في البداية ضغط بالإبهام على زر التشغيل. ضغط السي محمد ضغطات متواترة. ثمّ ضغط بالأصابع كلّها كما لو يبصم بجماعها عليه. اليد اليمنى ضغطت فيما اليد اليسرى كانت تشدّ على حافة الآلة. ولمّا لم يستجب المصعد زفر طويلاً، ولعن الآلة. قال إنه في لحظة ما فكر في قذفها بركلة من حذائه الرياضي، لكنه أحجم. وعوض أن يسبّ ويشتم ويجدّف آثر إشعال إنارة سلم الدرج. هو لم يشعل السلّم إذ مصابيحه كانت في الأصل مشتعلة، بيد أنه فعل بحكم العادة. في الواقع، سبقه الإصبع إلى الزر بفعل الأتمتة. كبس بالسبّابة وتراجع إلى الخلف قليلاً مثلما لو يستعد لمفاجأة. ماذا كان السي محمد ينتظر؟ بعد حينٍ، مضى الرجل إلى درجات السلم اللولب. دهم السطيحة المرمر الأولى بالقدم وقفز إلى الموالية متجاوزاً الوسطى. صار ينزل السلم مستعجلاً بلوغ باب العمارة. الطوابق الثلاثة أوجزها في اثنين وعشرين خطوة بدل أربع وأربعين خطوة. عندما وصل نهاية السلّم لم يكن المصعد قد بارح مكانه. كان فاره الفوهة الطولانية ومضاء الداخل. نظر إليه السي محمد شزراً. ثمّ توجّه صوب باب العمارة الرئيس ومنه الأعصاب تفري والدخيلة ترمي بشرر.
في الجهة الأخرى من الشارع، عند الرصيف المقابل، ومن دافن الأستوديو، كان السي عبد السلام يصفن وراء الكونطوار. عينٌ له، في ما وراء زجاج النظارة، على شاشة الحاسوب قدامه وعينٌ أخرى له، في ما وراء زجاج واجهة المحل المظلل، على باب العمارة. وحينما لمح السي محمد يمرق إلى الشارع رمى بالعينين معاً إلى حيث انتصب الرجل. رآه ينظر ذات اليمين وذات الشمال. بدا له السي محمد كأنما أعضل عليه أمره. فبات حائراً في أيّ السبيلين يختار. أيسلك اتجاه مركز الشرطة، فلا يكون عليه سوى قطع مسافة أمتار ليس غير أمْ يمشي نحو مركز البريد، فتأخذه القدمان إلى ملاوٍ قبل أن تسلمه إلى المبنى بشارع محمد الخامس. تصوّر السي عبد السلام وضع الرجل على هذا النحو دون أن يجزم بشيء. وخمّن أن الرجل حقاً في تردد فاضح. ثمّ ما عتم أن أبصره يخف إلى اليمين صوب البريد. من هيئته تلك لاحظ السي عبد السلام أن الرجل زايل الشقة حتى دون أن يسوّي كُسْوته. صفقا الياقة متفاوتان. ثمّ إن الحذاءين غير ملمّعين. وهذا ليس دأبه. وفي التو، فارق السي عبد السلام الكونطوار. وهبّ خارج الأستوديو عسى يدرك السي محمد، لكن هذا الأخير كان قد اختفى. هل جنح إلى درب؟ هل دلف إلى حانوت؟ لا مؤشر يؤدي إلى فكرة. أمعن من وراء النظارتين، فلم يكشف للرجل عن أثر. فرقع بحرف اللسان في جوف الفم وعاد إلى الكونطوار. رجع إلى الشاشة، شاشة حاسوبه الثابت، بينما البال، جزء من باله، مع السي محمد؟!
بعد حين، توقف طاكسي صغير حذاء العمارة، ومنه انسل السي محمد يبغي الباب. لم يسرْ مباشرة إلى البناية ذات الطوابق الخمسة. من طرف خفي شاهد السي عبد السلام يبارح محلّه إلى الأسكفة. أرتب وهو يخالف الذراعين معمداً إياهما على بطنه الدحل. تغافل عنه السي محمد وقد تعقف يحادث السائق لهنيهة. ثمّ سار نحو البناية فيما تسمّر الطاكسي في موضعه لا يغادر. ومن جديد، نحا جهة المصعد اللعين. فمٌ طولاني أدرد وأصفر الدافن مشعّه. مصعد لعين حقاً هذا الذي ترك خلفه بينما هو يرتقي الأدراج يحثّ الخطو إلى الشقة. عقب الطابق الثاني راح يزحر، ومن بُصيلات شعر رأسه الأرقط عرق يتبضع. عند الأدراج الأخيرة حشر اليد في الجيب يتحسس المفاتيح. ولم يصرف كثير وقت ليلج الداخل. أسرع إلى البالكون يستودف خبر الطاكسي. ثمّ لمح السي عبد السلام عند الوصيد وقد حطّ بالعين على السيارة لا يبرحها. فكر في هذا الفضول الزائد الذي يرشح به صاحب الأستوديو. عزاه إلى غياب زبائن يتلهى الرجل بهم عن السُوى. وقدر أن الرجل، ولا شك، ينتظر منه تفسيراً للجاري. كان السي محمد يتصفح الأوراق ويطوي بعضها على اثنين. يعيدُ أوراقاً إلى القمطر، ويركمُ أوراقاً جوراه. حركاته تشفّ عن اهتمام بما بين يديه من أغراض. أيّ أمرٍ هذا الذي أخذ بتلابيب السي محمد في ذاك الصباح؟ فكر في أن السي عبد السلام يقسم بالرب العظيم إنه يدفع غالياً لو أن أحدهم يمنحه فقط رأياً حول ما يجعل الطاكسي ينتظر في الأسفل، فابتسم. وربما أكشر أو لوّى شفتيه فحسب. لا أحد يُعلم بشيء. وحده السي محمد في بيته يَعلمُ، بينما غيره، بما في ذلك السي عبد السلام وكاتب هذه القصة القصيرة، يقدّر دون أن يقطع. لا يفهم السي محمد كيف يسرع السي عبد السلام فيغلظ يمينه. هنا، هنا بالضبط، سارع السي محمد إلى البالكون يستطلع حال الطاكسي عند الرصيف، وحال الرجل عند الباب. هذه المرة، كانت السيارة حاضرة تربض في مكانها فيما غاب السي عبد السلام. قبل أن يلج السي محمد الحمام، ويبارح الشقة، حشا محفظة الجلد البنية بالأوراق وأرساها على حافة كنبة الصوفا. دقائق جعل الماء يصوّتُ في إردبة الحمام. وخفتَ الصوت كثيراً إذ أغلق الرجل الباب مزايلاً. ثمّ قبض السي محمد على المحفظة باليد وغادر مهرولاً إلى الأدراج، ومنه البهدلة تهتزّ والثدي.
السي عبد السلام الذي ظل عند الأسكفة يتابع حوار السي محمد مع السائق قال إنه جس نبض جيبه. كان ذلك قبل أن يتوارى السي محمد في العمارة. ذكر أنه حسِب، لوقت، إنما الرجل لم يكن يملك فائض نقود فراح يساوم السائق. وقال إنه همّ لو يبادر فيقرضه مصروفاً أو يعالج المشكل بالنيابة. فلم يجرؤ إذ لم يشمله السي محمد بنظر يشي بطلبٍ أو ينبئ بحاجةٍ. ولما رأى ما رأى من صعود الرجل إلى العمارة، على ذلك النحو من الاستعجال، ومن تحاشيه له، أصفح باله عن الفكرة بالمرّة، وانكفأ يتابع من بعيد. وفي ذهنه طاف سؤال لم يتسع ساعتئذ لغيره. كيف لم يأبه السي محمد لوجوده المائز وهما معاً في الزنقة، الوجهَ في الوجهِ؟ أبعد السي عبد السلام خصومة ناشئة بين الرجلين. ولمَ يتخاصمان؟ سأل في سرّه. يذكر أن السي محمد جاءه قبل أيام يطلب صوراً. يذكره في بذلته المكوية وربطة عنقه الزرقاوين. يذكره أيضاً في قعدته الباذخة قدام آلة التصوير. قال السي محمد إنه يحتاج إلى صور حتى الصدر. لم يشر إلى الغاية منها. تصوّر وانصرف ينبسُ سرّه. لمْ يتخاصما كي يتجنب الرجل الالتفات إليه فيما هو يغادر العمارة ويمتطي الطاكسي. لمَ يتخاصمان وقد قضت العادة أن يصبّحا ويمسّيا على سلام؟ يتحاييان كلما تكافآ بالنظر. ولعلهما تبادلا كلمات مجاملة. هذا ديدنهما، وقد ألفاه عن طواعية وعفو الخاطر، مذ أن جمعت بينهما هذه الزنقة. لكن السي محمد أخلف عوائده هذه المرّة. كيف يفعل؟ السؤال لم يطرحه السي عبد السلام. أنا الذي طرحته. وأنا، إلى ذلك، طرحته عنوة حتى لا يخال أحد أنني عن مثل هذه الأمور بغافلٍ. لا أدع هذا القبيل من الشوارد تفوتني. أثبت في الشرفة إلى حين أستكمل تمام المشهد. يحلو لي أن أعاين، من هذه الشرفة، ما يجري في المحيط وأُحدثَ من التعديلات ما يناسب الهاجس.
قد يكون السي محمد ركب السيارة وترك السي عبد السلام قدام المحلّ مرتهناً بتوجساته، وأقلّه يضرب أخماسه لأسداسه. لكن الأرجح أن السي محمد لا يحمّل الموقف أكثر مما هو عليه. والموقف، كما ظهر لحظتها، أن الرجل حدد للسائق الوجهة وفارق الزنقة متأبطاً محفظته. والأحكم أيضاً أن المحفظة إياها تحوي أوراقاً ذات أهمية. والمؤكد أن السي عبد السلام لا يدري وجهة السيارة. لذا، تراه يشيّع الآلة مطمساً بالعينين وبخاطر حسير ودماء تغلي كالمرجل. السي محمد حنا على صاحبه بالتفاتة بارقة بينما الطاكسي يعطف به إلى اليمين بعيداً عن مركز الشرطة. هل أبصر السي عبد السلام صنيع الرجل ذاك؟ حتماً لا يقدر. ليس من تلك المسافة الفاصلة يستطيع. لا يقدر مهما وصوص بالعين. السلوك النشاز يستفز السي عبد السلام. خمّن الرجل سلوكَ السي محمد من فرط عزوبية ضاربة. وفي ظنّه أن العزوبية تغوّلت به حتى صارت له الظلّ الملازم. ولكَمْ رغب السي عبد السلام في أن يشفَعه بقرين يكون له العون على بغتات الزمن والأنيس في الوحدانية. يتعبه أن يشاهد الجار في أطواره العجيبة تلك. في الطريق إلى المقاطعة الثانية، فيما السيارة تنهب الأسفلت، ألصق السي محمد الركبتين، وأثبت المحفظة عليهما، ثمّ أفرغ البطن من الوثائق المرصوفة بالملف الكرتون الأزرق، وأنشأ يستعرض الواحدة عقب الأخرى، يفرز ويعدّ. كان يفعل وهو يدرك أن السائق يخالسه البصر إليها. يتفحص بالإبهام والسبّابة، وينوس بالنظر بين الوثائق وبين الورقة المشبكة في الغلاف كما لو يتأكد من استيفاء شروط عامة مقضي بها:
• عقد الازدياد،
• عدد 4 صور شخصية حديثة العهد،
• شهادة عدم السوابق العدلية مسلمة له من السلطات،
• شهادة تثبت المهنة أو الدخل،
• صورة من بطاقة التعريف الوطنية،
• طلب موجه إلى السيد قاضي الأسرة حسب عنوان إقامة الأسرة موقع من الخاطب والمخطوبة.
تنقص الملف شهادة طبية بالخلو من الأمراض المعدية. هذا ما ينقص الملف كي يستوفي أغراضه. واليوم يجب أن يغلق السي محمد الملف. هذا قرار. سوّى الوثائق بالملف. أعاد الملف إلى جوف المحفظة. ثمّ رمى بالبصر صوب الطريق. وفكر أنه بعد دقائق سيكون بالعيادة.
في الجهة الأخرى من الشارع، عند الرصيف المقابل، ومن دافن الأستوديو، كان السي عبد السلام يصفن وراء الكونطوار. عينٌ له، في ما وراء زجاج النظارة، على شاشة الحاسوب قدامه وعينٌ أخرى له، في ما وراء زجاج واجهة المحل المظلل، على باب العمارة. وحينما لمح السي محمد يمرق إلى الشارع رمى بالعينين معاً إلى حيث انتصب الرجل. رآه ينظر ذات اليمين وذات الشمال. بدا له السي محمد كأنما أعضل عليه أمره. فبات حائراً في أيّ السبيلين يختار. أيسلك اتجاه مركز الشرطة، فلا يكون عليه سوى قطع مسافة أمتار ليس غير أمْ يمشي نحو مركز البريد، فتأخذه القدمان إلى ملاوٍ قبل أن تسلمه إلى المبنى بشارع محمد الخامس. تصوّر السي عبد السلام وضع الرجل على هذا النحو دون أن يجزم بشيء. وخمّن أن الرجل حقاً في تردد فاضح. ثمّ ما عتم أن أبصره يخف إلى اليمين صوب البريد. من هيئته تلك لاحظ السي عبد السلام أن الرجل زايل الشقة حتى دون أن يسوّي كُسْوته. صفقا الياقة متفاوتان. ثمّ إن الحذاءين غير ملمّعين. وهذا ليس دأبه. وفي التو، فارق السي عبد السلام الكونطوار. وهبّ خارج الأستوديو عسى يدرك السي محمد، لكن هذا الأخير كان قد اختفى. هل جنح إلى درب؟ هل دلف إلى حانوت؟ لا مؤشر يؤدي إلى فكرة. أمعن من وراء النظارتين، فلم يكشف للرجل عن أثر. فرقع بحرف اللسان في جوف الفم وعاد إلى الكونطوار. رجع إلى الشاشة، شاشة حاسوبه الثابت، بينما البال، جزء من باله، مع السي محمد؟!
بعد حين، توقف طاكسي صغير حذاء العمارة، ومنه انسل السي محمد يبغي الباب. لم يسرْ مباشرة إلى البناية ذات الطوابق الخمسة. من طرف خفي شاهد السي عبد السلام يبارح محلّه إلى الأسكفة. أرتب وهو يخالف الذراعين معمداً إياهما على بطنه الدحل. تغافل عنه السي محمد وقد تعقف يحادث السائق لهنيهة. ثمّ سار نحو البناية فيما تسمّر الطاكسي في موضعه لا يغادر. ومن جديد، نحا جهة المصعد اللعين. فمٌ طولاني أدرد وأصفر الدافن مشعّه. مصعد لعين حقاً هذا الذي ترك خلفه بينما هو يرتقي الأدراج يحثّ الخطو إلى الشقة. عقب الطابق الثاني راح يزحر، ومن بُصيلات شعر رأسه الأرقط عرق يتبضع. عند الأدراج الأخيرة حشر اليد في الجيب يتحسس المفاتيح. ولم يصرف كثير وقت ليلج الداخل. أسرع إلى البالكون يستودف خبر الطاكسي. ثمّ لمح السي عبد السلام عند الوصيد وقد حطّ بالعين على السيارة لا يبرحها. فكر في هذا الفضول الزائد الذي يرشح به صاحب الأستوديو. عزاه إلى غياب زبائن يتلهى الرجل بهم عن السُوى. وقدر أن الرجل، ولا شك، ينتظر منه تفسيراً للجاري. كان السي محمد يتصفح الأوراق ويطوي بعضها على اثنين. يعيدُ أوراقاً إلى القمطر، ويركمُ أوراقاً جوراه. حركاته تشفّ عن اهتمام بما بين يديه من أغراض. أيّ أمرٍ هذا الذي أخذ بتلابيب السي محمد في ذاك الصباح؟ فكر في أن السي عبد السلام يقسم بالرب العظيم إنه يدفع غالياً لو أن أحدهم يمنحه فقط رأياً حول ما يجعل الطاكسي ينتظر في الأسفل، فابتسم. وربما أكشر أو لوّى شفتيه فحسب. لا أحد يُعلم بشيء. وحده السي محمد في بيته يَعلمُ، بينما غيره، بما في ذلك السي عبد السلام وكاتب هذه القصة القصيرة، يقدّر دون أن يقطع. لا يفهم السي محمد كيف يسرع السي عبد السلام فيغلظ يمينه. هنا، هنا بالضبط، سارع السي محمد إلى البالكون يستطلع حال الطاكسي عند الرصيف، وحال الرجل عند الباب. هذه المرة، كانت السيارة حاضرة تربض في مكانها فيما غاب السي عبد السلام. قبل أن يلج السي محمد الحمام، ويبارح الشقة، حشا محفظة الجلد البنية بالأوراق وأرساها على حافة كنبة الصوفا. دقائق جعل الماء يصوّتُ في إردبة الحمام. وخفتَ الصوت كثيراً إذ أغلق الرجل الباب مزايلاً. ثمّ قبض السي محمد على المحفظة باليد وغادر مهرولاً إلى الأدراج، ومنه البهدلة تهتزّ والثدي.
السي عبد السلام الذي ظل عند الأسكفة يتابع حوار السي محمد مع السائق قال إنه جس نبض جيبه. كان ذلك قبل أن يتوارى السي محمد في العمارة. ذكر أنه حسِب، لوقت، إنما الرجل لم يكن يملك فائض نقود فراح يساوم السائق. وقال إنه همّ لو يبادر فيقرضه مصروفاً أو يعالج المشكل بالنيابة. فلم يجرؤ إذ لم يشمله السي محمد بنظر يشي بطلبٍ أو ينبئ بحاجةٍ. ولما رأى ما رأى من صعود الرجل إلى العمارة، على ذلك النحو من الاستعجال، ومن تحاشيه له، أصفح باله عن الفكرة بالمرّة، وانكفأ يتابع من بعيد. وفي ذهنه طاف سؤال لم يتسع ساعتئذ لغيره. كيف لم يأبه السي محمد لوجوده المائز وهما معاً في الزنقة، الوجهَ في الوجهِ؟ أبعد السي عبد السلام خصومة ناشئة بين الرجلين. ولمَ يتخاصمان؟ سأل في سرّه. يذكر أن السي محمد جاءه قبل أيام يطلب صوراً. يذكره في بذلته المكوية وربطة عنقه الزرقاوين. يذكره أيضاً في قعدته الباذخة قدام آلة التصوير. قال السي محمد إنه يحتاج إلى صور حتى الصدر. لم يشر إلى الغاية منها. تصوّر وانصرف ينبسُ سرّه. لمْ يتخاصما كي يتجنب الرجل الالتفات إليه فيما هو يغادر العمارة ويمتطي الطاكسي. لمَ يتخاصمان وقد قضت العادة أن يصبّحا ويمسّيا على سلام؟ يتحاييان كلما تكافآ بالنظر. ولعلهما تبادلا كلمات مجاملة. هذا ديدنهما، وقد ألفاه عن طواعية وعفو الخاطر، مذ أن جمعت بينهما هذه الزنقة. لكن السي محمد أخلف عوائده هذه المرّة. كيف يفعل؟ السؤال لم يطرحه السي عبد السلام. أنا الذي طرحته. وأنا، إلى ذلك، طرحته عنوة حتى لا يخال أحد أنني عن مثل هذه الأمور بغافلٍ. لا أدع هذا القبيل من الشوارد تفوتني. أثبت في الشرفة إلى حين أستكمل تمام المشهد. يحلو لي أن أعاين، من هذه الشرفة، ما يجري في المحيط وأُحدثَ من التعديلات ما يناسب الهاجس.
قد يكون السي محمد ركب السيارة وترك السي عبد السلام قدام المحلّ مرتهناً بتوجساته، وأقلّه يضرب أخماسه لأسداسه. لكن الأرجح أن السي محمد لا يحمّل الموقف أكثر مما هو عليه. والموقف، كما ظهر لحظتها، أن الرجل حدد للسائق الوجهة وفارق الزنقة متأبطاً محفظته. والأحكم أيضاً أن المحفظة إياها تحوي أوراقاً ذات أهمية. والمؤكد أن السي عبد السلام لا يدري وجهة السيارة. لذا، تراه يشيّع الآلة مطمساً بالعينين وبخاطر حسير ودماء تغلي كالمرجل. السي محمد حنا على صاحبه بالتفاتة بارقة بينما الطاكسي يعطف به إلى اليمين بعيداً عن مركز الشرطة. هل أبصر السي عبد السلام صنيع الرجل ذاك؟ حتماً لا يقدر. ليس من تلك المسافة الفاصلة يستطيع. لا يقدر مهما وصوص بالعين. السلوك النشاز يستفز السي عبد السلام. خمّن الرجل سلوكَ السي محمد من فرط عزوبية ضاربة. وفي ظنّه أن العزوبية تغوّلت به حتى صارت له الظلّ الملازم. ولكَمْ رغب السي عبد السلام في أن يشفَعه بقرين يكون له العون على بغتات الزمن والأنيس في الوحدانية. يتعبه أن يشاهد الجار في أطواره العجيبة تلك. في الطريق إلى المقاطعة الثانية، فيما السيارة تنهب الأسفلت، ألصق السي محمد الركبتين، وأثبت المحفظة عليهما، ثمّ أفرغ البطن من الوثائق المرصوفة بالملف الكرتون الأزرق، وأنشأ يستعرض الواحدة عقب الأخرى، يفرز ويعدّ. كان يفعل وهو يدرك أن السائق يخالسه البصر إليها. يتفحص بالإبهام والسبّابة، وينوس بالنظر بين الوثائق وبين الورقة المشبكة في الغلاف كما لو يتأكد من استيفاء شروط عامة مقضي بها:
• عقد الازدياد،
• عدد 4 صور شخصية حديثة العهد،
• شهادة عدم السوابق العدلية مسلمة له من السلطات،
• شهادة تثبت المهنة أو الدخل،
• صورة من بطاقة التعريف الوطنية،
• طلب موجه إلى السيد قاضي الأسرة حسب عنوان إقامة الأسرة موقع من الخاطب والمخطوبة.
تنقص الملف شهادة طبية بالخلو من الأمراض المعدية. هذا ما ينقص الملف كي يستوفي أغراضه. واليوم يجب أن يغلق السي محمد الملف. هذا قرار. سوّى الوثائق بالملف. أعاد الملف إلى جوف المحفظة. ثمّ رمى بالبصر صوب الطريق. وفكر أنه بعد دقائق سيكون بالعيادة.