من المعروف أن الأمثال خير معبر عن نفسية الأمة وأصدق مصور لروحها وأبلغ شيء في الدلالة على ما يجيش في صدور أبنائها وسبب ذلك واضح وهو أن الأمثال تنبع من صميم الأمة وتقتطع من روحها وإلا لما كان لها بقاء ولما استمر لها وجود ولما قدر لها أن تبقى حية على ممر الدهور كأنها بنت ساعتها وبدع زمانها وحده. وإن المثل ليقال ليعبر عن حالة من الحالات أو رأي من الآراء فإن لم تكن تلك حالة الشعوب وذلك الرأي رأيه لما سار المثل بين بنيه مسير النار في الهشيم، وإن مجموعة الأمثال لتكون نظرة الشعب الفلسفية للحياة وتبين على أي نحو من الأنحاء يتقبل الشعب الحياة وبأي منظار ينظر الى الوجود، ويؤيد ذلك أنا لا نعرف قائل المثل، والمثل لا يشيع لأن فلاناً قاله بل لأنه يصور حالة يرونها صادقة. أو يكفيهم مئونة تعليل ما يريدون أن يكون.
إنك إن أعطيتني أمثال أمة من الأمم أعطيتك صورة صادقة ترى فيها حالتها وحالة أبنائها ومقدار درجة رقيها أو انحطاطها، وتلمس فيها حضارتها ومبلغ حظها من الحياة أو الموت. ولو أعطيتني صورة أمة من الأمم وكشفت لي عن حضارتها، فأنا زعيم لك لم أخبرك ما هي أمثال هذه الأمة بالضبط فلن أخطئ على الأقل، في تبيين المعاني والأفكار التي تدور حولها أمثال هذه الأمة. فالأمثال مرآة الأمة التي تنعكس عليها حالتها وحضارتها.
والشعب المصري عرف بحبه للفكاهة أو أمتاز بالفكاهة والنكتة وبرز ف ي هذا المضمار حتى أصبح ذلك الصق الأشياء به وأدلها عليه، ومثل هذا الشعب لا بد أن يكون حظه من الأمثال موفورا فإن الجو الذي تقال فيه النكات أنسب الأجواء لضرب الأمثال ولعل في ذلك ما يفسر لنا ما نلحظه في الأمثال المصرية من روح الفكاهة.
لن نتكلم عن الأمثال من ناحيتها البلاغية فقيمتها البلاغية معروفة، وهناك من يعدها أم البلاغة ونهايتها، كما قال إبراهيم النظام (يجتمع في المثل أربع لا تجتمع في غيره من الكلام: إيجاز اللفظ وإصابة المعنى وحسن التشبيه وجودة الكناية، فهو نهاية البلاغة)، بل سنتكلم عن قيمة المثل النفسية ومقدار دلالته على روح الشعب والى أي مدى يوصلنا الى أغوار نفوس الشعوب. والأمثال العربية قديمة قدم اللغة العربية، ولكن العامية لم تدخ مصر إلا بعد ذيوع العربية بين المصريين وتحولها لغة الشعب، وحينئذ بدت بعض الحكم العربية تدخل - متخذة قالباً سهلاً - العامية، ثم تهضم ويتمثل بها. ولسنا الآن في مجال بحث نشأة المثال العامية في مصر، بل إننا لنكتفي بالقول بأن الأمثال التي سنقولها بعد والتي سنعرف منها جانباً من نفسية الشعب المصري قد نشأت وتطورت في عصور الظلام، عصور الاستبداد التي نشبت أظفارها في جسد المصري فأقصته عن الحكم، وألصقته بالأرض يفلحها وبالماشية يسيمها ثم انتزعت من بين يديه ثمار غرسه ونتاج تربيته، ولم نترك له ألا قشر ثمرته التي جناها وعظام ذبيحته التي رباها، هذه العصور المظلمة منذ المماليك ولأتراك إلى ما قبل يومنا هذا بقليل.
ولنأخذ الآن في تحليل نفسية الشعب المصري من أمثاله، ولن نتناول الآن إلا ناحية واحدة هي (الميل إلى الاستكانة والشعور بالدونية، وسريان روح اليأس والدعوة الى الخنوع وعدم الرغبة في الكفاح) ولست أدري هل هي فطرية - وأعوذ بالله أن تكون كذلك وإن التاريخ لينفي أن تكون فطرية، أو مكتسبة؟ واكثر الظن أو الأسلم أن نقول (إنها مكتسبة اكتسبها الشعب نتيجة لعصور الطغيان والاستبداد بالأمر وإقصاء الحاكم الأجنبي عن الحكم أهل البلاد ووسمهم بأنهم فلاحون ولا يصلحون إلا لذلك فقط).
(اقعد يا أخي واسكت، هي الميه بتطلع العالي) إن هذا المثل قد اتخذ من هذه الحقيقة الطبيعية برهانا يؤيد به ما يريد أن يقوله من أن الكفاح والجهد لا يجدي. فإذا كان كذلك فلماذا لا تريح نفسك وتدع الأمور تجري في مجاريها؟ ألا تجهد نفسك في تغييرها فإنك لن تستطيع أن تبلغ ما تريد ولن تستطيع أن تغير من حالك أو نظام الكون شيئا، (ده ملك منظمه صاحبه) (ودع الأمور تجري في أعنتها) وبت ليلك راضي النفس مطمئن الفؤاد، يا له من غر أحمق هذا الذي يحاول أن يقنع عاميا أن عليه أن لا ييئس وان لا يقنط من روح الله، أن يكد حتى يبلغ مراتب العظماء، فإنه لن يكون عنده إلا جاهلا لا يعلن أن (المية لا تطلع إلى العالي) نعم إن الماء لا يطلع العالي وحده، ولكنه يطلعه برافعات لا تحتاج إلا إلى جهد قليل، وإن الماء لا بد أن يطلع العالي إذا استطاع ماء قبله طلوعه وإن العظيم ما دام إنسانا وهو إنسان أيضا فلا مستحيل هناك في أن يصل إلى ما وصل إليه.
(إن لقيت بلد يتعبد عجل حش وارمي له)، (اللي يجوز أمي، أقول له يا عمي). في هذين المثلين يتجلى الخنوع والخضوع والرضا بالمركز السافل والوضع الدنيء والحكم الظالم والسكوت على الذل. وإن رائحة الدم والشحم الذي حرقه الظلم لتفوح من هذين المثلين حتى تزكم الأنوف. . . فلا تحاول أن تبدل وضعاً من الأوضاع أو حتى تنتقد النظام الذي تحي في كنفه بل اعمل دأبك وابذل جهدك حتى لا تغيره، وليس هذا فقط بل عاون على تثبيت بنيانه وتدعيم أركانه، وساعد على ذلك أيضا حتى ولو كان يخالف عقيدتك. . . حتى ولو كفرت! فإن كنت مسلماً ورأيت قوماً يعبدون العجل، فلا تنههم عن المنكر أو الكفر ولا تأمرهم بالمعروف بل اعبد العجل معهم وأطعمه مبالغة منك في عبادتك. وأنت لاشك لا تحب أن تتزوج أمك غير أبيك وتأبى ذلك أشد الإباء وتنكره غاية الإنكار، ولكن إذا تزوجت فأرض بهذه الحال ولا تثر ولا تضق بل قر عينا وقل لزوج أمك، هذا الذي تبغضه من أعماق قلبك (عماه).
(حط رأسك بين الروس واسكت)، إذا ما دعا داع إلى تغيير وضع من الأوضاع أو أمر من الأمور السياسية، جوبه بهذا المثل وسخر منه وقيل له (صه. فأنت لا ناقة لك فيها أي الدولة ولا جمل) (تروح فين يا صعلوك بين الملوك) وهذا المثل كله يأس وكله شعور بالدونية والصغار وبأن الدولة التي هي دولته شيء غريب عنه، لا حق له للتدخل في شؤونها، وعليه أن يستنيم وان يرضخ للحكم كما استنام ورضخ إخوانه من. . . النعاج.
وهناك مثل آخر يكاد يدل على تقديس الحاكم ومشروعية الظلم وسموه! وهو (ضرب الحاكم شرف) وهم يقصدون ضربه حتى ولو كان ظلماً، فإن الذل والخضوع للحكام بلغ بهم أن يعدوا ضربهم شرفاً، أو إنه لما عمهم ضرب الحاكم وأذاه وهو شيء يسوئهم بلا شك، أرادوا أن يخففوا من وطأة الظلم بأن أقروه وجعلوه مشروعاً وبرروه، وهذه حالة نفسية فإن الإنسان إذا لم يجد إلا السيئ رضى به وحسنه حتى يخفف من سوئه، كالفقير يتمادح بفقره وينسب إليه كل خير ويلصق بالغنى كل نقيصة لأنه قد فاته. وكذلك الإنسان مضطر الى التكيف مع ما يكره حتى ينقص من وطأة ألمه، فهؤلاء جعلوا الظلم مشروعاً حتى يلطفوا من حدته.
وليست كل الأمثال العامية تظهرنا على نواح سيئة من نفسية الشعب - بل إن هناك نواحي مشرقة مشرفة تطلعنا عليها هذه الأمثال أرجو أن نوفق إلى إبرازها إن شاء الله.
عبد الجليل السيد حسن
مجلة الرسالة - العدد 911
بتاريخ: 18 - 12 - 1950
إنك إن أعطيتني أمثال أمة من الأمم أعطيتك صورة صادقة ترى فيها حالتها وحالة أبنائها ومقدار درجة رقيها أو انحطاطها، وتلمس فيها حضارتها ومبلغ حظها من الحياة أو الموت. ولو أعطيتني صورة أمة من الأمم وكشفت لي عن حضارتها، فأنا زعيم لك لم أخبرك ما هي أمثال هذه الأمة بالضبط فلن أخطئ على الأقل، في تبيين المعاني والأفكار التي تدور حولها أمثال هذه الأمة. فالأمثال مرآة الأمة التي تنعكس عليها حالتها وحضارتها.
والشعب المصري عرف بحبه للفكاهة أو أمتاز بالفكاهة والنكتة وبرز ف ي هذا المضمار حتى أصبح ذلك الصق الأشياء به وأدلها عليه، ومثل هذا الشعب لا بد أن يكون حظه من الأمثال موفورا فإن الجو الذي تقال فيه النكات أنسب الأجواء لضرب الأمثال ولعل في ذلك ما يفسر لنا ما نلحظه في الأمثال المصرية من روح الفكاهة.
لن نتكلم عن الأمثال من ناحيتها البلاغية فقيمتها البلاغية معروفة، وهناك من يعدها أم البلاغة ونهايتها، كما قال إبراهيم النظام (يجتمع في المثل أربع لا تجتمع في غيره من الكلام: إيجاز اللفظ وإصابة المعنى وحسن التشبيه وجودة الكناية، فهو نهاية البلاغة)، بل سنتكلم عن قيمة المثل النفسية ومقدار دلالته على روح الشعب والى أي مدى يوصلنا الى أغوار نفوس الشعوب. والأمثال العربية قديمة قدم اللغة العربية، ولكن العامية لم تدخ مصر إلا بعد ذيوع العربية بين المصريين وتحولها لغة الشعب، وحينئذ بدت بعض الحكم العربية تدخل - متخذة قالباً سهلاً - العامية، ثم تهضم ويتمثل بها. ولسنا الآن في مجال بحث نشأة المثال العامية في مصر، بل إننا لنكتفي بالقول بأن الأمثال التي سنقولها بعد والتي سنعرف منها جانباً من نفسية الشعب المصري قد نشأت وتطورت في عصور الظلام، عصور الاستبداد التي نشبت أظفارها في جسد المصري فأقصته عن الحكم، وألصقته بالأرض يفلحها وبالماشية يسيمها ثم انتزعت من بين يديه ثمار غرسه ونتاج تربيته، ولم نترك له ألا قشر ثمرته التي جناها وعظام ذبيحته التي رباها، هذه العصور المظلمة منذ المماليك ولأتراك إلى ما قبل يومنا هذا بقليل.
ولنأخذ الآن في تحليل نفسية الشعب المصري من أمثاله، ولن نتناول الآن إلا ناحية واحدة هي (الميل إلى الاستكانة والشعور بالدونية، وسريان روح اليأس والدعوة الى الخنوع وعدم الرغبة في الكفاح) ولست أدري هل هي فطرية - وأعوذ بالله أن تكون كذلك وإن التاريخ لينفي أن تكون فطرية، أو مكتسبة؟ واكثر الظن أو الأسلم أن نقول (إنها مكتسبة اكتسبها الشعب نتيجة لعصور الطغيان والاستبداد بالأمر وإقصاء الحاكم الأجنبي عن الحكم أهل البلاد ووسمهم بأنهم فلاحون ولا يصلحون إلا لذلك فقط).
(اقعد يا أخي واسكت، هي الميه بتطلع العالي) إن هذا المثل قد اتخذ من هذه الحقيقة الطبيعية برهانا يؤيد به ما يريد أن يقوله من أن الكفاح والجهد لا يجدي. فإذا كان كذلك فلماذا لا تريح نفسك وتدع الأمور تجري في مجاريها؟ ألا تجهد نفسك في تغييرها فإنك لن تستطيع أن تبلغ ما تريد ولن تستطيع أن تغير من حالك أو نظام الكون شيئا، (ده ملك منظمه صاحبه) (ودع الأمور تجري في أعنتها) وبت ليلك راضي النفس مطمئن الفؤاد، يا له من غر أحمق هذا الذي يحاول أن يقنع عاميا أن عليه أن لا ييئس وان لا يقنط من روح الله، أن يكد حتى يبلغ مراتب العظماء، فإنه لن يكون عنده إلا جاهلا لا يعلن أن (المية لا تطلع إلى العالي) نعم إن الماء لا يطلع العالي وحده، ولكنه يطلعه برافعات لا تحتاج إلا إلى جهد قليل، وإن الماء لا بد أن يطلع العالي إذا استطاع ماء قبله طلوعه وإن العظيم ما دام إنسانا وهو إنسان أيضا فلا مستحيل هناك في أن يصل إلى ما وصل إليه.
(إن لقيت بلد يتعبد عجل حش وارمي له)، (اللي يجوز أمي، أقول له يا عمي). في هذين المثلين يتجلى الخنوع والخضوع والرضا بالمركز السافل والوضع الدنيء والحكم الظالم والسكوت على الذل. وإن رائحة الدم والشحم الذي حرقه الظلم لتفوح من هذين المثلين حتى تزكم الأنوف. . . فلا تحاول أن تبدل وضعاً من الأوضاع أو حتى تنتقد النظام الذي تحي في كنفه بل اعمل دأبك وابذل جهدك حتى لا تغيره، وليس هذا فقط بل عاون على تثبيت بنيانه وتدعيم أركانه، وساعد على ذلك أيضا حتى ولو كان يخالف عقيدتك. . . حتى ولو كفرت! فإن كنت مسلماً ورأيت قوماً يعبدون العجل، فلا تنههم عن المنكر أو الكفر ولا تأمرهم بالمعروف بل اعبد العجل معهم وأطعمه مبالغة منك في عبادتك. وأنت لاشك لا تحب أن تتزوج أمك غير أبيك وتأبى ذلك أشد الإباء وتنكره غاية الإنكار، ولكن إذا تزوجت فأرض بهذه الحال ولا تثر ولا تضق بل قر عينا وقل لزوج أمك، هذا الذي تبغضه من أعماق قلبك (عماه).
(حط رأسك بين الروس واسكت)، إذا ما دعا داع إلى تغيير وضع من الأوضاع أو أمر من الأمور السياسية، جوبه بهذا المثل وسخر منه وقيل له (صه. فأنت لا ناقة لك فيها أي الدولة ولا جمل) (تروح فين يا صعلوك بين الملوك) وهذا المثل كله يأس وكله شعور بالدونية والصغار وبأن الدولة التي هي دولته شيء غريب عنه، لا حق له للتدخل في شؤونها، وعليه أن يستنيم وان يرضخ للحكم كما استنام ورضخ إخوانه من. . . النعاج.
وهناك مثل آخر يكاد يدل على تقديس الحاكم ومشروعية الظلم وسموه! وهو (ضرب الحاكم شرف) وهم يقصدون ضربه حتى ولو كان ظلماً، فإن الذل والخضوع للحكام بلغ بهم أن يعدوا ضربهم شرفاً، أو إنه لما عمهم ضرب الحاكم وأذاه وهو شيء يسوئهم بلا شك، أرادوا أن يخففوا من وطأة الظلم بأن أقروه وجعلوه مشروعاً وبرروه، وهذه حالة نفسية فإن الإنسان إذا لم يجد إلا السيئ رضى به وحسنه حتى يخفف من سوئه، كالفقير يتمادح بفقره وينسب إليه كل خير ويلصق بالغنى كل نقيصة لأنه قد فاته. وكذلك الإنسان مضطر الى التكيف مع ما يكره حتى ينقص من وطأة ألمه، فهؤلاء جعلوا الظلم مشروعاً حتى يلطفوا من حدته.
وليست كل الأمثال العامية تظهرنا على نواح سيئة من نفسية الشعب - بل إن هناك نواحي مشرقة مشرفة تطلعنا عليها هذه الأمثال أرجو أن نوفق إلى إبرازها إن شاء الله.
عبد الجليل السيد حسن
مجلة الرسالة - العدد 911
بتاريخ: 18 - 12 - 1950