إلى روح القاص عبد الملك نوري
(1)
الفجر يتسلل، إلى الغرفة، عبر ثقب، في ستارة النافذة، ترى كم الوقت الآن!؟ ساعته، مخنوقة النبضات، تستكين تحت الوسادة، يشعر ببرودة قطعة المعدن والزجاج، في أصابعه، إذ يمسك بها، ويدنيها من عينيه. يرى خليطاً، من الإشارات المبهمة، أين العقارب اللعينة!؟
منذ بعض الوقت وأنت لا ترى جيداً، عيناك بحاجة، إلى عملية جراحية تستلزم مالاً أنت لا تملك منه شيئاً. يمد يده، تحت السرير، يلتقط عويناته، من على الأرض، يضعها على عينيه، فينفك الاشتباك، بين العقارب والأرقام.. يعود كل واحد منها ليأخذ مكانه على القرص الأبيض. الساعة تقارب الخامسة الآن. يخلع العوينات، يعيدها إلى مكانها. نقطة الضوء الصغيرة، في قماش الستارة، تزداد بياضاً. يجب أن ينهض. لكنه لا يتحرك. يظل مستلقياً، تحت الغطاء، تتنازعه رغبتان: الخروج، إلى الحديقة، وإطعام بلابله، تنتظر وجبة إفطارها اليومية، أو البقاء مسترخياً، في السرير، لعله يغفو قليلاً. مثل كل ليلة ظل مسهداً البارحة. يشعر بتعب، في ساقيه، كأنه قضى الليل يمشي. هو كان يمشي فعلاً، بين السرير والمرحاض، إذ ما يكاد يغمض عينيه حتى توقظه حرقة، في المثانة، يحاول، في البدء، أن يتجاهلها.. يبقى خانساً، تحت الغطاء، إلا أنها تزداد إلحاحاً، لحظة بعد لحظة، وترغمه على النهوض، في النهاية. يظل بعد ذلك جالساً، وقتاً طويلاً، في عتمة المكان الضيق، حتى إذا شعر أنه تخفف قليلاً عاد إلى السرير، لتعاوده الحرقة، من جديد. يترك فراشه، مرة ثانية. وهكذا ذهاباً وإياباً، إلى مطلع الفجر. ويقولون إن للشيخوخة سحرها! أظنه الشاعر رافائيل البرتي -أو لعله شاعر مجنون آخر- هو الذي قال.. عندما تحل سنوات الشيخوخة تهجع الغرائز، وتهمد الانفعالات، فيغدو بوسع الإنسان العجوز، مثلي (الذي جاوز السابعة والسبعين) أن يعيش حياته، بهدوء، إذ يتأمل الدنيا، عندئذ، في كثير من التسامح، ولا يدع المنغصات الدنيوية تكدر السلام، الذي يغمر نفسه، وكلام من هذا القبيل.
يعيش حياته بهدوء، وهو يحاول أن يبول فلا يستطيع! ضجيج البلابل، في الحديقة، يزداد صخباً، ويصل إلى غرفتك. استبطؤوك، ويريدون إسماعك أنهم جياع. يزيح الغطاء، ويجلس. يتحسس الأرض الباردة بقدميه.. يعثر على نعليه، يرتديهما. يربط الساعة، حول معصمه، ويعيد العوينات، إلى وجهه، فتتوضح الأشياء، في الضوء ازداد، داخل الغرفة. الأشياء الساكنة ذاتها تواجهه، كل يوم.. دولاب الملابس، لصق الجدار، على مقربة من الباب، والمشجب، وما عليه من ملابس قديمة، بجوار السرير. وفي الركن كرسي، ومكتب صغير، ما عاد يستعملهما، منذ لا يتذكر متى، فهو يكتب محاولاته الجديدة، هذه الأيام، على طاولة صغيرة، أمام الديوان، في الصالة. على الجدار تخطيط، لرؤوس ثلاثة خيول تتهامس، أهداه إليه صديق رسام، لا يدري في أي بلد يذوي حنيناً هو الآن. يتنهد، ويعلو، في داخل رأسه، ذلك النغم، يرافقه منذ أيام، من أغنية لأم كلثوم، أو لعلها لعبد الوهاب. النغم وحده يرافقه، إذ تزوغ منه الكلمات.. غدا ينسى كثيراً، في السنوات الأخيرة. يبدو أن الموسيقى أكثر ثباتاً، من الكلمات. ينهض. يمد يده، يتناول "الروب دو شامبر" من على المشجب. "روب دو شامبر!".. أي اسم رنان، لرداء مهلهل، فقد رونقه، منذ سنين. إنه يتذكر ما يزال يوم اشتراه، من متجر في "أندونيسيا"، قبل أكثر من ثلاثين سنة، يوم كان موظفاً محترماً، في السلك الدبلوماسي، ينتظره مستقبل مرموق، دمره الشراب، والنفور من عبودية الوظيفة. لعل ما جعل ذكرى، ذلك اليوم، تظل مقيمة، في ذهنه، بين حشد الذكريات، تلك السويعات الهانئة، برفقة البائعة الأندونيسية السمراء.. فتنته ابتسامتها العذبة، ولكنها المحببة، وهي تتكلم الفرنسية. "هذا الروب دو شامبر يناسبك تماماً، سيدي." يحدق في عينيها "وأنت أيضاً!". تتسع العينان، في استنكار مصطنع، وفي مساء اليوم ذاته تجلس قبالته يتعشيان، في أحد المطاعم "جاكارتا" الباذخة، يتأمل صفاء بشرتها، والتناسق الساحر لملامح وجهها الصغير، ويصغي لثرثرتها العذبة.. وبعد ذلك.. إيه.. ممتعة كانت تلك الأيام، ولكن الزمن اللعين لا يتريث، في جريانه العجول، والأحوال تتردى، يوماً بعد آخر. تعالي الآن، وانظري ما حل بـ "الروب دو شامبر" وصاحبه. أنت أيضاً لم تعفك الأيام، من عبثها السمج. ترى كيف يبدو وجهك الفاتن ذاك، في هذه اللحظة! يربط حبل الرداء، ويغادر الغرفة. ولكن لماذا ذكرياتنا القديمة تكون أكثر رسوخاً، في وجه عنت الزمان، في حين لا نكاد نتذكر ما خبرناه، قبل ليلة. مرة أخرى يتردد في ذهنه، ذلك النغم، من أغنية عبد الوهاب، أو أم كلثوم.
يخطو، في الصالة، الخالية من النوافذ، والمرتفعة السقف، مثل جامع (والخالية تقريباً، مثل جامع أيضاً). وفي وسط السكون، الذي يرين، على المكان، يسمع صوت نعليه يشحطان، على البلاط العاري؛ ليس سوى الصمت، والوحدة. اعتادت أن تنهض قبله، في ساعات الفجر، تحاذر أن تثير ضجيجاً يزعجه، وهو يحاول أن يغفو، قليلاً، بعد عذاب ليل طويل. لكنه يسمعها تتحرك، في المطبخ، لا يدري ماذا تفعل، فوجبة إفطارهما لا تحتاج، إلى إعداد كثير.. رغيفان، من الخبز الأسمر، وقليل من الجبن، مع الشاي -إذا توفر المال الكافي لشراء الجبن- وإلا فباقلاء مسلوقة، قبل ليلة، تحميها لهما، على النار، ويجلسان، بعد ذلك، يأكلان في صمت تقريباً، تربطهما عشرة طويلة، تجعل الكلمات لا ضرورة لها، في معظم الأحيان. يمر بأصابعه المعروقة الناحلة، على ظهر الديوان.. حركة يقوم بها، كل يوم، وهو يمضي، بخطواته المتأنية، صوت الحمام، فتهاجمه المرآة الكبيرة -عدوه الفظ- يحطم الوهم يلازمه، خلال ساعات النهار، بأنه يحمل وجهاً ما يزال يحتفظ، ببعض من ملامح أيام الشباب، برغم جوار السنين. وتتردد، في ذهنه، كلمات للشاعر عدنان الصائغ "أحياناً يوقفني وجهي، في المرآة -أنت تغيرت كثيراً! أتطلع، مذعوراً، لا أبصر، في عيني، سوى شيخٍ، يتأبط عكاز قصائده..". وأنت على ماذا تتعكز الآن!؟ عدد من الأقاصيص، كتبتها قبل نحو نصف قرن، حققت لك مجداً، وقتها، ثم جعلتك مرارة فقدان الامرأة التي أحببت تركن إلى الكأس، وهكذا بدأ صمتك التدريجي.. محاولات متعثرة، ثم لا شيء.. فقدت قدرتك على الإبداع.. وتحلم الآن أن تكتب شيئاً جديداً، مثيراً، مثلما تحلم أم، منزوعة الرحم، أن تلد مرة أخرى! يطرق برأسه يضع عويناته، في جيب الرداء، يغسل وجهه، بضربات سريعة، ثم يغطيه بالمنشفة، ويدير ظهره للمرآة. وحين يغدو في مأمن، من سطوتها، يلبس عيوناته، ويدخل إلى المطبخ، فيجدها واقفة هناك، تحمل قدراً، بين يديها. ترنو إليه، وتبتسم "كيف نمت البارحة؟" يتمتم "أنت تعرفين أنني.." غير أن طيفها لا يلبث أن يختفي.. ما يزال يراها، في كل مكان، من البيت، برغم مضي أشهر، على غيابها، ما كانت هي أخته، بل أمه، وصديقته، وكاتمة أسراره، وولية أمره، بعد أن عافته -قبل أكثر من أربعين سنة- تلك التي ليس بوسعه أن ينساها، ورحلت لتتزوج، في بلد بعيد. يحدق، في الفراغ، حيث كانت تقف، قبل قليل، تنظر إليه. ذهبت قبله، وتركته وحيداً تماماً (لا ولد ولا تلد).. ليس عنده غير الذكريات.. كل شيء يراه، أو يلمسه.. كل صوت، كل نأمة، توقظ ذكرى تطفو، من بئر الذكريات لا قرار له، وغير طيوره الصغيرة يخرج إليها، فجر كل يوم، يبدأ نهاره معها، وغير محاولات عسيرة، لبعث الروح، من جديد، في ماضيه الأدبي -بأمل أن يجعل الامرأة العاقر تحبل- وصديقان، أو ثلاثة، يزورونه لماماً، إذا سمحت لهم هموم حياتهم اليومية. هذا هو كل ما تبقى. يفتح (دولاب المطبخ، يتناول كيس التمر، يجده خف وزنه كثيراً. قبل أيام شاهد نثاراً، من النوى، على الأرض، فأدرك أن أولاد العائلة الفقيرة -جاءت بها المرحومة أخته، وأسكنتها، في سرداب المنزل "من اجل أن يخففوا عنا الوحشة، كما كانت تقول - يقتحمون مطبخه، ويسطون على ما عنده، من طعام، عندما يغيب، عن الدار، أحياناً، ليشتري شيئاً، أو ليمشي قليلاً، على "كورنيش" الأعظمية في المساء. لو كان يملك شيئاً ما بخل به عليهم، لكنه يكاد يوازيهم فقراً.. يظنونه سيد البيت، الميسور الحال، لا يدرون أنه لا يملك هذا البيت، ولا حتى الأثاث البالي، الذي فيه. يفتح الكيس، يأخذ ثمرة واحدة، يضعها في الإناء. المعذرة، أيتها البلابل الحبيبة، أنا مضطر لإنقاص حصتكم اليومية، فالتمر أصبح غالي الثمن، وثمة من يشارككم فيه، غيري. يقتطع مقداراً، من الخبز، يجعل منه فتاتاً، يضعه بجوار الثمرة، يغادر المطبخ. يفتح باب الدار. يغمره الضوء، وهواء الفجر. يشعر بالبهجة، فهذه أجمل لحظات يومه. الشمس ما تزال تختفي، في مكان ما، غير أن ضوءها ينير كل شيء. يقطع الفسحة، في أعلى السلمين الصغيرين التوأمين، ويبدأ هبوط درجات السلم العشر، جهة اليسار، يداً تحمل طعام الطيور، ويداً تتشبث بخشبة الدرابزين، لكي لا يسقط، وتتكسّر عظامه، التي غدت مثل أعواد، من الملح. تذوب إذا مسها الماء، وتتكسّر إذا ارتطمت بشيء صلب. يشعر أن ثمة ما ينقصه اليوم.. طقسه اليومي ينتابه الخلل. أين البلابل اعتادت أن ترفرف، فوق رأسه، حلما تراه خارجاً، من باب الدار!؟ قبل قليل كان يسمع ضجيجها، وهو بعد في غرفته. يحدق في أغصان الشجرة الكبيرة، أمام الباب. يلمح بعضها يجلس خانساً، بين الأوراق. يتلفت، يتفحص أرجاء الحديقة. يرى قطة، ناتئة العظام، منشغلة تأكل العشب. لا يندهش، فهو، منذ مدة، يسمع أن القطط، والكلاب، بدأت تأكل الحشائش، وأوراق الشجر. لكن ماذا بوسعه أن يفعل؟ إذا بقيت هذه القطة الساغبة، في مكانها، لن تنزل البلابل. لتذهب ترعى العشب، في حدائق البيوت المجاورة، فالعشب ما يزال وافراً. ينزل الدرجة الأخيرة، من السلم، ويتوجه صوبها. يرفع ذراعيه مهدداً. تهرب القطة.. تتسلق السياج.. تسقط.. تحاول، مرة ثانية، وتختفي. يشعر بالحزن. أفزعها، وقطع عليها طعامها. ولكن لماذا، من أجل أن نسعد أحداً، علينا أن نشقي آخر، أحياناً!؟ يعود إلى بلابله. يضع الإناء، على الأرض، تحت الشجرة، ثم يأخذ مكانه المعتاد، على الدرجة السفلى، من السلم. باب السرداب -بين قوسي السلمين- ما يزال مغلقاً. أبو ساجت، وعائلته ما يزالون ينامون، فرب العائلة يخرج، عند الضحى، يمارس عمله الغامض، لا يعرف عنه شيئاً. يرفع رأسه، إلى الشجرة. هيا، انزلوا! غابت القطة. يحط طائر، ثم آخر، وبعد ذلك يغطون الصحن، بأجسامهم الصغيرة. يتأملهم يتزاحمون، على الثمرة، وفتات الخبز، أجنحتهم ترفرف، والصحن يضطرب تحتهم، ويطقطق على الأرض. يبتسم سعيداً.
إلا أن سعادته تجهض سريعاً، إذ يفاجئهم صوت أبي ساجت الخشن، مرتفعاً وراء ظهره:
"أستاذ، صباح الخير!"
"ا ش ش!"
ولكن البلابل تبددت. لم يبق، على الأرض، غير الصحن، يستقر وحده عارياً، من الأجسام الصغيرة، مح بقايا التمرة، وبعض فتات الخبز. اشتعلت روحك، في نار جهنم، يا أبا ساجت! يلتفت إليه غاضباً:
"أنت ما تشوف أنا..!"
"متأسف أستاذ.. لكن البارحة بالليل.."
"رح.. ما أريد أسمع!"
ينسحب أبو ساجت، إلى الداخل، غير أنه يترك الباب موارباً. يحس به واقفاً وراء الباب، ينتظر، الأحمق لم يجد وقتاً آخر. يتجاهله طيوره الصغيرة رحلت، ولن تعود اليوم. يظل جالساً، على درجة السلم، يحاول أن يستعيد هدوءه. يسمع وقع خطى مسرعة، في الدرب، أمام المنزل. البعض يذهب إلى عمله، أشعة الشمس تسقط، الآن، على العشب، حيث كانت ترعى القطة، قبل قليل. أفسد عليه أبو ساجت متعته الصباحية، ومنح البلابل، من أن تكمل إفطارها. المرحومة تقول يخففون عنا الوحشة! الإحساس بالوحشة، يا أختي، حين يكون راسخاً، في أعماق النفس، لن يخفف منه وجود الآخرين، ولفظهم. ينهض الصحن.. ينفض ما تبقى فيه، على الأرض، طعاماً للعصافير، وتهيأ للصعود. يداخله إحساسه أن أبا ساجت ما يزال واقفاً، في مكانه، يتململ.
ولكن ما الذي يجعل هذا الرجل الخامل يترك فراشه، في هذه الساعة، من أجل أن يراه، كان قاسياً معه. يتوقف، ويخاطب الباب الموارب.
"تعال!"
وكما توقع كان أبو ساجت ينتظر، إذ يخرج على الفور، كوفيته المتسخة حول رأسه، وفي يده ورقة مطوية.
"نعم!؟"
"أستاذ، البارحة بالليل.. جنابك كنت نايم. جاء رجل أعطانا استمارتين.. قال واحدة للأستاذ. يقول املأها".
يأخذ الورقة، من يده، ويبسطها حشد من الأسئلة، يحدق فيها لحظة طويلة، في شرود، يطويها، ويضعها على ظهر الصحن الفارغ، ويهم بالصعود يصيح أبو ساجت وراءه:
"أستاذ، يريدونها اليوم!"
"حاضر"
يمسك بالدرابزين، باليد الأخرى، يستعين به، على الصعود. الغريب أنه ما عاد يشعر بأي انزعاج. يكتشف جانباً مسلياً، في مفارقات الحياة العبثية التي يعيشها. يبتسم. وهو يرتقي درجات السلم بحذر. بعد كل شيء فإن ذلك الشاعر الإسباني - أو أياً كان الذي قال إن للشيخوخة سحرها - لم يكن مخطئاً تماماً، فللشيخوخة مزاياها، برغم المضايقات، الصحية، ها هو يتقبل كل شيء بهدوء، متجرداً من مرارة الإحساس بالمهانة، والإحباط، يحس بها من هم أصغر منه سناً. ويطفو ذلك اللحن، ظل يتردد، في داخل رأسه، منزوع الكلمات ما يزال يواصل صعود الدرجات، يدندن بالنغم، بصوت خفيض، صحن البلابل الخالي، وورقة الأسئلة، في يده. يتوقف، في الفسحة المستطيلة، في أعلى السلمين، يتأمل أشجار الحديقة، أضاءتها أشعة شمس الصباح. في الدرب هياكل تتخاطف. الحياة تواصل جريانها اللاهث، به أو بدونه. يتنفس عميقاً. يفتح باب الدار، ويدخل. تواجهه الصالة الخاوية، مرة أخرى. سوف يعد الآن شاياً، ويحمي قليلاً، من الباقلا، المسلوقة، ثم يحبس، هو وأخته، يتناولان إفطارهما، في صمت أليف. بعد ذلك يفرش أوراقه، على الطاولة، في الصالة، ويتابع الكتابة، في حكايته الخيالية، بدأها، قبل أيام، متعثراً بالكلمات غدت عنيدة، بعد فراق طويل. ولا يدري الآن، كيف ستنتهي هذه الحكاية، إن كانت ستنتهي يوماً - ربما بعد رحيله. المهم أن يملأ بيته الخاوي، وفراغ أيامه بأناس، وأحداث، يبتدعها هو نفسه، تجعله يحس أنه ما يزال يحيا، برغم كل شيء.
(2)
ولكن كيف استطاع أن يكابد متاعب العيش، هذا الزمن الطويل، بدون أن يكتب!؟ يحدّق أمامه، في شرود، أوراقه، على الطاولة، تنتظر، قلم الرصاص ساكن، في يده. باب الصالة مغلق، ولا رفيق غير الصمت. أخته خرجت، بعد أن أنهيا إفطارهما. طلب منها أن تأخذ، إلى البريد، رسالة كتبها إلى صديق، في الغربة، تركته يواجه أوراقه ساهماً، ومضت. ليفترض أن هذا ما حدث.. ليفترض، ليفترض أنها تتحرك، الآن، في مكان ما، خارج البيت، تثرثر مع واحدة، من معارفها، في الزقاق، نمشي في الشارع، بين السابلة، تسمع لغط الناس، وضجيج العربات، في الشارع المزدحم، أو تقف - في هذه اللحظة- أمام شباك البريد.. تمد يدها بالرسالة، إلى الموظف، يرفع رأسه إليها. لو أنه كان بعيداً، ولم يرها تموت، أو لم يخبره أحد برحيلها، لبقيت تعيش عنده جسداً، وروحاً. هاجس الموت ظل يؤرقها، في الأشهر الأخيرة لعلها أحست، بشكل ما، أنه سيدهمها، في وقت قريب. قالت له مرة:
"لا أدري كيف سأتحمل ظلام القبر!"
كأنها، بعد أن ترحل، تظل تحس بالأشياء، من حولها!
"الشيء الفظيع، يا أخي، أن يسارعوا، في دفنك، وأنت ما تزال حياً! وحين تفيق، بعد ذلك- من غيبوبة طارئة ربما - تجد نفسك مطموراً، وفوقك طن، من التراب! كيف يكون إحساسك عندئذ!؟
"هو إحساسي الآن نفسه!"
"لا .. لا تمزح."
"في الحقيقة أنا أيضاً يداخلني، مثل هذا الهاجس، أحياناً"
تتساءل منزعجة:
"لماذا يتلهف الناس، عندنا، على دفن موتاهم بسرعة!؟ حالما يطبق الواحد منا أجفانه، أو لا يطبقها، ركضوا به، إلى المقبرة!"
"ولكن، يا أختي الحبيبة، إذا تركوه فإن جسده يتعفن".
"لن يتعفن في يوم، أو يومين. حتى إذا تعفن، عندئذ لن يبقى شك، في موته" لا أستطيع أن أقول لها إن منطقها غريب. معها بعض الحق. ولم تمض غير أيام قلائل عندما باغتتني برحيلها، على أثر حادث أخرت. حين جاء أخي -المبتلي بداء السكري، وهموم البحث، عن أسباب العيش، لعائلة كبيرة - يساعدني، في دفنها، اقترحت عليه أن يتركها تقضي معي، في البيت، ليلة واحدة، على الأقل. "ولماذا نتركها!؟" من أجل أن نتأكد أنها ماتت حقاً. رأيته ينظر، إلى وجهي، بعطف. ظن المصاب أفقدني عقلي، وجعلني أهذي. وضع يده، على كتفي، مواسياً. "حاول أن تتصبر، يا أخي، فكلنا على هذا الطريق -كأنه يكشف لي سراً لا يعرفه أحد غيره، من البشر! وركضنا بها، إلى المقبرة. لا بد أن الدود يأكل بعضه بعضاً، فوق عظامها الآن إيه.. Cest la mort! ينظر، في الأوراق، كتبها في الأيام السابقة. حشد في الكلمات، بعضها يتناثر، على الجوانب.. عبارات مشطوبة، وأسهم تشير إلى مختلف الاتجاهات. على أية حال هو لم يستطيع أن يكتب غير ورقتين، على مدى أكثر من أسبوع، سوف يعيد قراءتهما، قبل أن يبدأ الضرب في الصخر، من جديد. لكنه لا يفعل. يؤجل لحظة البدء، من وقت لآخر. يخاف أن يواجه محنة الكتابة. يرنو إلى جهاز التلفزيون، الصامت في الزاوية. المرحومة يروق لها أن تشاهد أفلام السهرة. يحدّق في وجهه المرسوم بالزيت، المؤطر على الجدار. كان في نحو الثلاثين، من العمر، عندما رسم له هذا (البورتريت) صديق جعله يجلس أمامه، بلا حراك، يتأمله يخط ملامحه بيد، وبيده الأخرى يتناول كأساً، وضعها على مقربة، يشرب منها، بين وقت وآخر. ولكن كيف رضي أن يجلس صابراً. كل تلك الساعات، وعلى مدى عدد من الأيام! لعل رغبته البلهاء، العديمة الجدوى -في أن يتشبث، بملامح وجهه فتياً، في لحظة مقتطعة، من تيار الزمن العجول، ويحتفظ به، مصاناً من عوادي الأيام، عصياً على الدهر- هي التي جعلته يكابد عذاب تلك الجلسات المرهقة والآن هذا وجهك، في الثلاثين، مصلوباً على الجدار، وهذا أنت! تحت صورته الصامتة، تنظر إلى الدنيا، بما يشبه العتاب، صفوف من الكتب، على رفوف، لصق الجدار.. كتب قديمة كلها. لم يشتر كتاباً جديداً، منذ زمن بعيد.. لا يملك المال لشراء الكتب، ولا يكاد يعرف شيئاً عما حصل من تطور، في تقنية كتابة القصة، الرواية، أصدقاؤه القليلون- هذه الأيام- يعيرونه بعض الكتب، أحياناً. تدهشه الكتابات الحديثة، إلا أن البعض منها لا يروق له.. يراه عبث أطفال، وخرقاً فظاً لشروط الكتابة. ينتقل بنظراته، إلى
الساعة المستديرة، على الجدار المقابل. العقربان يشيران إلى الخامسة، وعشر دقائق. منذ زمن لا يعرف مداه وهذان العقربان، على وقفتهما الساكنة هذه ينظر إلى جهاز الهاتف، يستقر صامتاً، فوق الدولاب الخشبي المستطيل، على مقربة من المدخل، الجهاز لا يرن إلا نادراً، وفي الغالب يكون الشخص المطلوب مجهولاً. النداء الوحيد يترقبه بنفاد صبر- خصوصاً عندما ينضب ما معهما من نقود- هو ذلك النداء، يأتيه من أخته الصغرى، على بعد آلاف الأميال، تبشره بإرسال مبلغ من المال، وقد حان وقته، منذ أيام. يسمع رنيناً يقترب، في الزقاق، ويزداد صخباً، لحظة بعد أخرى. بائع النفط اللعين يختار هذا الوقت، من النهار، ليمر في الدرب بعربته، وحصانه الهرم تملأ جلده القروح، لكي يشتت أفكاره، بالرنين الصاخب يعلن به عن بضاعته. يبتعد الرنين، بعد فترة، غير أن جرس الباب يرن، هذه المرة، وتدخل كلية أم ساجت، بجسدها الناحل، وبشرتها الذاوية.
"عمي تحب أساعدك.. ننقل ماء إلى الخزان؟"
"في هذي الساعة! أنت ما تشوفني أنا جاي أكتب!؟
يشير إلى أوراقه البيض.
لا تكترث هي للأوراق.. تفكر بالماء.
"عمي، بعدين الماء يشح بالحنفية.. ويجوز ينقطع"
"انتظري. أروح أشوف ما تبقى عندي، في الخزان"
ينهض يخرج إلى الشرفة، في الجانب الخلفي، من البيت. يبهر عينيه ضوء الشمس أشعتها تغمر الشرفة، وأرض الحديقة الضيقة، والمهملة، غدت تشبه غابة صغيرة، مأوى يضم لصوص الليل، لا خوف عليه فهم، هذه الأيام. يرفع الغطاء المستدير، عن سطح الخزّان، الموضوع في ركن الشرفة (أنزلا خزان الماء، من سطح المنزل، ووضعاه في هذا المكان، لكي يسهل عليهما -هو وأخته- ملؤه، بين السخونة الندية، للماء الحبيس، بين الجدران المعدنية، في وهج الشمس، يحدّق في عتمة القاع. لا يرى شيئاً.. عيناه لا تزالان مبهورتين، بضوء الشمس.. ينتظر قليلاً.
يوشك أن يختنق، ببخار الماء الساخن، يلمح أخيراً ما يشبه اللمعان الكابي، في عتمة القاع يخرج رأسه سريعاً. يعيد الغطاء، ويعود إلى أم ساجت، في الصالة.
"شكراً. عندي ما يكفي، لهذا اليوم. نملأه غداً".
سوف يقتصد، في استعمال الماء، هذا اليوم.
ينظر إليها تغادر الصالة، وتغلق الباب، بهدوء. يظل رقائق طويلة، عيناه تحدقان، في شرود، بالباب الموصد، ينفتح الباب. تدخل أخته.
"هل وضعت الرسالة، في البريد؟"
"وضعتها"
"لكنك تأخرت كثيراً!"
تجلس على مقعد، بجوار الديوان. تخلع فردتي حذائها، وتريح قدميها، على البلاط البارد.
تبدو مرهقة.
"رأيت مشهداً فظيعاً!"
ينظر إليها باهتمام.
"شاب بعمر الورد.. دمه يغطي الرصيف.. ضربوه برصاصة، في صدره. والمارة يلتفتون.. ينظرون إليه، ويتابعون سيرهم!"
تحدّق في عينيه، تنتظر منه أن يقول شيئاً، لكنه لا يقول شيئاً.
تحمل فردتي حذائها، وتمشي حافية، صوب المطبخ. تصدّع رأسها كثيراً، هذه الامراء، بالتشبث بتقاليد وأعراف ومشاعر أصابها البلى. ولكن في أي يوم دار بينهما هذا الحوار!؟ متى عاش، هذه اللحظات، مع أخته!؟ ينظر ساهماً، إلى أوراقه، فوق الطاولة. كلما أوشك أن يبدأ، بالكتابة، قاطعه أحد، أو سرح به خياله. لكنه يعرف أن ليس هذا هو السبب. في الماضي كان حين يواجه أوراقه البيض، تتزاحم الكلمات في رأسه، ويظل القلم يلهث وراءها، لاقتناص وميض الخواطر، والمشاهد، والأفكار، قبل أن تتلاشى، في اللاوعي، من جديد، يصوغها كلمات تتدفق، على الورق. أما الآن فأنت، مثل عازف كمان، هجر آلته دهراً، ولمّا تذكرها - بعد أن أصابه الهرم- وعاد إليها متلهفاً، فوجئ بالأوتار، تصدر أصواتاً ناشزة، ووجد أصابعه أعواداً من خشب.
إذا أردت أن تستعيد مرونتك السابقة، فعليك أن تعوّد نفسك على الكتابة، كل يوم، ينصحه أصدقاؤه. إنني أفكر بكتابة حكايات من الخيال. أكتب أي شيء، أي شيء. ومزق كثيراً، حتى استقر أخيراً، على الحكاية، التي في يده. يسمع طقطقة أوانٍ، في المطبخ. يشعر بالاطمئنان. أخته لا تزال تؤانسه، بحضورها.. تتناهى إليه كلماتها، أصداء حركتها الدائبة، في أرجاء المنزل، هتافها الملهوف باسمه، في هدأة الليل، بشكل خاص، عندما ينزوي وحيداً، بين جدران غرفته الموحشة.. طيفها يأتي ويذهب -متحرراً من عبودية الجسد - لا يكاد يفارقه. يرفع الورقة الأولى، ليقرأ ما كتب، في الأيام الماضية، قبل أن يبدأ. إلا أن رنين الهاتف يباغته، مخترقاً رأسه، وصمت الصالة.
يلقي بالورقة، وينهض، ليضع حداً، للرنين الملحاح.
"نعم".
"ألو! كيف أنت!؟ صوتك لا يعجبني..
أنت مريض؟!"
تتكلم بعجلة، وبهياج، وصوت مرتفع.. تظن صوتها يصله، أكثر وضوحاً، إذا خرجت.
"لا، لست مريضاً، إنما كنت أكتب.. أو بالأحرى.."
"وكيف أحوالك، هذه الأيام؟"
"ممتازة.. ممتازة جداً، الحمد لله.. لا تقلقي"
"بعثت إليك بورقتين.."
تقاطعه.
"قل لي، إذا كنت بحاجة إلى شيء آخر"
"فقط الأدوية.. كتبت لك عنها"
"تصلك بالبريد. شيء آخر غيرها؟"
"سلامتك"
يرى أخته تخرج، من المطبخ، وتقبل نحو الهاتف، متلهفة.
"ظننتها نسيتنا!"
يتركهما تتحدثان، فبوسعهما أن تتكلما، ساعات طويلة.
يعود إلى أوراقه، ليواصل الكتابة، غير أن نداء أخته المغتربة، تبشره بإرسال مائتي دولار، انتزعه من مناخ الحكاية، ووضعه في مزاج آخر.
يلملم أوراقه، وينهض.
خاف أن تتأخر، في إرسال معونتها، فينفذ آخر ما معه، من نقود، ويغدو حاله حال تلك القطة الجائعة، رآها بالأمس تأكل العشب، في حديقة المنزل. لكنه يشعر بشيء من الاطمئنان، الآن. سوف يكون بوسعه، إذا وصلت النقود، أن يدبر أمور حياته، للشهرين القادمين، ما لم يقع مريضاً، وتذهب النقود ثمناً للعلاج، أو يفاجأ، بحدوث عطل في أحد الأجهزة في البيت. يترك أخته، في الصالة، تثرثر مع أخته البعيدة، ويدخل غرفته، يدندن بذلك النغم- من أغنية أم كلثوم أو عبد الوهاب ربما- ما برح يرافقه، منذ مدة.
سوف يحاول الكتابة غداً.
1998
(1)
الفجر يتسلل، إلى الغرفة، عبر ثقب، في ستارة النافذة، ترى كم الوقت الآن!؟ ساعته، مخنوقة النبضات، تستكين تحت الوسادة، يشعر ببرودة قطعة المعدن والزجاج، في أصابعه، إذ يمسك بها، ويدنيها من عينيه. يرى خليطاً، من الإشارات المبهمة، أين العقارب اللعينة!؟
منذ بعض الوقت وأنت لا ترى جيداً، عيناك بحاجة، إلى عملية جراحية تستلزم مالاً أنت لا تملك منه شيئاً. يمد يده، تحت السرير، يلتقط عويناته، من على الأرض، يضعها على عينيه، فينفك الاشتباك، بين العقارب والأرقام.. يعود كل واحد منها ليأخذ مكانه على القرص الأبيض. الساعة تقارب الخامسة الآن. يخلع العوينات، يعيدها إلى مكانها. نقطة الضوء الصغيرة، في قماش الستارة، تزداد بياضاً. يجب أن ينهض. لكنه لا يتحرك. يظل مستلقياً، تحت الغطاء، تتنازعه رغبتان: الخروج، إلى الحديقة، وإطعام بلابله، تنتظر وجبة إفطارها اليومية، أو البقاء مسترخياً، في السرير، لعله يغفو قليلاً. مثل كل ليلة ظل مسهداً البارحة. يشعر بتعب، في ساقيه، كأنه قضى الليل يمشي. هو كان يمشي فعلاً، بين السرير والمرحاض، إذ ما يكاد يغمض عينيه حتى توقظه حرقة، في المثانة، يحاول، في البدء، أن يتجاهلها.. يبقى خانساً، تحت الغطاء، إلا أنها تزداد إلحاحاً، لحظة بعد لحظة، وترغمه على النهوض، في النهاية. يظل بعد ذلك جالساً، وقتاً طويلاً، في عتمة المكان الضيق، حتى إذا شعر أنه تخفف قليلاً عاد إلى السرير، لتعاوده الحرقة، من جديد. يترك فراشه، مرة ثانية. وهكذا ذهاباً وإياباً، إلى مطلع الفجر. ويقولون إن للشيخوخة سحرها! أظنه الشاعر رافائيل البرتي -أو لعله شاعر مجنون آخر- هو الذي قال.. عندما تحل سنوات الشيخوخة تهجع الغرائز، وتهمد الانفعالات، فيغدو بوسع الإنسان العجوز، مثلي (الذي جاوز السابعة والسبعين) أن يعيش حياته، بهدوء، إذ يتأمل الدنيا، عندئذ، في كثير من التسامح، ولا يدع المنغصات الدنيوية تكدر السلام، الذي يغمر نفسه، وكلام من هذا القبيل.
يعيش حياته بهدوء، وهو يحاول أن يبول فلا يستطيع! ضجيج البلابل، في الحديقة، يزداد صخباً، ويصل إلى غرفتك. استبطؤوك، ويريدون إسماعك أنهم جياع. يزيح الغطاء، ويجلس. يتحسس الأرض الباردة بقدميه.. يعثر على نعليه، يرتديهما. يربط الساعة، حول معصمه، ويعيد العوينات، إلى وجهه، فتتوضح الأشياء، في الضوء ازداد، داخل الغرفة. الأشياء الساكنة ذاتها تواجهه، كل يوم.. دولاب الملابس، لصق الجدار، على مقربة من الباب، والمشجب، وما عليه من ملابس قديمة، بجوار السرير. وفي الركن كرسي، ومكتب صغير، ما عاد يستعملهما، منذ لا يتذكر متى، فهو يكتب محاولاته الجديدة، هذه الأيام، على طاولة صغيرة، أمام الديوان، في الصالة. على الجدار تخطيط، لرؤوس ثلاثة خيول تتهامس، أهداه إليه صديق رسام، لا يدري في أي بلد يذوي حنيناً هو الآن. يتنهد، ويعلو، في داخل رأسه، ذلك النغم، يرافقه منذ أيام، من أغنية لأم كلثوم، أو لعلها لعبد الوهاب. النغم وحده يرافقه، إذ تزوغ منه الكلمات.. غدا ينسى كثيراً، في السنوات الأخيرة. يبدو أن الموسيقى أكثر ثباتاً، من الكلمات. ينهض. يمد يده، يتناول "الروب دو شامبر" من على المشجب. "روب دو شامبر!".. أي اسم رنان، لرداء مهلهل، فقد رونقه، منذ سنين. إنه يتذكر ما يزال يوم اشتراه، من متجر في "أندونيسيا"، قبل أكثر من ثلاثين سنة، يوم كان موظفاً محترماً، في السلك الدبلوماسي، ينتظره مستقبل مرموق، دمره الشراب، والنفور من عبودية الوظيفة. لعل ما جعل ذكرى، ذلك اليوم، تظل مقيمة، في ذهنه، بين حشد الذكريات، تلك السويعات الهانئة، برفقة البائعة الأندونيسية السمراء.. فتنته ابتسامتها العذبة، ولكنها المحببة، وهي تتكلم الفرنسية. "هذا الروب دو شامبر يناسبك تماماً، سيدي." يحدق في عينيها "وأنت أيضاً!". تتسع العينان، في استنكار مصطنع، وفي مساء اليوم ذاته تجلس قبالته يتعشيان، في أحد المطاعم "جاكارتا" الباذخة، يتأمل صفاء بشرتها، والتناسق الساحر لملامح وجهها الصغير، ويصغي لثرثرتها العذبة.. وبعد ذلك.. إيه.. ممتعة كانت تلك الأيام، ولكن الزمن اللعين لا يتريث، في جريانه العجول، والأحوال تتردى، يوماً بعد آخر. تعالي الآن، وانظري ما حل بـ "الروب دو شامبر" وصاحبه. أنت أيضاً لم تعفك الأيام، من عبثها السمج. ترى كيف يبدو وجهك الفاتن ذاك، في هذه اللحظة! يربط حبل الرداء، ويغادر الغرفة. ولكن لماذا ذكرياتنا القديمة تكون أكثر رسوخاً، في وجه عنت الزمان، في حين لا نكاد نتذكر ما خبرناه، قبل ليلة. مرة أخرى يتردد في ذهنه، ذلك النغم، من أغنية عبد الوهاب، أو أم كلثوم.
يخطو، في الصالة، الخالية من النوافذ، والمرتفعة السقف، مثل جامع (والخالية تقريباً، مثل جامع أيضاً). وفي وسط السكون، الذي يرين، على المكان، يسمع صوت نعليه يشحطان، على البلاط العاري؛ ليس سوى الصمت، والوحدة. اعتادت أن تنهض قبله، في ساعات الفجر، تحاذر أن تثير ضجيجاً يزعجه، وهو يحاول أن يغفو، قليلاً، بعد عذاب ليل طويل. لكنه يسمعها تتحرك، في المطبخ، لا يدري ماذا تفعل، فوجبة إفطارهما لا تحتاج، إلى إعداد كثير.. رغيفان، من الخبز الأسمر، وقليل من الجبن، مع الشاي -إذا توفر المال الكافي لشراء الجبن- وإلا فباقلاء مسلوقة، قبل ليلة، تحميها لهما، على النار، ويجلسان، بعد ذلك، يأكلان في صمت تقريباً، تربطهما عشرة طويلة، تجعل الكلمات لا ضرورة لها، في معظم الأحيان. يمر بأصابعه المعروقة الناحلة، على ظهر الديوان.. حركة يقوم بها، كل يوم، وهو يمضي، بخطواته المتأنية، صوت الحمام، فتهاجمه المرآة الكبيرة -عدوه الفظ- يحطم الوهم يلازمه، خلال ساعات النهار، بأنه يحمل وجهاً ما يزال يحتفظ، ببعض من ملامح أيام الشباب، برغم جوار السنين. وتتردد، في ذهنه، كلمات للشاعر عدنان الصائغ "أحياناً يوقفني وجهي، في المرآة -أنت تغيرت كثيراً! أتطلع، مذعوراً، لا أبصر، في عيني، سوى شيخٍ، يتأبط عكاز قصائده..". وأنت على ماذا تتعكز الآن!؟ عدد من الأقاصيص، كتبتها قبل نحو نصف قرن، حققت لك مجداً، وقتها، ثم جعلتك مرارة فقدان الامرأة التي أحببت تركن إلى الكأس، وهكذا بدأ صمتك التدريجي.. محاولات متعثرة، ثم لا شيء.. فقدت قدرتك على الإبداع.. وتحلم الآن أن تكتب شيئاً جديداً، مثيراً، مثلما تحلم أم، منزوعة الرحم، أن تلد مرة أخرى! يطرق برأسه يضع عويناته، في جيب الرداء، يغسل وجهه، بضربات سريعة، ثم يغطيه بالمنشفة، ويدير ظهره للمرآة. وحين يغدو في مأمن، من سطوتها، يلبس عيوناته، ويدخل إلى المطبخ، فيجدها واقفة هناك، تحمل قدراً، بين يديها. ترنو إليه، وتبتسم "كيف نمت البارحة؟" يتمتم "أنت تعرفين أنني.." غير أن طيفها لا يلبث أن يختفي.. ما يزال يراها، في كل مكان، من البيت، برغم مضي أشهر، على غيابها، ما كانت هي أخته، بل أمه، وصديقته، وكاتمة أسراره، وولية أمره، بعد أن عافته -قبل أكثر من أربعين سنة- تلك التي ليس بوسعه أن ينساها، ورحلت لتتزوج، في بلد بعيد. يحدق، في الفراغ، حيث كانت تقف، قبل قليل، تنظر إليه. ذهبت قبله، وتركته وحيداً تماماً (لا ولد ولا تلد).. ليس عنده غير الذكريات.. كل شيء يراه، أو يلمسه.. كل صوت، كل نأمة، توقظ ذكرى تطفو، من بئر الذكريات لا قرار له، وغير طيوره الصغيرة يخرج إليها، فجر كل يوم، يبدأ نهاره معها، وغير محاولات عسيرة، لبعث الروح، من جديد، في ماضيه الأدبي -بأمل أن يجعل الامرأة العاقر تحبل- وصديقان، أو ثلاثة، يزورونه لماماً، إذا سمحت لهم هموم حياتهم اليومية. هذا هو كل ما تبقى. يفتح (دولاب المطبخ، يتناول كيس التمر، يجده خف وزنه كثيراً. قبل أيام شاهد نثاراً، من النوى، على الأرض، فأدرك أن أولاد العائلة الفقيرة -جاءت بها المرحومة أخته، وأسكنتها، في سرداب المنزل "من اجل أن يخففوا عنا الوحشة، كما كانت تقول - يقتحمون مطبخه، ويسطون على ما عنده، من طعام، عندما يغيب، عن الدار، أحياناً، ليشتري شيئاً، أو ليمشي قليلاً، على "كورنيش" الأعظمية في المساء. لو كان يملك شيئاً ما بخل به عليهم، لكنه يكاد يوازيهم فقراً.. يظنونه سيد البيت، الميسور الحال، لا يدرون أنه لا يملك هذا البيت، ولا حتى الأثاث البالي، الذي فيه. يفتح الكيس، يأخذ ثمرة واحدة، يضعها في الإناء. المعذرة، أيتها البلابل الحبيبة، أنا مضطر لإنقاص حصتكم اليومية، فالتمر أصبح غالي الثمن، وثمة من يشارككم فيه، غيري. يقتطع مقداراً، من الخبز، يجعل منه فتاتاً، يضعه بجوار الثمرة، يغادر المطبخ. يفتح باب الدار. يغمره الضوء، وهواء الفجر. يشعر بالبهجة، فهذه أجمل لحظات يومه. الشمس ما تزال تختفي، في مكان ما، غير أن ضوءها ينير كل شيء. يقطع الفسحة، في أعلى السلمين الصغيرين التوأمين، ويبدأ هبوط درجات السلم العشر، جهة اليسار، يداً تحمل طعام الطيور، ويداً تتشبث بخشبة الدرابزين، لكي لا يسقط، وتتكسّر عظامه، التي غدت مثل أعواد، من الملح. تذوب إذا مسها الماء، وتتكسّر إذا ارتطمت بشيء صلب. يشعر أن ثمة ما ينقصه اليوم.. طقسه اليومي ينتابه الخلل. أين البلابل اعتادت أن ترفرف، فوق رأسه، حلما تراه خارجاً، من باب الدار!؟ قبل قليل كان يسمع ضجيجها، وهو بعد في غرفته. يحدق في أغصان الشجرة الكبيرة، أمام الباب. يلمح بعضها يجلس خانساً، بين الأوراق. يتلفت، يتفحص أرجاء الحديقة. يرى قطة، ناتئة العظام، منشغلة تأكل العشب. لا يندهش، فهو، منذ مدة، يسمع أن القطط، والكلاب، بدأت تأكل الحشائش، وأوراق الشجر. لكن ماذا بوسعه أن يفعل؟ إذا بقيت هذه القطة الساغبة، في مكانها، لن تنزل البلابل. لتذهب ترعى العشب، في حدائق البيوت المجاورة، فالعشب ما يزال وافراً. ينزل الدرجة الأخيرة، من السلم، ويتوجه صوبها. يرفع ذراعيه مهدداً. تهرب القطة.. تتسلق السياج.. تسقط.. تحاول، مرة ثانية، وتختفي. يشعر بالحزن. أفزعها، وقطع عليها طعامها. ولكن لماذا، من أجل أن نسعد أحداً، علينا أن نشقي آخر، أحياناً!؟ يعود إلى بلابله. يضع الإناء، على الأرض، تحت الشجرة، ثم يأخذ مكانه المعتاد، على الدرجة السفلى، من السلم. باب السرداب -بين قوسي السلمين- ما يزال مغلقاً. أبو ساجت، وعائلته ما يزالون ينامون، فرب العائلة يخرج، عند الضحى، يمارس عمله الغامض، لا يعرف عنه شيئاً. يرفع رأسه، إلى الشجرة. هيا، انزلوا! غابت القطة. يحط طائر، ثم آخر، وبعد ذلك يغطون الصحن، بأجسامهم الصغيرة. يتأملهم يتزاحمون، على الثمرة، وفتات الخبز، أجنحتهم ترفرف، والصحن يضطرب تحتهم، ويطقطق على الأرض. يبتسم سعيداً.
إلا أن سعادته تجهض سريعاً، إذ يفاجئهم صوت أبي ساجت الخشن، مرتفعاً وراء ظهره:
"أستاذ، صباح الخير!"
"ا ش ش!"
ولكن البلابل تبددت. لم يبق، على الأرض، غير الصحن، يستقر وحده عارياً، من الأجسام الصغيرة، مح بقايا التمرة، وبعض فتات الخبز. اشتعلت روحك، في نار جهنم، يا أبا ساجت! يلتفت إليه غاضباً:
"أنت ما تشوف أنا..!"
"متأسف أستاذ.. لكن البارحة بالليل.."
"رح.. ما أريد أسمع!"
ينسحب أبو ساجت، إلى الداخل، غير أنه يترك الباب موارباً. يحس به واقفاً وراء الباب، ينتظر، الأحمق لم يجد وقتاً آخر. يتجاهله طيوره الصغيرة رحلت، ولن تعود اليوم. يظل جالساً، على درجة السلم، يحاول أن يستعيد هدوءه. يسمع وقع خطى مسرعة، في الدرب، أمام المنزل. البعض يذهب إلى عمله، أشعة الشمس تسقط، الآن، على العشب، حيث كانت ترعى القطة، قبل قليل. أفسد عليه أبو ساجت متعته الصباحية، ومنح البلابل، من أن تكمل إفطارها. المرحومة تقول يخففون عنا الوحشة! الإحساس بالوحشة، يا أختي، حين يكون راسخاً، في أعماق النفس، لن يخفف منه وجود الآخرين، ولفظهم. ينهض الصحن.. ينفض ما تبقى فيه، على الأرض، طعاماً للعصافير، وتهيأ للصعود. يداخله إحساسه أن أبا ساجت ما يزال واقفاً، في مكانه، يتململ.
ولكن ما الذي يجعل هذا الرجل الخامل يترك فراشه، في هذه الساعة، من أجل أن يراه، كان قاسياً معه. يتوقف، ويخاطب الباب الموارب.
"تعال!"
وكما توقع كان أبو ساجت ينتظر، إذ يخرج على الفور، كوفيته المتسخة حول رأسه، وفي يده ورقة مطوية.
"نعم!؟"
"أستاذ، البارحة بالليل.. جنابك كنت نايم. جاء رجل أعطانا استمارتين.. قال واحدة للأستاذ. يقول املأها".
يأخذ الورقة، من يده، ويبسطها حشد من الأسئلة، يحدق فيها لحظة طويلة، في شرود، يطويها، ويضعها على ظهر الصحن الفارغ، ويهم بالصعود يصيح أبو ساجت وراءه:
"أستاذ، يريدونها اليوم!"
"حاضر"
يمسك بالدرابزين، باليد الأخرى، يستعين به، على الصعود. الغريب أنه ما عاد يشعر بأي انزعاج. يكتشف جانباً مسلياً، في مفارقات الحياة العبثية التي يعيشها. يبتسم. وهو يرتقي درجات السلم بحذر. بعد كل شيء فإن ذلك الشاعر الإسباني - أو أياً كان الذي قال إن للشيخوخة سحرها - لم يكن مخطئاً تماماً، فللشيخوخة مزاياها، برغم المضايقات، الصحية، ها هو يتقبل كل شيء بهدوء، متجرداً من مرارة الإحساس بالمهانة، والإحباط، يحس بها من هم أصغر منه سناً. ويطفو ذلك اللحن، ظل يتردد، في داخل رأسه، منزوع الكلمات ما يزال يواصل صعود الدرجات، يدندن بالنغم، بصوت خفيض، صحن البلابل الخالي، وورقة الأسئلة، في يده. يتوقف، في الفسحة المستطيلة، في أعلى السلمين، يتأمل أشجار الحديقة، أضاءتها أشعة شمس الصباح. في الدرب هياكل تتخاطف. الحياة تواصل جريانها اللاهث، به أو بدونه. يتنفس عميقاً. يفتح باب الدار، ويدخل. تواجهه الصالة الخاوية، مرة أخرى. سوف يعد الآن شاياً، ويحمي قليلاً، من الباقلا، المسلوقة، ثم يحبس، هو وأخته، يتناولان إفطارهما، في صمت أليف. بعد ذلك يفرش أوراقه، على الطاولة، في الصالة، ويتابع الكتابة، في حكايته الخيالية، بدأها، قبل أيام، متعثراً بالكلمات غدت عنيدة، بعد فراق طويل. ولا يدري الآن، كيف ستنتهي هذه الحكاية، إن كانت ستنتهي يوماً - ربما بعد رحيله. المهم أن يملأ بيته الخاوي، وفراغ أيامه بأناس، وأحداث، يبتدعها هو نفسه، تجعله يحس أنه ما يزال يحيا، برغم كل شيء.
(2)
ولكن كيف استطاع أن يكابد متاعب العيش، هذا الزمن الطويل، بدون أن يكتب!؟ يحدّق أمامه، في شرود، أوراقه، على الطاولة، تنتظر، قلم الرصاص ساكن، في يده. باب الصالة مغلق، ولا رفيق غير الصمت. أخته خرجت، بعد أن أنهيا إفطارهما. طلب منها أن تأخذ، إلى البريد، رسالة كتبها إلى صديق، في الغربة، تركته يواجه أوراقه ساهماً، ومضت. ليفترض أن هذا ما حدث.. ليفترض، ليفترض أنها تتحرك، الآن، في مكان ما، خارج البيت، تثرثر مع واحدة، من معارفها، في الزقاق، نمشي في الشارع، بين السابلة، تسمع لغط الناس، وضجيج العربات، في الشارع المزدحم، أو تقف - في هذه اللحظة- أمام شباك البريد.. تمد يدها بالرسالة، إلى الموظف، يرفع رأسه إليها. لو أنه كان بعيداً، ولم يرها تموت، أو لم يخبره أحد برحيلها، لبقيت تعيش عنده جسداً، وروحاً. هاجس الموت ظل يؤرقها، في الأشهر الأخيرة لعلها أحست، بشكل ما، أنه سيدهمها، في وقت قريب. قالت له مرة:
"لا أدري كيف سأتحمل ظلام القبر!"
كأنها، بعد أن ترحل، تظل تحس بالأشياء، من حولها!
"الشيء الفظيع، يا أخي، أن يسارعوا، في دفنك، وأنت ما تزال حياً! وحين تفيق، بعد ذلك- من غيبوبة طارئة ربما - تجد نفسك مطموراً، وفوقك طن، من التراب! كيف يكون إحساسك عندئذ!؟
"هو إحساسي الآن نفسه!"
"لا .. لا تمزح."
"في الحقيقة أنا أيضاً يداخلني، مثل هذا الهاجس، أحياناً"
تتساءل منزعجة:
"لماذا يتلهف الناس، عندنا، على دفن موتاهم بسرعة!؟ حالما يطبق الواحد منا أجفانه، أو لا يطبقها، ركضوا به، إلى المقبرة!"
"ولكن، يا أختي الحبيبة، إذا تركوه فإن جسده يتعفن".
"لن يتعفن في يوم، أو يومين. حتى إذا تعفن، عندئذ لن يبقى شك، في موته" لا أستطيع أن أقول لها إن منطقها غريب. معها بعض الحق. ولم تمض غير أيام قلائل عندما باغتتني برحيلها، على أثر حادث أخرت. حين جاء أخي -المبتلي بداء السكري، وهموم البحث، عن أسباب العيش، لعائلة كبيرة - يساعدني، في دفنها، اقترحت عليه أن يتركها تقضي معي، في البيت، ليلة واحدة، على الأقل. "ولماذا نتركها!؟" من أجل أن نتأكد أنها ماتت حقاً. رأيته ينظر، إلى وجهي، بعطف. ظن المصاب أفقدني عقلي، وجعلني أهذي. وضع يده، على كتفي، مواسياً. "حاول أن تتصبر، يا أخي، فكلنا على هذا الطريق -كأنه يكشف لي سراً لا يعرفه أحد غيره، من البشر! وركضنا بها، إلى المقبرة. لا بد أن الدود يأكل بعضه بعضاً، فوق عظامها الآن إيه.. Cest la mort! ينظر، في الأوراق، كتبها في الأيام السابقة. حشد في الكلمات، بعضها يتناثر، على الجوانب.. عبارات مشطوبة، وأسهم تشير إلى مختلف الاتجاهات. على أية حال هو لم يستطيع أن يكتب غير ورقتين، على مدى أكثر من أسبوع، سوف يعيد قراءتهما، قبل أن يبدأ الضرب في الصخر، من جديد. لكنه لا يفعل. يؤجل لحظة البدء، من وقت لآخر. يخاف أن يواجه محنة الكتابة. يرنو إلى جهاز التلفزيون، الصامت في الزاوية. المرحومة يروق لها أن تشاهد أفلام السهرة. يحدّق في وجهه المرسوم بالزيت، المؤطر على الجدار. كان في نحو الثلاثين، من العمر، عندما رسم له هذا (البورتريت) صديق جعله يجلس أمامه، بلا حراك، يتأمله يخط ملامحه بيد، وبيده الأخرى يتناول كأساً، وضعها على مقربة، يشرب منها، بين وقت وآخر. ولكن كيف رضي أن يجلس صابراً. كل تلك الساعات، وعلى مدى عدد من الأيام! لعل رغبته البلهاء، العديمة الجدوى -في أن يتشبث، بملامح وجهه فتياً، في لحظة مقتطعة، من تيار الزمن العجول، ويحتفظ به، مصاناً من عوادي الأيام، عصياً على الدهر- هي التي جعلته يكابد عذاب تلك الجلسات المرهقة والآن هذا وجهك، في الثلاثين، مصلوباً على الجدار، وهذا أنت! تحت صورته الصامتة، تنظر إلى الدنيا، بما يشبه العتاب، صفوف من الكتب، على رفوف، لصق الجدار.. كتب قديمة كلها. لم يشتر كتاباً جديداً، منذ زمن بعيد.. لا يملك المال لشراء الكتب، ولا يكاد يعرف شيئاً عما حصل من تطور، في تقنية كتابة القصة، الرواية، أصدقاؤه القليلون- هذه الأيام- يعيرونه بعض الكتب، أحياناً. تدهشه الكتابات الحديثة، إلا أن البعض منها لا يروق له.. يراه عبث أطفال، وخرقاً فظاً لشروط الكتابة. ينتقل بنظراته، إلى
الساعة المستديرة، على الجدار المقابل. العقربان يشيران إلى الخامسة، وعشر دقائق. منذ زمن لا يعرف مداه وهذان العقربان، على وقفتهما الساكنة هذه ينظر إلى جهاز الهاتف، يستقر صامتاً، فوق الدولاب الخشبي المستطيل، على مقربة من المدخل، الجهاز لا يرن إلا نادراً، وفي الغالب يكون الشخص المطلوب مجهولاً. النداء الوحيد يترقبه بنفاد صبر- خصوصاً عندما ينضب ما معهما من نقود- هو ذلك النداء، يأتيه من أخته الصغرى، على بعد آلاف الأميال، تبشره بإرسال مبلغ من المال، وقد حان وقته، منذ أيام. يسمع رنيناً يقترب، في الزقاق، ويزداد صخباً، لحظة بعد أخرى. بائع النفط اللعين يختار هذا الوقت، من النهار، ليمر في الدرب بعربته، وحصانه الهرم تملأ جلده القروح، لكي يشتت أفكاره، بالرنين الصاخب يعلن به عن بضاعته. يبتعد الرنين، بعد فترة، غير أن جرس الباب يرن، هذه المرة، وتدخل كلية أم ساجت، بجسدها الناحل، وبشرتها الذاوية.
"عمي تحب أساعدك.. ننقل ماء إلى الخزان؟"
"في هذي الساعة! أنت ما تشوفني أنا جاي أكتب!؟
يشير إلى أوراقه البيض.
لا تكترث هي للأوراق.. تفكر بالماء.
"عمي، بعدين الماء يشح بالحنفية.. ويجوز ينقطع"
"انتظري. أروح أشوف ما تبقى عندي، في الخزان"
ينهض يخرج إلى الشرفة، في الجانب الخلفي، من البيت. يبهر عينيه ضوء الشمس أشعتها تغمر الشرفة، وأرض الحديقة الضيقة، والمهملة، غدت تشبه غابة صغيرة، مأوى يضم لصوص الليل، لا خوف عليه فهم، هذه الأيام. يرفع الغطاء المستدير، عن سطح الخزّان، الموضوع في ركن الشرفة (أنزلا خزان الماء، من سطح المنزل، ووضعاه في هذا المكان، لكي يسهل عليهما -هو وأخته- ملؤه، بين السخونة الندية، للماء الحبيس، بين الجدران المعدنية، في وهج الشمس، يحدّق في عتمة القاع. لا يرى شيئاً.. عيناه لا تزالان مبهورتين، بضوء الشمس.. ينتظر قليلاً.
يوشك أن يختنق، ببخار الماء الساخن، يلمح أخيراً ما يشبه اللمعان الكابي، في عتمة القاع يخرج رأسه سريعاً. يعيد الغطاء، ويعود إلى أم ساجت، في الصالة.
"شكراً. عندي ما يكفي، لهذا اليوم. نملأه غداً".
سوف يقتصد، في استعمال الماء، هذا اليوم.
ينظر إليها تغادر الصالة، وتغلق الباب، بهدوء. يظل رقائق طويلة، عيناه تحدقان، في شرود، بالباب الموصد، ينفتح الباب. تدخل أخته.
"هل وضعت الرسالة، في البريد؟"
"وضعتها"
"لكنك تأخرت كثيراً!"
تجلس على مقعد، بجوار الديوان. تخلع فردتي حذائها، وتريح قدميها، على البلاط البارد.
تبدو مرهقة.
"رأيت مشهداً فظيعاً!"
ينظر إليها باهتمام.
"شاب بعمر الورد.. دمه يغطي الرصيف.. ضربوه برصاصة، في صدره. والمارة يلتفتون.. ينظرون إليه، ويتابعون سيرهم!"
تحدّق في عينيه، تنتظر منه أن يقول شيئاً، لكنه لا يقول شيئاً.
تحمل فردتي حذائها، وتمشي حافية، صوب المطبخ. تصدّع رأسها كثيراً، هذه الامراء، بالتشبث بتقاليد وأعراف ومشاعر أصابها البلى. ولكن في أي يوم دار بينهما هذا الحوار!؟ متى عاش، هذه اللحظات، مع أخته!؟ ينظر ساهماً، إلى أوراقه، فوق الطاولة. كلما أوشك أن يبدأ، بالكتابة، قاطعه أحد، أو سرح به خياله. لكنه يعرف أن ليس هذا هو السبب. في الماضي كان حين يواجه أوراقه البيض، تتزاحم الكلمات في رأسه، ويظل القلم يلهث وراءها، لاقتناص وميض الخواطر، والمشاهد، والأفكار، قبل أن تتلاشى، في اللاوعي، من جديد، يصوغها كلمات تتدفق، على الورق. أما الآن فأنت، مثل عازف كمان، هجر آلته دهراً، ولمّا تذكرها - بعد أن أصابه الهرم- وعاد إليها متلهفاً، فوجئ بالأوتار، تصدر أصواتاً ناشزة، ووجد أصابعه أعواداً من خشب.
إذا أردت أن تستعيد مرونتك السابقة، فعليك أن تعوّد نفسك على الكتابة، كل يوم، ينصحه أصدقاؤه. إنني أفكر بكتابة حكايات من الخيال. أكتب أي شيء، أي شيء. ومزق كثيراً، حتى استقر أخيراً، على الحكاية، التي في يده. يسمع طقطقة أوانٍ، في المطبخ. يشعر بالاطمئنان. أخته لا تزال تؤانسه، بحضورها.. تتناهى إليه كلماتها، أصداء حركتها الدائبة، في أرجاء المنزل، هتافها الملهوف باسمه، في هدأة الليل، بشكل خاص، عندما ينزوي وحيداً، بين جدران غرفته الموحشة.. طيفها يأتي ويذهب -متحرراً من عبودية الجسد - لا يكاد يفارقه. يرفع الورقة الأولى، ليقرأ ما كتب، في الأيام الماضية، قبل أن يبدأ. إلا أن رنين الهاتف يباغته، مخترقاً رأسه، وصمت الصالة.
يلقي بالورقة، وينهض، ليضع حداً، للرنين الملحاح.
"نعم".
"ألو! كيف أنت!؟ صوتك لا يعجبني..
أنت مريض؟!"
تتكلم بعجلة، وبهياج، وصوت مرتفع.. تظن صوتها يصله، أكثر وضوحاً، إذا خرجت.
"لا، لست مريضاً، إنما كنت أكتب.. أو بالأحرى.."
"وكيف أحوالك، هذه الأيام؟"
"ممتازة.. ممتازة جداً، الحمد لله.. لا تقلقي"
"بعثت إليك بورقتين.."
تقاطعه.
"قل لي، إذا كنت بحاجة إلى شيء آخر"
"فقط الأدوية.. كتبت لك عنها"
"تصلك بالبريد. شيء آخر غيرها؟"
"سلامتك"
يرى أخته تخرج، من المطبخ، وتقبل نحو الهاتف، متلهفة.
"ظننتها نسيتنا!"
يتركهما تتحدثان، فبوسعهما أن تتكلما، ساعات طويلة.
يعود إلى أوراقه، ليواصل الكتابة، غير أن نداء أخته المغتربة، تبشره بإرسال مائتي دولار، انتزعه من مناخ الحكاية، ووضعه في مزاج آخر.
يلملم أوراقه، وينهض.
خاف أن تتأخر، في إرسال معونتها، فينفذ آخر ما معه، من نقود، ويغدو حاله حال تلك القطة الجائعة، رآها بالأمس تأكل العشب، في حديقة المنزل. لكنه يشعر بشيء من الاطمئنان، الآن. سوف يكون بوسعه، إذا وصلت النقود، أن يدبر أمور حياته، للشهرين القادمين، ما لم يقع مريضاً، وتذهب النقود ثمناً للعلاج، أو يفاجأ، بحدوث عطل في أحد الأجهزة في البيت. يترك أخته، في الصالة، تثرثر مع أخته البعيدة، ويدخل غرفته، يدندن بذلك النغم- من أغنية أم كلثوم أو عبد الوهاب ربما- ما برح يرافقه، منذ مدة.
سوف يحاول الكتابة غداً.
1998