لم يكن مقصدي المكان الذي استطاعت قواي أن توصلني إليه، والذي يقع على بعد شارعين فقط من منزلي؛ إنما كنتُ أنوي التسول من المخبز البلدي في الشارع المجاور.
حرّكني الجوع، بل أقعدني عن كل فعل حتى النوم لم أستطعه. تحاملتُ على نفسي ودفعت بها للخروج. كنتُ أحلم بقطعة خبز حاف واحدة فقط، تعودت أن أتسوّل عمال المخبز وتعودوا هم على منحي ما أريد وأخذ ما يريدون، كان بعضهم يبتاع لي (طعمية) من المرأة التي تبيعها (طازة) أمام المخبز حارة ولذيذة فتسكت عوائي، وأعرف المطلب من كمية (الطعمية) وعدد أرغفة الخبز. لم أكن أهتم كثيراً بما يأخذونه من جسدي ولم تكن طموحاتهم فيه كبيرة على أي حال، فأي شيء يمكنه أن يقدِّمه هذا الجسد المريض الهزيل المُنهك، وأي حرائق يمكنه أن يطفيء..؟!
وجدتُ المخبز مغلق ربما لمشكل في الكهرباء كما يحدث عادة، وهذا ما فسَّر لي عدم سماعي لصخب الصواني وهي تدخل وتخرج من المجمر فرحة بما تحمل من حرارة وحياة لأمثالي ولي؛ فنحنُ نرى الحياة في هذه القطعة الدائرية السمراء التي يؤدي سوء توزيع الحرارة فيها إلى أن تأخذ ملامح لوحة ذات تدرج لوني غير منتظم من الأبيض مروراً بالبني والبيج وانتهاءً بالأسود عندما تحترق في مواضع مختلفة، فتكون مثل ضربات الفرشاة الحادة والكثيفة اللون والتي ربما تدل على توتر الفنان في تلك اللحظة، فتبدو تلك المواضع مترفة اللون باذخة العمق، وعندما نقبض على تلك الدائرة نشعر وكأننا قبضنا على قطعة من الجنة.
إغلاق المخبز في وجهي يعني استمرار جوعي الذي سيدخلني في صدمة سُكّر لا أعرف متى أفيق منها وربما لا أفيق. فكّرتُ في هذا وأنا أصطدم بمرأى الباب الحديدي الضخم مغلق على محتوياته التي جزء منها أكسير حياتي.
وقفتُ في هدوء ذاك الليل أتساءل: ما الحل..؟ أعود أم أنتظر مصيري هنا..؟ وما الفائدة من عودتي إلى المنزل وليس فيه سوى ماء الصنبور وأمي التي أنا أفضل حالاً منها بامتلاكي عقلي كاملاً، أما هي فبنصف عقل أو ربع عقل والذي يغيب ويعود بوتيرة غير منتظمة وفترات غياب وعودة يعرفها هو فقط.
ماء الصنبور إذا عدت من أجله سيملأني مثل (القِربَة) ولن يسكت جوعي وسيزيد من مرات تبولي الكثيرة أصلاً والخارجة عن قدرتي على إحصائها؛ فأنا لا أعرف ما بعد عشرة، ربما مائة أو ثلاثين لا أستطيع الجزم بهذا، وأخطئ كثيراً في العد ما بين تسعة وثمانية أعرف تتاليهما ولكني أجهل أيُّهما تسبق الأخرى، فما ينطقها لساني أولاً أعتبرها هي الأولى ولساني ينطق حسب هواه يوماً يحب التسعة وآخر الثمانية، وعموماً لا أستخدم العدّ إلا عندما أحسب عدد أرغفة الخبز التي التهمتها في الأسبوع والتي نادراً ما تتخطى العشرة ويقف عندها عدِّي ويكون ذلك الأسبوع بالنسبة لي مترع بالشبع خاصة إذا رافقته طعمية وطبيخ ممَّا يفيض عن حاجة جارتنا الطيبة المسافرة الآن.
إذن ماء الصنبور ليس مغرٍ كفاية لأعود؛ لذا سألجأ إلى طرق الأبواب وهو ما نهاني عنه خالي وضربني عندما وجدني أطرق باب أحد أصدقاءه وقال لي: فضحتينا..!
اعتراضه على طرقي الأبواب في حينا والحي المجاور فقط، أما في الأحياء البعيدة فلا مانع لديه بل يشاركني ما أحصل عليه وينصحني بألا أضيِّع جهدي في طرق الأبواب الصدئة والمهلهلة وغير المطليّة والمفتوحة.
خالي يعمل سائقاً في احدي المؤسسات ولكنه أيضاً يشغل وظيفة سكير من الدرجة الأولى ولن أستفيض فيما يفعله براتبه..
هممتُ بأن أضرب بخوفه من الفضيحة عرض الحائط، فثعابيني الملتفة داخلي يزداد فحيحها مع مرور الدقائق ولا بد من رمي فريسة لها وإلا ستلتهمني أنا..
لحظتها تناهى إلى مسامعي صوت حفل يأتي من بعيد، أصختُ السمع فبدأ لي الصوت أكثر وضوحاً، تساءلت: حفل عرس..؟ ولكن اليوم ليس الخميس وحسب فهمي ومعرفتي وخبرتي أنَّ الخميس هو اليوم المخصص للأعراس، لذا كنتُ كل خميس أتشمم بيوت الأعراس وهي الأبواب المفتوحة الوحيدة التي طالبني خالي بالولوج منها دون استئذان وضَمن لي خروجي وبطني دافئة ووجهي مبتسم، معه حق فخروجي دائماً ليس كدخولي حتى لو التهمت ما تبقى في الصحون وهذا ما يحدث عادة..
اليوم الاثنين وليس ثمّة عرس، ماذا يكون..؟
تذكرت حديث صديقتي - التي تتصيد أماكن المناسبات مثلي- قبل يومين أن هناك عيد ميلاد ولكنها لم تحدد لي الموعد، ربما اليوم.. حسناً أيَّاً كان سبب الحفل سأتبع الصوت وأحصل على ما يبقيني حيّة حتى الغد.
سرتُ خطوات ثم بدأت أشعر برجفة خفيفة في يدي. كنت أفكر بما سأحصل عليه تسولاً، خطفاً أو حتى سرقة.
أحتاج أن آكل وأحتاج إلى شيء فيه سُكّر بما أن هذه الرجفة بدأت في الوضوح والازدياد.
أسرعت وبدأ لي الطريق طويل وبلا نهاية رغم أنه شارع واحد فقط، هل أستطيع الاحتمال...؟
جاءتني الإجابة بعض لحظة عندما تداعى كل شيء فيّ وسقطتُ في عرض الشارع، لم أفقد وعيي ولكني فقدتُ قدرتي على النهوض والسير مجدداً.
مكثتُ في مكاني عدة دقائق أو ساعات تلاشى بعدها أملي في استعادة ولو مقدار بسيط من الطاقة توصلني إلى بيت الحفل. سمعتُ صوت سيارة وأدركت خطر أن أبقى في مكاني حتى الصباح، فلابُدَّ أن لحمي وعظامي ودمائي ستختلط بهذا التراب.
تحاملت .. زحفت ببطء.. ببطء زحفت.. تخدّشت ركبتاي وآلمني ضغط الحجارة الصغيرة و ذرات التراب في مرفقيّ، لا بُدّ من الاحتراس فجرح بسيط قد يؤدي إلى بتر عضو من أعضائي.
زحفتُ إلى أقرب بيت الذي يقع على الناصية، أمامه حجر كبير و(مزيرة) بها ثلاثة أزيار. نصبتُ جذعي على الأرض وأسندتُ ظهري بالحجر الكبير. لم أستطع الوصول إلى (المزيرة) لأتجرع قطرة ماء كما لم استطع الوصول إلى الباب لأطرقه فقبعت مكاني.
هاهي قواي تخذلني كما خذلني أبي عندما هرب إلى العالم الآخر ولا أدري أين يقيم الآن، وكما خذلتني أمي بهروبها إلى عالم يخصها وحدها تهوِّم فيه وتتنزه في حدائقه الخضراء. أمي المسكينة لم تحتمل غياب أبي ففي ذات اللحظة التي دخل فيها جسده القبر طار عقلها في الهواء وتناثرت خلاياه واختلطت بذراته. خذلتني قواي كما خذلني خالي وكما خذلني جسدي بانتصار السُكّر اللعين عليه.
كلبٌ بدأ بالنباح، تبعه آخر، هاهما قادمان نحوي، لا بُدّ أنهما ظناني جيفة أو أي شيء يؤكل. الشارع خالي وهادئ، الساعة لا أدريها ولكني أجزم أنَّ لا أحد مستيقظ سواي وسوى هذه الكلاب التي بدأ عددها يتكاثر وأولئك الراقصون في الحفل.
كل خليّة في جسدي ترتعش، قبضت حفنة تراب وسففتها. الكلاب تتجمع حولي.. تنبح.. تقترب مني.. تقترب أكثر.. أحدهم نظر إليّ طويلاً وأقترب مني جداً، كان كلب جارتنا الطيبة، تشممني، نظر في عينيّ، أظنَّه عرفني، مسَّني بإحدى يديه أو قدميه لا ادري فهو يسير على أربع ولا أدري أيُّهم الأيادي وأيُّهم الأقدام.
عندما بدأت الكلاب بالاقتراب أكثر وخَفَت نباحها التفت إليهم ولا بُدّ أنَّه قال لهم شيئاً فقد تراجعوا قليلاً وصمتوا تماماً.
كان ينظر إليّ برقة وحنان، ثم تغيرت فجأة النظرة في عينيه والتفت إلى أصدقائه، تحدث إليهم بما لا أدريه، وركض تبعه بعضهم وبعضهم بقي معي.
بعض من كانوا في الحفل جاءوا بصخبهم وضجيجهم ومرَّوا حتى دون أن يلتفتوا إليّ، لم يستطيع صوتي الخروج من حنجرتي، وهاهو خذلان آخر.
بدأت عيناي في الإظلام، وحراسي ينظرون إليّ بقلق. سففتُ حفنة تراب أخرى، نظرت إلى الزير طويلاً: ماذا لو كان أقرب قليلاً...؟!
أحدهم جرَّ إناء النُّقاع (الإناء أسفل الزير) بفمه وقرَّبه إلي، تناولت الإناء وشربت، بعض الماء تدفق في جوفي والآخر على ملابسي المهترئة بسبب رجفتي. ابتسمت له وتعجّبت من رهافة حس الكلاب، لم أكن أعلم أنَّ الكلاب أو أي حيوانات أخرى تشعر وتحس وتدرك كما البشر، لعقوا بعدي الإناء، ربما كانوا عطاشى مثلي ثم بدأت الكلاب بالثرثرة لتسليتي كما فهمت والحؤول دوني والإغماء أو الموت كما ظنَّوا..
شكَّلوا قوس حولي، أحد الصغار غازلني بحذر، تشمّم قدمي ثم مسّني بيده البضّة بودّ ورقّة، التفت إليه كان صغيراً وجميلاً، تطلّع في وجهي، مسّني مرة أخرى، مددت له يدي بإعياء، نظر إليها ثم إلي وجهي ثانية، ابتسم فابتسمت له، لعق يدي وقفز إلى حجري ومكث هناك. مسحت على فروه الناعم بسرور فتدفأت به.
كلب وكلبة كانا في حالة حب على مرأى الجميع، عندما فرغا سألت بدهشة:
- هكذا..؟!
فأجابني بفحولة:
- نعم، في كل وقت وأي مكان.
قصَّ لي إنه عندما التقاها أول مرة سرقت قلبه وعقله فقرر أن ينالها رغم أنها كانت محاطة بأربعة كلاب ضخام، دخل في تحدي وجعلها الرهان، إن تغلّبوا عليه فازوا بها، وإن غلبهم تكون له وحده، وقد كان. أما هي فقد قالت لي:
- أعجبتني جراءته وشجاعته فأحببته ومن يومها لا نفترق أبداً.
القصة فتحت شهية الكلاب أكثر فحكوا لي عن أنفسهم وعن مناكفتهم القطط وبحثهم في تلال القمامة وحتى عن البشر. لا أدري بأي لغة تحدثوا، وربما قالوا وحكوا وربما تخيلت أنا، يصعب عليّ الجزم الآن فقد كنت على أعتاب غيبوبة لا أستطيع عندها التفرقة بين الحقيقة والخيال، ولكني استمتعت فعلاً بصحبتهم وأريحيتهم وجعلي فرداً منهم.
كنت قبلاً لا أعير الكلاب اهتماماً، لا أخافها، لا أحبها ولا أذكرها إلا عندما أراها، عرفت فيما بعد أن أميِّز بين الأنثى والذكر منها، عاداتها، طريقة حياتها، علاقتها بالناس، صفاتها وغناها بأشياء يفتقر إليها البشر. كانوا كرماء معي، سلّوني، غنوا، رقصوا لي، بذلوا ما في وسعهم كي لا أموت.
وأنا على مداخل الغيبوبة أو الموت ظهر من بعيد رتل الكلاب يقودهم كلب جارتنا وشيء ما في فمه، ظننت أن عيني بدأتا في الهذيان ورؤية ما ليس موجود، باقترابهم أكثر رأيت بوضوح أن كلاً منهم يحمل شيئاً في فمه، كلب جارتنا رمى لي بقطعة لحم وهو ينظر في عيني، لا أدري من أي قمامة أتى بها أو من أي بيت سرقها، وهل أفكِّر حينها..؟!
ثم آخر رمى برغيفة خبز نصفها متخمِّر، وآخر بقطعة لحم نيئة، وآخر بفخذ دجاجة، وآخر، وآخر وأشياء لم أكن أعرفها. كنت أنا لا أميِّز بين ما يرمونه لي، كنت أتلقف ما يُرمى بسرعة وألتهمه بشراهة وأتجاهل صرير ذرات الرمل بين أسناني، ورائحة التعفُّن والبكتريا فيما آكله، ربما أكلت ضمن ما أكلت قطة، أو فأراً، أو ضبّاً أو حتى بلعت عظماً وهل كان يهم ..؟!
وها هي كائنات أخرى يمكنني تسوّلها...
حرّكني الجوع، بل أقعدني عن كل فعل حتى النوم لم أستطعه. تحاملتُ على نفسي ودفعت بها للخروج. كنتُ أحلم بقطعة خبز حاف واحدة فقط، تعودت أن أتسوّل عمال المخبز وتعودوا هم على منحي ما أريد وأخذ ما يريدون، كان بعضهم يبتاع لي (طعمية) من المرأة التي تبيعها (طازة) أمام المخبز حارة ولذيذة فتسكت عوائي، وأعرف المطلب من كمية (الطعمية) وعدد أرغفة الخبز. لم أكن أهتم كثيراً بما يأخذونه من جسدي ولم تكن طموحاتهم فيه كبيرة على أي حال، فأي شيء يمكنه أن يقدِّمه هذا الجسد المريض الهزيل المُنهك، وأي حرائق يمكنه أن يطفيء..؟!
وجدتُ المخبز مغلق ربما لمشكل في الكهرباء كما يحدث عادة، وهذا ما فسَّر لي عدم سماعي لصخب الصواني وهي تدخل وتخرج من المجمر فرحة بما تحمل من حرارة وحياة لأمثالي ولي؛ فنحنُ نرى الحياة في هذه القطعة الدائرية السمراء التي يؤدي سوء توزيع الحرارة فيها إلى أن تأخذ ملامح لوحة ذات تدرج لوني غير منتظم من الأبيض مروراً بالبني والبيج وانتهاءً بالأسود عندما تحترق في مواضع مختلفة، فتكون مثل ضربات الفرشاة الحادة والكثيفة اللون والتي ربما تدل على توتر الفنان في تلك اللحظة، فتبدو تلك المواضع مترفة اللون باذخة العمق، وعندما نقبض على تلك الدائرة نشعر وكأننا قبضنا على قطعة من الجنة.
إغلاق المخبز في وجهي يعني استمرار جوعي الذي سيدخلني في صدمة سُكّر لا أعرف متى أفيق منها وربما لا أفيق. فكّرتُ في هذا وأنا أصطدم بمرأى الباب الحديدي الضخم مغلق على محتوياته التي جزء منها أكسير حياتي.
وقفتُ في هدوء ذاك الليل أتساءل: ما الحل..؟ أعود أم أنتظر مصيري هنا..؟ وما الفائدة من عودتي إلى المنزل وليس فيه سوى ماء الصنبور وأمي التي أنا أفضل حالاً منها بامتلاكي عقلي كاملاً، أما هي فبنصف عقل أو ربع عقل والذي يغيب ويعود بوتيرة غير منتظمة وفترات غياب وعودة يعرفها هو فقط.
ماء الصنبور إذا عدت من أجله سيملأني مثل (القِربَة) ولن يسكت جوعي وسيزيد من مرات تبولي الكثيرة أصلاً والخارجة عن قدرتي على إحصائها؛ فأنا لا أعرف ما بعد عشرة، ربما مائة أو ثلاثين لا أستطيع الجزم بهذا، وأخطئ كثيراً في العد ما بين تسعة وثمانية أعرف تتاليهما ولكني أجهل أيُّهما تسبق الأخرى، فما ينطقها لساني أولاً أعتبرها هي الأولى ولساني ينطق حسب هواه يوماً يحب التسعة وآخر الثمانية، وعموماً لا أستخدم العدّ إلا عندما أحسب عدد أرغفة الخبز التي التهمتها في الأسبوع والتي نادراً ما تتخطى العشرة ويقف عندها عدِّي ويكون ذلك الأسبوع بالنسبة لي مترع بالشبع خاصة إذا رافقته طعمية وطبيخ ممَّا يفيض عن حاجة جارتنا الطيبة المسافرة الآن.
إذن ماء الصنبور ليس مغرٍ كفاية لأعود؛ لذا سألجأ إلى طرق الأبواب وهو ما نهاني عنه خالي وضربني عندما وجدني أطرق باب أحد أصدقاءه وقال لي: فضحتينا..!
اعتراضه على طرقي الأبواب في حينا والحي المجاور فقط، أما في الأحياء البعيدة فلا مانع لديه بل يشاركني ما أحصل عليه وينصحني بألا أضيِّع جهدي في طرق الأبواب الصدئة والمهلهلة وغير المطليّة والمفتوحة.
خالي يعمل سائقاً في احدي المؤسسات ولكنه أيضاً يشغل وظيفة سكير من الدرجة الأولى ولن أستفيض فيما يفعله براتبه..
هممتُ بأن أضرب بخوفه من الفضيحة عرض الحائط، فثعابيني الملتفة داخلي يزداد فحيحها مع مرور الدقائق ولا بد من رمي فريسة لها وإلا ستلتهمني أنا..
لحظتها تناهى إلى مسامعي صوت حفل يأتي من بعيد، أصختُ السمع فبدأ لي الصوت أكثر وضوحاً، تساءلت: حفل عرس..؟ ولكن اليوم ليس الخميس وحسب فهمي ومعرفتي وخبرتي أنَّ الخميس هو اليوم المخصص للأعراس، لذا كنتُ كل خميس أتشمم بيوت الأعراس وهي الأبواب المفتوحة الوحيدة التي طالبني خالي بالولوج منها دون استئذان وضَمن لي خروجي وبطني دافئة ووجهي مبتسم، معه حق فخروجي دائماً ليس كدخولي حتى لو التهمت ما تبقى في الصحون وهذا ما يحدث عادة..
اليوم الاثنين وليس ثمّة عرس، ماذا يكون..؟
تذكرت حديث صديقتي - التي تتصيد أماكن المناسبات مثلي- قبل يومين أن هناك عيد ميلاد ولكنها لم تحدد لي الموعد، ربما اليوم.. حسناً أيَّاً كان سبب الحفل سأتبع الصوت وأحصل على ما يبقيني حيّة حتى الغد.
سرتُ خطوات ثم بدأت أشعر برجفة خفيفة في يدي. كنت أفكر بما سأحصل عليه تسولاً، خطفاً أو حتى سرقة.
أحتاج أن آكل وأحتاج إلى شيء فيه سُكّر بما أن هذه الرجفة بدأت في الوضوح والازدياد.
أسرعت وبدأ لي الطريق طويل وبلا نهاية رغم أنه شارع واحد فقط، هل أستطيع الاحتمال...؟
جاءتني الإجابة بعض لحظة عندما تداعى كل شيء فيّ وسقطتُ في عرض الشارع، لم أفقد وعيي ولكني فقدتُ قدرتي على النهوض والسير مجدداً.
مكثتُ في مكاني عدة دقائق أو ساعات تلاشى بعدها أملي في استعادة ولو مقدار بسيط من الطاقة توصلني إلى بيت الحفل. سمعتُ صوت سيارة وأدركت خطر أن أبقى في مكاني حتى الصباح، فلابُدَّ أن لحمي وعظامي ودمائي ستختلط بهذا التراب.
تحاملت .. زحفت ببطء.. ببطء زحفت.. تخدّشت ركبتاي وآلمني ضغط الحجارة الصغيرة و ذرات التراب في مرفقيّ، لا بُدّ من الاحتراس فجرح بسيط قد يؤدي إلى بتر عضو من أعضائي.
زحفتُ إلى أقرب بيت الذي يقع على الناصية، أمامه حجر كبير و(مزيرة) بها ثلاثة أزيار. نصبتُ جذعي على الأرض وأسندتُ ظهري بالحجر الكبير. لم أستطع الوصول إلى (المزيرة) لأتجرع قطرة ماء كما لم استطع الوصول إلى الباب لأطرقه فقبعت مكاني.
هاهي قواي تخذلني كما خذلني أبي عندما هرب إلى العالم الآخر ولا أدري أين يقيم الآن، وكما خذلتني أمي بهروبها إلى عالم يخصها وحدها تهوِّم فيه وتتنزه في حدائقه الخضراء. أمي المسكينة لم تحتمل غياب أبي ففي ذات اللحظة التي دخل فيها جسده القبر طار عقلها في الهواء وتناثرت خلاياه واختلطت بذراته. خذلتني قواي كما خذلني خالي وكما خذلني جسدي بانتصار السُكّر اللعين عليه.
كلبٌ بدأ بالنباح، تبعه آخر، هاهما قادمان نحوي، لا بُدّ أنهما ظناني جيفة أو أي شيء يؤكل. الشارع خالي وهادئ، الساعة لا أدريها ولكني أجزم أنَّ لا أحد مستيقظ سواي وسوى هذه الكلاب التي بدأ عددها يتكاثر وأولئك الراقصون في الحفل.
كل خليّة في جسدي ترتعش، قبضت حفنة تراب وسففتها. الكلاب تتجمع حولي.. تنبح.. تقترب مني.. تقترب أكثر.. أحدهم نظر إليّ طويلاً وأقترب مني جداً، كان كلب جارتنا الطيبة، تشممني، نظر في عينيّ، أظنَّه عرفني، مسَّني بإحدى يديه أو قدميه لا ادري فهو يسير على أربع ولا أدري أيُّهم الأيادي وأيُّهم الأقدام.
عندما بدأت الكلاب بالاقتراب أكثر وخَفَت نباحها التفت إليهم ولا بُدّ أنَّه قال لهم شيئاً فقد تراجعوا قليلاً وصمتوا تماماً.
كان ينظر إليّ برقة وحنان، ثم تغيرت فجأة النظرة في عينيه والتفت إلى أصدقائه، تحدث إليهم بما لا أدريه، وركض تبعه بعضهم وبعضهم بقي معي.
بعض من كانوا في الحفل جاءوا بصخبهم وضجيجهم ومرَّوا حتى دون أن يلتفتوا إليّ، لم يستطيع صوتي الخروج من حنجرتي، وهاهو خذلان آخر.
بدأت عيناي في الإظلام، وحراسي ينظرون إليّ بقلق. سففتُ حفنة تراب أخرى، نظرت إلى الزير طويلاً: ماذا لو كان أقرب قليلاً...؟!
أحدهم جرَّ إناء النُّقاع (الإناء أسفل الزير) بفمه وقرَّبه إلي، تناولت الإناء وشربت، بعض الماء تدفق في جوفي والآخر على ملابسي المهترئة بسبب رجفتي. ابتسمت له وتعجّبت من رهافة حس الكلاب، لم أكن أعلم أنَّ الكلاب أو أي حيوانات أخرى تشعر وتحس وتدرك كما البشر، لعقوا بعدي الإناء، ربما كانوا عطاشى مثلي ثم بدأت الكلاب بالثرثرة لتسليتي كما فهمت والحؤول دوني والإغماء أو الموت كما ظنَّوا..
شكَّلوا قوس حولي، أحد الصغار غازلني بحذر، تشمّم قدمي ثم مسّني بيده البضّة بودّ ورقّة، التفت إليه كان صغيراً وجميلاً، تطلّع في وجهي، مسّني مرة أخرى، مددت له يدي بإعياء، نظر إليها ثم إلي وجهي ثانية، ابتسم فابتسمت له، لعق يدي وقفز إلى حجري ومكث هناك. مسحت على فروه الناعم بسرور فتدفأت به.
كلب وكلبة كانا في حالة حب على مرأى الجميع، عندما فرغا سألت بدهشة:
- هكذا..؟!
فأجابني بفحولة:
- نعم، في كل وقت وأي مكان.
قصَّ لي إنه عندما التقاها أول مرة سرقت قلبه وعقله فقرر أن ينالها رغم أنها كانت محاطة بأربعة كلاب ضخام، دخل في تحدي وجعلها الرهان، إن تغلّبوا عليه فازوا بها، وإن غلبهم تكون له وحده، وقد كان. أما هي فقد قالت لي:
- أعجبتني جراءته وشجاعته فأحببته ومن يومها لا نفترق أبداً.
القصة فتحت شهية الكلاب أكثر فحكوا لي عن أنفسهم وعن مناكفتهم القطط وبحثهم في تلال القمامة وحتى عن البشر. لا أدري بأي لغة تحدثوا، وربما قالوا وحكوا وربما تخيلت أنا، يصعب عليّ الجزم الآن فقد كنت على أعتاب غيبوبة لا أستطيع عندها التفرقة بين الحقيقة والخيال، ولكني استمتعت فعلاً بصحبتهم وأريحيتهم وجعلي فرداً منهم.
كنت قبلاً لا أعير الكلاب اهتماماً، لا أخافها، لا أحبها ولا أذكرها إلا عندما أراها، عرفت فيما بعد أن أميِّز بين الأنثى والذكر منها، عاداتها، طريقة حياتها، علاقتها بالناس، صفاتها وغناها بأشياء يفتقر إليها البشر. كانوا كرماء معي، سلّوني، غنوا، رقصوا لي، بذلوا ما في وسعهم كي لا أموت.
وأنا على مداخل الغيبوبة أو الموت ظهر من بعيد رتل الكلاب يقودهم كلب جارتنا وشيء ما في فمه، ظننت أن عيني بدأتا في الهذيان ورؤية ما ليس موجود، باقترابهم أكثر رأيت بوضوح أن كلاً منهم يحمل شيئاً في فمه، كلب جارتنا رمى لي بقطعة لحم وهو ينظر في عيني، لا أدري من أي قمامة أتى بها أو من أي بيت سرقها، وهل أفكِّر حينها..؟!
ثم آخر رمى برغيفة خبز نصفها متخمِّر، وآخر بقطعة لحم نيئة، وآخر بفخذ دجاجة، وآخر، وآخر وأشياء لم أكن أعرفها. كنت أنا لا أميِّز بين ما يرمونه لي، كنت أتلقف ما يُرمى بسرعة وألتهمه بشراهة وأتجاهل صرير ذرات الرمل بين أسناني، ورائحة التعفُّن والبكتريا فيما آكله، ربما أكلت ضمن ما أكلت قطة، أو فأراً، أو ضبّاً أو حتى بلعت عظماً وهل كان يهم ..؟!
وها هي كائنات أخرى يمكنني تسوّلها...