باسم جبير - مرشحة السجائر

بعد ان فاجئني بخبر انتقاله وانقطاعه عني وعن القسم الذي اعتدنا ان نعمل فيه وتطول جلسات سمرنا في فترة استراحة الظهيرة، فقد خُطف من امامي بحذر وسقط بعده متاع حياة مادة الأدب تلك التي ما انقض ان ينير ظلامها من خلال جبينه الناصع بالمعرفة والحكمة والتطلع الى التحرر من قيود الافكار الموهمة والمظللِة التي احاطت ببلادنا وبطلبتنا لينزل بهدوء متجذرا الى طين الارض وهو يكسُب الجميع بفكره المشع مخاطبا الظلام. هيهات ان يطيب لي العمل دون أراه وأسامره
وصدق الحكماء حين قالوا صديق المرء شريكه في عقله؛ فكلّ واحدٍ منّا يميل إلى النّاس الّذين يشبهونه ويتماثلون معه في الصّفات والاتّجاهات الأخلاقيّة والفكريّة، وذلك ما يؤكّده الحديث النبوي: المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم مَنْ يُخالِل. فما حدث بيني وبينه هو رابط قويّ يصل بين الأخلاق والفكرلدينا فقد تكونت العلاقات الأخويّة المبنيّة على أساس المحبّة والاحترام المتبادل فيما بيننا. ولقد أنعم الله على بعضنا البعض بنعمة الصداقة الحقيقيّة، فكنت انا فعلاً من الأشخاص المحظوظين. وهو الاخر كان يحبه الجميع كونه يملك القدرة على مغازلة مناطق الضعف داخل ارواح الطلبة ليستغله ويتوغل اكثر الى عقولهم ليزقّهم من علمه حتى باتو يعرفون النغمة التي يعزفها لاثارة عقولهم والعصف بها.

فاجأني وانقطع‘ فاجأني ورحل، وبقيت ابحث عن وسيلة للتأقلم بدونه فبدأت بالتوقف عن مسامرته لأتعوّد على نغم جديد داخل القسم اذ صار فارغا منه وليس من ذكراه. لا انكر استمرار علاقتي به وتواصلي الروحي معه غير انه ليس معي، ليس في جلسات الظهيرة ولا عملنا في القسم ولا مستويات اللغة التي كنا نتلاعب بها كيفما نريد وحسبما نعني. توقفنا وتوقف كل شيء لأبدأ من جديد، ادركت حينها كم هو صعب العثور على الأصدقاء الحقيقيين الّذين يقفون إلى جانبنا خلال مشاق الحياة. انه امر احزنني كثيرا في الحقيقة لا اقوى على الكف عن ذكره ولكنني وفي زحمة العمل والانتقال الى المبنى الجديد يظهر الالم من جديد وتوقد الذكريات. تفاجئت مرة اخرى لكن ليس كالمرة الاولى، انها مرشحة السجائر التي اعتاد صديقي ان يستخدمها ليصفي بها مرارة الحياة بعد حرق ايامها يوم بعد آخر وكما نحن فهو ينتظر ذلك اليوم الذي طالما حلم به وشحن عقله لاجله. كانت تلك المرشحة تداعب قلبي عبر نسمات السجائر ذات الطعم المختلف الذي إقترن بأثيره وعادت لي حزني اكثر لانها هذه المرشحة هي الشيء الوحيد الذي تبّقى منه وتجعلني اتخيله بيننا كلما فتحت ذلك الجرار، متسائلاً في اعماقي هل سيأتي اليوم اجده فيه امامي بدلا من المرشحة؟؟؟

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...