ليلى تباّني - ميلان كونديرا... مبدع لا يحتمل فقده .

..... أُنْثُروا تراب جثتي على أرض براغ ، فستزهر نرجسا و تغدو ربيع كلّ الفصول ، و بُثّوه على أرجاء باريس وسَيعزف الكلّ سوناتا الخلود .....
حتى في وداعه الأخير فيلسوفا براغماتيا ، أبى إلاّ أن يغادر خفيفا صامتا ، ويترك ثقل إبداعه يصدر ضجيجا .
ــــ هل أنت شيوعي يا سيد كونديرا ؟
ــــ لا، أنا روائي .
ـــ هل أنت منشقّ؟
ـــ لا أنا روائي.
ـــ هل أنت يساري أم يميني؟
-لا هذا ولا ذاك، أنا روائي.. تريد أن تعرفني، اقرأني.........
ها أنا أقرؤك يا كونديرا وشغف السؤال يراودني :
هل أنت فيلسوف يا سيد كونديرا ؟
يقودني حدسي الذي يؤكّده يقين تحليلي لنصوص كونديرا إلى احتمال الإيجاب في ردّه على سؤالي " نعم أنا فيلسوف" .
"ميلان كونديرا " ....وسط زخم من الغوغائيين ذوو الصراخ الفارغ ممن يحدثون كل يوم آلاف المرات ، برز كاتب لا يحدث إلا مرة وسط تعاقب أجيال ، يعدّ أحد أهم المجدّدين في العمل الروائي على وجه الكوكب . لمْ يكن التجديد في سرده الخارق وابتداع الشخصيات والحبكة المبتكرة ـــ فهو أقرب إلى التكرار والتموضع في نقاط معينة من التجربة الإنسانيّة ـــــ لكنّ التحديث شمل نظرته الخارقة للقضايا الكبرى الموسومة بالشمولية ، لينصبّ اهتمامه على ما يتفرّع عنها من تأمّل للذات البشرية في مواضع معينة من أعماله، فهو فيلسوف العادة والحياة اليومية ، يحترف السرد النفسي بامتياز ،
و روائي يستخدم الفلسفة، وليس فيلسوفا ذا مذهب فلسفي، ولهذا فإن العنصر الفكري يذاب في بنياته الروائية التي تساعده على فهم الحالات الإنسانية والتعمّق فيها، وكذلك في مسألة الكتابة الروائية وحتى تقنياتها الدقيقة والبنائية ، الأمر الذي يجعل قارئه يتوقف ليستوعب ما قد أختبره للتو من دهشة، هي الدهشة الفلسفية ذاتها ، كي تقودنا قناعاتنا إلى القول بأن كونديرا مشتّت بعقله، و الحيرة والقلق الدّائمين يلازمانه حيال كل الأشياء و الظواهر والأحداث والأشخاص ، فبدلا من أن ينشغل بالبحث عن الحقيقة، العقل، المعرفة، الوجود واللغة، يلجأ إلى اللغة والخيال ليؤثر على عواطفنا ويجعلنا نتماهى مع الشخصيات التي يرويها....
كونديرا فيلسوف ، فقد أكّد في كتابه " فنّ الرواية" : " بأنّ الرواية العظيمة هي التي تحملنا على التفكير في الأمور التي تحاول الفلسفة أن توضّحها طوال الوقت ،وأن مهمة الروائي لا تتوقف عند سرد الأحداث واستحضار الحقائق التاريخية بقدر ما تُعْنى بطرح الأسئلة الفلسفية وعلى الفلاسفة أن يحاولوا الاستفادة من الرواية ليقربوا المفاهيم التي يريدون إيصالها وشرحها، عوضا عن جعل الرواية خصما أو التقليل من شأنها وشأن من يهتمون بأمرها. في الحقيقة أن كل روائي يسعى للبوح بأفكاره ومشاعره المخبوءة ".
كونديرا فيلسوف ، فهو الذي حاول أن يفهم نفسه بنفسه ، و القارىء المتمكن الذي استغلّ كل المعطيات المخبوءة لنقد كل ماهو لاهوتي ومقنن بطريقة أدبية حوارية قل نظيرها ، وأكّد أن كافكا لم يسخر من أجلنا بل تألّم لأجلنا (الوصايا المغدورة ) .
كونديرا فيلسوف ، فلو أمعنّا النظر في كتاب " خيانة الوصايا" وجدنا أنّه يَعْبُر تسعة فصول، يتناول من خلالها قضايا تتعلّق بفنّ العيش وفلسفة الحياة المعاصرة ، ينقسم كل فصل إلى أجزاء صغيرة، وبهذا الأسلوب تتراوح الشخصيات بن الظهور المتكرّر والاختفاء المؤقت ، فهو بذلك يعرض فلسفته في الحياة بأساليب أدبية ساحرة ومشرقة بغض النظر عن اتفاقنا أو اختلافنا معه حول الرؤى والنظريات المطروحة . شعاره فلسفي الملمح نستشفّ من خلاله القطيعة والامتداد في سيرورة مستوحاة من مقطوعات موسيقية تتناوب فيها الألحان المختلفة ضمن كل مقطع ، لكن بتوزيع مختلف ، و تظهر فيها فلسفة الكاتب موسيقيا حيث يُفَصّل أفكاره على نوتات موسيقية ضمن سلّم الحياة .
كونديرا فيلسوف ، وهو الذي أدخل الرواية بخفة وبراعة بكلّ ثقلها ودسامتها في قلوب وعقول القراء عبر العالم ، واستهلّ روايته الخالدة " كائن لا تحتمل خفّته " بنظرية نتشه حول العَودُ الأبديّ تلك الفكرة التي يكتنفها الغموض، وبِها أربكَ العديد مِن الفلاسفة ، فيجعلنا نتصوَّر أنّ كلّ شيءٍ سيتكرَّرُ ذات يومٍ كما عشناهُ في السابق، وأنّ هذا التِكرار سيتكرَّر بلا نهاية! هذا التواصل والتكرار إلى ما لا نهاية يخلق في رأي كونديرا فعلاً متوالياً يستنتجه ثقيلاً، فيتَّخذ رأياً (بعداً فلسفياً) يدعو فيه إلى التخلص من هذا الثقل الذي هو بمثابةِ عبءٍ ليستحيل إنساناً آخر تملأ الحريةُ نصفَه، فيما النصف الآخر يوظَّف للواقع المُقيَّد بالأنظمةِ والأعراف، ان غياب العبء غياباً أبديا يجعل الكائنَ أخف من الهواء، يجعله يطير، يجعله يبتعد عن الأرض، عن الكائن الأرضي، يجعله واقعيا بنصفه فقط ...وهو ما صوّره في قالب سردي منفرد بين توماس وتيريزا .

كونديرا فيلسوف ، لأنّه خاض وبشجاعة وتميز في قضية الإيمان والكفر و الأخلاق ، من خلال روايته " إدوارد والرب" فقد كان متأثرا بالشيوعية وحاقد على الاشتراكية ، فتجلّت قناعاته في عرض قصّة أليس التى يحبها ادوارد والتى كانت شديدة الالتزام دينيا واقنعته بالايمان بالله فى وقت كانت فيه تلك جريمة فى عهد الشيوعية وللتقرب منها فعل ذلك قبل ان ينال جسدها ويكرهها تماما قائلا جملته " المرأة القادرة على خيانة الله قادرة على أن تخون رجلا أضعافا مضاعفة" ، وفى النهاية خلص إلى القول :" يوجد دائما ذلك الجزء من الحرية الذى يلائمنا والذى علينا أن نتجه نحوه بلا كلل حتى يظلّ فى هذا العالم من القوانين القاسية شىء من الفوضى الإنسانية .زملائى الاعزاء لتحيا الحرية .."

في النهاية أقف وقفة تقدير لرجل ناغم بين الفلسفة والرواية مثلما يناغم بين نوتات الحياة ، ليجعلهما يسعيان في النهاية لخير البشرية وقيمها الكبرى ....الخير والجمال والحق ، ويؤكّد رأيه معتبرا أنّ الرواية التي لا تكتشف جزءا من الوجود ما يزال مجهولا هي رواية لا أخلاقية.. و أن المعرفة هي أخلاقية الرواية الوحيدة . ولعلّ اعترافا كهذا مبرّرٌ كاف عندي لأن أتذكّر الرجل، و أمتنّ لمروره الذي أثرى الحياة بجلّ ما فيها وأقول بملء ثقتي : كونديرا هو المبدع الذي لا يحتمل فقده .





التفاعلات: سالم أحمد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...