أ. د. عادل الأسطة - الوجه الجميل والبناية

لو قص محمد العبد الله عليكم ما كان رآه لقلتم: لعله الزمن ترك علامات أقرب إلى الجنون منها إلى أي شيء آخر على هذا السوداوي المدعو محمد العبد الله، الذي أراد أن يبث اليأس في قلوب الآخرين لأنه عانى من إحباطات متتالية. والحقيقة أن محمد العبد الله الذي سكن في أحياء فقيرة أعواماً طوالاً، ثم انتقل قبل عام ليسكن في حي راق من أحياء نابلس لم يكن ليختلف كثيراً عن الآخرين في إصدار الحكم نفسه لو أن شخصاً ما قص عليه الحكاية ذاتها.

ولقد تردد محمد العبد الله في البداية، ولام نفسه التي راودته على إخبار الآخرين بالحكاية، فمحمد العبد الله هذا لم يكن من قبل يكتم سراً تماماً مثل والده الذي كان يبدو وكأنه محطة إذاعة للبث المباشر، وكثيرون من معارفه كانوا قد ابتعدوا عنه لخصلته هذه، وكان محمد يدرك ذلك وحين تذكر عظم ما رآه وغرابته قال مخاطباً نفسه:

- لا بد من كتمان السر وإلا فألف لعنة ستحل بي.

وأضاف:

- يجب اعتبار ما رؤي وكأنه لم ير.

بل ولقد أصر على كتمان الأمر حين فكر جدياً بالمرحلة التي يحياها شعبه الفلسطيني وخاف على نفسه إن حاول أن يقص ما رأى، ولم يكن خائفاً من السجن بقدر ما كان خائفاً من الاتهامات التي ستوجه إليه من جهات ما من أبناء قومه ممن يقولون إنهم يعملون لصالح الوطن، فكيف إذا كان حديثه يتعلق بواحد منهم كما عرف فيما بعد.

وهمس في سره:

- يا ولد مالك وللأمر. هنالك من هم أعلى منك وأشهر، فدعها تخرج من أفواههم وهم لا شك يرون ما رأيت، ويعلمون ما تعلم ويصلهم الكثير الكثير، فان كنت تعرف قصة، فهم يعرفون قصصاً، كما أن الوجه الجميل إليهم أقرب، وهم به أعرف.

وتابع محمد العبد حواره مع ذاته مقنعاً إياها بكتمان السر.

- إن الثرثرة لا تجدي والبون شاسع بين ما ستقوله وبين ما سيقوله الآخرون ومنهم صاحب الوجه الجميل. فلقد دفع صاحب الوجه الجميل دمه ثمناً، ولا شك أن كلمته مسموعة، وإن لم تكن كذلك فلا رد الله الدنيا حين تتداعى أركانها، وتابع محمد العبد الله.

- وأنت .. من أنت؟ عبد فقير .. كثير الحزن .. دائم الشكوى .. فاقد الأمل.

غير أن محمد العبد الله تراجع عن قراره وقرر أن يقص ما رأى على الرغم من أنه ليس قصاصاً ماهراً، ولقد كان سبب إصراره، رؤيته المتكررة للوجه الجميل، مصراً على قول شيء ما من خلال محمد العبد الله. ومما حدا أيضاً به إلى قص ما رأى أن الوجه الجميل كان يوميء له بحركات يشعر معها محمد وكأنه ملوم تارة، أو كأنه جبان طوراً .. أو هكذا يخيل إليه .. وفي فترات لاحقة كانت تعابير الوجه الجميل، كما قال محمد العبد الله، فيما بعد، تتهمه بالخيانة.

ولقد قال محمد العبد الله في البداية: جبان جبان، وتابع ومن الشجاع فينا سوى أولئك الذين حملوا أرواحهم على أكفهم وساروا باتجاه الوطن. وأضاف: ومن الشجاع فينا سوى أولئك الذين ضحوا...

ولكن محمد حين تصور أنه خائن، كما أوحت إليه تعابير الوجه الجميل في فترة متأخرة، قرر بلا تراجع، وأعلن أنه سيقص الحكاية، حتى ولو كلفه ذلك حياته، أنه رأى أن في اتهامه بالجنون أمراً طبيعياً من منطلق يقول أن من يتهم بالجنون في أيامنا هذه هو العاقل بعينه، ذلك أنه ليس سوى الإنسان الذي أدرك الحقيقة كلها ولم يستطع أن يعيش كالبهائم، ولو فعل وعاش كالبهائم لما اتهم بالجنون، وسيقال عنه ساعتها أنه عاقل ومؤدب، وواقعي، ومتزن.

كما رأى محمد العبد الله في اتهامه بالجنون ما لا يعيبه، وبرر ذلك بعدة مبررات منها أن بنيته الجسمانية خلقت ضعيفة هكذا، ومنها أن والده كان يطلب منه دائماً أن لا يتدخل في الآخرين، وأن يقابل الإساءة بالإحسان، وأن يدير خده الأيسر لمن لطمه على خده الأيمن، ومنها أن معلمه كان يطلب منه أن لا يعاشر الطلاب المشاكسين، ثم نظر محمد العبد الله في من حوله وضحك قائلاً بصوت مرتفع:

- ومن الشجاع فينا، فها نحن نموت، وها نحن نطرد، وها نحن نجوع، وها هو رؤوف الرافع ذو الجثة الضخمة الذي كان ينازل أربعة أشخاص ويفتخر بأنه يقاتل عشرة يقلع ثيابه على مرأى الكثيرين، حين أمره أحد حرس الحدود، بل وذهب إلى أبعد من ذلك، فها هم عربه كلهم يستجدون من الآخرين أن يتدخلوا من أجل مد عاصمة من عواصمهم بالماء والكهرباء.

لكن محمد العبد الله استكثر على نفسه أن يكون خائناً، فهو واحد من الذين رفضوا في البداية حمل الهوية الإسرائيلية، وهو واحد من الذين يشعرون بالغثيان حين يقرأون اسماً حروفه أجنبية، وهو واحد من الذين طالبوا رجال الدين بإصدار حكم قاس يعتبر الذين يتعاملون مع عدوهم من ذوي الكبائر، بل من المشركين، فكيف إذن يتهم بالخيانة؟ لقد بدا له هذا الاتهام أمراً خطيراً، وأقسى وأمر من حبل المشنقة. وقال هامساً:

- لعنه الله إذن علي لو كنت كذلك. إنني لن أعدو أن أكون ساعتها سوى دابة تعدو، بل لعل الدابة أفضل مني، وإن لم تكن أفضل فهي على الأقل لا تؤذي الآخرين.

لقد ازدادت قناعته في قص ما رأى حين تكرر حدوث الشيء غير مرة، ولقد فكر ذات مرة أن يصطحب شخصاً ما معه ليرى ما يرى، غير أنه تراجع حين خطر بباله أن الوجه الجميل لا يظهر حين يرى شخصاً آخر، وبدأ يفكر: على من أولا سأقص الرؤية.

بدأ يتذكر أصدقاءه المقربين ليخبرهم أولا وليستمع إلى رأيهم، فأن شجعوه على ذلك، فسيستمر في قص ما رأى، بل وسيذهب أبعد من ذلك، إذ رأى أنه سيكتب الحكاية وينشرها في الصحافة، غير آبه برأي واحد من أصدقائه، يكرر دائماً على مسمعه عبارة أن الناس في بلادنا لا يقرأون، وأنهم يسخرون من الشعراء والقصاصين وعامة الأدباء، ويتهمونهم بأنهم خياليون يرفضون الانعتاق من مرحلة الطفولة. وكان صديقه الفنان التشكيلي أول من استمع إلى الحكاية وأعجب بها أيما إعجاب، إذ أدرك للوهلة الأولى المغزى الذي تذهب إليه، وأنه كان يحث الآخرين على الكتابة في هذا الموضوع، غير أنهم كانوا هيابين. ثم حين قصها على صديق له يعمل في الصحافة طلب منه أن يكتبها على شكل مقالة وينشرها بسرعة.

وإذ دهش محمد العبد الله قائلاً:

- وهل تنشرونها في صحيفتكم؟

أجابه الصحفي:

- بالتأكيد.

ولقد فرح محمد العبد الله كثيراً، فالصحافة كثيراً ما تحتاط في نشر رؤى غريبة في مرحلة نحتاج فيها إلى التفسيرات العقلية، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فقد ترى الصحافة في الرؤية ما يناقض خطها السياسي أو الفكري.

ولقد ازداد إصرار محمد العبد الله على قص الحكاية حين شجعه آخرون، ممن لا يشك في أمرهم.

هل ما أراه يحدث فعلاً؟

سأل محمد العبد نفسه وترك المجال لمخيلته:

- عليك السلام يا رسول الله يا حبيبي يا رسول الله هل هذا هو الزمن؟ قل أعوذ برب الناس، ملك الناس إله الناس، من شر الوسواس الخناس، الذي يوسوس في صدور الناس، من الجنة والناس. هل هذا هو الزمن؟ هل يصيح الحجر؟ قل أعوذ برب الفلق من شر ما خلق، ومن شر غاسق إذا وقب، ومن شر النفاثات في العقد، هل يصيح الحجر؟ ولكن أين شجر الغرقد.

ونظر محمد العبد الله حوله فلم يجد شجر الغرقد، واسترجع ما كان سمعه قبل عام، حين كان في بلد عربي قريب، ثم عاود النظر:

- ولكن أين شجر الغرقد؟ لعلي لا أعرفه. لقد جبت هذا الوطن من شماله إلى جنوبه، ومن شرقه إلى غربه، فلم أعثر عليه. قلت: الذي أخبر العرب هناك كذب عليهم. لعله أراد أن يبث الأمل في نفوسهم في زمن الهزائم. وهل يصيح الحجر؟

وظل الوجوم مسيطراً على ملامح محمد العبد الله. فلقد ابتعد عن البناية، ولكن ما رآه ظل ماثلاً في داخله. ولقد تراءت له أفكار كثيرة. غير أنه قرر أن يمر غداً في الساعة نفسها وحيداً. ولقد فعل ورأى ما رآه بالأمس. حدق هذه المرة في سور البناية، حدق في الوجه الذي ظهر خلف الحجارة.

- ها هو الوجه الذي رأيته بالأمس. ولكن من هو؟

وغاص محمد العبد الله عميقاً في ذاكرته. كان رأى وجوهاً كثيرة، فلقد سافر من بلده، وتجول في بلدان كثيرة ولم ير ما رآه بالأمس، حدق – لكن هذا الوجه يختلف ويختلف، يود أن يتكلم ولكنه يتراجع. لماذا؟ هل يخشى أن يسمعه صاحب العمارة فيهدم السور ويبني سوراً جديداً. هذا الوجه يختلف. لكأني أعرفه. ترى لماذ لم يخرج إلا حين أمر؟ لو كان غيـري رأى ما رأيت لفضح الدنيا. هذا الوجه ليس عدواً، الحجر لم يتكلم، شجر الغرقد يبدو مألوفاً ولكن ماذا يريد؟

ولقد قلب محمد العبد الله الأمر وحاول أن يتوصل إلى نتيجة، ولكن عبثاً حاول، ولقد كاد يصاب بالجنون. فلم ينم لليال عديدة وظل القلق رفيقه أينما حل؟ ولقد قرر أن يغادر المنطقة ولكنه تراجع، إذ أين سيذهب؟ أليس من العيب ألا يعرف السر الذي يكمن خلف هذه الحادثة؟ لقد اختار صاحب الوجه الجميل الوقت الذي يمر فيه محمد العبد الله، ولم يختر أي وقت آخر، وكأنما هو يريد أن يقول الشيء الذي يود قوله عن طريق محمد العبد الله، وكان هذا أحد الأسباب التي حدت بمحمد العبد الله أن يصل إلى السر. وكانت البناية محور اهتمامه:

- ما السر إذن؟ ما العلاقة بين الوجه الجميل وبين البناية؟ ثمة بنايات كثيرة في هذا الحي، فلماذا لا يختار الوجه الجميل إلا البناية هذه.

تبدو البناية متواضعة، غير أنها جميلة تحيط بها الورود البيض والحمر وفي الصيف تبدو أشجار العنب أجمل ما يكون .. تمنع أشعة الشمس من الوصول إلى الوجوه الممتلئة التي لا تفارقها الابتسامات، في ساعات الصباح يجتمع الأب الذي يرتدي معطفاً أنيقاً، والأم التي يبدو رداؤها أخاذاً، والأطفال الذين يلفظون الألفاظ لفظاً رقيقاً ناعماً، وبأيديهم أكواب الحليب، يجتمع هؤلاء جميعاً لينطلقوا في سيارتهم الأنيقة، الأنيقة.

ولقد لفت هذا الشيء انتباه محمد العبد الله، وقرر أن يعرف كل شيء عن صاحب البناية، ولقد كان ذلك صعباً صعوبة كبيرة. صحيح أن محمد العبد الله هذا يسكن في هذا الحي الراقي، ولكن أنى له أن يجالس صاحب البناية، فثمة فروقات كبيرة، أنه كما يقول دائماً يسكن هنا بالغلط.

ولقد عرف محمد العبد الله بعد وقت طويل أن صاحب العمارة، كان شخصاً عادياً جداً ذات نهار. لا يختلف وضعه عن وضع محمد العبد الله الذي، كما يقول، لن يصبح ذات نهار على غير ما هو عليه الآن، فراتبه يكاد يكفيه بالكاد، وفرص العمل هنا صعبة، والتجارة ليست حسنة و ... و ... كيف إذن ستتغير أحوالي؟ قال محمد العبد الله وتساءل: ولكن كيف تغيرت أحواله؟ ولقد توقف كثيراً عند لفظة التجارة هذه، ولكنه تابع: صحيح التجارة في أيامنا رابحة، ولكنه كان موظفاً. وكان ذا اهتمام بالسياسة. ومن ذا الذي يهتم بالسياسة وتتغير أحواله إلى الأفضل إلا ...

وكأنما فجأة اكتشف السر بدأ يسترجع أحاديث الناس، وبدأ يستذكر أشخاصاً اختلف وضعهم رأساً على قدم بين ليلة وضحاها. فهذا إبراهيم المزيد يذهب إلى بلد قريب، ويعود بعد أيام ثلاثة وقد اختلفت أحواله كلياً نحو الأفضل، وهذا المزارع الفني يبرطع و ... و ... وقال محمد العبد الله:

سوف أقول أيها الوجه الجميل. لن أجعلك حزيناً لن تصبح شعاراً أو حجراً في بناية، إنهم يتاجرون بدمائكم أيها الشهداء.

وتابع محمد العبد الله طريقه بخطوات صلبة، باحثاً عن أماكن يجتمع فيها الناس ليعلن على الملأ ما رآه بأم عينيه، وليخبر من يعنيهم الأمر أن الشهداء لن يكونوا حجارة في بناية. لن يكونوا حجارة في بناية.

(الفجر الأدبي 1983م).

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...