عبد الغني سلامة - عَلَم فلسطين

ظهر الرعب والارتباك الإسرائيلي جلياً في جنازة الشهيدة شيرين أبو عاقلة، حين أصر الاحتلال على منع رفع العلم الفلسطيني، الأمر الذي رفضه الفلسطينيون، وأصرّوا على تشييع الشهيدة مشياً على الأقدام حاملين أعلام فلسطين، ليهاجمهم عشرات الجنود بالهراوات وقنابل الصوت والغاز. مع أنّ المشهد دل على همجية الاحتلال، وقد أدانته كل دول العالم، إلا أنه أبرز مهابة وجمال وعظمة الجنازة، التي تحولت إلى مسيرة شعبية جارفة، ومعركة وطنية خالصة كان علم فلسطين عنوانها الأبرز.
وفي مسيرة ذكرى النكبة، التي جرت في رام الله بعدها بيومين، كانت روح شيرين حاضرة، فكانت مسيرة حاشدة مهيبة، لم يُرفع فيها سوى علم فلسطين، في إشارة واضحة إلى حالة استنهاض وطني، وعودة الروح والنبض للحالة الفلسطينية، بعد أن كاد يصيبها اليأس؛ فعَلم فلسطين يحضر ويخفق عالياً كلما اشتدت المواجهات، وعاد الصراع إلى مساره الطبيعي، ويختفي العلم كلما تراجعت القضية، وخبا نَفس النضال الشعبي.
يغيب علم الوطن، فقط، حين تغيب فلسطين وقضيتها، حين يكون الحزب أعلى من الوطن، وأهم من القضية، وحين يكون الانتماء الوطني مشوهاً ومضروباً في صميمه.. حينها فقط يرفع المتظاهرون رايات أحزابهم، ولا يرفعون علم بلادهم.
لذا، كم كانت محزنة وبائسة صور جامعة بيرزيت قبيل الانتخابات، حيث اصطفت مئات الرايات الحزبية، وبغياب مدوٍّ لعلم الوطن! كما كان محزناً مشهد المحتشدين حول الأقصى وهو يلوحون برايات أحزابهم! كما كان محزناً مشهد جنازة أحد القادة الوطنيين المحسوبين على «حماس»، حين رفع المشيعون مئات الرايات الخضراء، ولم يرفعوا علماً واحداً لفلسطين!
حين قال الزهار في تسجيل مصوّر: إن علم فلسطين مجرد «خِرقة بالية»، وإنّ فلسطين كلها أقل من «نكاشة أسنان»، مقابل مشروعهم الكبير! وحين قال حزب التحرير: إنّ علم فلسطين هو علم سايكس بيكو.. وكما جاء أيضاً في تقرير بثته «الجزيرة»، وقالت فيه: إن سايكس وبيكو صمّما علماً وطنياً خاصاً لكل دولة عربية، بتركيز فاضح ومتعمَّد على علم فلسطين، ضمن منهج مدروس هدفه الحطّ من قيمة علم فلسطين، لما يمثله من رمزية عالية.
صحيح أنّ الفلسطينيين قبل انهيار الدولة العثمانية لم يكن لديهم عَلم خاص؛ فقد كانوا يعيشون في ظل إمبراطورية واسعة، شأنهم شأن شعوب المنطقة، ولكن بعد انهيارها، وإبان الهجمة الاستعمارية ناضلت كل شعوب المنطقة لنيل حريتها واستقلالها، وفي سياق نضالهم حملوا راياتهم الوطنية.
وصحيح أنّ الاستعمار قسّم المنطقة، ولكن القول: إنه هو من صمّم ورسم أعلامنا.. هو قول ساذج، لا يتوافق مع حقائق التاريخ، وفيه حمولة أيديولوجية وإسقاط سياسي بأثر رجعي، تتضح أهدافه عند الحديث عن علم فلسطين بالذات.
فعَلم فلسطين رفعه الفلسطينيون منذ بدايات الهجمة الاستعمارية على فلسطين، وبالذات بعد صدور وعد بلفور، حين أدرك الفلسطينيون خطورة المشروع الصهيوني والهجرة اليهودية، وبدأت معالم الحركة الوطنية الفلسطينية بالنضوج، وأدركوا أهمية إبراز هويتهم الوطنية لمواجهة الهجمة الصهيونية التي استهدفت وجودهم الوطني وهويتهم السياسية لاقتلاعهم من أرضهم، فاستخدموا العلم في إشارة تأكيدية على وجودهم السياسي والتاريخي.
وذلك العلم كان علم الثورة العربية الكبرى، والذي صمّمه الشريف حسين مستلهماً تاريخ الأمة وحضارتها، فاللون الأسود هو لون إحدى رايتين رفعهما الرسول محمد في غزواته، الأولى سوداء والثانية بيضاء، علماً أن الراية السوداء كانت ترفع قبل الإسلام رمزاً للأخذ بالثأر، وكان الصحابة الأوائل أول من رفع راية بيضاء، والتي بقيت في عهد الأمويين تذكيراً منهم براية معركة بدر، ثم أخذ العباسيون الراية السوداء للتذكير بالثأر لمقتل الحسين. فيما رفع الفاطميون الراية الخضراء، أما اللون الأحمر فقد اتخذه الخوارج بعيد اغتيال الخليفة عثمان، كما وحمل الفاتحون المسلمون لشمال أفريقيا والأندلس رايات حمراء، وكذلك فإن اللون الأحمر كان يرمز لأشراف الحجاز والهاشميين.
بعد ثورة البراق (1929) بدأت فكرة العلم الفلسطيني تتبلور وتتضح أهميتها، خاصة مع تنامي الشعور الوطني، والشعور بالحاجة لرمز يميزهم ويرفع من حسهم القومي والوطني. في تلك الفترة وجهت جريدة «فلسطين» نداء للشعب الفلسطيني وفنانيه أن يقترحوا علماً.. وبالفعل وصل الجريدة العديد من الاقتراحات، كان بعضها يتضمن اللون البرتقالي، بسبب شهرة فلسطين بزراعة البرتقال.
وفي ثورة الـ 36 رفع الفلسطينيون علم الثورة العربية، ولكن مع إضافة صليب وهلال داخل المثلث الأحمر، للدلالة على التعايش الإسلامي المسيحي.
لكن بريطانيا أثناء الانتداب (1920–1948)، استخدمت علماً مختلفاً لفلسطين، تضمن اللون الأحمر للدلالة على أن فلسطين جزء من التاج البريطاني، مع دائرة بيضاء فيها كلمة فلسطين بالإنجليزية. ولم يعترف الفلسطينيون بهذا العلم، لا شعبياً ولا رسمياً.
أعاد الفلسطينيون تبني علم الثورة العربية في المؤتمر الفلسطيني الأول في غزة عام 1948. وقد اعترفت به جامعة الدول العربية على أنه علم الشعب الفلسطيني. وفي الدورة الأولى للمجلس الوطني (28-5-1964) والتي تمّت فيها صياغة الميثاق القومي، أقر المجلس أن يكون لفلسطين عَلم وطني، وحددت ألوانه ومقاساته كما هي الآن.
الأسود يرمز للحداد على الظلم والاضطهاد الذي يعانيه الفلسطينيون. الأبيض يعني السلام والمحبة، وهي رسالة الأنبياء الذين بعثوا على أرض فلسطين. الأخضر يرمز لروابي وسهول فلسطين الخضراء، ويعني الخير والنماء والأمل بالمستقبل. أما الأحمر فيرمز للشهادة والتضحية والعطاء.
وقد أقرت «إسرائيل» قانوناً يحظر علم فلسطين، ويمنع حمله وتداوله، وبقي القرار سارياً حتى أبطلته وفقاً لاتفاقية أوسلو، أما الأمم المتحدة فاعترفت بعلم فلسطين، ورفعته بمقرها في نيويورك، بقرار صدر في العام 2015. صوتت لصالحه 119 دولة، وامتنعت 45 دولة، بينما عارضته 8 دول.
ومنذ النكبة والفلسطينيون يرفعون علمهم للتذكير بمأساتهم، وللتأكيد على صمودهم، وللتعبير عن هويتهم الوطنية، وبعد انطلاقة الثورة، بات علم فلسطين مظلة جامعة للشعب الفلسطيني بأسره، وفي الانتفاضات الشعبية، وفي كل مواقع الاشتباك رفع الشبان علم البلاد في إشارة تحدٍّ للاحتلال، وكعنوان على المواجهة والثبات، وفي ظله، وبسببه، ومن أجله استشهد وجُرح واعتقل الآلاف.
ومع تصاعد الكفاح الفلسطيني صار علم فلسطين رمزاً عالمياً للتعبير عن التضامن مع القضية الفلسطينية، وللتعبير عن مناهضة الاحتلال، وصار رمزاً للحرية والعنفوان والثورة ضد الظلم والطغيان.
ليظل علم فلسطين عالياً خفاقاً.

عبد الغني سلامة
2022-05-18






تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...