سعد محمود شبيب - سيرة ظل نضال القاضي ، ووهج شمسها

التعامل مع تأريخ العراق أدبيا ، مسألة محفوفة بألف محظور، فنحن بلد لم يعرف الاستقرار يوما ، وكل ما يقال عن زمن جميل وبلد سعيد ، إنما هو أمر محدود ونسبي وزمن قصير .
ففي جميع العهود الغابرة ، كان الاضطهاد والجهل وتكميم الأفواه والغوص بنهر من دماء هو المشهد الغالب على الساحة ، ذلك التأريخ الذي تناولته الروائية العراقية نضال القاضي ، بأسلوب جديد ، وطرح عميق، لم يزل محط اهتمام النقاد ، داخل وخارج العراق .

المجازفة الكبيرة .
ان تناول التأريخ من قبل الروائي ، مغامرة كبيرة مثقلة بالمخاطر ، لا يكتب لها النجاح عادة، حتى أن اديبا كبيرا مثل جمال الغيطاني ، عزف عن إتمام روايته (الزمن لم يبدأ غدا) ، والتي حاول من خلالها تناول تأريخ مصر منذ نشوء الدولة الفاطمية حتى حكم جمال عبد الناصر، إلا أنه وبموجب لقاء معه في صحيفة الأهرام المصرية عام ١٩٩٠ ، ذكر أنه اصطدم بمعضلة كبيرة، ألا وهي كيفية صياغة التأريخ المفعم بالجفاف والاسماء الملتوية والحوادث المعقدة روائيا، مثل سيرة حكم المماليك، وحكم محمد علي والسلاطين من بعده، والثورات ومكابدات الاحتلال، ليتعذر عليه اتمامها فيركنها على الرف.

ومن هنا يمكن لنا القول إن معظم الروايات التي نهلت من التأريخ، كانت من جنس ثالث هجين، ليس بالأدب الذي نتلذذ بمطالعته، ولا كتب تأريخ يمكن ان يعتد بها ، بل مجرد نتاجات بائسة يتناولها الجميع بالتجريح والسخرية .

أما رواية( سيرة ظل) للروائية القاضي، فلعل من أهم أسباب نجاحها ، كون صاحبتها قد تدرجت خلال حياتها من الشعر إلى القصة القصيرة، وكابدت في مجال القصص القصيرة وكانت كمن تسير حافية القدمين على الصخور بموجب وصفها، ثم لفتت الأنظار نحوها فيما تكتب ، لتولد هذه الرواية التي تصدرت الساحة الادبية عام 2009 ، ولم تزل تشغل الكثير بأسلوبها وفكرتها وطلاسمها الخفية .

حين يدون التأريخ بسحر .


(( عين ماء وضربة ريشة خاطفة، لطخة سوداء تمتد فوق رؤوسنا يسمونها الليل، العين محددة بباب خشبي ومجدولة حافاتها بأسلاك وطحالب، ولا أدري من منهما يسحل الآخر هي أم القمر؟ رأسي مشغول بأشياء كثيرة ولم يكن ليعنيني ذلك ..))
بهذه اللغة الشعرية الحالمة، المغموسة برهافة الحس ، البعيدة عن التكلف والإطالة والمزوقات اللغوية والانشاء البغيض ، تبتديء الروائية سردها وتجعلك تحرص عند كل سطر أن تتواصل مع السطر الذي يليه، لتتزاحم الأحداث كثيفة واسعة بنفس الوتيرة الحالمة حتى آخر سطر منها ، لافرق بين تناول الحرب والحب، والقبح والجمال، والظلم واحلام العاشقين.
لتصف قرنا من الزمان ، هو الفاعل في تأريخ العراق ، منذ سقوط الدولة العثمانية البغيضة حتى سقوط حكم الطاغية.
ان من الملفت للنظر حقا ، كون القاضي لم تترك جزئية صغيرة الا وتناولتها بالوصف العميق وبأدق التفاصيل، بدءا من محتويات الحجرة الصغيرة والدواليب التي عششت فيها العناكب والجدران التي عفا عليها الزمن، ونهاية بوصف خضرة المزارع ووعورة المسالك والطرقات وصولا إلى وصف مغيب الشمس وطلوع القمر وتلك القدرة التي تهيمن على الكون ، علما أن تناول كل صغيرة وكبيرة بالوصف ومن أجل هدف محدد ، يعد مسألة في غاية الصعوبة ومنتهى الاجهاد، ذاك الاجهاد الذي كابدته لتكون بين ايدينا هذه الرواية المهمة .

كما وأنها لم تناقش الشخوص ، ولم تحاور الأشياء ، بل كانت في صراع مرير مع المبادئ نفسها ، العدل والانصاف والحرية التي تتغنى بها في معظم أعمالها الأدبية
لمست جراح الوطن. بمبضع طبيب ، لكنها ظلت بقربه تتأمل شفاءه، شخصت عيوبه ومثالبه الكبيرة ، غير أنها لم تتبرأ منه، وبقيت تتغنى به وحبه ويعيش بقلبها آمنا مطمئنا ، أشارت لخطورة الهاوية التي يتجه نحوها ، غير أنها لم تك لترى في الأفق غير شمس ستشرق بضيائها نورا على المظلومين ونيرانا على الفاسدين.

وبذكاء ودربة تحسد عليهما ، نهلت الروائية من الواقع دون أن يشوب سردها التقريرية والمباشرة وباقي العيوب التي تطفح بها المنجزات الأدبية، فهي تشير الى انكسار العثمانيين ودخول الانكليز وثورة العشرين ، ثم تعكف على المعاهدات التي أججت الشارع العراقي، وتبلغ وثبة عام 1948 والمجازر الوحشية التي ارتكبها الطيران البريطاني، ثم شخصت قصيدة الجواهري وبكاء الخليلي وأعطت ثقلا لناجي الساعاتي والشاعر سلمان داود ، وموقف الملكة عالية النبيل حيال الفلسطينيين والذي لم تستطع اتمامه بسبب رحيلها المبكر عام 1950، وثنايا مقهى الزهاوي وشركات الإعلان ، فلامست الواقع بصيغة ادبية، وتمكنت من توظيفه توظيفا أدبيا بشكل بارع ، يمكن أن نطلق عليه اسم (شعرنة ) التأريخ ، أي الكتابة بلغة الشعر ، حتى الحصار والجوع والفقر ، والجرائم البشعة التي ارتكبها الغزاة، صاغتها بشكل لا يجعلك تنفر من قسوة ما تطالع ، بل تتفاعل معه بشغف وجزن نبيل، وهو أمر غير مسبوق من قبل .
رصت الكاتبة سطورها بأسلوب الواقعية السحرية مخلوطا بفلسفة عالية ، وشيء من تيار الوعي، ملتقطة محطات من تأريخ العراق الحديث ، تجعلك تطالع أدبا خالصا بأحداث تقفز فوق اللا معقول وتحاكي الخيال ، دون أن تشعرك بشيء من خيال ولا معقول .
ان مطالعتنا لرواية سيرة ظل للأديبة نضال القاضي، تجعلنا نلحقها بجيل الكبار والرواد مقدرة وتصويرا، ذلك الجيل الذي مضى واستخلف من بعده مئات من أدعياء الأدب الذين لا تستطيع أن تطالع لهم بضعة سطور ، لا سيما وأنها تكتب بشكل ثلاثي الأبعاد حتى وان كانت بصيغة (المتكلم ) ذات البعد الواحد ، فتجعلك أمام عمل مرئي ومسموع لا يعيي من يريد أن يحوله إلى عمل درامي البتة ، وقد ضم جميع عوامل النجاح ، قصة باهرة وفكرة خلابة وصورا أدبية باذخة الجمال، وأسلوبا فذا يجعلنا نستبشر أن الرواية العراقية لم تزل بخير ، لا سيما وإنها لم تقلد أحدا، ولم تمل لجهة دون سواها، ولم تتحزب لغير الحرية الجمال ، فكانت نسيجا قائما بذاته دون أدنى ريب ، ننتظر منها مزيدا من الأعمال الباهرة ، وليس ذلك بالعسير على روائية وشاعرة مقتدرة مثل المبدعة نضال القاضي,

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...