8- حازم القرطاجني:
يرى حازم القرطاجني أن اقتباس المعاني واستثارتها يتأتى عبر طريقين:
1.طريق قوة الشاعرية أو الخيالية التي تميز بين ما تشابه أو تباين من العناصر التي يشكل بها الشاعر معانيه.
2.طريق ثان يكون زائدا على الخيال وهو ما يستعين فيه الشاعر بالمقول أو المكتوب من قبل، حسب تعبير رولان بارت، حيث يلجأ «إلى كلام جرى في نظم أو نثر أو تاريخ أو حديث أو مثل. فيبحث الخاطر فيما يستند إليه من ذلك على الظفر بما يسوغ له معه إيرادُ ذلك الكلام أو بعضه»( ). وفي هذه الطريق يتحدث، كما هو بين، عن مفهوم التناص مستخدما مصطلح "الاقتباس" و"الاستناد إلى كلام الغير". ويشترط على من يستعين بكلام غيره أن يورده: «بنوع من التصرف والتغيير أو التضمين فيحيل على ذلك أو يضمنه أو يدمج الإشارة إليه أو يورد معناه في عبارة أخرى على جهة قلب أو نقل إلى مكان أحق به من المكان الذي هو فيه، أو ليزيد فيه فائدة فيتممه أو يتمم به أو يحسّن العبارة خاصة أو يصيِّر المنثور منظوما أو المنظوم منثورا خاصة. فأما من لا يقصد في ذلك إلا الارتفاق بالمعنى خاصة، من غير تأثير من هذه التأثيرات، فإنه البكِي الطبع في هذه الصناعة ، الحقيق بالإقلاع عنها وإراحة خاطره مما لا يجدي عليه غير المذمة والتعب»( ). غير أن هذه الإجراءات وغيرها في التعامل مع النص المستدعى أو "النص الغائب" قد تؤدي إلى الغموض، وهي الظاهرة التي خص بها حازم موضوع التضمين (أو التناص) ، في مبحث خاص تطرق فيه إلى أهم الأوضاع التناصية التي قد يستغلق بها المعنى على المتلقي، وكان هذا الموضوع محل عناية ابن طباطبا الذي أشار إلى آثاره السلبية على جمالية التلقي وضرب لذلك مثلا مفيدا كما مر، إلا أن حازما توخى في دراسته تقسيما منهجيا يتناول فيه كل قسم بنوع من الاستقصاء لجميع الحالات التي من الممكن أن تشكل حجابا يحول بين المتلقي وما يستشرفه من معنى؛ فقسم وجوه الإغماض في المعاني إلى ثلاثة أقسام:
1.قسم يرجع فيه الإغماض إلى المعاني أنفسها؛ وعدد فيه كثيرا من الحالات؛ منها أن يضمن الشاعر شعره «معنى علميا أو خبرا تاريخيا أو إشارة أو مثلا أو شعرا أو كلاما سالفا بالجملة» أو يكون ظاهر التضمين مما يصرف التخمين إلى احتمالات بعيدة أو أن تكون بعض العناصر الذاتية للمعنى المضمن مما يشترك معه فيه كثير من المعاني ولا توجد مجتمعة إلا فيه( ).
2.قسم يرجع في الإغماض إلى الألفاظ والعبارات المدلول بها على المعنى( )، منها أن يكون اللفظ غريبا حوشيا، أو مشتركا لا يعلم القارئ دلالته أو قد يحمله من الدلالة غير ما يحتمل في ذلك الموضوع( ).
3.قسم يرجع فيه الإغماض إلى المعاني والألفاظ معا، ولم يذكر فيه الكاتب مثالا عن حالة ما، واكتفى بإجمال القول على الحالات جميعها بقوله: «فكل معنى غامض وعبارة مستغلقة، فغموضه واستغلاق عبارته راجعان إلى بعض هذه الوجوه المعنوية أو العبارية أو إليهما معا أو إلى ما ناسبهما وجرى مجراهما مما لعلنا لم نذكره من وجوه الإغماض الراجعة إلى معنى أو عبارة»( ). وطالبَ مَن أحسَّ بوقوع شيء من ذلك فيما يكتبه أن يجتهد في تخليصه من الإبهام بقرائن إن كان قصده التوضيح وإلا فإن «المعاني منها ما يُقصد أن تكون في غاية من البيان، ومنها ما يقصد أن تكون في غاية من الإغماض، ومنها ما يقصد أن يقع فيه بعض غموض»( ). وبعد أن يقدم الكاتب مقترحات لإزالة الغموض في المعنى واللفظ، وبعد أن يوضح ويمثل للقسمين الأول والثاني بما يراه مناسبا( )، ينتقل إلى:
1.موضوع السرقة أو المعاني القديمة والمخترعة.
2.والمعاني التي تصلح أو لا تصلح للشعر.
1.ففي موضوع السرقة أو ما يسميه المعاني القديمة المتداولة والجديدة المخترعة، يظهر أنه لم يزد على أن ردد كلام القدماء. وقسم المعاني في هذا الإطار إلى شائعة مشتركة لا يسمى من تعاطاها سارقا؛ كتشبيه الشجاع بالأسد والكريم بالبحر...( ) و"معاني قليلة" حسب تعبيره، يشترط على آخذها الزيادة فيها والإضافة إليها أو نقلها إلى موضع آخر أو قلبها أو تحسينها، ثم معاني نادرة وهي التي تعرف بالمعاني العُقم يختص بها شاعر واحد ولا يستطيع أحد أن يأخذها إلا بشرط التغييرات السابقة، فإن أخذها كما هي عد سارقا( ).
2.أما المعاني التي تصلح أو لا تصلح للشعر فيقسمها الكاتب إلى أربعة أقسام:
ا- معاني وعبارات أهل المهن، واستعمالُها في الشعر «أشد قبحا من استعمال الألفاظ الساقطة المبتذلة»( ).
ب- معانٍ خارجة عن هذا المجال ولا يحتاج فهمها إلى مقدمات «فمنزلتها من المعاني منزلة الألفاظ المستعملة المفهومة» وهي التي ينبغي الإكثار منها( ).
ج-معان لا يعرفها إلا الأدباء مرتبطة بما اشتهر من القصص والتواريخ والأخبار «فمنزلتها من المعاني منزلة استعمال الألفاظ التي ارتفعت عما يفهمه العامة»( ).
د-معان متعلقة بالعلوم والصنائع لا يعرفها إلا الخاصة القليلة من الأدباء «فمنزلتها من المعاني منزلة استعمال اللفظ الحُوشي»( ).
وبعد ذكر هذه الأقسام، يُعنى حازم بالقسمين الثالث والرابع موضحا وممثلا ومبرزا موقفه. وعنايته بهما ترجع إلى كونهما المحتاجين إلى مقدمات توضحهما، أما القسم الأول، والثاني على الخصوص، فمعانيه "جمهورية" يشترك فيها العام والخاص( )، وأما القسم الثالث الذي هو الإشارة إلى الأقاصيص والأخبار فمما يحسن في الشعر، ويسميه الكاتب "الإحالة" «لأن الشاعر يحيل بالمعهود على المأثور» ، ويشترط الاعتماد فيها على المشهور مراعاة للمتلقي، ويصف تأثيرها في النفس بأنه عجيب، سواء في نفورها أو ميلها من القصة أو الأخبار المحال عليها؛ «فتتحرك النفوس بما قد ارتسم فيها من صفة القصة الأولى إلى اعتقاد القصة الأخرى على مثل تلك الصفة. هذا إذا كانت الإحالة على سبيل المحاكاة»( ). والقسم الرابع يسرد فيه الكاتب بعض الأمثلة من الشعر للدلالة على أن معاني العلوم والصناعات مما يستشكل أمره في الشعر ولا يحسن تعاطيه، وينبغي في نظره أن تستقل كل صناعة بمعجمها وألا يكون هنالك خلط بين الفنون( ).
فحازم القرطاجني يتحدث عن مفهوم التناص المتمثل في السرقة وغيرها من الوجوه، ويشترط فيه، كما يلح بعض النقاد اليوم، عدم "اجترار" المأخوذ من الغير، وإن كانت التغييرات التي يجريها المبدع على النصوص المستدعاة مما يؤدي إلى غموض النص. وهي ظاهرة عني بها الكاتب عناية خاصة، وربط فعاليتها بمراعاة شرط التواصل.
وإذا كان موقف الكاتب "المعادي" من بعض الألفاظ والمعاني باعتباره إياها غير شعرية؛ كعبارات ومعاني أهل المهن والعلوم والصناعات، يعكس فهما "قاصرا" لوظيفة وطبيعة اللغة الشعرية إلى حد ما، فإن ترغيبه في "الإحالة" والسرقة، ووصفه لشروط فعاليتها، وفهمه لفعلها في المتلقي، لمما يجعله في طليعة النقاد القدماء العارفين بأسرار اللغة الشعرية.
يرى حازم القرطاجني أن اقتباس المعاني واستثارتها يتأتى عبر طريقين:
1.طريق قوة الشاعرية أو الخيالية التي تميز بين ما تشابه أو تباين من العناصر التي يشكل بها الشاعر معانيه.
2.طريق ثان يكون زائدا على الخيال وهو ما يستعين فيه الشاعر بالمقول أو المكتوب من قبل، حسب تعبير رولان بارت، حيث يلجأ «إلى كلام جرى في نظم أو نثر أو تاريخ أو حديث أو مثل. فيبحث الخاطر فيما يستند إليه من ذلك على الظفر بما يسوغ له معه إيرادُ ذلك الكلام أو بعضه»( ). وفي هذه الطريق يتحدث، كما هو بين، عن مفهوم التناص مستخدما مصطلح "الاقتباس" و"الاستناد إلى كلام الغير". ويشترط على من يستعين بكلام غيره أن يورده: «بنوع من التصرف والتغيير أو التضمين فيحيل على ذلك أو يضمنه أو يدمج الإشارة إليه أو يورد معناه في عبارة أخرى على جهة قلب أو نقل إلى مكان أحق به من المكان الذي هو فيه، أو ليزيد فيه فائدة فيتممه أو يتمم به أو يحسّن العبارة خاصة أو يصيِّر المنثور منظوما أو المنظوم منثورا خاصة. فأما من لا يقصد في ذلك إلا الارتفاق بالمعنى خاصة، من غير تأثير من هذه التأثيرات، فإنه البكِي الطبع في هذه الصناعة ، الحقيق بالإقلاع عنها وإراحة خاطره مما لا يجدي عليه غير المذمة والتعب»( ). غير أن هذه الإجراءات وغيرها في التعامل مع النص المستدعى أو "النص الغائب" قد تؤدي إلى الغموض، وهي الظاهرة التي خص بها حازم موضوع التضمين (أو التناص) ، في مبحث خاص تطرق فيه إلى أهم الأوضاع التناصية التي قد يستغلق بها المعنى على المتلقي، وكان هذا الموضوع محل عناية ابن طباطبا الذي أشار إلى آثاره السلبية على جمالية التلقي وضرب لذلك مثلا مفيدا كما مر، إلا أن حازما توخى في دراسته تقسيما منهجيا يتناول فيه كل قسم بنوع من الاستقصاء لجميع الحالات التي من الممكن أن تشكل حجابا يحول بين المتلقي وما يستشرفه من معنى؛ فقسم وجوه الإغماض في المعاني إلى ثلاثة أقسام:
1.قسم يرجع فيه الإغماض إلى المعاني أنفسها؛ وعدد فيه كثيرا من الحالات؛ منها أن يضمن الشاعر شعره «معنى علميا أو خبرا تاريخيا أو إشارة أو مثلا أو شعرا أو كلاما سالفا بالجملة» أو يكون ظاهر التضمين مما يصرف التخمين إلى احتمالات بعيدة أو أن تكون بعض العناصر الذاتية للمعنى المضمن مما يشترك معه فيه كثير من المعاني ولا توجد مجتمعة إلا فيه( ).
2.قسم يرجع في الإغماض إلى الألفاظ والعبارات المدلول بها على المعنى( )، منها أن يكون اللفظ غريبا حوشيا، أو مشتركا لا يعلم القارئ دلالته أو قد يحمله من الدلالة غير ما يحتمل في ذلك الموضوع( ).
3.قسم يرجع فيه الإغماض إلى المعاني والألفاظ معا، ولم يذكر فيه الكاتب مثالا عن حالة ما، واكتفى بإجمال القول على الحالات جميعها بقوله: «فكل معنى غامض وعبارة مستغلقة، فغموضه واستغلاق عبارته راجعان إلى بعض هذه الوجوه المعنوية أو العبارية أو إليهما معا أو إلى ما ناسبهما وجرى مجراهما مما لعلنا لم نذكره من وجوه الإغماض الراجعة إلى معنى أو عبارة»( ). وطالبَ مَن أحسَّ بوقوع شيء من ذلك فيما يكتبه أن يجتهد في تخليصه من الإبهام بقرائن إن كان قصده التوضيح وإلا فإن «المعاني منها ما يُقصد أن تكون في غاية من البيان، ومنها ما يقصد أن تكون في غاية من الإغماض، ومنها ما يقصد أن يقع فيه بعض غموض»( ). وبعد أن يقدم الكاتب مقترحات لإزالة الغموض في المعنى واللفظ، وبعد أن يوضح ويمثل للقسمين الأول والثاني بما يراه مناسبا( )، ينتقل إلى:
1.موضوع السرقة أو المعاني القديمة والمخترعة.
2.والمعاني التي تصلح أو لا تصلح للشعر.
1.ففي موضوع السرقة أو ما يسميه المعاني القديمة المتداولة والجديدة المخترعة، يظهر أنه لم يزد على أن ردد كلام القدماء. وقسم المعاني في هذا الإطار إلى شائعة مشتركة لا يسمى من تعاطاها سارقا؛ كتشبيه الشجاع بالأسد والكريم بالبحر...( ) و"معاني قليلة" حسب تعبيره، يشترط على آخذها الزيادة فيها والإضافة إليها أو نقلها إلى موضع آخر أو قلبها أو تحسينها، ثم معاني نادرة وهي التي تعرف بالمعاني العُقم يختص بها شاعر واحد ولا يستطيع أحد أن يأخذها إلا بشرط التغييرات السابقة، فإن أخذها كما هي عد سارقا( ).
2.أما المعاني التي تصلح أو لا تصلح للشعر فيقسمها الكاتب إلى أربعة أقسام:
ا- معاني وعبارات أهل المهن، واستعمالُها في الشعر «أشد قبحا من استعمال الألفاظ الساقطة المبتذلة»( ).
ب- معانٍ خارجة عن هذا المجال ولا يحتاج فهمها إلى مقدمات «فمنزلتها من المعاني منزلة الألفاظ المستعملة المفهومة» وهي التي ينبغي الإكثار منها( ).
ج-معان لا يعرفها إلا الأدباء مرتبطة بما اشتهر من القصص والتواريخ والأخبار «فمنزلتها من المعاني منزلة استعمال الألفاظ التي ارتفعت عما يفهمه العامة»( ).
د-معان متعلقة بالعلوم والصنائع لا يعرفها إلا الخاصة القليلة من الأدباء «فمنزلتها من المعاني منزلة استعمال اللفظ الحُوشي»( ).
وبعد ذكر هذه الأقسام، يُعنى حازم بالقسمين الثالث والرابع موضحا وممثلا ومبرزا موقفه. وعنايته بهما ترجع إلى كونهما المحتاجين إلى مقدمات توضحهما، أما القسم الأول، والثاني على الخصوص، فمعانيه "جمهورية" يشترك فيها العام والخاص( )، وأما القسم الثالث الذي هو الإشارة إلى الأقاصيص والأخبار فمما يحسن في الشعر، ويسميه الكاتب "الإحالة" «لأن الشاعر يحيل بالمعهود على المأثور» ، ويشترط الاعتماد فيها على المشهور مراعاة للمتلقي، ويصف تأثيرها في النفس بأنه عجيب، سواء في نفورها أو ميلها من القصة أو الأخبار المحال عليها؛ «فتتحرك النفوس بما قد ارتسم فيها من صفة القصة الأولى إلى اعتقاد القصة الأخرى على مثل تلك الصفة. هذا إذا كانت الإحالة على سبيل المحاكاة»( ). والقسم الرابع يسرد فيه الكاتب بعض الأمثلة من الشعر للدلالة على أن معاني العلوم والصناعات مما يستشكل أمره في الشعر ولا يحسن تعاطيه، وينبغي في نظره أن تستقل كل صناعة بمعجمها وألا يكون هنالك خلط بين الفنون( ).
فحازم القرطاجني يتحدث عن مفهوم التناص المتمثل في السرقة وغيرها من الوجوه، ويشترط فيه، كما يلح بعض النقاد اليوم، عدم "اجترار" المأخوذ من الغير، وإن كانت التغييرات التي يجريها المبدع على النصوص المستدعاة مما يؤدي إلى غموض النص. وهي ظاهرة عني بها الكاتب عناية خاصة، وربط فعاليتها بمراعاة شرط التواصل.
وإذا كان موقف الكاتب "المعادي" من بعض الألفاظ والمعاني باعتباره إياها غير شعرية؛ كعبارات ومعاني أهل المهن والعلوم والصناعات، يعكس فهما "قاصرا" لوظيفة وطبيعة اللغة الشعرية إلى حد ما، فإن ترغيبه في "الإحالة" والسرقة، ووصفه لشروط فعاليتها، وفهمه لفعلها في المتلقي، لمما يجعله في طليعة النقاد القدماء العارفين بأسرار اللغة الشعرية.