكو المضيئة بدت بعيدة عني ما عاد ولو جزء من وقتها لي.. استهلكته الصحف والأضواء والاحتفاليات وليالي النجاحات المتجددة المتزاحمة.. صرت صفراً ومع مشغولياتها الكثيرة أعيش لوحدتي ومع أمراضي وهموم الناس... وخصوصيات واستذكارات أبطال قصصي من المنسيين ومن مهمشي الحياة..ـ
عندما استعيد هدوئي أرى في لومي لها غبناً فالمسرح هذا أشبه بمصيدة قانصة فأن أطبقت على شيء فلا خلاص له.. هو جنون الحركة والشعر والليل والموسيقى والضوء, ساحر يستحوذ بعشقه على النفس.. ومع كل قلقه ومتاعبه وأجوائه العصبية والعصيبة يظل حلواً تألفه الروح.. أنا كاتب ولست ممثلاً.. كان خوفي من الفشل يسرع بقدمي للهروب قبل أسدال الستار على المشهد الأخير، إذ لا أريد لي ليلة كئيبة حاشدة بأوجاع القلق والخيبة والندم.. أما إذا كانت النتائج مبهرة مزهوة بإعجاب المشاهدين أو حتى لو كانت مقبولة فتشرق لي أخبارها مع الصباح التالي من الراديو والصحف وأفواه المعجبين..ـ
هذه حكايتي عن قصصي ومستشفاي ومهنتي ودراجتي وديمتري وناس موسكو وقراها وعن أصدقائي المحبوبين: تولستوي وغوركي وغوغول وبوشكين وتورجنيف وعن المسرح والنهاية الأليمة التي ألحقها بي زهو الحلوة وخديعة الأسماء الكبيرة.. عن ديمتري الحالم بأحياء حديد صدئ من دراجة معطوبة استهلكتها قدمان متعبتان لطبيب معلول بنظارتين رقيقتين وهو يجوس دروب القرى الطينية المعتمة لاهثاً ليجس آخر نبضة حياة لقلب متعب وهو يتملى داعياً بأشفاق عينين ساحرتين لصبية ربما يستطيع وبعّدة طبية فقيرة تنشيط النبضة الأخيرة عّلها تكون فاتحة ومقدمة لحياة جديدة.. أو يعود يجر دراجته حزيناً بخيبته وقد فاجأ أهلها الحزانى رغم حرجه وحزنه أن كل شيء قد انتهى... فمهمة الطبيب أولاً هي الصدق حتى مع مفاجآت الموت...ـ
لا أدري ماذا أقول؟ هل أقول أسمعوا حكاياتي وافتحوا آذانكم وحتى عيونكم فمن العيون ما تجيد السمع بلا كلام.. هي تنظر وتدقق وتهمهم ما فهمته من مشاهدة الحياة.. هل أتراجع فأصرخ: صمّوا آذانكم ولا تتعبوها بأحزان ضئيلة عشناها في أزماننا، فما أسمعه وما ينقله لي طائر الشؤم ولكل الموتى من بشاعات زمنكم رغم تقدمه في العصر يمسح على كل أحزاننا ويرى فيها بطراً لا يستحق الشكوى رغم أنني أرى أن مسببات أحزاننا القديمة وقوانينها الملتبسة الغامضة ربما كانت الأسرار الخبيثة الملغومة ومع أكاذيب وخداع كل أشكال السلطات القاهرة المراوغة الباغية.. هي السبب والمقتل لكل ما تعانونه من هذا الخراب الكبير ومن بشاعات الجنون البشري في اختياره الانتحار الجماعي حلاّ لتمزّقه وموجعاته الأليمة...ـ
عانيت كثيراً ولكن كل معاناتي ما شكلت شيئاً مع بؤس وحرمان غوركي.. في الأقل أنا كنت طبيباً، وعملي رغم صعوباته مع ظروف الفقر والقهر وقرى الجليد البائسة المعزولة والناس اليائسين.. مهنتي ضمنت لي عيشي، أما غوركي فما كان يأمن لتوفير خبز يومه..ـ
غوغول كانت أحواله مطمئنة وكذا تورجنيف, تولستوي هو الوحيد بيننا، كان أشبه بأمبراطور وصاحب أقطاعية وقصر ريفي وسط مزرعة بهيجة، أقطاعيته وجدت لها متسعاً في روحه وضميره فلم يتردد في تحرير فلاحيه من العبودية وتوفير ظروف إنسانية لمعيشتهم وهذا ما أهاج جنون وكراهية زوجته.. كانت متكبرة مغرورة وقد احتقرت كل من دونها من البشر وحتى زوجها النبيل وقد رأت فيه مغفلاً أضاع كل شيء بلحظة من قرار لم يتراجع عنه.. تنازل لهم عن الأرض وكانت بكراً معطاءً وبكل خيراتها وأرباحها.. ما سلم يوماً من اداناتها وبلغة من شتائم مرذولة.. هي هي في موقفها الصلف الراسخ وحتى لو كان زوجها، حتى لو كان تولستوي.. هذه كانت لعنة القدر والزمن على تولستوي.. كان يشكو لي منقبض الروح: الملعونة الجاهلة بقدر ما كانت تأنس بروائح الطعام المثيرة والعصائر المثلجة وهوس الرقص في قاعات الضوء المغلقة حتى بعد أن تقدم بها العمر، فقد كانت تشمئز من رائحة كتبي وأوراقي ومكتبتي وكثيراً ما رددت أمام الحضور من ضيوفنا أنها بقدر ما تتباهى بكل غرف القصر، فأنها تشعر بحرج وخجل عندما يرغب الضيوف للاطلاع عليها، فما كانت غرفة تولستوي عندها غير قمامة.. بسبب فوضى تولستوي وتهكمه على مبالغات نظافتها وحياتها النظامية المتشددة لحد الكراهية،.. وهو لم يكن تعنيه كل غرف القصر الباذخة وأيوانه وقاعته.. هو كان يريد فقط أن تتركه حراً مع غرفته وكم كان يكره مكنسة الخادمات وهي تقترب بنثار الغبار من كتبه وأوراقه الساحرة.. وهي ما كانت ترى في سهراته الليلية الطويلة في غرفته الأنيسة غير عبث وقلة عقل وضياع عمر...ـ
هي أحبته بجنون في البداية وتألفت معه كأقطاعي مترف وبمنزلة اجتماعية مثيرة، لكنها عندما انكشفت لها حكاية الأديب تغيرت وأنهار كل شيء..ـ
نهاية ذلك الصوفي الحكيم مبدع (الحرب والسلام) و (أنّا كارنينا) و (الحاج مراد) مع تلك الحمقاء كانت متوقعة وبأسى وترقب من الجميع، فما حصل له لم يكن مفاجأة بعد أن اختنقت روحه بعقم أفكارها وإرادتها المطوقة الهاتكة لسلامة أمنه الأدبي وهدوء النفس ليتواصل أكثر مع منجزاته الأدبية والفكرية التي كان العالم كله ينتظر جديدها.. لكن عناد وشراسة المرأة العدوانية عطلت فيه كل أمل ومع الشيخوخة الواهنة والعجز وتعب العمر.. تلك المخلوقة الشائهة صوفيا بيرز وهذا هو أسمها ما كان لأحد أن يسمع به لولا اقترانه بأسم تولستوي.. بلغ الضجر والقرف بتولستوي نهايته الأليمة.. ففي ليلة ضبابية ثلجية كئيبة.. سرحت قدماه في عمق الغابة.. خرج وهو يحمل أسرار موجعاته فما كان يريد لأحد أن ينتبه لغيابه.. بعد أن أجتاز الغابة المظلمة تاه في دروب الثلج الصخرية المقفرة ليجدوه بعد طيلة طويلة ونهار بعدها متجمداً بحدود قرية ستابو، كومة من جسد مضيء بالثلج بملبسه الصوفي السميك وحذائه المطاطي ذي العنق الطويل وقريب منه قبعته الملوثة بالطين.. قبعة اللباد التي ما نفعته بشيء ومع عصاه المثلومة.. انتهى تولستوي وصار تاريخاً وذاكرة وذكرى، أما غوركي وأنا معه فقد تكفل بنا السلّ وكما حصل لشاعركم.. أنا تكفل السل بنهايتي المسرعة، وغوركي تأخر بعدي لسنين.. جهدي الجسدي لم يكن شيئاً مقارنةً بتعب غوركي المضني.. عمل حمالاً وحارساً وكادحاً في حصاد القمح. كل ذلك تحمله، ولكن ما لن ينساه سنيّ أكتوائه فرّاناً في وهج النار ولساعات طويلة، كان وهو يواجه شعلة اللهب الغاضبة وقد تعرى من قميصه يتأمل نثار الثلج والبرد في طريق العابرين، كان يؤمل أن يخفف أحساسه بمرأى الثلج لفح النار على وجهه وكان أملاً مخادعاً مقهوراً لسطوة واقعه في فرن ملتهب.. غوركي كان صديق عمري بوفائه ومحبته لي وتقدير كتاباتي.. رغم مشغولياته بمهنه المؤذية له كأديب ومع أنهماكي في مهنتي وجولاتي كطبيب في القرى وعلى دراجتي، فقد كنا نلتقي في ليالي سامرة نخلق مسبباتها.. رغم صرامة وجه غوركي وكبر هيكله الجسدي فقد كنت أرى فيه قلب طفل وحنان إنسان وديع.. غوركي يشعر أبداً وكأنه هو المسؤول عما يقع للآخرين من ظلم، فيسعى لدفع الظلم ولو احتجاجاً وإدانة وكتابه... وعندما كان يستذكر تولستوي، فقد كان يطيب له التركيز على تولستوي كمصلح اجتماعي ثائر أكثر مما يتوقف عند ابداعه الأدبي رغم إعجابه الكبير.. أرى دموعه وهو في حالة حزن ثقيل عندما يتذكر قرار تولستوي بتحرير عبيد الأرض ويقول لي: لقد سبق تولستوي كل أوربا وأمريكا وقوانينها الداعية لتحرير العبيد والاعتراف بآدميتهم.. تولستوي كان كائناً سياسياً قبل أن يكون أديباً...ـ
دوستويفسكي كان أكثر رعباً من الحياة، لذا فقد كشفها وفضحها وعرّاها وخلخل أسرارها وخفاياها الدفينة، وكان أميل منا لمعالجات سايكولوجية لشخوصه من مرضى النفس وحتى من الأصحاء، وبعكس غوركي ما كان يأبه للسياسة والإصلاح رغم أنه كان يستشرف لروسيا العملاقة بتنوع جغرافيتها وبناسها الصابرين أملاً عمّقته ثقة مطلقة بالإنسان الروسي.. ورغم كرهه للسياسة وبشكلها المباشر فقد تورّط أو ورّطوه بتهمة مشاركته في مؤامرة لاغتيال القيصر أوصلته لقرار السلطة بأعدامه رمياً بالرصاص وكادت طلقات الحرس أن تمزّق رأسه وجسده لولا قرار سريع ومفاجئ بتبديل الحكم بالنفي لسهوب سيبيريا الجليدية القاحلة عبر مسيرة حاشدة بالآلام وليعمل هناك مع جموع من السجناء من ذوي الأحكام القاسية الثقيلة ومع العبيد لسنوات في أعمال السخرة من الحفر ونقل الحجارة ورصف الطرق بلقيمات تكاد تسد وتسكت غائلة الجوع وبدعوى أن ما يفعلونه معهم هو لإصلاحهم.. الكاتب الكبير الغامض صاحب (الجريمة والعقاب) و (الأخوة كرامازوف) كان يريد ويسعى ويحلم بإصلاح المجتمع فقهروه بليالي سيبيريا المضيئة بالثلج لإصلاح ما رأوه أعوجاجاً فيه...ـ
تحمل ما تحمل بصبر نبيّ وإرادة سحرية عنيدة ومع مشاهد الموت وقد بدت له مألوفة في هذا المكان.. وكانت النتيجة ثمرات كاوية موجعة من الوصف الإنساني.. أهداها لتتملاها البشرية المقبلة في كل أرض الدنيا...ـ
كان تولستوي واقعياً وأكثر واقعية منه غوغول.. مقولة: (كلنا خرجنا من معطف غوغول) كانت ذروة أعجاب وحباً ولم تكن حكماً نقدياً فرغم حميمية وإنسانية وثراء اللغة عند غوغول فلا أحد يخرج من معطف أحد ولكل معطفه الخاص حتى مع التقاء وتشابه الأساليب ووجهات النظر للأدب والحياة.. لا بصمة تتطابق وتشبه أخرى وأن بدا ذلك ظاهرياً في عوالم القول والحكي والابداع.. ومسار دستويفسكي كان عمق النفس البشرية ومضطرباتها.. ونقل لي طائركم.. طائر الحياة لطائر المقابر والموتى أن تسميات وتوصيفات كثيرة سّودت كثيراً من المقالات والبحوث.. واقعية، واقعية أشتراكية، اجتماعية، نقدية، ومعها غرائبيات واقعيات السحر والأساطير والخرافات والأحلام.. ما كنا نعنى بشؤون النقد كثيراً وما عرف زمننا هوسكم بمبالغات التنظير وخفاياه ومنزلقاته وبنيوتاته وتفكيكاته واغتيال المؤلف وصولاً لموته، وما انشغلنا بحكايات الحداثة وما بعدها وما بعد بعدها.. كنا نكتب فقط وبطموح وأمل أن تصل لعقول الناس وأرواحهم وأن تحقق صداها وبما يخفف عنهم ثقل الحياة وكوابيسها المرعبة وفي عموم أرض روسيا الشاسعة الكئيبة يومذاك.. أنا كتبت ومسار قلمي حدّد لي قيمة الإنسان على هذه الأرض.. كتاباتي ومسرحي كان مضمونها هذه القيمة والتي بدونها يبدو لي الأدب كله مساراً أجوف بتزويقات وتلاوين لفظية برّاقة لا غير.. أنا وليو ومعنا فيدور ومكسيم وتورجنيف ربما رأينا في مسألة تحقيق العدالة الإنسانية حلماً خائباً ومنذ بدء الخليقة، وكل الدلائل كانت ترشدنا أن حلم البشرية هذا لن يجد موطئاً وموطناً في أيّ مكان وحتى انطفاء الأرض ومن عليها..ـ
هذا ما جعلنا نؤثر الواقعية ونلتصق بها أيماناً وقناعة منا ألا شيء يولد من فراغ وحتى المتخيل فهو من مكنوز الذاكرة وكل مخفيات هذه الذاكرة كانت في الأصل واقعيات وحتى الأساطير والسحر والخرافات نمت بجذور من رواء واقعي وأن بدت غير منطقية بغرائبياتها ولا معقوليتها.. مكسيم كان أكثر شوقاً وقلقاً هو من كان متحمساً لتحقيق هذا الحلم منتظراً ثورة من جموع الناس.. وقيل أن ما تمناه من ثورة قد فاجأ الجميع كصاعقة ماحقة لكل أطر ومفاصل روسيا المريضة المشلولة، ولكن ماذا عن العدل؟! ينقل لنا الموتى الجدد مخبرين أجسادنا المفتتة كنثار رمل وتراب قبورنا أن ما حلم به غوركي ظل حلماً خادعاً مخفياً وما تحسس له من أثر في الناس رغم هيجانها وفرحها بالثورة، ثم ازدحمت الأخبار وضجت بعد سنين وسنين أن الثورة الحلم التي هزج لها في كل كتاباته وفي كتابه الأثير (الأم) أندحرت وغابت.. ضاعت وكأنها كانت تحمل دودة نخرها ومن بدايات أيامها الأولى وأكمل آخرون بعد عقود ضياعها النهائي... وتوالدت أخبار الطير أن حتى غوركي في نهاية حياته ورغم أن متاعب فقر ماضيه وكدحه كانت قد أنتهت مع سعادات السلطة الجديدة وقد وفرتها له هدية من الثورة لكاتب الشعب، فأن قلقاً حول مسألة الحرية والكتابة ورغم تطرفه في بدايات الثورة كرئيس لاتحاد أدباء روسيا وبعد أن كان مندفعاً لحصر الحرية لفئة أدباء الكادحين وعزل من لا يكرس كل ما يكتبه ويقوله لشريحة العمال وفقراء الريف وقد بلغ به الأمر وعصبة معه وبمباركة من رأس الثورة وعقلها الآمر الناهي أن تجرأوا ووصموا من قال أو فعل بغير ذلك بخيانة روسيا مع العودة لمثل قرارات القيصر وأشد قسوة بنفي المعارضين والمعاندين لسهوب سيبيريا ليوجهوهم فيها لتربية تطهرهم من رجس البرجوازية وعفونتها.. وهذا ما حصل بعدنا لروح روسيا وضميرها (باسترناك) وقد أذلّوه وأهانوه وأجبروه على رفض (نوبل) لخداع الناس انه خان روسيا – وهم كانوا خونتها – لدرجة أوصلته لحالات كآبات مرّة – وكما روت زوجته بعد موته – الشاعر الكبير والقصصي الروائي الساحر بأسلوبياته وترانيم شعره جمد قلمه وصار خارج الزمن وخارج الحياة بعد أن طعنوه في وطنيته وحب روسيا... لماذا فعلوا ذلك؟!ـ
نسي غوركي أو تجاهل وهو في حماسيات البدايات أن هواجس الأدباء تطلب أبداً حرية القول المطلق والكشوفات الباهرة ولا تطمئن للصوت الواحد الوحيد الذي ترى فيه اذلالاً.. أراحني الطائر وهو يزف لي بشرى الحرية التي عانقت روح غوركي رغم شيخوخته المتعبة وبقناعته وأن جاءت متأخرة أنه وكل الأدب الروسي كان خاسراً بموت الحرية بدعاوى الحفاظ على مكتسبات الثورة من الانحراف.. وهذا الأدب حتى مع كل تراثه القيصري، ألم يكن خزيناً من لؤلؤ الكلام وجمالياته الإنسانية ومكسباً كبيراً كان على الثورة والثوار احتضانه؟!ـ
يقولون أن العمر محطات، أن أحلى وأدفأ محطة في حياتي كانت مع بدايات عملي في المستشفى طبيباً ومهنة الطب لا تحتاج فقط لخبرات طبية ومهارات، بل ولضرورات قوة جسدية وتحمل للتعب والسهر، وأنا كنت نحيلاً مهزولاً ظهرت عليّ أولى بوادر المرض الفاتك الذي نحر آلافاً من الفلاحين وفقراء الريف والبلدات الصغيرة.. يومها ما كان كثيراً من الدواء متوفراً مع خلو مساحات كبيرة من القرى يسكنها بشر من أي مركز صحي ومع عدم وجود سيارات أسعاف إلا بعدد محدود وفي مراكز العاصمة والمدن الكبيرة مع قلة عدد الأطباء وكوادر التمريض.. كنت سعيداً في مستشفاي وقد صار سكناً لي.. خصّصوا لي غرفة نوم واستراحة تقديراً لجهودي في معايشة المرضى وسماع شكاواهم ومعالجتهم.. بعد جهد نهار لعشر ساعات وأكثر –وأنا الطبيب الوحيد مع ممرضة عجوز، ألجأ لغرفتي ليس للنوم بل لمتعة القراءة التي لم تكتمل يوماً أبداً مع أيّ كتاب .. ينعق جهاز اللاسلكي أن مريضاً أو مريضة على وشك الموت.. أرمي كتابي وأتوقف عن تناول طعامي لأهرع لدراجتي الأثيرة رغم قدمها وكل عيوبها.. بل أتجاوز الكيلومترات العشرة والعشرين مع ظلمة وبرد وثلج الطرق الريفية الموحلة.. ما خذلتني أبداً، لكنها في الأشهر الأخيرة صارت عذاباً لي ومحنة لمرضاي إذ صارت تحرن لعطب يعقبه عطب والحكاية لا تنتهي.. ورغم أن صديقي ديميتري مصلح الدراجات قد يئس من حالتها وطالما نصحني برميها في كومة القمامة خلف المستشفى وشراء جديدة أو واحدة بنصف عمر. أنا ظللت متمترساً في عنادي وفياً لدراجتي غير مستعد للتضحية بها ولها معي ذكريات الطرق البعيدة والجليد وأنين المرضى.. وديمتري هذا ماهر في عمله وما كذب عليّ من قبل، ولكنه وفي المرة الأخيرة ويبدو أن انزعاجه منها بلغ مداه.. ديمتري ما عاد صادقاً معي.. هو قال لي: لم تعد دراجة، أنا خلقت لك منها صقراً حديدياً، فطرْ به ولا تتردد أو تتأخر.. صقره الحديدي ما أن تجاوز مشارف موسكو في دروب الثلج والطين لكيلومترات خمسة حتى غاصت مخالبه في الثلج، وما أن أعاقته حجارة قميئة ناتئة حتى كان قد أنحنى معوجّاً معانداً أن تدور عجلته وبعد أن فرغ مطاطها من أي أثر لهواء، وتشابكت أسلاك إطاره الأمامي لتشبه كومة غزل متداخلة..ـ
ديمتري بخل على صقره بلاصق جيد من الصمغ أو هو اقتصد منه مما جعل الإطار يفنجر لمجرد ملامسة بسيطة من حجارة.. لم فعلت ذلك يا ديمتري وتركتني وحيداً طائراً مع عطب المنفاخ وظلمة الليل والبرد وقلق إنتظار مريضتي اليائسة, لا أدري من الذي تعب أخيراً؟ أهو ديمتري الخائب أم دراجتي وقد أنهكتها أمراضها المتوالدة؟ حرنت معاندة أن تدرج على أيّ طريق حتى لو كان صالحاً وكما هو حال دراجات الآخرين.. هو فقط وضع عقله وكل مواهبه في ابتكار منبه صارخ لها.. هو يعرف حبي للصمت وخشيتي وكراهيتي لخدش أذان الآخرين وإرباك مسيرهم الهادئ...ـ
بوقه السفيه لم يكتف بإزعاج حفاة القرى من السائرين على دربي، بل هو أخاف حتى فزّاعات الحقول وغربانها وحتى الصقور والنسور المغرورة بقسوتها وبطشها، وهذا ما سبب لي غالباً وأنا مضطر لتنبيه شيخ عابر أو عجوز متهالكة قد تكون عمياء لا تميز بين وسط الطريق وجانبيه.. وهو كان قد اخترع وصنع لي منبهاً من كرة مطاطية كبيرة تكفي لزعيق عشر دراجات وكأنه يعوض لها هشاشتها وتفكك مفاصلها وعدم ثباتها، عندما كنت اضطر –في حالات قليلة- للتنبيه كنت أرى المارة وقد أصابهم الرعب واضطربت أرجلهم وحتى أيديهم مع صفرة الخوف على وجوههم وكأنهم طيور مرعوبة بهاجس نسر خرافي يقترب كاسحاً وسيلتقطها بمخالبه ومنقاره..ـ
في غرفتي الأليفة في مستشفاي الفقيرة كتبت غالبية كبيرة من قصصي وأقصوصاتي وكانت تلك السنين ثرية بنشرياتي القصصية كتباً ومنثورات عديدة في صحف ومجلات موسكو والمقاطعات.. وعند تكاثر فيض نتاجي القصصي وتجاوزت قليلاً في عمري الصغير، تولدت لدي رغبات كبيرة للمسرح.. يومها كنت قد غادرت غرفتي الأثيرة لأعيش في سكن مستقل.. توهج عشقي وحبي الكبير للمسرح ولياليه وعروضه وبعد أن استأنس عشاق المسرح بـ (الخال فانيا) و (بستان الكرز) حتى غلب توصيفي عند كثيرين بأنني النجم المضيء في مسارح موسكو.. سارت حياتنا في البداية رخية هانئة.. ما تدخلت في عملي وقناعاتي، ولم أفرض عليها أمراً وحتى لدور في مسرحية، لكنها وبعد أن غمر صورتها ومسرحياتها ضوء مشع متلألئ من نجاحات متلاحقة متسارعة، صارت تتحسس من أسمي إذ ظل الناس ومشاهدو مسرحها عندما يرون الإشارة لها فيقولون:ـ
هي زوجة تشيخوف.. قلّما ذكروها بالأسم.. زوجة تشيخوف.. زوجة تشيخوف.. عبقرية تشيخوف ومهاراته المسرحية.. هي صنيع ذلك.. وذلك ما آذى روحها وأتعبها حتى قاربت أن تكرهني، بل أقول: أنها كرهتني.. هي النجمة الأولى والضوء الساطع فمن هو تشيخوف.. وبدأ الشرخ ضئيلاً مع اولكا.. أتسع أتسع وتهلهل وتراكم نسيجه ممزقاً خرقاً متناثرة غير قابلة للتجميع وكان ما كان وضاعت مني نجمتي المضيئة مما نحر في عقلي وجسدي وأنهك رئتي أكثر وحرمني من راحة الهدوء، أحال ليلي سهراً وأرقاً، جفف قلمي وبسكون القلم ورقدته الأخيرة وقد صار موتاً، قبل أن يجيء أمر السماء بالموتة الأبدية...ـ
حلوتي الشقراء نجمة موسكو المضيئة بدت بعيدة عني ما عاد ولو جزء من وقتها لي.. استهلكته الصحف والأضواء والاحتفاليات وليالي النجاحات المتجددة المتزاحمة.. صرت صفراً ومع مشغولياتها الكثيرة أعيش لوحدتي ومع أمراضي وهموم الناس... وخصوصيات واستذكارات أبطال قصصي من المنسيين ومن مهمشي الحياة..ـ
عندما استعيد هدوئي أرى في لومي لها غبناً فالمسرح هذا أشبه بمصيدة قانصة فأن أطبقت على شيء فلا خلاص له.. هو جنون الحركة والشعر والليل والموسيقى والضوء, ساحر يستحوذ بعشقه على النفس.. ومع كل قلقه ومتاعبه وأجوائه العصبية والعصيبة يظل حلواً تألفه الروح.. أنا كاتب ولست ممثلاً.. كان خوفي من الفشل يسرع بقدمي للهروب قبل أسدال الستار على المشهد الأخير، إذ لا أريد لي ليلة كئيبة حاشدة بأوجاع القلق والخيبة والندم.. أما إذا كانت النتائج مبهرة مزهوة بإعجاب المشاهدين أو حتى لو كانت مقبولة فتشرق لي أخبارها مع الصباح التالي من الراديو والصحف وأفواه المعجبين..ـ
هذه حكايتي عن قصصي ومستشفاي ومهنتي ودراجتي وديمتري وناس موسكو وقراها وعن أصدقائي المحبوبين: تولستوي وغوركي وغوغول وبوشكين وتورجنيف وعن المسرح والنهاية الأليمة التي ألحقها بي زهو الحلوة وخديعة الأسماء الكبيرة.. عن ديمتري الحالم بأحياء حديد صدئ من دراجة معطوبة استهلكتها قدمان متعبتان لطبيب معلول بنظارتين رقيقتين وهو يجوس دروب القرى الطينية المعتمة لاهثاً ليجس آخر نبضة حياة لقلب متعب وهو يتملى داعياً بأشفاق عينين ساحرتين لصبية ربما يستطيع وبعّدة طبية فقيرة تنشيط النبضة الأخيرة عّلها تكون فاتحة ومقدمة لحياة جديدة.. أو يعود يجر دراجته حزيناً بخيبته وقد فاجأ أهلها الحزانى رغم حرجه وحزنه أن كل شيء قد انتهى... فمهمة الطبيب أولاً هي الصدق حتى مع مفاجآت الموت...ـ
لا أدري ماذا أقول؟ هل أقول أسمعوا حكاياتي وافتحوا آذانكم وحتى عيونكم فمن العيون ما تجيد السمع بلا كلام.. هي تنظر وتدقق وتهمهم ما فهمته من مشاهدة الحياة.. هل أتراجع فأصرخ: صمّوا آذانكم ولا تتعبوها بأحزان ضئيلة عشناها في أزماننا، فما أسمعه وما ينقله لي طائر الشؤم ولكل الموتى من بشاعات زمنكم رغم تقدمه في العصر يمسح على كل أحزاننا ويرى فيها بطراً لا يستحق الشكوى رغم أنني أرى أن مسببات أحزاننا القديمة وقوانينها الملتبسة الغامضة ربما كانت الأسرار الخبيثة الملغومة ومع أكاذيب وخداع كل أشكال السلطات القاهرة المراوغة الباغية.. هي السبب والمقتل لكل ما تعانونه من هذا الخراب الكبير ومن بشاعات الجنون البشري في اختياره الانتحار الجماعي حلاّ لتمزّقه وموجعاته الأليمة...ـ