رسائل الأدباء ثلاث رسائل من محمد الصغير أولاد أحمد إلى حسونة المصباحي

الرسالة الاولى

25 مايو (ايار) 1985.

مهلا أيّها الشقيّ!
فأنا لم أتهاون في مراسلتك. غاية ما في الأمر أنني قضيّت إجازة قصيرة بالسجن المدني، وكنت خلالها أمسح البلاط، وأحمل الزبالة.
لا تسأل لماذا؟ فأنت تعرف أنهم - منذ زمن طويل - يتحيّنون الفرصة لاقتناصي مثل أي غزال "يمرح في السهل"(1)
وها أنا الآن أسير برأس محلوق، وضلع مهشّم، أبحث في الرماد عن رفاة جمرة لأشعلها فتشعلني.

مهلا أيها الشقيّ!
فأنا أكثر الناس حرصًا على إعلامك بتفاصيل الخراب... وقد كنت بعثت إليك برسالة في ذلك... وها أنا افتح رسالتيك الأخيرتين، وبطاقتك الجميلة، فأضرب عن العمل... وأخصص عشيّتي لك.

كيف دخلت السجن؟
ذهبت الى مركز الشرطة لأقدم شكوى، فقال لي الشرطي: "ها أنت الآن هنا يا إبن القحبة... سأنكحك الليلة حتى تكفّ عن سبّ الحكومة ورجال الأمن. لم أقل كلمة واحدة. لكن ذلك لم يمنعه من تهشيم ضلعي الأيمن، وتدمير أذني اليسرى".

قضيت الليلة في "القرجاني"(2). ومن الغد ساقوني الى المحكمة، فحكم عليّ بعشرة أيام سجنا…. من أجل ماذا؟ من أجل السكر الواضح!
انتهت العشرة أيام ... رأيت العجب.... وسأكتب العجب.

هه! كيف حالك؟
لا بدّ أن تعلم أنني فرح بك، وبمشاريع دراساتك وكتبك. وإنني أقول دائمًا: ذاك الفتى سيكون له شأن عظيم. وهو قول لا يعجب الناس عادة لفرط تمسّكهم بالجهل. وعلى أيّة حال، لقد نفضت يدي من هؤلاء الناس، ومن السياسة والإيديولوجيا، وغاية ما أصبحت أطمح إليه هو أن أصبح كاتبا، اعتقادا مني أنه بإمكان أيّ كاتب غير مزيّف أن يكون أكثر جماهيرية ومصداقيّة من أيّ تنظيم مهما كان قويًا.

وليس صدفة أن يكون من نتائج هذه القناعة المشتركة إبعادي وإبعادك من جريدة "الشعب" (3) التي لم ندقّ على بابها.

إنهم يخافون من الكتّاب الذين يقولون آراءهم من دون خوف من أحد.

وعلى ذكر جريدة"الشعب"، أعلمك أن الغاية الأساسيّة من وراء هذه الضجة هي ابعاد الطيب البكوش (4) باعتباره مثقفا، ومتعاطفا مع المثقفين. فليتحالف عاشور (5) الآن مع الإسلاميين ذوي اللحى الطويلة القذرة. لا بدّ أن نشجعه على ذلك.. أن نعينه على الإنهيار.

أليس من سمات الكاتب التقدمي أن يعين السلطة حيثما كانت على السقوط؟
عدت الى "الموقف" (6) قبل أن يقع عزلي من "الشعب"، بركن جديد اسمه: "رسائل الى أهل البلد". رسالة هذا الأسبوع الى الطيب البكوش، وقد كتبتها بقول المتنبي:
وليس يصحّ في الإفهام شيء
إذا احتاج النهار الى دليل
وختمتها بدعوة الطيب البكوش الى ترديد قول طاغور:
أعرف أنني لا أستطيع الإنتصار ولا ترك النضال
فلألعب لعبة هزيمتي
ربّما تمنحني هزيمتي المطلقة انتصاري…
إن كل المثقفين هنا معه، ولا شك أنك تشاطرني الرأي في أن تكون معه أنت أيضا.

- موافق الحاقي وحسن بن عثمان (7) ب: الفتية الشرسين (8)
على فكرة.. أنا شرس فعلا... وهذا النعت يليق بي.

ابعث اليك بعض المقالات في انتظار أن أتحصل على مقالك "شعراء يمرحون في السهل" لأرسله إليك. سوف لن يطول الأمر.
سلّمت قصائدك الى عبد الله القاسمي (9)، ومررت على صالح الحاجة (10) فقال لي إنه سينشر قصتك.

ماذا تبقّى الآن؟
لا بدّ أن تسكر جيّدا، وتكتب رسائل فوضوية كالعادة.
إن رسائلك تدخل عليّ البهجة.
أنا الآن بصدد كتابة بعض القصائد. سأرسلها إليك في الإبّان.
الى الجحيم يا صديقي
بلغ سلامي الى اردموته (11)



الهوامش:
-1: إشارة الى مقال لي تحت عنوان: شعراء يمرحون في السهل، وفيه تحدثت عن ثلاثة شعراء يمثلون الطليعة الجديدة في الشعر التونسي في مطلع الثمانينات. وهم اولاد احمد ومحمد العوني والمنصف المزغني.

-2: حبس الموقوفين في العاصمة التونسية.
-3: هي الجريدة الناطقة باسم الإتحاد العام التونسي للشغل.
-4: استاذ جامعي يساري كان من ضمن قيادة الاتحاد العام التونسي للشغل، وسجن بعد المواجهة العنيفة بين الاتحاد ونظام الحبيب بورقيبة في شتاء 1978. وبعد انهيار نظام بن علي، شغل منصب وزير التربية. ثم انتسب الى حزب نداء تونس، ليصبح من كبار قيادييه. وبعد انتخابات خريف 2014، شغل منصب وزير الخارجية، غير أنه لم يحسن ادارتها فتركها بعد فترة قصيرة.

-5: هو الحبيب عاشور الزعيم التاريخي للإتحاد العام التونسي للشغل، وكان العضد الأيمن لفرحات حشاد مؤسس الإتحاد الذي اغتالته "اليد الحمراء" الفرنسية في الخامس من ديسمبر (كانون الأول) 1952.

-6: جريدة يسارية أسسها نجيب الشابي.
7: حسن بن عثمان: كاتب وصحافي تونسي.
8: إشارة الى مقال لي حمل عنوان: "مملكة الفتية الشرسين" نشر في جريدة الوطنيين الديمقراطيين بزعامة احمد المستيري. وقد أثار المقال في حينها جدلا واسعا في الأوساط المثقفة، حيث إنني هاجمت فيه الواقعية الإشتراكية.

9: هو الشاعر عبد الله مالك القاسمي الذي توفي عام 2015.
10: صحافي تونسي كان يعمل رئيس تحرير في جريدة الصباح.
11: هي الدكتورة اردموته هيللر التي كانت ترأس آنذاك مجلة "فكر وفن" في ميونيخ، وكنت انا سكرتير تحرير لها.

=============

2

تونس 26-05-1992

الصديق الأعز حسونة

وصلني اليوم حوارك* ورسالتك. وها أنا أردّ عليك في نفس اليوم حتى لا تُشيع في بوادي "بافاريا" أنني المرادف الألماني للكسل. أمّا الحوار فرائع وعميق، وقد أطلعت عليه سليم دولة** وإحدى صديقاتي فلم يفهما لماذا تمّت مصادرته! لكن يبدو أن الذين صادروه أحسّوا بأنهم معنيّون قبل غيرهم ،بماأتى في الحوار من حقائق.

إنه حوار- وثيقة نظرا لما فيه من معلومات دقيقة. ولا شكّ أننا في حاجة الى مثل هذه الحوارات التي تسمّي ولا تلجأ الى الصياغة الضبابية والتهويم.

أمّا الرسالة فتنطوي على حبّ كبير تجاهي، لأبادلك إيّاه منذ تكشّفنا معا على نجاسة من كانوا يشتغلون بعواطفنا وطيبتنا. فعلا لقد نمت ذلك اليوم من كثرة السكر ،ولم أستطع أن أودعك في المطار.

رضوان*** عاد ثانية من سردينيا وحكى لي عن خوفك عليّ.

ولكن ها أنا أقلعت عن الخمر نهائيّا.. ومنذ ذلك اليوم، حتى أتمكّن من تنفيذ مشروع "بيت الشعر" (آستقبلني وزير الثقافة ووافق عليه).

للأسف أفقت، بصورة متأخرة، من غوايتي ولكنني أستطيع الجزم أنني أحسّ برغبة تشابه الرغبة الجنسيّة وأنا أغادر -إلى الأبد- اولئك المجرمين والسفلة الذين سنكتب عنهم نصّا عظيما مشتركا بعنوان: "تلك الطريقة التونسية في تقصّي الشخص".

أصبحت أجلس بآستمرار في "دار الصحفي"، وهو فضاء بشراع بورقيبة لا يدخله إلاّ الصحفيّون (فيه أكل وبيرة ومكتبة).

سأتصل بعبد المجيد الجملي **** هذا المساء للحديث عن كتابك الجديد. وكما قلت لك فأنا مستعدّ للقيام بأيّ عمل يسعدك ويساهم في إخراج كتابك بشكل لائق وأنيق.

سألني محمد بن اسماعيل ***** عن سبب حبّي لك فأجبته بأنني لا احبّ من الكتاب إلاّ الذين يحسنون الكتابة، وأضفت Je suis elitiste donc populaire (يعني أنا نخبوي فإذن أنا شعبي).

فكان رده:

- أفهم من هذا أن الذين لا تحبهم لا يحسنون الكتابة.

وبطبيعة الحال أكّدتّ له ذلك مضيفا أنني وإياك نكتب في لحظة موافقة تامة بين شعر طرفة ورامبو، وبين نثر الجاحظ وبودلير ونيتشه.

سلام عليك أيها الوغد وعلى سوزان ******

بالمناسبة سيصدر كتابي الشعري في نفس الفترة التي سيصدر فيها كتابك

أشدّ على قلبك أيها الصديق الأعز

وإلى رسالة قادمة.



- هوامش:

* هو حوار كانت اجرته معي الصحفية والكاتبة آمال مختار ونشر في جريدة "القدس العربي" غير أن السلكات التونسية صادرت العدد من الجريدة المذكورة نظرا لما ورد فيه من نقد للسياسة الثقافية في ظل نظام زين العبدين بن علي.
** سليم دولة صديق لأولاد أحمد وكاتب وأستاذ فلسفة
*** رضوان بن عمار صديق لي ولأولاد أحمد كان يعمل استاذا للأدب الإنجليزي في جامعة سردينيا. توفي مؤخرا بمرض السرطان هو أيضا.
**** ناشر تونسي.
***** ناشر تونس كان اول من نشر لأولاد أحمد.
****** زوجتي الألمانية.


=================


* الرسالة الثالقة

تونس 27-06-1992

الرائع حسونة

هيت لك!

1- عندما وصلتني رسالتك الأخيرة كنت أتصور أنها ردّ على رسالة رائعة كنت قد كتبتها لك قبل حوالي 20 يوما.

غير أنك تقول إنها لم تصلك أصلا. يا لسوء حظك وحظي! لقد حرمك البريد المحلي والعالمي منها. وعموما فلي أكثر من شاهد أنني كتبتها وأرسلتها فعلا.

2- حدثتك في رسالتي السابقة (التي لم تصلك) عن أخباري وهي جيّدة في عمومها. وزارة الثقافة ستمنحني فضاء لأشرع في تكوين "بيت الشعر". ونحن الآن بصدد آختيار هذا المكان الذي سأعيّنك مستشارا له وستكون أول المدعوين عند تدشينه العظيم.

3- طبعا لم أعد أجلس في مقاهيهم.لقد صرت أجلس في "دار الصحفي" كلّ يوم.. وهو مكان فيه القهوة والأكل والبيرة بثمن زهيد. ولا يستطيع الأوغاد الدخول اليه.

بإمكانك أن تكلمني كل يوم بين منتصف النهار والخامسة بعد الظهر على رقم "دار الصحفي" (257590)

4- صحيح أنني لم أتصل بعبد المجيد الجملي ولكنني أعدك أنني سأفعل ذلك عندما أرمي هذه الرسالة في البريد.

لقد عبرت لك عن استعدادي للإشراف على اصلاح ومتابعة كتابك الجديد.وهذا أقلّ الإيمان وإلاّ فما معنى لصداقتنا أيها الوغد!

5- الكلاب الثلاثة الذين كانوا يسبون أعراضنا في جريدة "الغروب" (يقصد جريدة الشروق) التونسية يتقولون أنهم في إجازة، في حين أنك أنت الذي طردتهم وأنا هددتهم بالإلتجاء الى القضاء حتى أن صلاح الدين العامري (صاحب الجريدة) بعث لي رسلا لكي لا أفعل ذلك.

7- أعلمك رسميّا أن الشرطة والسلطة والإخوانجية والمعارضة والنساء والرجال والشعب التونسي يحبون أدبنا ويقدرون معاناتنا .. وأن الوحيدين الذين يغارون منّا هم أوائك الكتاب الذين وهبتهم الطبيعة كل ما يلزم لكي لا يكونوا كتابا.

الثلاثاء القادم سيصدر لي نصّ بالصباح الأدبي عنوانه: "تلك الطريقة التونسية في تقصي الشخص". سأفضحهم فيه واحدا واحدا لأنهم قتلوا الشابي ويريدون قتلنا نحن المقتولين.

7- صدر العدد الاول من مجلة "الطريق الجديد" (لسان الحزب الشيوعي التونسي) التي شرف على صفحاتها الأدبية. أرسل لي قصة أو نصا لأنشره في العدد الثاني (سبتمبر القادم).

8- سلام على سوزان العظيمة التي تتحملك

9- إذا أتيت لي ببعض اللباس فقياسي 39 وعلى الأكثر 40

سلام عليك يا عزيزي

أحبك

اولاد احمد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...