إذا كان لنا أنْ ننسبَ المرءَ إلى مسقط رأسه فإنّ وداد سكاكيني المولودةُ في مدينة ( صيدا ) اللبنانيّة عام ( ١٩١٣م ) تُعَدُّ لبنانيةً، دون ريب. أمّا إذا راعينا زواجها من الشاعر والأكاديميّ السوري الدكتور زكي المحاسني ( ١٩٠٩- ١٩٧٢م ) وانتقالها إلى دمشق عام ( ١٩٣٤م ) وإقامتها المديدة وثقافتها ونضجها الأدبيّ هناك، ثمّ وفاتها ودفنها فيها عام ( ١٩٩١م ) فنستطيع أنْ ننعتها بالأديبة السوريّة. على أنّه لا يمكن لنا أنْ ننكر المؤثّراتِ المصرية في ميراثها الأدبيّ الثريّ؛ إذ تسنّى لها الإقامة في القاهرة عندما حلّت بها رفقة زوجها الذي انتُدِبَ للعمل ملحقاً ثقافياً في السفارة السورية هناك؛ ما أتاح لها فرصة الاحتكاك بأعلامها من الأدباء والشعراء والكتّاب، فاجتمع لأدبها عناصرُ الموهبة والمعرفة والثقافة والاطّلاع فغدا معرِضاً مشرقاً لكلّ تلك العوامل والروافد؛ فهو أدب عربيّ ذو نكهة شاميّة، إذا صحَّ التعبير.
على أنّ الأديبة والصحفية المصرية الكبيرة أمينة السعيد قد عبّرت عن خصائص أدب وداد سكاكيني خير تعبير؛ حيث تقول:
" حين يرِدُ ذِكر وداد يعتبرها كلّ شعب عربيّ واحدةً منه؛ فاللبنانيون يعتزّون بمنبتها، والسوريون يتمسّكون بتوطّنها وجنسيّتها، والمصريون يرون في إنتاجها أصدقَ صورة للعقلية الأدبية المصريّة. والحقيقة أنّهم جميعاً مصيبون ففي وِداد نفحة من لبنان وعمقٌ من سوريا وحساسية من مِصر...وهي إذ تكتب تحملكَ على أجنحة الأدب إلى آفاق هذه المجموعة من الصفات الثمينة التي أكسبتها توسّعاً فنّيّاً ملموساً، وطعّمتْ إنتاجها الفكريّ بشتّى عناصر الأدب الغربيّ. "
أغنتْ الأديبة الراحلة المكتبة العربية
بعدد كبير من المؤلّفات الأدبية والفكريّة المنوّعة التي ناهزت العشرين، تضمّنتْ الخاطرة والمقالة والقصة والرواية والسِّيرة والنقد والدراسة. نذكر منها:
- الخَطَرات، بيروت ١٩٣٢م .
- مرايا الناس، القاهرة ١٩٤٥م.
- أمهات المؤمنين، دراسة، القاهرة، ١٩٤٥م.
- الحبّ المحرّم، رواية، القاهرة، ١٩٤٧م.
- الستار المرفوع، قصص، القاهرة، ١٩٥٥م.
- إنصاف المرأة، دراسة، دمشق، ١٩٥٠م
ومن هذا الكتاب الأخير أقتطفُ من أحد فصوله الذي يحمل عنوان:
" محمّد محرِّر النساء " هذه السطور المضيئة:
" كان مولد ( محمد بن عبد الله ) مواساة إلهيّة للشابّة المفجوعة في فرحة عُرسها بموت زوجها بعيداً عنها، فكان ميلاد اليتيم عزاءً لتلك الأم الأسيفة المتلهّفة، وجدّه المحزون.................لقد نشأ ( محمد ) وشبَّ في تلك البقعة التي كان فيها أمر المرأة حرِجاً، وكان من صنع الأقدار السماوية أنْ تتمازج حياته بحياة النساء منذ أبصرَ للنور، ففي طفولته تعهدتهُ مرضعته ( حليمة السعدية) بحنان الأمّ الرؤوم وكانت تَرْقيه على عادة العرب من عيون الحاسدين، إذ كان طفلاً لا كالأطفال، ثمَّ حضنتهُ ( بركة الحبشية ) التي شهدتْ مولد يُتمه فسعِدت بحضانته، واسترْوَح في عطفها ورِفقها روح أمّه آمنة، فكان يقول عنها: هذه أمي بعد أمي...هذه بقية أهلي.
وامتلأ شباب محمد بحصافة الفِكر، وطهارة اليد واللسان، فكان فتى الفتيان، له منهم نضارة العمر، لكنّ أحلامه ليست كأحلام الشباب، بل كانت رؤى النبوّة الموعودة، وبشرى البعث الجديد.
كانت المرأة التي فتحت لمحمد باب المجد ( خديجة بنت خويلِد ) التي أكرمها الله بأن كانت خير زوجة لخير زوح، مسَّتْ قلبه بالحبّ والإحسان، وشدّته بالأمل والإيمان، وكان بينهما من تفاوت السنّ وتجاوب الروح ما جعل محمدّاً سعيداً برعاية المرأة التي فضّلتْهُ على أفضل أهلها وعشيرتها، فمضى في حياته الجديدة معتزلاً متأمّلاً، بين زهادة وعبادة، وبين تحفّز وتأهّب للإنقاذ والتحرير، حتى رفَّ عليه نور الحقّ وتلقّى وحيَ السماء...
كان هذا الوحي الإلهي إيذاناً من الحقّ بزوال عهد بغيض شقيتْ فيه الإنسانية وضلّت سواء السبيل، فقد بُعِثَ محمد رحمةً للعالمين، وأُنزِلَ عليه القرآن معجزة باقية وشريعة خالدة لكلّ عصر ومِصر.....فنادى للحرية والمساواة والإخاء، لهذه الأقانيم الثلاثة التي علّم الناس معانيها، ودعاهم إلى تحقيقها، فكان سبّاقاً لأمتين عريقتين تنازعتا منذ قرنين شرف السَّبْق إلى إعلان حقوق الإنسان، وقد فات الأمتين الفرنسية والأمريكية فيما صنعت الأولى بثورتها العظمى، وفيما جدّدت الثانية في الحقوق الإنسانية،
أنّ محمداً، عليه السلام، كان أسبق منهما ومن المنظّمة الأممية في القرن العشرين إلى إبداع تلك الحقوق بألف عام ونيّف، فهي دستور عادل كامل ضمّت أحكم المناهج الديمقراطية، وأقوم المنازع الاشتراكية في عصرنا، وفيها الدعوة الكبرى إلى تحرير المرأة وإنصافها، فقد أنزل الله فيها ما أنزل، وقسم لها ما قسم، ودلّت سور القرآن على فضلها، وما ينبغي لها من تقديم وتكريم.
لقد رفع شأنها بنتاً وزوجاً وأمّاً...فشرع لها ما لم تأتِ بمثله أحدث الشرائع والقوانين في أرقى الأمم الغابرة والمعاصرة في الشرق والغرب، إذ ساوى بين الرجل وبينها في الحقوق والتكاليف، إلّا فيما اقتضتْ الحاجة والضرورة، فإذا رجحت كفّةُ الرجل في شأن، عوّض على المرأة ما يوازيه فيما يوافقها من أمر آخر.
وكأنّ محمداً حين جاء بهذا التشريع الرائع قد شاء أن يعلّم الناس أنّ بناء الحياة لا يُرفَع إلّا بتعاون الجنسين، وخصائص الفريقين، فإنّ الأمة التي تهمل المرأة وتجعلها لهواً ومتاعاً، أو تكون فيها مغلولةَ الروح مسلوبةَ الحقّ والحرية لهي أمّة لا تستحقُّ الحياةَ والبقاء.
في ذلك العصر المظلم الظالم كانت المرأة الغربية تعاني أشدّ ممّا عانت المرأة العربية قبل عهد محمد، إذ كانت لدى قومها رِجساً من عمل الشيطان............وتفنّن الرومان في حرمان المرأة وازدرائها، ثمّ قصروها في عهد البطَر والتّرف على الغواية والفحشاء............وهل كان ثمّة أفظع في الطغيان والجَور على المرأة ممّا طلع به مجمّع ( ماكون ) بفرنسا في القرن السابع للميلاد، إذ تنادت هيئته للبحث في خِلقة المرأة، هل هي إنسان؟ غير أنّ بعض المؤتمرين ترفّقوا بها بعد جدَل ونقاش، فقرّروا أنّها إنسان، لكنّها خُلِقتْ عبدةً للرجل!
...........................................
وهل ثمّة حرية شرعها الإسلام للمرأة أدلّ على تحرّرها، من احترام رأيها في اختيار زوجها...................فهذي بنت عمّه أمّ هانئ مات عنها زوجها فخطبها الرسول وردّته قائلة: لأنت أحبّ إليّ من سمعي وبصري، لكنّ بنيَّ صغار، وحقّ الزوج كبير، فأخشى إن أقبلتُ على زوجي أن أضيعَ شأن الأولاد، وإن أقبلتُ عليهم أن أضيعَ حقّ الزوج، فلم يغضب الرسول، بل قال فيها وفي أمثالها: " خيرُ نساء ركبْنَ الإبل نساءُ قريش، أحناهُنَّ على ولد في صغره، وأرعاهُنّ لزوج في ذات يده.........
فلولا محمد الذي رفع مشعل التحرير والخلاص في ظلمات الإنسانية لينير للرجال والنساء على السواء لبقيت المرأة متلفّعةً في غيبوبتها الأبدية....
فإذا ذكرت النساء محمداً....فليذكُرْنَ المحرّرَ الأول الذي عطف على المرأة وأنصفها من أجل كرامتها الإنسانية ومكانتها الاجتماعية........." *
*- وداد سكاكيني، إنصاف المرأة، (الثقافة للجميع، سلسلة الكتاب الشهري) ١٩، اتّحاد الكتّاب العرب، دمشق، أيّار ٢٠٠٨م، ص ص ١٤٤- ١٥٢
على أنّ الأديبة والصحفية المصرية الكبيرة أمينة السعيد قد عبّرت عن خصائص أدب وداد سكاكيني خير تعبير؛ حيث تقول:
" حين يرِدُ ذِكر وداد يعتبرها كلّ شعب عربيّ واحدةً منه؛ فاللبنانيون يعتزّون بمنبتها، والسوريون يتمسّكون بتوطّنها وجنسيّتها، والمصريون يرون في إنتاجها أصدقَ صورة للعقلية الأدبية المصريّة. والحقيقة أنّهم جميعاً مصيبون ففي وِداد نفحة من لبنان وعمقٌ من سوريا وحساسية من مِصر...وهي إذ تكتب تحملكَ على أجنحة الأدب إلى آفاق هذه المجموعة من الصفات الثمينة التي أكسبتها توسّعاً فنّيّاً ملموساً، وطعّمتْ إنتاجها الفكريّ بشتّى عناصر الأدب الغربيّ. "
أغنتْ الأديبة الراحلة المكتبة العربية
بعدد كبير من المؤلّفات الأدبية والفكريّة المنوّعة التي ناهزت العشرين، تضمّنتْ الخاطرة والمقالة والقصة والرواية والسِّيرة والنقد والدراسة. نذكر منها:
- الخَطَرات، بيروت ١٩٣٢م .
- مرايا الناس، القاهرة ١٩٤٥م.
- أمهات المؤمنين، دراسة، القاهرة، ١٩٤٥م.
- الحبّ المحرّم، رواية، القاهرة، ١٩٤٧م.
- الستار المرفوع، قصص، القاهرة، ١٩٥٥م.
- إنصاف المرأة، دراسة، دمشق، ١٩٥٠م
ومن هذا الكتاب الأخير أقتطفُ من أحد فصوله الذي يحمل عنوان:
" محمّد محرِّر النساء " هذه السطور المضيئة:
" كان مولد ( محمد بن عبد الله ) مواساة إلهيّة للشابّة المفجوعة في فرحة عُرسها بموت زوجها بعيداً عنها، فكان ميلاد اليتيم عزاءً لتلك الأم الأسيفة المتلهّفة، وجدّه المحزون.................لقد نشأ ( محمد ) وشبَّ في تلك البقعة التي كان فيها أمر المرأة حرِجاً، وكان من صنع الأقدار السماوية أنْ تتمازج حياته بحياة النساء منذ أبصرَ للنور، ففي طفولته تعهدتهُ مرضعته ( حليمة السعدية) بحنان الأمّ الرؤوم وكانت تَرْقيه على عادة العرب من عيون الحاسدين، إذ كان طفلاً لا كالأطفال، ثمَّ حضنتهُ ( بركة الحبشية ) التي شهدتْ مولد يُتمه فسعِدت بحضانته، واسترْوَح في عطفها ورِفقها روح أمّه آمنة، فكان يقول عنها: هذه أمي بعد أمي...هذه بقية أهلي.
وامتلأ شباب محمد بحصافة الفِكر، وطهارة اليد واللسان، فكان فتى الفتيان، له منهم نضارة العمر، لكنّ أحلامه ليست كأحلام الشباب، بل كانت رؤى النبوّة الموعودة، وبشرى البعث الجديد.
كانت المرأة التي فتحت لمحمد باب المجد ( خديجة بنت خويلِد ) التي أكرمها الله بأن كانت خير زوجة لخير زوح، مسَّتْ قلبه بالحبّ والإحسان، وشدّته بالأمل والإيمان، وكان بينهما من تفاوت السنّ وتجاوب الروح ما جعل محمدّاً سعيداً برعاية المرأة التي فضّلتْهُ على أفضل أهلها وعشيرتها، فمضى في حياته الجديدة معتزلاً متأمّلاً، بين زهادة وعبادة، وبين تحفّز وتأهّب للإنقاذ والتحرير، حتى رفَّ عليه نور الحقّ وتلقّى وحيَ السماء...
كان هذا الوحي الإلهي إيذاناً من الحقّ بزوال عهد بغيض شقيتْ فيه الإنسانية وضلّت سواء السبيل، فقد بُعِثَ محمد رحمةً للعالمين، وأُنزِلَ عليه القرآن معجزة باقية وشريعة خالدة لكلّ عصر ومِصر.....فنادى للحرية والمساواة والإخاء، لهذه الأقانيم الثلاثة التي علّم الناس معانيها، ودعاهم إلى تحقيقها، فكان سبّاقاً لأمتين عريقتين تنازعتا منذ قرنين شرف السَّبْق إلى إعلان حقوق الإنسان، وقد فات الأمتين الفرنسية والأمريكية فيما صنعت الأولى بثورتها العظمى، وفيما جدّدت الثانية في الحقوق الإنسانية،
أنّ محمداً، عليه السلام، كان أسبق منهما ومن المنظّمة الأممية في القرن العشرين إلى إبداع تلك الحقوق بألف عام ونيّف، فهي دستور عادل كامل ضمّت أحكم المناهج الديمقراطية، وأقوم المنازع الاشتراكية في عصرنا، وفيها الدعوة الكبرى إلى تحرير المرأة وإنصافها، فقد أنزل الله فيها ما أنزل، وقسم لها ما قسم، ودلّت سور القرآن على فضلها، وما ينبغي لها من تقديم وتكريم.
لقد رفع شأنها بنتاً وزوجاً وأمّاً...فشرع لها ما لم تأتِ بمثله أحدث الشرائع والقوانين في أرقى الأمم الغابرة والمعاصرة في الشرق والغرب، إذ ساوى بين الرجل وبينها في الحقوق والتكاليف، إلّا فيما اقتضتْ الحاجة والضرورة، فإذا رجحت كفّةُ الرجل في شأن، عوّض على المرأة ما يوازيه فيما يوافقها من أمر آخر.
وكأنّ محمداً حين جاء بهذا التشريع الرائع قد شاء أن يعلّم الناس أنّ بناء الحياة لا يُرفَع إلّا بتعاون الجنسين، وخصائص الفريقين، فإنّ الأمة التي تهمل المرأة وتجعلها لهواً ومتاعاً، أو تكون فيها مغلولةَ الروح مسلوبةَ الحقّ والحرية لهي أمّة لا تستحقُّ الحياةَ والبقاء.
في ذلك العصر المظلم الظالم كانت المرأة الغربية تعاني أشدّ ممّا عانت المرأة العربية قبل عهد محمد، إذ كانت لدى قومها رِجساً من عمل الشيطان............وتفنّن الرومان في حرمان المرأة وازدرائها، ثمّ قصروها في عهد البطَر والتّرف على الغواية والفحشاء............وهل كان ثمّة أفظع في الطغيان والجَور على المرأة ممّا طلع به مجمّع ( ماكون ) بفرنسا في القرن السابع للميلاد، إذ تنادت هيئته للبحث في خِلقة المرأة، هل هي إنسان؟ غير أنّ بعض المؤتمرين ترفّقوا بها بعد جدَل ونقاش، فقرّروا أنّها إنسان، لكنّها خُلِقتْ عبدةً للرجل!
...........................................
وهل ثمّة حرية شرعها الإسلام للمرأة أدلّ على تحرّرها، من احترام رأيها في اختيار زوجها...................فهذي بنت عمّه أمّ هانئ مات عنها زوجها فخطبها الرسول وردّته قائلة: لأنت أحبّ إليّ من سمعي وبصري، لكنّ بنيَّ صغار، وحقّ الزوج كبير، فأخشى إن أقبلتُ على زوجي أن أضيعَ شأن الأولاد، وإن أقبلتُ عليهم أن أضيعَ حقّ الزوج، فلم يغضب الرسول، بل قال فيها وفي أمثالها: " خيرُ نساء ركبْنَ الإبل نساءُ قريش، أحناهُنَّ على ولد في صغره، وأرعاهُنّ لزوج في ذات يده.........
فلولا محمد الذي رفع مشعل التحرير والخلاص في ظلمات الإنسانية لينير للرجال والنساء على السواء لبقيت المرأة متلفّعةً في غيبوبتها الأبدية....
فإذا ذكرت النساء محمداً....فليذكُرْنَ المحرّرَ الأول الذي عطف على المرأة وأنصفها من أجل كرامتها الإنسانية ومكانتها الاجتماعية........." *
*- وداد سكاكيني، إنصاف المرأة، (الثقافة للجميع، سلسلة الكتاب الشهري) ١٩، اتّحاد الكتّاب العرب، دمشق، أيّار ٢٠٠٨م، ص ص ١٤٤- ١٥٢