- لن أستطيع مرة أخرى تجنب ضرورة الحديث عن عملي الخاص ككاتب، رغم اقتناعي العميق، المعبر عنه مرات عديدة، أنه اذا كان الجهد المبذول لانجاز عمل أدبي ما يعود إلى الكاتب، فان حصيلته تنتمي إلى جميع الناس إلا اليه. لهذا اقترح هنا التفكير لا في عملي كروائي (آخرون مؤهلون أكثر مني قاموا بذلك) وانما في الاقتضاء الأخلاقي الذي يبنينها، يعني التفكير في هذا القانون الخاص بالشرف الشخصي لكل كاتب يحترم نفسه، ويعزم على وضع حياته كلها في خدمة ما ارتأى أنه الأهم فيها: أي جهده الإبداعي.
إن التاريخ الحديث يقدم لنا بعض الأمثلة عن هؤلاء الكتاب الملومين انطلاقا من معايير مسندة من لدن الرأي الجماهيري، والتطور التاريخي، لكن رغم ذلك فانهم يستحقون إعجابنا اللانهائي باعتبارهم فنانين. إن هذا التناقض المزعج قد أتاح الفرصة لمناقشات لا نهاية لها، والتي، في نظري، تعتبر عقيمة بين أولئك الذين حين يدينون الإنسان يدينون بذلك الفنان، وأولئك الذين حين يخلصون الفنان يتظاهرون بأنهم ستسامحون مع أخطاء وشطط الإنسان. هكذا فالتناقض بين الأخلاق والاستطيقا قد أظهر الإبهام القديم لعلائق المجتمع والفنان، حيث يحاكم الأول الثاني حسب معايير غريبة عن تلك التي تتحكم في مغامرته الفنية الخاصة.
هل الذي يتخذ موقفا أو يشارك في نشاط ملائم سياسيا من طرف اجماع اخلاقي- اجتماعي، هل باستطاعته أن يبدع عملا أدبيا له قيمة، يتساءل، بحيرة، المواطن الشريف؟ بتعبير آخر هل الإتقان الفني للعمل يمتلك القدرة الخارقة لتوقيف حكمنا الأخلاقي حول ذلك الذي أخرجه الى الوجود؟
إن طرح السؤال بهذه الطريقة، يبقينا في ميدان يخبئ كل أنواع الفخاخ والابهامات، لهذا سنبذل جهدا كبيرا لكي نتمكن من موقعته في مستوى آخر، فمن جهة لابد من الإشارة إلى أن الرأي الجماهيري متغير بسبب طبعه اللين، بحيث إنه حتى أولئك الذين يتقوقعون في ميدان أخلاقي مفتوح على قيم الحرية، والديمقراطية، بامكانهم، بسبب وفائهم الأعمى لمبادئهم، أن يرتكبوا ويدعموا أخطاء بل فظا عات، ومن جهة أخرى، ففي الوقت الذي تصاغ فيه الأحكام اللوامة أو المؤيدة، لابد من تجنب نسيان أن علاقة الشاعر او الكاتب المسرحي أو كاتب العمل التخييلي بالمجتمع الذي يعيش فيه، والذي ينفذ فيه الطلب الاجتماعي ليس لها كبير أهمية، بالمقارنة مع العلاقة التي تجمعه بالمتن الأدبي للغته، ومن هذا الأخير بالتراث الأدبي العالمي.
ما إن نتخلى عن الفكرة الكلاسيكية المتعلقة بالتزام الكاتب إزاء القوى التي تمثل الديناميكية الاجتماعية لبلده، ولزمنه حتى نواجه أخرى تتعلق هذه المرة بالجذع الشجراتي (نسبة للشجرة) والتفرع الورقي للأدب الذي يعتبر بتيلة فيه، إذاك نستطيع أن نرى الأشياء أكثر وضوحا، وأن نكتشف قانونها الشخصي للشرف، الذي يمحي أي سبب لوجودها عند النقيض سابق الذكر. إذا كان، كما ألمحت على ذلك منذ سنوات، واجب الكاتب الأساسي هو أن يعيد الى المجموعة الثقافية واللسنية التي ينتمي اليها لغة جديدة أكثر غنى من تلك التي تلتاها منها ابان مباشرة عمله، فان الصياغة الأخلاقية الحتمية تتقوقع في مجال يختلف عن ذلك الذي تحدثنا عنه في البداية.
في الواقع، فالكاتب الذي يأخذ عمله مأخذ الجد يواجه منذ البداية، وجود الشجرة التي يطمح إلى تمديدها، وخصوصا إلى إغناء حياتها؛ فبقدر ما تكون هذه الشجرة عالية، كثيفة، سميكة ومتشعبة، بقدر ما تكون امكانيات اللعب، والمغامرة كبيرة، وبقار ما يكون مجال العمل الفني الذي من داخله يباشر استكشافاته، وأسفاره واسعا. في حين نستطيع بسهولة التعرف على الكاتب من الدرجة الثانية من خلال اختزاليته المقلدة - انتسابه على نموذج أو إلى معيار معين - فالكاتب الذي يكون مطمعه ترك أثر، وخلق غصن أو فرع في الشجرة، عليه الا يخضع لأي تأثير خاص، لأن نهمه الأدبي سيمنعه من الوقوف عند كاتب معين أو عند نموذج واحد: مثل سرفانتس، أو بورخيس، وسيكون مطمعه امتلاك كل التراث الأدبي لزمنه.
إن أروع حوار للكاتب مع الشجرة، هو ذلك الذي يتم دون اهتمام بأذواق ومعايير ل هذا الحوار الماضي والحاضر ويكشف عن أصول الحداثة في القرون التي نعتت، ظلما، بأنها مظلمة، ويفطس الى الجذور العميقة ويكتشف علاقاتها بالثقافات المختلفة، إنها عملية مهيجة وجنونية هذه التي تحول بشكل ماكر- كما بين ذلك سرفانتس - جنون الشخصية (personnuge) التي فقدت صوابها من جراء قراءتها لروايات الفروسية، إلى جنون الكاتب حيث تنتهي السلطة المضللة للأدب إلى خلخلة العقل.
إن الكاتب الواعي بعلاقاته الثرية مع الشجرة، سيقيم حوارا مع كل العناصر التي تتشكل منها؛ من النباتات الطرية، الأكثر نعومة، إلى الجذور الفرعية التي من خلالها تبرز أحيانا التركزات، والنباتات الطفيلية. فعندما يصل الى الطبقات العميقة التي يؤمن بها، ويكتشف ملتقياتها الخفية مع الأشجار الأخرى، جنبات، ونباتات الغابة العظيمة للكتابة، سيصل إذاك إلى الحرية، والى رحابة فكر حداثيينا القدماء الأصليين: فعمله الأدبي سيكون إذاك نقدا وابداعا، أدبا وخطابا حول الأدب.
إن شجرة ضخمة جدا، كثيفة، ومتشعبة، مثل شجرة الحروف الإسبانية تقدم وليمة حقيقية للمبدع الملتزم كليا بعمله الأدبي المتوحد: إن تعدد جذوره اليونانية - اللاتينية، والعبرية، وتشابكها الخصيب، وتبادلاتها، وتحولاتها، وكثا فتها، وخباياها تقدم له إمكانية نادرة لتوسيع إبداعه الخاص، ولبسط قواعد لعبه باستمرار في مجالات جديدة وخصيبة.
يعود اهتمامي، قبل كل شيء، في السنوات الأخيرة. بكتاب ما قبل النهضة - خوان ريوث “Juan Ruig” روجاس “Rojas” دوليكادو “Delicado” وبكتاب ما بعد الموديخارية - سان جون دولا كروث “Saint jean dela crax”، سرفانتس “Cervantes” إلا أن تركيب وبنية أعمالهم لا يخضعان، كما هو الأمر بالنسبة للسابقين، لنموذج أو إلى معيار معين، لكن هؤلاء هم ثمرة تطور عضوي محض أو أنهم نتيجة لمنطق الحلم غير القابل، تقريبا، للفهم، ولهم قرابة من جهة بالعبث اللفظي للطليعة الفنية لهذا القرن، ومن جهة أخرى بالتعبير البارع المتعدد الدلالات للمتصوفة.
إن إعادة قراءة سرفانتس من طرف بورخيس، وكونكورا “Gongora” من طرف ليتاماليما، فجرت في لغتنا تيارا روائيا قويا، مؤسسا بشكل دقيق على التزام كلي ينفذه السارد في علاقته بهذه الشجرة المغذية، حيث تصبح الأوراق كتبا، ومخطوطات، وحروفا، وقصائد أعمال مثل "دون خوليان “Don gulian” خوان بلا أرض “yuar sans tere” أو "مقبرة" “Makbara” ليست فقط روايات، بل هي نصوص تم تحضيرها من خلال اتصالها بكونكورا وسرفانتس بـ "كبير الكهنة" “Archiprein” لهيتا مكونة معهم بذلك مضلعات، إنهم نتاج إغارة استحواذية في الشجرة، وفنادتها المتوالدة.
إن اكتشاف العلامات غير الملتبسة للحداثة، في استقبالية وانفتاح من القرون الوسطى، وفي امتداداته الموديخارية، والرجوع مرات عديدة لجنون سرفانتس، والى العبثيات الرائعة لسان جون دولا كروث، والى العبقرية المتوهجة لكونكورا، هي أحسن الطرق لإظهار الوفاء الوحيد الذي علينا أن نطالب به المبدع: التزام شغوف، ومطلق وامتصاصي بالقرب من الشجرة التي تغذيه، والتي سيقدم اليها، ذات يوم، بتواضع وحب، إذا استطاع ذلك، ثماره الخاصة والمتواضعة.
عن كتاب:
Yuan Goytisola
L 'arbre de la litterature